يُعَدّ الدكتور فتحي عبد القادر الدريني (1923–2013م) أحد أبرز أعلام الفكر الفقهي والأصولي في العالم الإسلامي خلال القرن العشرين. جمع بين الدراسة الشرعية العميقة والتكوين القانوني والفلسفي الحديث، فأسهم في تطوير منهج الاجتهاد المقاصدي، وإعادة بناء العلاقة بين الشريعة والقانون على أسس عقلانية ومنهجية. وقد مثّلت أعماله الفكرية جسرًا بين الأصالة الفقهية وروح العصر، وتجلّت رؤيته في العناية بالتنظير الفقهي، والمقارنة التشريعية، والبحث في مقاصد الشريعة وأخلاقيات التشريع.
أولًا: المولد والنشأة العلمية
وُلِدَ الدكتور فتحي الدريني في مدينة الناصرة عام 1923م، حيث أنهى دراسته الثانوية في فلسطين، ثم توجَّه إلى مصر فالتحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ونال شهادتها بتفوّق عام 1950م، ومنحه رئيس الوزراء حينها جائزة لتفوقه.
ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، فحصل على شهادتها في العلوم السياسية عام 1954م.
نال درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله بمرتبة الشرف الأولى من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1965م.
كما حصل على دبلوم العلوم السياسية (دراسات عليا) من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ودبلوم العلوم القانونية من معهد البحوث والدراسات القانونية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، والعالمية مع إجازة في القضاء الشرعي من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، والعالمية مع الإجازة في التدريس من كلية اللغة العربية بالأزهر، ودبلوم في التربية وعلم النفس من كلية التربية بجامعة عين شمس، فضلًا عن ليسانس في الآداب من جامعة القاهرة، وليسانس في الشريعة من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
ثانيًا: الوظائف العلمية
سافر إلى دمشق، حيث عُيِّن مدرسًا في دار المعلّمين، ثم في كلية الشريعة بجامعة دمشق معيدًا حتى عام 1960م، حين أوفدته الجامعة في بعثة علمية إلى مصر، فنال الدكتوراه عام 1965م.
اختارته كلية الحقوق في جامعة دمشق أستاذًا لتدريس مواد الشريعة والقانون وأصول التشريع الإسلامي لسنوات عديدة، ثم تولّى عمادة كلية الشريعة في الجامعة ذاتها.
ظلّ يُدرّس حتى أُحيل إلى التقاعد عام 1988م، ثم انتقل إلى الأردن بطلب منها، حيث كان قد خرّج عددًا من أساتذة كلية الشريعة في عمّان أثناء عمله في دمشق.
عُيِّن أستاذًا للدراسات العليا في قسم الدكتوراه الذي أنشأه بنفسه في الكلية، واستمر في التدريس حتى عام 2001م، مع تدريسه في قسمي الماجستير والدكتوراه. كما درَّس في الجزائر أربع سنوات، وفي السودان سنتين.
ثالثًا: مشروعه الفكري
تميّز فكرُ الدكتور الدريني بتنوّع روافده بين الفقه والقانون والفلسفة والأدب، وتجلّت ملامح مشروعه العلمي في محاور عدة، من أهمها:
1) السياسة والحكم:
انشغل بالفلسفة التشريعية التي يقوم عليها النظام الإسلامي في الحكم وإدارة المجتمعات، محللًا الظواهر بمنهج منطقي عقلي، ومقارنًا بينها وبين نظم الحكم الوضعية.
ويرى أن الفقه السياسي الإسلامي لم يُدرَس بالتحليل الاستقرائي الكافي الذي يكشف فلسفته التشريعية الكامنة خلف نصوصه، إذ يقول:
»إن الفقه السياسي الإسلامي بوجه عام وخصائص تشريعه بوجه خاص لم يُعالج أيٌّ منهما بالاستقراء والتحليل المنطقي موضوعًا وحكمًا ومقصدًا معالجةً تنفذ إلى الفلسفة التشريعية التي تنهض عليها مبادئه العامة وأصوله الكلية».
2) تنظير الفقه الإسلامي:
سعى الدريني من خلال كتاباته إلى إثبات قدرة الفكر الفقهي على وضع أطرٍ كليةٍ ومنظوماتٍ نظرية تستوعب الجزئيات، وترتقي بالفقه من معالجة الفروع إلى استكشاف الأسس والمقاصد الجامعة.
3) معالجة مستجدات العصر:
تناول قضايا معاصرة بجرأة علمية، رابطًا بين الحكم الشرعي ومقاصده الاجتماعية والاقتصادية. ففي بحثه عن حقوق الابتكار، كتب يقول:
«والموضوع حيوي وواقع في عصرنا وله نطاق عالمي، فلا يجوز أن يكون مصيره الإهمال تحريًا لما هو الحق عند الله تعالى».
4) المقارنة التشريعية ومنهجه:
اعتمد الدريني المنهج المقارن لا لمجرد عرض الفروق، بل للنقد والتقويم وإبراز تفوق الفقه الإسلامي في معالجاته.
- في قضية الباعث في العقود، رأى أن الفقه الإسلامي ذو نزعة مثالية تُعلي من شأن القيم الأخلاقية، بخلاف الفقه الوضعي الذي يميل إلى النزعة المادية.
- وفي مسألة الإيصاء، بيّن الفرق بين حرية الموصي المطلقة في القانون الفرنسي، وتقييدها في الفقه الإسلامي تحقيقًا للعدالة بين الورثة.
- وفي نظرية التعسف في استعمال الحق، أثبت بالأدلة النقلية والأصولية أن الفقه الإسلامي سبق القوانين الوضعية في تقرير هذه النظرية، مؤكدًا أن النصوص الشرعية والقواعد الكلية تضمّنت بذورها الأولى قبل تدوينها فقهيًا.
رابعًا: مؤلفاته
خلّف الدكتور فتحي الدريني تراثًا علميًا زاخرًا من المؤلفات، من أبرزها:
- المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي.
- حق الابتكار في الفقه الإسلامي.
- الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده.
- خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم.
- نظرية التعسف في استعمال الحق.
- أصول المعاملات في الفقه الإسلامي.
- بحوث ودراسات في الفكر الإسلامي المعاصر.
- النظريات الفقهية.
- بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي.
خامسًا: وفاته
تُوفي الدكتور فتحي الدريني يوم السبت 22 رجب 1434هـ، الموافق 1 يونيو 2013م في سوريا، بعد أن خلّف إرثًا فقهيًا وقانونيًا عظيمًا ترك بصمته على الفكر الإسلامي المعاصر، وجيلٍ كامل من الباحثين في أصول الفقه ومقاصد الشريعة.
المراجع
- فتحي الدريني، حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن، مؤسسة الرسالة، ط2، 1402هـ/ 1981م.
- فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، مؤسسة الرسالة، ط2، 1434هـ/ 2013م.
- رابطة العلماء السوريين، طارق شيخ إسماعيل، «العلامة الفقيه فتحي الدريني»، 5 مايو 2013م.
- فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، مؤسسة الرسالة، ط3، 2013م.
- فتحي الدريني، النظريات الفقهية، منشورات جامعة دمشق، ط4.