يعد هذا الكتاب أحد المؤلفات القيمة للدكتور محمد طه بدوي، والذي يعتبر واحدًا من أهم أعلام العلوم السياسية، ليس في مصر فحسب، بل في الوطن العربي أيضًا، ولقد كان رحمه الله يشغل منصب أستاذ كرسي العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية منذ نهاية الأربعينيات وحتى وفاته عام 1996م.
وصدر هذا الكتاب عن مطابع دار الكتاب العربي بمصر، وجاء في تقديمه:
“الأصل في مسألة مقاومة الحكومات الجائرة أنها تصل بعلم الاجتماع أكثر من اتصالها بعلم السياسة، ومن ثم كانت موضع عناية علماء الاجتماع دون المشتغلين بالقانون العام، إلا أن أمرًا محققًا لا سبيل إلى إنكاره هو أن وجهًا من أوجه المقاومة هذه مرده كله إلى علم السياسة دون علم الاجتماع. إن علم السياسة هو الذى يسلط شعاعه على الرابطة التي تربط الحكام بالمحكومين فيحللها ليكشف عن طبيعتها وعن كنه السلطة العامة ومداها، ومن ثم يظهر ما إذا كانت مقاومة الحكومات الجائرة حقًا للمحكومين مبينًا عناصر هذا الحق ومداه متى ثبت وجوده. وإني بوصفي مبتدئًا في علمي السياسة والقانون العام سأعرض لهذا الوجه من أوجه المقاومة راجيًا من الله أن يوفقني إلى ما فيه رضاه.
لئن كانت مقاومة الحكومات الجائرة جماعية من حيث مزاولتها، إلا أنه مما لا ريب فيه أنها فردية المنبت، لأنه إذا لم تسبق الحركة الشعبية الحماسة الفردية لاقتصر الأمر على مجرد هياج عارض لا يجوز أن يوصف بأنه مقاومة للجور بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على التصميم على عدم الإذعان لتحكم الحكام وتعسفهم والصبر والمصابرة في سبيل ذلك.
إن الجور ليس معناه حتمًا قسوة الوسائل التي تلجأ اليها السلطة العامة وشدة الإجراءات التي تتخذها إزاء الأفراد، وإنما الجور هو تحكم السلطة فيما تتخذه من إجراءات قِبَل الأفراد، فتأتى أوامرها مجافية لروح القانون والعدالة، متمشية مع أهواء الحكام، ولا عبرة في ذلك لدرجة قسوتها، فقد تُجافي أوامر الحكام روح القانون والعدالة دون أن تكون قاسية شديدة الوقع في نفوس الأفراد ومع ذلك فهي تحكمية جائرة. وقد تكون إجراءات السلطة العامة قاسية شديدة الوقع في نفوس الأفراد وهي مع ذلك عادلة لا جور فيها مادامت أنها قد اتخذت وفق روح القانون والعدالة، وعلى هذا الأساس يكفى لاعتبار النظام جائرًا أن تجزع الجماعة من المبادئ التي يقوم عليها ولو لم تكن شديدة أو قاسية. ولما كان مصدر جزع الجماعة هو جزع الفرد، هذا الجزع الذي يصدر الفرد على أساسه حكمه ويُبدى رأيه في سلوك الحكومة إزاءه فإنه يستتبع ذلك كون المقاومة -وإن كانت جماعية في مزاولتها- فردية المنبت.
إن المقاومة تنبت في نفس الفرد وتخرجها إلى حيز الوجود أحكام الأفراد وتقديراتهم لمدى اقتراب الوسائل والاجراءات التي تتخذها الحكومات من روح القانون والحق أو مجافاتها إياها. إن “محرك” المقاومة وعرقها النابض ليست الجماهير ولا الخطباء وإنما هو الفرد الذي يتذوق السياسة ويفقهها فلا تخدعه حيل السلطان فيقف له بالمرصاد.
إن الذى يقف للسلطة العامة بالمرصاد ليس ثائرًا ولا مثيرًا للفتنة، وإنما هو على عكس ذلك يمثل روح النظام والاستقرار، إنه يقدس القوانين والأوامر ولو كانت قاسية فيقبل أن يقرع بالعصا أن هي اقتنت ذلك، ولكنه إن لم يك ثوريًا فإنه حريص ممحص فهو لا يقبل أن يقرع بتلك العصا قبل أن يتحقق من أية شجرة قطعت، إنه حريص على احترام القوانين والأوامر يصرف النظر عن درجة قسوتها أو شدتها، ولكنه أشد حرصًا على تبين مصدرها والتأكد من شرعية السلطة التي أصدرتها وسندها في الإصدار. وهو إذ يحرص على ذلك لا يهدف إلى شق عصا الطاعة، وإنما هو التفكير والتبصر والوعي السياسي.
إن الأمر بالنسبة لمواطننا هذا لا يتطلب منه أن يجوب الطرقات متظاهرًا عند السلطة العامة فهذا من شأن غيره، لأن الذى يتظاهر ضد هذه السلطة كثيرًا ما يتظاهر هو بعينه لحسابها، وإنما يكفي للمواطن المفكر للتبصر ذا الوعي السياسي الناضج أن يظهر أنه ليس بالبسيط الذي يخدع ولا بالمتساهل الذى يرضى بالأمر الواقع فيسلك بذلك مسلكًا مناقضًا لمسلك المواطن المتقاعد أو ميت الوعي الذي يرضى بكل نظام قائم يهونه على نفسه مهما كان جائزًا بل ويتكلف التبسم له إن طلب إليه ذلك.
إن تحكيم العقل والتمحيص والحكم الحر السديد هي من أهم مقومات الوعي السياسي لدى المواطن، وهى كذلك بالنسبة لمقاومة الحكومات الجائرة. إنها هي التي تتولد عنها فكرة المقاومة، وهي التي تخرج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، ثم تظل تلازمها وجودًا وعدمًا، فتتوقف درجة نجاحها على درجة قوة هذه المقومات، وثمة نتيجة لذلك هي أن خصم السلطة الجائرة اللدود والمتمرد الحقيقي عليها، ليس هو الذى يقيم المتاريس في الطرقات ويرفع صوته بالهتافات العدائية، وإنما هو ذلك الذى يستطيع أن يحكم على أعمالها دون تردد ولو أذاها.
إن إزالة المتاريس أمر ميسور والقضاء على الهياج لا يكلف الحكومة الطاغية الكثير، بل وكثيرًا ما تقوم على أنقاض المتاريس وأشلاء الثوار سلطة أشد جورًا وأكبر عدوانًا. ولكن حُكمًا حرًا لا تستطيع أن تقضي عليه القوة يظل صداه مدويًا في الآذان لا سلطان للطاغية عليه، إنه يظل قائمًا لا يتزحزح ولا يضعف حتى يزول سببه. وهكذا لا نرى في مقاومة الحكومات الجائرة مجرد حركة جماهير وإنما هي أولاً وقبل كل شيء ضرب من ضروب سلوك المواطن اليقظ في الوعى السياسي الناضج الذي لا ينظر إلى السلطة العامة على أنها شيء مقدس في ميدانه، محرم على فكره فلا يجوز له أن يخوض فيه، وإنما يرى فيها سلطة بشرية معرضة للزلل والخطأ، ومن ثم يجوز الحكم على أعمالها دون تحرج ما.
وعلى أساس ما تقدم -وعلى عكس ظواهر الأمور- لم يك حق مقاومة الحكومات الجائرة من بين الحقوق التي لاقت رواجًا لدى الفكر السياسي المعاصر والمنظم القائمة عليه، وذلك لأسباب عديدة: إن وجود هذا الحق يفترض أن تكون السلطة العامة مقيدة، وأن تكون ثمة نواحي نشاط معينة محرمة عليها، كما يفترض وجود ميدان مخصص للفرد محرم على هذه السلطة، وهو كذلك ينطوي على السماح للفرد بأن يقرر عدم التضامن مع الجماعة التي ينتمي إليها إن هي جارت عليه، في حين أن فكرة الدولة المعاصرة لا تتسع لأى من ذلك كله، ومن ناحية أخرى فإن النظم السياسية المعاصرة -سواء في ذلك ما كان منها اشتراكي النزعة أو فردى- تزعم جميعًا أنها قد قامت على أنقاض سلطات ونظم جائرة حركت بتحكمها حق مقاومة الجور الذي وقف للتحكم والعسف وجهًا لوجه حتى قضى عليه تم نشأت على أنقاضه تلك النظم الديمقراطية الجديدة التي قامت بإرادة الشعوب، ولا تزال تباشر فيها السلطات وفقًا لهذه الإرادة، ومن ثم أصبح -تمشيًا مع هذا المنطق- لا محل لحق للمقاومة في ظل هذه النظم الجديدة بل وأضحى الالتجاء إليه ينظر له على أنه وسيلة لتفريق كلمة الجماعة صاحبة السيادة وتعطيل للسلطة الشعبية، وكما أنه لا يجوز أن تكون ثمة حربات ضد الحرية كذلك لا يجوز أن يكون ثمة حق مقاومة ضد سلطة هي نفسها وليدة مقاومة نظام جائر والقضاء عليه.
هذا علاوة على أن الاعتراف بحق المقاومة يتضمن الاعتراف باحتمال وقوع الجور والعسف من جانب السلطة العامة، وهذا ما تبرئ النظم المعاصرة سلطانها منه بحجة أن الهيئة الحاكمة تمثل في هذه النظم الأمة صاحبة السيادة، تباشر عنها سيادتها وتعمل بإرادتها ولحسابها فأوامرها هي أوامر الأمة، ولا يعقل أن يقع جور من الأمة على نفسها.
ومهما يكن من أمر فإن حق مقاومة الحكومات الجائرة يرتبط بفكرة تقييد السلطة العامة برباط يجعل من هذا الحق عنصرًا رئيسيًا من عناصر النظام السياسي الذى يأخذ بتقييد السلطة، وأمرًا لازمًا عند من ينادون من الفقهاء والفلاسفة بهذا التقييد، وعلى عكس الحال في النظم المطلقة ولدى أصحاب الأفكار الاستبدادية، حتى إنك لو تمعنت في تاريخ الأفكار والنظم السياسية لوجدت أن هذا التاريخ بينه يصلح تاريخًا لحق المقاومة، ولنا فيما يأتي بعد دليل على ذلك”.
تقسيمات الدراسة:
تم تقسيم هذه الدراسة إلى أربعة فصول وخاتمة، وذلك على النحو التالي:
- الفصل الأول: مقاومة الحكومات الجائرة في المسيحية.
- الفصل الثاني: حق مقاومة الحكومات الجائرة في الإسلام.
- الفصل الثالث: نظرية المقاومة في الفلسفة السياسية.
- الفصل الرابع : القانون الوضعي ومقاومة الجور.
- خاتمة.
رابط مباشر لتحميل الكتاب