قال خبيران قانونيان، إن حق الدفاع عن النفس لا ينطبق على إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وإن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية التي تزعم هذا الحق "ليست قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". وشدد الخبيران، في أحاديث منفصلة لوكالة الأناضول، على أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة تصل إلى مستوى "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية".

وخلال زيارته إلى إسرائيل في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يكتف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بالقول إنه يدعم "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بل وأكد بالقول: "بل ولزامًا عليها ذلك، وندعمها بقوة". وشدد بلينكن، في تصريح صحفي، على "ضرورة تمكين الجيش الإسرائيلي من هزيمة (حركة) حماس في غزة".  كما أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي (27 دولة) عبر بيان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، "دعمهم لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بما يتماشى مع القانون الإنساني والدولي".

 

أراضٍ تحت الاحتلال

مدير مؤسسة الحق (غير حكومية) شعوان جبارين قال للأناضول إن "العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تتعارض وتتناقض مع القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة في الدفاع عن النفس". وأوضح أن "حق الدفاع عن النفس ينطبق على دولة عندما تهاجمها أخرى ويتعرض أمنها القومي ووجودها للخطر، وحينها تُعلم هذه الدولة الأمم المتحدة أولا ثم تستخدم القوة للدفاع عن نفسها، وهذا لا ينطبق على الحالة الجارية هنا (غزة)". جبارين تابع أن "فلسطين وحماس ليست دولة، وهي أرض محتلة وغزة والضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وسابقا نوقش رأي استشاري فيما يخص بناء إسرائيل لجدار الفصل (بالضفة الغربية) في عام 2004 بحجة الدفاع عن النفس، وخلصت (محكمة العدل الدولية) إلى أنه: ليس من الحق أن تتحجج إسرائيل بأن لها الحق في الدفاع الشرعي عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة". وشدد على أن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها "تخالف القانون الدولي، وهي ليست تصريحات قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". "إن لم تمارس إسرائيل الإبادة"، بحسب جبارين، "فهي ذاهبة للإبادة، ولذلك عملياتها فيها كل أركان الإبادة في ظل تصريحات أعلى الهرم في إسرائيل من سياسيين وعسكريين، والتي تؤكد نيتهم قتل جزء أو كل من الشعب الفلسطيني في غزة". وأردف أن "الممارسة في أرض المعركة تترجم هذه التوجهات من قتل وتدمير للمدنيين ودون أي ضرورة عسكرية، ما يوصلنا إلى نقطة إبادة جماعية في قطاع غزة". وعادة ما تنفي إسرائيل ارتكابها جرائم في غزة، وتزعم أنها تدافع عن نفسها، بعد أن أطلقت حركة "حماس"، في 7 أكتوبر، هجوم "طوفان الأقصى"؛ "ردا على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى".

 

لا مبرر لارتكاب الجرائم

أما أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية بمدينة جنين في الضفة رائد أبو بدوية فقال إن "حق الدفاع عن النفس مكفول، ولو سلمنا جدلًا بأن لإسرائيل هذا الحق، فإنه لا يبرر ارتكاب الجرائم". أبو بدوية أضاف للأناضول أنه "في حالة الدفاع عن النفس في الأصل لا يجوز لك انتهاك قواعد القانون الدولي ولا يجوز أن تستهدف المدنيين، وأي جرم غير مسموح تحت تبرير الدفاع عن النفس". وتابع: "ما تستهدفه إسرائيل في غزة ليست أهداف عسكرية، واضح مما نشاهده وما يُرصد أن طبيعة الأهداف مساكن مدنية ومؤسسات خدمة مدنية ومستشفيات، وكل ما سبق يعتبر جريمة حرب". ومشددا على وجود "جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية"، لفت أبو بدوية إلى "ما تنفذه إسرائيل اليوم من استهداف للمدنيين وترحيلهم وتجويعهم ومنع الاحتياجات الرئيسية".

ومنذ اندلاع الحرب، تقطع إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ عام 2006. واستشهد أبو بدوية بميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية الذي يصنف تلك الأعمال "جريمة حرب". وختم بأن "الدفاع عن النفس مكفول، ولكن ضمن ضوابط وليس حق مطلق، وما تنفذه إسرائيل في معظمه تجاوز للقانون، وهي جرائم دولية".

______________

قيس أبو سمرة، قانونيان: "حق الدفاع عن النفس" لا ينطبق على إسرائيل في غزة، وكالة الأناضول، 10 نوفمبر 2023، https://2u.pw/GA0OsxN.

بداية أوضح أمرًا مهمًا، لست هنا اليوم لأسرد ما يقوله القانون الدولي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة وإنما ما سأقوله لا يعدو كونه رءوس أقلام كل منها موضوع بذاته يحتاج إلى محاضرات، وإنما نحن بصدد إجلاء بعض ما قد يكون غامضًا من مداخل القانون الدولي بشأن أزمة العدوان على غزة.

وعلى قدر ما كانت سعادة الإنسان بالغة بهذا التقدم التكنولوجي والمعلوماتي على قدر ما أصابته خيبة أمل من هذا الذي وجدناه على شاشات بعض الفضائيات من تشويه للحقائق من غير متخصصين يقولون بما لا يعرفون ويهرفون بما لا يفهمون، وأنا في هذا لا ألومهم، ولكني ألوم من أتى بهم.

كثر الكلام عن الأبعاد القانونية للعدوان على غزة، فهناك من قالوا إن إسرائيل بعدوانها على غزة إنما تدافع عن نفسها ضد حركات إرهابية تطلق صواريخها على المدنيين الإسرائيليين إما ترديدًا للمقولات الأمريكية، وإما قولا على غير فهم. والحقيقة القانونية هي أن مبادى الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان، وليس "دفاعًا ضد دفاع".

وإذا فرضنا جدلًا أن إسرائيل تدافع عن نفسها، فالدفاع هنا أيضا لابد أن يكون متناسبًا مع حجم العدوان، فلا يجوز أن تقول إسرائيل إن حماس قتلت خمسة عشر مدنيًا إسرائيليًا فتأتي هي وتدمر مدينة كاملة وتقتل وتجرح الآلاف، فلابد أن يكون هناك تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان.

أيضا من شروط الدفاع الشرعي أن يكون موجهًا لمصدر العدوان، فلو افترضنا جدلًا أن مطلقي الصواريخ معتدون، فهذا يعني أن توجه إسرائيل دفاعها إلى مطلقي الصواريخ وليس الشعب بمدنييه ونسائه وأطفاله.

إذا انتقلنا من هذه المقدمة وبدأنا في تحديد المعتدي والمعتدى عليه في عرف القانون الدولي سنجد ما يأتي..

إسرائيل انسحبت من قطاع غزة، وهي بذلك تزعم أنها ليست دولة احتلال، وهذا قانونا غير صحيح، فالاحتلال يعرف بأحد نوعين: إما أن تكون هناك قوات للدولة القائمة بالاحتلال بالفعل على الأرض مثلما كان الحال من قبل في قطاع غزة، أو أن تتحكم دولة الاحتلال تحكما كاملًا في الداخل والخارج من وإلى هذا الإقليم: بمعنى آخر أن تمارس هذه الدولة "حصارًا شاملًا" على الإقليم المحتل، فإسرائيل بالنسبة لنا وبعيدًا عن العواطف وبتعريف القانون الدولي دولة احتلال: لأنها تمارس حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا على قطاع غزة، وكما قال أستاذ لنا في القانون "إسرائيل تحتل قطاع غزة بالريموت كنترول".

فإسرائيل بهذا "دولة احتلال" والاحتلال بمعنييه بعد عدوانًا مستمرًا بإجماع من فقهاء القانون الدولي، وإذا كان العدوان كعدوان مبررًا لدفاع، فمن باب أولى العدوان المستمر، فإذا كنا هنا بصدد عدوان مستمر تمارسه إسرائيل على قطاع غزة، إذن فمن حق الشعب الفلسطيني في غزة وبموجب القانون الدولي الدفاع عن نفسه، ومن وسائل الدفاع: الدفاع بالسلاح. فما من منظمة دولية واحدة بدءًا بالأمم المتحدة مرورًا بكل المنظمات الإقليمية المعنية إلا وقد أقرت الحق لكل حركات التحرر والمقاومة الشعبية بحمل السلاح، كما أن هذه المنظمات منحت حركات التحرر الوطني الحق في الحصول على الدعم والتأييد من الدول الأعضاء في هذه المنظمات فالأمم المتحدة عبر جمعيتها العمومية ومجلس أمنها وبنصوص صريحة قد أوجبت على الدول الأعضاء فيها تقديم السلاح والدعم لحركات المقاومة، وأكثر من ذلك أنه في عام 1970 قال المندوب اليوغسلافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة "أن المقاومة بالإرهاب لیست إرهابًا".

أيضا هناك ما أقرته المحكمة الجنائية الدولية من أن إقامة مستوطنات على أراض محتلة تعد جريمة حرب وجريمة الحرب حسب القانون الدولي تبرر بداية ودون الحاجة إلى عدوان مستمر أو احتلال بالريموت كنترول تبرر، الدفاع الشرعي بالسلاح.

هذا هو القانون الدولي أما ما شاهدناه من تواطئ أمريكي وأوروبي، بالإضافة إلى حلف شمال الأطلسي في الحصار على قطاع غزة ومنع وصول السلاح لأصحاب الحق، فهذا ليس من القانون في شئ، وإنما نبحث له عن تفسير في مكان آخر.

وفي هذا السياق، وجب هنا أن نذكر أن القانون الدولي يلزم دولة الاحتلال بتقديم جميع الخدمات الواجبة للمدنيين على حكوماتهم الأصلية؛ أي أن دولة الاحتلال يجب عليها أن تقوم بما تقوم به الحكومة السوية فيما عدا الجانب العسكري، وإذا لم تلتزم دولة الاحتلال بهذا، وجب على المجتمع الدولي أن يقدم لهؤلاء، ما يقيم أودهم ويسيّر أمور حياتهم، وبالأحرى وجب هذا على المجاورين، وكل لبيب بالإشارة يفهم.

إذا اكتفينا من الغنيمة بالإياب وانتقلنا إلى قرار مجلس الأمن 186 سنجد أن معظم من تحدثوا عما إذا كان ملزمًا أم غير ملزم وهل ينتمي إلى الفصل السادس أم السابع، وتناسي الجميع أن القرار لا يحتوي على آليات تنفيذه. فإذا لم يكن مشتملًا  على آليات تنفيذه فلا قيمة له سواء كان منتميًا إلي الفصل السادس أو السابع.

والدليل على هذا أن إسرائيل ضربت به عُرض الحائط، ولم تلتزم به حتى من قبيل تجميل الوجه، ثم إن توقيت القرار يعد كارثة، حيث وجدنا مجلس الأمن ينتظر ما يقرب أسبوعين من اندلاع الحرب، مع أنه وبموجب القانون يكون المجلس في حالة انعقاد دائم إذا وجدت مشكلة تهدد السلم والأمن الدوليين، لكن فيما يبدو أن القائمين على مجلس الأمن لم يروا فيما يحدث في قطاع غزة ما يهدد السلم والأمن الدولين فانتظروا أسبوعين حتي اجتمعوا فوجدنا الجبل يتمخض عن فأر بهذا القرار الذي أصدره مجلس الأمن.

الحقيقة القانونية هي أن مبادئ الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان وليس دفاعا ضد دفاع

وهنا تبرز إشكالية أن القانون هو سلاح الضعفاء، لكن سلاح الضعفاء إذا لم يكن قويًا ومشحوذًا فلا قيمة له، وقديمًا قال فقهاء القانون الروماني "إن القوة تخلق الحق وتحميه". ونحن لم نصل معهم إلى تلك الدرجة، فالقوة هنا لم تخلق الحق لكنها بالضرورة حامية له؛ بدليل أن قضية كالعدوان على غرة على ما فيها من وضوح من عدوان على شعب أعزل لم ير فيها المجتمع الدولي خطرًا يوجب انعقاد مجلس الأمن وحينما أراد وفاق من سباته واتخذ قرارًا اتخذه على نحو مانع، فلم يجعل له آلية لتنفيذه.

إذن،  كيف نتعامل من الناحية القانونية مع ما حدث؟

 أمامنا أحد بدائل عدة:

البديل الأول: وهم الذي كثر الحديث عنه بغير علم، هو أن نذهب إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهذا غير ممكن؛ لأن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في الجرائم التي ارتكبت على أراضي الدول الأعضاء في النظام الأساسي وليست أي من الدول العربية عضوًا في النظام الأساسي فيما عدا الأردن وجزر القمر ومصر وقعت فقط لكنه لم يتم التصديق عليها، فهذا بديل برأيي غير ممكن لأن العدوان لم يقع على أراضي الأردن أو جزر القمر.

البديل الثاني: أن يكون القائمون بهذا الانتهاك والعدوان أطرافًا في النظام الأساسي للمحكمة الدولية، وإسرائيل ليست طرفًا في النظام الأساسي للمحكمة.

البديل الثالث: وهذا خاضع لتقدير مجلس الأمن، حيث إن مجلس الأمن إذا رأي أن ما يحدث في إقليم دولة ليست طرفًا في النظام الأساسي بهدد الأمن والسلم الدوليين فمن حقه هنا أن يحيل الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية لتتدارسه، كما هو الحال حاليا مع الرئيس السوداني البشير.

البديل الأخير: وفي تقديري هو الحل الأيسر والمتاح، وهو أن نلجأ مباشرة إلى محاكم الدول التي تقبل الاختصاص العالمي فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وهناك العديد من الدول التي يسمح قانونها الداخلي بالنظر في جرائم

ارتكبت خارج حدود أراضيها، بشرط أن تكون من قبيل جرائم الحرب والإبادة الجماعية وحقوق الإنسان، وهذه الدول كثيرة، منها: فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.

وهذه أسهل البدائل وإن شابها بعض صعوبة ستكون في طول الإجراءات والتكلفة المادية العالية، لكنه وفي ظل التعدد الشديد في منظمات المجتمع المدني والثروات العربية يبدو هذا ممكنا.

وما أحب أن أطمئنكم بشأنه هو أنه من الممكن ألا يري جيلنا وجيل أساتذتي هذا الحلم يتحقق لكن الجيل الحالي

يمكنه أن يرى ذلك.

ومن المفيد جدا هنا أن ندرك أن القضايا الخاصة بالانتهاكات الإنسانية "لا تسقط بالتقادم"؛ بمعني أنه ما حيينا وما حيوا سيظلون دومًا في تهديد إمكانية أن نحاصرهم بالقانون، طالما نحن غير قادرين على المحاصرة بغيره.

______________________________________

المصدر: حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 9، 2009، ص: 65- 67. يمكن تنزيل نسخة (pdf) من المقال عبر هذا الرابط: https://2u.pw/pVkaFRk.

الموضوع الذي أمامنا اليوم هو موضوع غزة، وهذا الموضوع عايشناه جميعا يومًا بيوم وأصبحت معلوماتنا عنه متساوية، فليس منا من لديه معلومات أكثر من الآخر. إذن نحن نتحدث عن موضوع سبق العلم به، وتساوينا تقريبا في المعارف الخاصة بوقائعه، وبقدر كبير من التحليلات الخاصة به، ولذا تصورت أن الحديث فيه سيكون في ثلاث أو أربع نقاط، وذلك لإعادة ترتيب الوقائع بشكل أو بآخر حتى نستطيع فهمها والحوار حولها.

- النقطة الأولي: تتعلق بأهمية أرض الشام لمصر وللتاريخ المصري.

- النقطة الثانية: تتعلق بقدر الحروب التي دخلنا فيها وهذه الحرب الأخيرة في سياق الحروب الممتدة في التاريخ المعيش المعاصر.

- النقطة الثالثة: الحروب النظامية والمقاومة الشعبية.

- النقطة الرابعة: النقطة الرابعة تتعلق بالمقاومة في فلسطين بين أهل الداخل وأهل الخارج

 

فيما يتعلق بأهمية فلسطين أو أرض الشام عامة بالنسبة لمصر، خاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين في أرض الشام، وكان وهو يحكم مصر يقوم بالدفاع عن المنطقة كلها، كان هذا في عام 1187. والمظفر قطز عندما أراد مواجهة التتار كان ذلك في موقعة عين جالوت في أرض الشام أيضا عام 1260. إذن من يحاول الدفاع عن هذه المنطقة لا يدافع عنها من داخل مصر، ولكنه يخرج إلى أرض الشام. إذن حين حاربنا الصليبيين القادمين من الغرب وحين حاربنا التتار القادمين من الشرق ومع كليهما كانت أرض الشام هي مجال المعركة، وكلتاهما كانت معركة الحسم أيضا.

 وبعد ذلك جاء السلطان سليم الأول عندما أراد توحيد المنطقة الإسلامية قبل أن يصل إلى مصر كان قد فرض سيطرته على الشام؛ فى1516 سيطر على الشام وفى عام 1517 سيطر على مصر. ثم استقل علي بك الكبير بمصر عام 1759 وأرسل أحد الولاة ليسيطر على الشام فلم يستطع، وتلاشي حكمه لمصر بعد عدد من السنوات، فلم يستطع أن يحتفظ بولايته على مصر مستقلا عن الدولة العثمانية مادامت أرض الشام بعيدة عنه. وعندما قام نابليون بغزو مصر كان ذلك في شهر يونيو سنة 1798، وفي يناير1799 ذهب إلى عكا وحاصرها ولم يمكنه أحمد باشا الجزار من اقتحامها وفشلت الحملة وعاد إلى مصر، وانتهت الحملة الفرنسية على مصر بعدها بعامين.

 إذن لننظر إلى مدى إمكانية استقلال واستقرار لحكم ثابت في مصر دون أن يكون محميًا من أرض الشام. وعندما أراد محمد علي السيطرة على مصر وكان واليا عثمانيا، وعندما بدأ ينازع الدولة العثمانية سلطاتها كان أمامه طريق الشام وسيطر عليه، وبعد ذلك في عام 1840 جاءت معاهدة لندن التي أخرجت محمد علي من الشام وجعلته محصورا في مصر، وبقيت أرض الشام في يد الدولة العثمانية. من هذا التاريخ تقريبا نستطيع أن نحدد أن كلا المنطقتين فقد استقلاله وظل تحت الهيمنة الأوربية. معاهدة لندن عام 1840 جعلت مصر أو الشام تحت الهيمنة الأوربية، بوجود كل منهما منفصلا عن الآخر، ولذلك بقيت أسرة محمد علي تحكم مصر، ولكن تحت الحماية الأوربية التي بدأت حسبما نعرف من التاريخ المصري في عهد سعيد، ومن بعده احتلت انجلترا مصر عام 1882، لكن مصر كانت تحت الهيمنة الأوروبية عامة منذ عام 1840، والإنجليز احتلوها ليستخلصوها من أي نفوذ أوروبي آخر.

ومع ضعف الدولة العثمانية بقيت المنطقة كلها تحت التأثير الأوروبي والهيمنة الأوروبية عليها، في الوقت الذي بدأ الإنجليز فيه الانفراد بمصر وفرض الحماية عليها رسميا كان ذلك عام 1914، أعلنت الحماية على مصر 1914، وفي 1917 صدر وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ووقتها قال الساسة الإنجليز أن هذا الأمر مقصود به حماية قناة السويس، بمعني حماية نفوذهم وسيطرتهم على قناة السويس. وأوجدوا هذا الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وُضَعت فلسطين رسميا تحت الحماية الإنجليزية سنة 1922 بمعاهدة السلام وجاءوا لها بمندوب سامي يهودي هو هربرت صامويل لينفذ المشروع الإسرائيلي، وفي نفس الوقت اعترفوا باستقلال مصر، كان ذلك بعد ثورة 1919.

 وبعد الاعتراف باستقلال مصر، وضعت فلسطين تحت إطار تنفيذ المشروع الصهيوني، في نفس الوقت الذي فُرضت فيه الحماية علي مصر وصدر وعد بلفور، عُقدت اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم أرض الشام، ولا أقصد بأرض الشام دمشق كما يقال ولكنني أقصد ما نقوله نحن في مصر بر الشام ونعني به سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، في أيام الحرب العالمية الثانية والإنجليز يحتلون مصر فأصبحت منطقة لابد من الدفاع عنها ضد الغزو الألماني الذي كان قادما عن طريق شمال إفريقيا ووصل عن طريق تونس وليبيا إلي العلمين بالساحل الغربي لمصر، وكلنا نعرف المعركة التي دارت هناك، وقتها أنشأ الإنجليز مركز تموين الشرق الأوسط لأنهم أحسوا أنه لكى يمكن الدفاع عن مصر لابد أن تكون مصر والشام معا، ويكونان نوعًا من أنواع التكامل الاقتصادي أثناء الحرب، وأيضا نوع من أنواع الدفاع المشترك.

 إذن لكي تدافع عن مصر حتى وأنت أجنبي لابد أن تضمن أين أرض الشام بالنسبة لك، فالوزير البريطاني اللورد موين -الذي كان مقيمًا في مصر وقتها- أرسل الصهاينة فردين لقتله، لأنه نظرًا للتوازنات اللازمة أثناء الحرب بدأ يأخذ سياسة لا تحقق الطموح الصهيوني كاملا فقتلوه في الزمالك بالقاهرة. إذن ارتباط مصر بهذه المنطقة ارتباط تاريخي ويستحيل التقليل من أهميته، وفيما عدا الحملة الفرنسية لم يتم احتلال مصر إلا عن طريق بوابتها الشرقية، حتى عندما حاول الإنجليز احتلال مصر عام 1882جاءوا عن طريق الإسكندرية ولم يستطيعوا فغيروا طريقهم ودخلوا عن طريق قناة السويس، بمعني إنهم جاءوا أيضا من الشرق.

مصر حقيقة هي متجانسة بل لديها قدر كبير من التجانس من أسوان حتى الإسكندرية، فلا يوجد فيها قبائل أو تكوينات طائفية أو إقليمية تتحدي هذا التجانس، وهذه ميزة في مصر ولكن بها عيب واحد هو أن أمعائها خارج جسمها، بمعني أن أمنها القومي كله خارج حدودها، فمصر لا تستطيع العيش إلا من خلال ضمان السودان وضمان حدودها الشمالية الشرقية، فهي تُحتل وتُغتصب ولا تستطيع أن تكون لها إرادة سياسية وطنية صادرة عن مصالح هذا الشعب إذا لم تكن مؤمنة من جانب حدوها الشمالية الشرقية وجانب السودان.

 وقد فهم الإنجليز ذلك وهم يحتلون مصر، ولكن السياسي الماهر -ويبدو أن السياسيين الاستعماريين كانوا مهرة بالفعل- فأحيانًا يفكر السياسي المحتل في ماذا لو اضطررت لإخراج قواتي منها؟ فكانوا يفكرون في كيفية احتلال مصر من خارج حدودها، ومصر بها هذه الخاصية فهي يمكن احتلالها عسكريا من خارج حدودها، وهي داخل حدودها لا يجوز احتلالها عسكريا، ولكن متى تُحتل عسكريا من الخارج؟ إذا وجدت قوة عسكرية استعمارية مناوئة لها أو تحت سيطرة أجنبية في السودان أو قوة عسكرية مناوئة واستعمارية في أرض الشام، فإن مصر تعاني من الضغوط على إرادتها الوطنية، مما يجعل من الصعب عليها أن تقيم هذه الإرادة صدورًا عن الصالح الوطني العام، ونحن عندما يكون هناك احتلال على الفور نطالب بإزاحته ونطالب بالجلاء، ولكن عندما يبدو هذا الجلاء قائمًا او يتحقق تبدأ على الفور الإملاءات الخاصة بالاعتبارات الأمنية المتعلقة بضمان هذا الاستقلال من خارج حدودها. ويقال لابد أن تكون لها سياسة خارجية ونحن نسميها خارجية لأنها خارج القطر المصري وهي متعلقة بتأمين هذا الوضع المتعلق بالشام أو المتعلق بالسودان.

وعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952، وجدت أن موضوع السودان مشكلة فأرادت حله بشكل ما، وقد كانت هناك مشكلة في مصر والسودان، فقد كانت هناك إثارة لموضوع وحدة مصر والسودان ولكن القوة الوطنية الحاكمة أيامها لم تكن لديها سعة أفق بحيث تجعل تنظيماتها مصرية سودانية في نفس الوقت، فعندما تشكل الحزب الوطني تشكل من المصريين فقط دون السودانيين، وعندما تشكل حزب الوفد تشكل من المصريين دون السودانيين، وعندما تشكل جهاز الدولة كان دائمًا من المصريين فقط، فبأي حق يطلب المصريون الوحدة مع السودان والتكوينات المؤسسية الرسمية والأهلية لا تعكس هذا؟! ولقد كانت طموحات الحركة الوطنية المصرية أكثر من إمكانياتها المؤسسية وهى بتشكيلها المصري القح حكمت بانفصال مصر عن السودان.  

جهود ثورة 23 يوليو الحقيقة أنها حاولت أن تضمن باتفاقية السودان سنة 1953 ألا يكون السودان تابعا للإنجليز ويخير فقط بين الاستقلال الوطني أو الوحدة مع مصر، وبالطبع اختار الاستقلال الوطني، وعلي الفور بدأ الحكم الوطني هناك، وفي نفس الوقت نشأ السد العالي ليكفل لمصر القدرة علي حماية مياه النيل لعدة سنوات إذا حدث شيء يتعلق بهذه المياه، لأن قبل ذلك لم يكن لدينا السد العالي وكان لدينا خزان أسوان فقط، وخزان أسوان كان ينظم الري لمدة سنة زراعية فقط فلم يكن يحتمل تخزين مياه أكثر من ذلك، وكان هناك عدة خزانات في السودان، وبذلك كانت الخزانات السودانية تستطيع أن تتحكم في المياه المصرية زرعة بزرعة، فإذا لم يعطني حجم المياه المطلوبة في شهر يونية مثلا لزراعة الأرز لن أستطيع زراعته، فالوضع كان يشبه وجود صنبور يستطيع إغلاق المياه في أي وقت، ولذلك نجد أن مفتشين الري المصريين دائمي الوجود في السودان وقتها، فالسد العالي كفل لمصر الحماية فيما يتعلق بالمياه لعدد من السنوات القليلة، تستطيع إدارة أمورها ويطول به نفسها حتى تستطيع تدارك أمرها في هذا الشأن، كان هذا بالنسبة للسودان.

 بالنسبة للوضع الثاني، كانت هناك فلسطين وظهور الدولة الصهيونية بها، ولذلك أول اتفاقية تمت لثورة 23 يوليو كانت اتفاقية دفاع مشترك الخاصة بجامعة الدول العربية. كانت هناك اتفاقية تمت في سنة 1951، ولكن تمت اتفاقية أخري سنة 53 للدفاع المشترك بين سوريا ومصر والسعودية أيام الملك عبد العزيز، وبحس عسكري لابد أن يكون لديك دفاع مشترك ليس فقط من أجل الوحدة الوطنية والقومية العربية، ولكن لأنه لابد أن يكون هناك خط دفاع موجود بالنسبة لهذه البلاد وخاصة مصر والشام، ومن هذا الوقت وحتى اليوم لم يحدث قط أن اتفقت السياسة المصرية مع السياسة السورية والسعودية أبدًا، فدائما تأتي مصر مع سوريا فتفلت السعودية، وإذا جاءت مصر مع السعودية تفلت سوريا، وكل هذا يؤدي إلي استمرار التبعية والخضوع والهيمنة ومن أجل ذلك نتكلم عن فلسطين.

 وأنا أري أنه من العيب أن نقول مصر أولاً، فهذا الكلام غير منطقي فالأمن أهم من الطعام، وليجرب كل منا يخاف أم يجوع؟ فالخوف أشد وطأة على الإنسان من الجوع، الإنسان يفقد قدرته وإنسانيته عند الخوف وليس عند الجوع، فمع الجوع يستطيع المقاومة ويستطيع تدبير نفسه أما مع الخوف فلا، إذن هذه الأمور تتعلق بالأمن وليست متعلقة حتى بالرخاء.

 

النقطة الثانية المتعلقة بالحرب الأخيرة في غزة، أنها الحرب الثانية عشرة في سلسلة من الحروب المتواصلة من 1948- 2008 أي علي مدار ستين سنة، و أنا أقوم بحساب الحروب الأمريكية مع الحروب الإسرائيلية علي أساس أنهم كتلة واحدة، فليس هناك سياسة في العالم توحدت بين دولتين مثل هذا التوحد اللصيق الذي لا ينفصم أبدا كما توحدت السياسة الأمريكية والإسرائيلية، وسنجد أن السياسة الأمريكية علي مدي هذه السنوات الطويلة قد تغيرت، مع الاتحاد السوفيتي وبعد ذلك مع مجيء روسيا تغيرت أيضا، وتغيرت أيضا مع الصين من عدم الاعتراف بها ثم الاعتراف بها ثم قيام علاقات مع سلام بارد، وتغيرت أيضا مع الهند وباكستان كما تغيرت أيضا مع دول كثيرة في أمريكا الجنوبية، يتم إذن تعديل السياسة حسب الظروف والأحوال فيما عدا هذه العلاقة المتعلقة بالأمريكان والصهاينة فلم تتغير أبدًا، فهذه سياسة ثابتة مستقرة علي مدي هذه السنين لم يحد سياسي أمريكي عنها، لا جمهوري ولا ديموقراطي، لا أيزنهاور ولا كلينتون ولا أوباما ولا غيرهم. إذن من حقنا أن نعتبر أن حروبهم واحدة، خصوصًا أننا نجد أن المصلحة ليست مشتركة فقط ولكنها متحدة بين إسرائيل وبين السياسة الأمريكية الثابتة المستقرة، وعندما نضع هذا في اعتبارنا سنجد أنها 12 حرب بالفعل، وهي كالآتي:

  • حرب 1948.
  • حرب 1956.
  • حرب 1967.
  • حرب الاستنزاف التي تمت بين مصر وإسرائيل بين الحربين السابقة واللاحقة.
  • حرب 1973.

وهذه الحروب الخمسة كانت مصر مشاركة فيها بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، وانتهت بحرب 73 فلم تعد مصر تحارب.

وجاءت بعد ذلك سبعة حروب هي:

  • حرب 1982اجتياح لبنان.
  • انتفاضة 1987 الفلسطينية في أرض فلسطين.
  • حرب الأمريكان في الكويت والعراق سنة 1991.
  • انتفاضة عام 2000 الفلسطينية في أرض فلسطين.
  • حرب العراق سنة 2003.
  • حرب لبنان 2006.
  • حرب غزة 2008.

إذن هناك 12 حرب علي مدي ستين سنة، أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات. إذن هي حرب واحدة ووقائع متسلسلة، هي حرب واحدة ومستمرة ولذلك هناك عدو إستراتيجي أمامنا، إذا نظرنا لمعاركه سنجدها تتنقل: مصر ثم لبنان ثم تنتقل إلى العراق والكويت، وغرب سوريا مازال محتلا حتى الآن. إذن العدو هنا يوحدنا ونحن لا نتعظ ولا نتوحد، ولذا من حقنا أن نعتبر أن هذه الحرب هي مواجهة إستراتيجية على مدي طويل، ونحن أحيانا نجد بعض المسئولين يقول أن العلاقة بيننا وبين أمريكا هي علاقة تحالف إستراتيجي!! والحقيقة أنني أجد هذا الكلام غريبا جدًا فهل من الممكن أن تقيم تحالف إستراتيجي مع عدو إستراتيجي؟!!

 إذن هناك 12 حرب علي مدي ستين سنة، أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات. إذن هي حرب واحدة ووقائع متسلسلة، هي حرب واحدة ومستمرة ولذلك هناك عدو إستراتيجي أمامنا، إذا نظرنا لمعاركه سنجدها تتنقل: مصر ثم لبنان ثم تنتقل إلى العراق والكويت، وغرب سوريا مازال محتلا حتى الآن. إذن العدو هنا يوحدنا ونحن لا نتعظ ولا نتوحد، ولذا من حقنا أن نعتبر أن هذه الحرب هي مواجهة إستراتيجية على مدي طويل، ونحن أحيانا نجد بعض المسئولين يقول أن العلاقة بيننا وبين أمريكا هي علاقة تحالف إستراتيجي!! والحقيقة أنني أجد هذا الكلام غريبا جدًا فهل من الممكن أن تقيم تحالف إستراتيجي مع عدو إستراتيجي؟!!

 النقطة الثالثة وهي الحروب النظامية والمقاومة الشعبية، هل إسرائيل تشكل احتلالاً للإرادة المصرية من خارج الحدود المصرية؟ حروبنا مع إسرائيل دائما حروب تحرير، وبمعني آخر أن العدوان علينا دائما من إسرائيل، ففي حرب 48 العدوان علي فلسطين، وفي 56 العدوان علينا في مصر، وفي 67 العدوان علينا أيضا، وفي 73 وقبلها حرب الاستنزاف حروب تحرير الأرض المصرية، وفي هذه الحرب يدخل الشأن المصري بشكل أكبر، إسرائيل لديها مدد سلاح وتنظيم وعلوم وتكنولوجيا من أمريكا والغرب لا ينقطع، وأيضا إمكانيات اقتصادية ضخمة. المقاومة ضد أي احتلال عسكري من دولة كبري بجيش نظامي محكوم عليه بالفشل، هذه نقطة محسومة حتى لو نظرنا إليها من أيام محاربة أحمد عرابي للاحتلال الإنجليزي وفشله.

 الحروب النظامية تكون بين دول متعادلة من ناحية القوة العسكرية، الوسيلة الأساسية لمقاومة الاحتلال العسكري من دولة كبري هي المقاومة الشعبية، والمقاومة الشعبية لا تعتمد على القوة الخاصة بالجيوش ونظمها والأسلحة التي لديها وقوتها النظامية والاقتصادية. يدافع المحتل عن مصلحة والمقاومة تدافع عن وجود وعن حرية، المصلحة أقصر نفسًا من الوجود وأقل ضرورة منه، وهذا يجعل المقاوم أطول نفسًا؛ لأنه لن يتوقف فهو يدافع عن وجوده، الذي يدافع عن مصلحته إذا جعلته يشعر أنه لا يحققها وإذا جعلته يشعر أنها تؤدي به إلى الخسارة وليس إلى النفع انتهت آماله، ولذا نجد أن الفيتناميين –رغم صغر حجم ومساحة فيتنام- غلبوا الولايات المتحدة، ونجد أن الصين بالرغم من إنها كانت فقيرة جدا غلبت الاحتلال الياباني، الجزائريون أيضا غلبوا الفرنسيين.

 ما قامت حرب تحرير شعبية إلا وانتهت بالنصر علي المعتدي، وقديما كانوا يقولون حين تسقط العاصمة تسقط البلد، ذلك في التاريخ الوسيط، واستمرت هذه القاعدة موجودة حتى اليوم ليس عن طريق العاصمة ولكن عن طريق الجيش النظامي، إذا غلب أحد الجيشين الآخر في معركة نظامية حاسمة تسقط الدولة. أول شرط في المقاومة الشعبية هو تفادي المعارك الحاسمة، حتى في الكتب الخاصة بحرب العصابات يقولون إذا تابعك العدو تجري وتهرب، وإذا تقدم تقهقر، وإذا توقف ناوشه، وإذا استقر فاضربه، وتفادي المعارك الحاسمة، وبهذا الشكل لن يستطيع هو أن يدخل معك في معركة حاسمة، وهذه الحروب تحتاج إلي تضحيات ولذلك نجد أن أعداد الخسائر البشرية في المقاومة الشعبية كثيرة جدا. إذن المقاومة الشعبية تعتمد علي تقديم تضحيات بشرية ضخمة وتتفادى المعارك الحاسمة وتجعل العدو دائما قلقًا وغير مستقر.

 وسنضرب مثلا علي ذلك بالحركة الشعبية في مصر سنة 1951 عندما قويت جدا فقرروا إلغاء المعاهدة مع الإنجليز والتي تمكنهم من الوجود العسكري المشروع في مصر، وجاء مصطفي النحاس وأعلن إلغاء المعاهدة، فأصبح الوجود الإنجليزي في مصر غير مشروع، وراحت الناس تتنادي لعمل مقاومة شعبية، وأخذت الأحزاب تعمل علي ذلك قدر طاقتها، وكنا طلبة في ذلك الوقت، وكان هناك معسكر داخل الجامعة –بعلم وموافقة عبد الوهاب مورو رئيس الجامعة وتحت نافذة مكتبه- لتعليم الطلاب استخدام السلاح وكيفية إلقاء القنابل اليدوية والرماية، وكان يقوم بذلك أفراد يرتدون اللون الكاكي، وكانت هناك معسكرات مثل هذه في كثير من الأماكن، وشعر الإنجليز أن ذلك سوف يتزايد وينمو أكثر مع الوقت ويكتسب خبرات وما إلي ذلك، فقاموا بعمل مذبحة البوليس في الإسماعيلية لكي يستدرجوا الدولة وتكون معركة حاسمة وينتهي الأمر، ولكن طالما المسألة بين الشعب والمحتل فلن يستطيع التصرف، أما عندما تكون مع الدولة، يستطيع الضرب وإنهاء الموضوع. كان ذلك يوم 25 يناير وبالفعل قتلوا الكثير من أفراد البوليس المصري في المقر الخاص بهم في الإسماعيلية، وقامت بعد ذلك ثورة 23 يوليو وألغت الأحزاب وأصبحت الدولة فقط، والإنجليز محتلين غير معترف بهم، فهل سيستمر الدفاع الشعبي والتدريب العسكري في الجامعات بالطبع لا، والجيش النظامي لن يستطيع، ولكن حكومة الثورة حكومة وطنية وتريد إخراج الإنجليز بالفعل فماذا تفعل؟ فخلع لابسي الكاكي زيهم وارتدوا الملابس العادية وقاموا بعمل مقاومة شعبية وظلوا مرتبطين بالجيش في نفس الوقت.

ونجد من قاموا بتشكيل أجهزة الأمن بعد ذلك ينتمون إلى نفس العناصر مثل كمال رفعت، وبذلك تكون المقاومة الشعبية تكونت من ناس مرتبطين بجهاز الدولة دون أن يكونوا من جهاز الدولة، وكسبت هذه المقاومة وحدثت اتفاقية 1954 وما حدث في التاريخ بعد ذلك، وبدأ التفكير في تطبيق هذه الخطة فيما يتعلق بفلسطين، وجري تنفيذ ذلك عن طريق غزة والتي كانت تحت الإدارة المصرية وبالفعل كان الأفراد يخلعون الكاكي ويرتدون الملابس المدنية ويقومون بتدريب الناس علي استخدام الأسلحة، تنبهت إسرائيل إلي ذلك فقامت بتوجيه ضربات مؤلمة للجيش المصري في سيناء لكى تستدرج الدولة وجيشها النظامي، ومع كون الحكم في مصر حكم عسكري فضرب الجيش لا يجوز ويعتبر إهانة، وبذلك نجحت إسرائيل في إجبار مصر علي الدخول في حروب نظامية في صراعها مع إسرائيل، فبوجود حكم عسكري يعتمد علي الدولة لا يمكن أن يتم ضرب الجيش ويتعامل مع الموقف عن طريق المقاومة الشعبية.

 ومنذ ذلك الوقت بدأت الحروب النظامية ضد إسرائيل. ومن الانصاف القول أنه كان محكوما عليها أن تكون كما حدثت بالضبط، فأنت بالفعل تحارب أمريكا؛ أقوى قوة عسكرية منظمة في العالم بكل ما فيها من أسلحة وتكنولوجيا وكل ما فيها من علوم ومخترعات حديثة. إذن الحروب النظامية هنا لن تصلح، ولذلك الشيء الإيجابي الوحيد الذي تم من أيام الرئيس السادات قوله أن حرب 73 هي آخر الحروب بالرغم من إنه كان يقصد أن بعد ذلك سيكون هناك سلام، بالطبع السلام لم يتحقق ولن يتحقق طالما أن هناك إسرائيل توسعية بهذا الشكل الذي نراه، ولكن وجه الصواب في هذه المقولة هو أن حرب أكتوبر 73 ستكون آخر الحروب النظامية؛ لأن بعدها سيتجه الأمر إلي الكفاح الشعبي والمقاومة الشعبية، وتمثل ذلك في الدول التي ليس بها سلطة مركزية قوية، لأن السلطة المركزية القوية لا تقبل أن تكون لديها مقاومة شعبية قوية خارجة عن سيطرتها، ولذلك نشأت المقاومة الشعبية في لبنان حيث الدولة ضعيفة وفي فلسطين حيث لا دولة، وفي الصومال أيضًا. فكلما كانت الدولة ضعيفة كلما كانت المقاومة قادرة على الوجود المستقل وقادرة على التنفس، وهذه معضلة لن نستطيع حلها قريبًا.

 

النقطة الرابعة تتعلق بالمقاومة في فلسطين، وفلسطين كانت مجتمعًا بشريًا مثل كل المجتمعات التي خلقها الله في العالم، بمعني مجتمع مستقر وضعه، فيه طوائف وطبقات ودولة وفئات مختلفة وأيضا قبائل وأسر وقري وحواضر، وبدخول الصهاينة ومع التشتيت والتهجير والضرب والتقتيل تمزقت البنية الاجتماعية داخل فلسطين، فلم تعد الأسر متجانسة ومترابطة، ولم تعد هناك علاقة بين الطبقات فأصبح المجتمع مهلهلاً، وبذلك أصبح المجتمع ركام يعيش أهله في الملاجئ والمخيمات وتوزعوا علي البلاد العربية، وبعضهم ذهب إلى أمريكا وباقي دول العالم. وبظهور فتح احتاج المجتمع إلي عشرات السنين لكي يتجمع مرة أخري ويظهر ويكون له تكوين سياسي، وكان ذلك أساسا في المهجر، إذ بدأت التركيبات الضخمة للفلسطينيين في المهجر في التجمع مع بعضهم البعض وكان يجب أن يمر وقتٌ طويل حتى يتجمّع المجتمع من جديد ويستقر.

وفي ذلك الوقت كانت منظّمة التحرير الفلسطينيّة تمثّل للفلسطينيّين رمز الوطن، ورمز الانتماء للوطن، أي أنّها كانت بمثابة وطن تصوّري، أنت لست في بيتك أنت في بلد عربي، وبحكم تنقّلها بين عدّة أقطار عربيّة أخذت المنظمة طابع الدولة التي تتخذها مقرًا لها، لم تكن المنظمة مستقلة في سياساتها ولكن من حسن الحظ كان لدينا حكومات وطنية مثل مصر وسوريا، ولم يكن متاح للمنظمة  إلا أن تخضع لتوازنات البلاد العربية وتعمل في إطار هذه التوازنات، حتى إنه يمكن قراءة ملامح السياسة للأقطار العربية ذات التوجّه الاستقلالي من خلال المنظمة، ولم يكن للمنظمة إلا ذلك فلم يكن لها استقلال، ولما انهارت هذه الحكومات الوطنية بدأ الاستقلال يقع وبدأت سياسات أخرى تظهر، فوقعت أحداث أيلول الأسود في الأردن.

 وقد تنبّه لهذا الأمر ياسر عرفات فكان يخشى على المنظمة من أن تُستوعب في الدولة التي تقيم فيها، ومن هنا كان دائمًا يرفع شعار: منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعندما اختفى التوجه الاستقلالي للبلاد العربية بدأت الحركة الفلسطينيّة تنتقل من الخارج إلى الداخل؛ أي إلى داخل أرض فلسطين المحتلة، وبدأت منظمة التحرير الفلسطينيّة تتحول من "وطن" إلى "تنظيم"؛ لأن الوطن قد صار متحققًا في الأرض المحتلة ذاتها.

 

 وبدأت تظهر قوة الداخل الفلسطيني، وفوجئنا في عام 1987 بظهور أطفال الحجارة، حين قام أطفال لا تزيد أعمارهم على 15 و16 سنة بحمل الحجارة ورميها على الإسرائيليين.

 وهنا بدأ الداخل الفلسطيني يتحرك، وبدأ مركز الحركة الفلسطينية ينتقل من الخارج إلي الداخل ويعمل وهذا ما أدركه ياسر عرفات، ففي البداية كان يخشي من الأردن وكان يقول أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في مواجهة ألا يتم استيعابها من الأردن، وعندما بدأت حركة الداخل أصبح هذا الشعار في مواجهة الداخل، حتى لا يكون الداخل هو الممثل لأن الداخل أصبح أكثر كفاءة وأكثر قدرة علي الاستقلالية من ضغوط الخارج عليه، كما أصبح أكثر قوة علي إنقاذ نفسه من التوازنات الخاصة بالحكومات العربية وبالمنطقة العربية وإخراج نفسه منها، وأيضا يستطيع فرض سياسة خاصة به في حدود إمكانياته، كل ذلك لا يقدر عليه عرفات وهو بالخارج، فأصبحت مشكلته مع الداخل، بعدما كان الخطر أن تقضي عليه دول أخري، أصبح الخطر أن بقضي علية الداخل، وبذلك تتحول المنظمة من ممثل وطن إلي تنظيم، ولذلك بدأ يأخذ سياساته في مواجهة الداخل الفلسطيني. كارل ماركس له كلمة في سياق النظرية الماركسية فهو يقول: أن الطبقة البرجوازية تظل وطنية حتى تجد الطبقة العاملة قد أخذت تنمو وتكبر واستشعرت خطرها فلا تبقي الطبقة البرجوازية وطنية.

 وإذا استبدلنا طرفي نظرية كارل ماركس بالداخل والخارج سنجد الصورة كالآتي: أن أهل الخارج كانوا وطنيين حتى بدأ أهل الداخل منازعتهم الأمر فبدؤوا في تأكيد علاقتهم بالخارج ضد الداخل وهنا المشكلة. ونحن نري أن كل قوي المقاومة، سواء كانت حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية، تعتمد أساسا علي المواطنين داخل فلسطين في الضفة وغزة، وعمومًا هذه المشكلة سنجدها عندما نتحدث في أي موضوع يتعلق بتنظيمات سياسية وانشقاقات عن هذه التنظيمات، فحيثما توجد تنظيمات سياسية بها من يحمل السلاح وبها أيضا السلميين سوف يدب نوع من أنواع الصراع بين الاتجاهين، وحيثما يوجد أهل داخل وأهل خارج سوف يدب الصراع بين هؤلاء وأولئك، وذلك لأن الرؤية مختلفة والأوضاع مختلفة والإمكانيات مختلفة والأدوات التي يستخدمونها أيضًا مختلفة، وبالطبع كل ذلك يؤدي إلي اختلافات في السياسات المقترحة.

__________________________

المصدر: طارق البشري، العدوان على غزة ... الحرب الثانية عشر، افتتاحية حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 9، 2009، ص: 7- 13نص تفريغ محاضرة المستشار طارق البشرى " العدوان على غزة" التي عقدت في مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة في 4 فبراير 2009، https://2u.pw/dWegmrV

Post Gallery

الاجتهاد والإرشاد والاتحاد في فكر الشيخ محمد رشيد رضا وحركته الإصلاحية (1-2)*

الجمعية الدولية لعلماء الإبادة: سياسات إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية

أثر الفقه الإسلامي في القانون المدني الفرنسي*

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة: جهود لجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري

المجاعة في غزة… إعلان أممي قد يجرّ قادة الاحتلال إلى المحاكمة

المرأة والتطور السياسي في الوطن العربي بين الواقع الحاضر وآفاق المستقبل*

حالة الاستثناء: الإنسان الحرام

خمسون مفكرًا أساسيًا معاصرًا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة*

الفقه الإسلامي: المصدر الرئيسي للتشريع*