لماذا تطمئن ضمائر صنّاع القرار في عواصم أوروبا وأميركا وهم يصطفون مع إسرائيل -يدًا في يد وكتفًا بكتف- وهي تشنّ حرب إبادة صليبية لا رحمة فيها ضد آخر حصون المقاومة الفلسطينية؟

حرب الإبادة لا جديد فيها إذا نظرنا إليها من المنظور الأوروبي – الأميركي أو بمنظار الحضارة الغربية من أثينا، ثم روما، ثم إسبانيا، ثم البرتغال، ثم هولندا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، ثم ألمانيا، ثم أميركا، ثم الصهيونية، حضارة تأسَّست على العنف، وعلى تفوق الغرب، وعلى النظرة المتدنية لكل من هو غير غربي أو غير أبيض.

فهو – في نظر الغرب – بربري وهمجي أو متخلف أو وثني، وهذه كلها مبررات تسوغ جريمة الإبادة بقلب مطمئن، تبيض وجهها وتنزع عنها ما فيها من إثم، ثم تضفي عليها وصف المهمة المقدسة أو الواجب المقدس.

عنف واستعلاء ملازمان للحضارة الغربية في كل أطوارها، يصاحبانها، وهي وثنية، وهي مسيحية، وهي استعمارية، عنف لم يفارقها في لحظة، إذا لم تصدره خارجها وضد الأغيار مارسته ضد نفسها بين قبائلها، ثم بين مذاهبها الدينية، ثم بين قوميّاتها، ثم بين إمبراطورياتها التي تصارعت واقتسمت النفوذ والنهب والسيطرة على القارات الستّ.

 

إبادة مادية ومعنوية

الغرب لا يعيش بغير حرب، والحرب لا تكتفي فقط بكسر شوكة الخصم، لكن تتطور إلى إبادته، سواء بشكل مادي يعني مسح الخصم من فوق وجه الأرض وإلغاء وجوده وحضوره في دفاتر التاريخ، أو إبادته بشكل معنوي؛ أي نزع فاعليته بصورة حاسمة ومسخ هُويته وإفقاده الثقة في نفسه، وتدفعه للتنكر لذاته والانسلاخ من جوهره والدوران الذليل في فلك الغرب المنتصر والقائد، من موقع المنهزم التابع، ونفسيته المنسحقة، وذهنيّته المشوهة، وروحانيته المنحطة.

نجح الغرب في كلا النوعين من الإبادة المادية والمعنوية في مواجهة الشرق (العربي – الإسلامي)، فخرج –باستثناء المقاومة الفلسطينية- من دائرة المواجهة، وأصبح يدور –باستثناءات هامشية– في أفلاك الغرب المنتصر، وما الصهيونية إلا ممثل حصري لهذا العنف والتفوق والاستعلاء الغربي.

الغرب –في فلسطين– يخوض معركته الأزلية منذ اليونان، والرومان، وحتى الصليبيين والفرنسيين والإنجليز إلى الأميركان. الصهيونية –في جوهرها– تخوض معركة الغرب، أو هي حلقة في مسلسل العنف الغربي الذي لم يتوقف تصديره إلى الشرق: قديمه وحديثه.

يتساوى المعنى حين نقرر أن الغرب يخوض معركة الصهيونية مع المعنى حين نقرر أن الصهيونية تخوض معركة الغرب، الصهيونية – بشكلها الذي نعرفها عليه – هي أداة مهمة من أدوات الغرب في السيطرة على الشرق، ولو لم تكن الصهيونية موجودة في هذا المكان، وفي هذا التوقيت لكان الغرب قد اخترع –دون تردد– ما يحل محلها ويقوم مقامها وينوب عنها ويؤدي دورها.

لا حياة للغرب دون وضع الشرق العربي الإسلامي في القفص، وهو يؤدي هذه المهمة عن طريقين: توظيف الصهيونية، وتوظيف من يقبل التوظيف من بعض حكام الشرق، وبعض نخبه السياسية والفكرية والاقتصادية، فلم تعد الصهيونية في الخدمة وحدها، ولم تعد الصهيونية يهودية فقط، فقد تضافرت معها روافد عربية وإسلامية.

وهذا يفسّر لك المعضلة الكبرى: لماذا يصطفّ الغرب كله –بزعامة أميركا– مع إسرائيل، كما يفسّر لك لماذا يتخلّى الشرق العربي – الإسلامي كله عن المقاومة الفلسطينية.

 

جبهة واحدة

الغرب – مع الصهيونية يتصرف كجبهة واحدة، كحلف واحد، يربطه توافق على مبدأ أن هزيمة إسرائيل لا تجوز، وأن المساس بأمنها غير مسموح به، وأن تهديد وجودها من جذوره هو خطر يتهدد الغرب ذاته، وذروة هذا الحلف هو الإجماع على قيادة أميركا لا ينازعها منازع ولا يخرج عن مظلتها خارج، وهي –بذاتها– مخلصة لدورها القيادي كإمبراطورية وريثة للعنف والتفوق والاستعلاء الغربي.

الرئيس الأميركي إمبراطور كونيّ فعلي يملك صلاحيات لم يسبق أن ملكها إمبراطور من قبل، لا الإسكندر، ولا قيصر، ولا هارون الرشيد، ولا سليمان القانوني، ولا الملكة فيكتوريا، ورغم كل ما يقال عما في النظام السياسي الأميركي من توازن ورقابة متبادلة بين السلطات، فإن مساءلة الرئيس أمام الكونغرس لا تحد من سلطاته، فوزنه السياسي في أميركا والعالم –في نهاية المطاف– من وزن البنتاغون، من وزن وزارة الدفاع، من وزن القدرة غير المسبوقة في التاريخ على عسكرة الكون: برِّه وبحره وجوّه وفضائه الأبعد. الإمبراطورية تقود الغرب كله – بمن فيه الصهيونية – لتصفية آخر أنفاس الهُوية المستقلة غير المنسحقة أمام هيمنة الغرب والصهيونية في الشرق.

عُمر إسرائيل هو عُمر القيادة الأميركية، كلاهما من علامات القرن العشرين، وهو القرن الذي تلاشت فيه آخر رابطة عالمية تربط المسلمين، ففي مثل هذا الأسبوع من عام 1924م سقطت آخر خلافة إسلامية، سقطت بعد أن عاشت سبعة قرون، منها قرنان في تكون وتشكيل، وثلاثة قرون في ذروة التمكين، وقرنان في الهبوط بالتدريج.

وفرت على مدى ثلاثة قرون حوائط صد تحمي الشرق الإسلامي من الغرب المسيحي، بدأت الأفول الفعلي مع غزو بونابرت لمصر 1798م، لم تصده عن مصر، لكن حين تحرك من مصر قاصدًا الشام ومنه القدس، كانت جيوشها في انتظاره وارتدّ على أعقابه، وفشلت أوّل صهيونية حديثة.

 

صدمة وتخاذل

كذلك عندما تحرّكت قوات الحلفاء من مصر قاصدة الشام – وفي القلب منه القدس- كانت القوات العثمانية تعسكر في انتظارهم على جبهة سيناء، وقد انهزموا أمام قوات الجنرال اللنبي في معركة بئر السبع في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1917م، وخرج يواصل زحفه –الذي عجز عنه بونابرت– إلى القدس.

آثرت القوات العثمانية الانسحاب من المدينة حتى لا يتم تدميرها، إذا دارت الحرب على أسوارها، خرجوا منها بعد أن وفروا لها الحماية لمدة 673 عامًا، ودخلها الجنرال اللنبي، فارتفعت في روما أجراس الكنائس، ومن ذاك التاريخ التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1917م والقدس في عهد الصليبية الجديدة، والصليبية الجديدة تتكفل بضمان وجود وبقاء وتفوق الصهيونية.

لا فرق بين مهمة الجنرال اللنبي والرئيس الأميركي –أو إمبراطور الغرب الأخير– بايدن أو من قبله أو من بعده، أي جنرال مسيحي كان سيفعل ما فعله الجنرال اللنبي، وأي رئيس أميركي سوف يفعل ما يفعله الرئيس الحالي، وقلْ مثل ذلك عن أي حاكم غربي، فلا فرق بين بطرس الناسك 1050 – 1115م، ولويس التاسع 1212 – 1270م، ونابليون بونابرت 1769 – 1821م، والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون المولود في عام زيارة الرئيس السادات للقدس 1977م.

كذلك لا فرق بين الملك الألماني فريدريك الثاني 1194 – 1250م، الذي أعاد استرداد القدس بعدما حررها صلاح الدين، لا فرق بينه وبين الرئيس الألماني ووزيرة خارجيته الحاليين إلا في أن فريدريك الثاني –بكل صليبيته– كان أكثر تعقلًا وأقل تعصبًا من قادة ألمانيا الحاليين، فهو لم يسترد القدس في أحضان الصليبيين بالحرب، ولكن استغل الانقسامات والصراعات الدموية بين ورثة صلاح الدين وحصل عليها –سلمًا وهديةً وعربون صداقةٍ وتحالفٍ– من الملك الكامل 1177 – 1233م.

ويصف المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم في ص 118 من كتابه " في تاريخ الأيوبيين والمماليك " هذه الواقعة بقوله: " لقد جاء فريدريك الثاني بجيش هزيل، وفي عنقه قرار الحرمان البابوي، ولكنه عاد بمكاسب لم تستطع أي حملة صليبية أخرى أن تحققها منذ نجاح الحملة الصليبية الأولى التي احتلت القدس في السنوات الأخيرة من القرن الحادي عشر الميلادي ".

ثم يقول في ص 119: " كانت الصدمة عنيفة على العالم الإسلامي، إذ إن سياسة التخاذل والخوف التي سار عليها السلطان الكامل، قد آتت ثمارها المُرة في هذه المعاهدة الفضيحة، فقد سلم –دون قتال– كل ما فتحه المسلمون أيام جَده صلاح الدين الأيوبي بعد حروب استرداد طويلة ".

 

وعي فاسد

المقاومة الفلسطينية التي صمدت شتاء 2023م – 2024م أمام تحالف الصليبية – الصهيونية، هي آخر أنفاس صلاح الدين؛ أي آخر الوعي الصحيح بجوهر الصراع، الصراع بين الشرق الإسلامي كله، والغرب المسيحي كله، وليس صراعات بينية داخلية بين مسلمين ومسلمين، في مقابل نموذج الوعي الفاسد الذي يمثّله الملك الكامل –ابن شقيق صلاح الدين– حيث تضطره صراعاته بين أشقائه الأيوبيين إلى التحالف مع العدو الإستراتيجي، ثم يكون تسليم القدس للصليبيين –كهدية– ثمن هذا الوعي الفاسد والتحالف الخاطئ.

انظرْ حولك في عواصم العروبة والإسلام، ترَ الملك الكامل حيًا لم يمت. الوعي الفاسد، التحالفات الخاطئة، سلاح فاسد، سلاح يرتد إلى صدر الأمة.

الوعي الفاسد، أو نموذج الملك الكامل، يقف وراء: محنة المقاومة، الخذلان العربي الإسلامي، الانسحاب الصامت من اعتبار القضية الفلسطينية قضية الأمة بكاملها وليس الشعب الفلسطيني فقط. وأعباؤها يلزم توزيعها على كل العرب والمسلمين.

وأخطر من كل ذلك، فإن الوعي الفاسد وراء عدم تسكين إبادة المقاومة في مكانها الصحيح، هي جزء من تاريخ، كما هي جزء من مشروع، كما هي جزء من مستقبل أو هي –الإبادة– آلية معتمدة من آليات الغرب للتعامل معنا، أو للتعامل مع من تراه خطرًا عليها.

إيان لوو Ian Law باحث في دراسات العرقية والعنصرية، وهو مؤسس ومدير مركز دراسات العرقية والعنصرية في جامعة ليدز بالمملكة المتحدة، له كتاب مهم تمت ترجمته إلى العربية تحت عنوان: " العنصرية والتعصب العرقي من التمييز إلى الإبادة الجماعية "، في الفصل الأول يشرح جذور فكرة التفوق العرقي بما أنها إحساس بالتميز ينتج عنه استعلاء الذات ثم ازدراء الآخرين، مركب الاستعلاء مع الازدراء يترتب عليه عنف، والعنف يصل إلى الإبادة، ثم الإبادة يترتب عليها مقاومة. وهو في (صفحة: 54) يؤرخ لها –أي الإبادة الجماعية– في النظام العالمي الحديث منذ مطلع القرن الخامس عشر فصاعدًا، إذ حفرت العرقية والتعصب العرقي لنفسها مكانًا في ذاكرتنا وفهمنا للعالم عبر أشكال من الإبادة الجماعية.

 

عبودية أطلسية

وتتضمن هذه الأشكال عمليات القتل الجماعي للسكان الأصليين في الأميركتين وأستراليا في سياق الاستعمار الاستيطاني؛ أي الغزو والاحتلال وإحلال المستوطنين المستعمرين محل أهل المكان الأصليين، كذلك الإبادة الجماعية عبر ما يسمى العبودية الأطلسية، وهي جلب الرقيق –قسرًا– للعمل في مزارع المستوطنين –قهرًا– وقد ترتب على هذه العبودية مقتل من 15 إلى 20 مليون إنسان.

وحتى نفهم حرب الإبادة الجارية ضد الفلسطينيين، يلزمنا وضعها في سياقها الصحيح: استعمار استيطاني يتخلص بكل سبيل ممكنة من أهل البلاد الأصليين. وحتى نفهم موقف الغرب المشارك –بكل ما يملك– في الإبادة يلزمنا فهم أن سلوك الإبادة ليس طارئًا ولا عابرًا ولا هامشيًا ولا دخيلًا على الغرب، بل هو جذر تاريخي متجدد متأصل متواصل.

فلولا الإبادة ما تأسست رأسمالية الغرب، ولولا الإبادة ما تأسست الدولة القومية في الغرب، ولولا الإبادة ما تأسس الاستعمار الغربي، ولولاها ما ترتب على الاستعمار من ديمقراطية وثورات علمية وتكنولوجية، ثم لولاها ما كان الغرب هيمن على العالم الحديث، وأعاد تشكيله وفق هواه، وتظل الإبادة جاهزة لتوضع في الخدمة الفعلية كلما لزم الأمر في الحاضر والمستقبل. أو ما يسميه إيان لوو Ian Law القتل الجماعي أحادي الجانب. (ص 53). ثم يذكر بعض أمثلة الإبادة:

1- في منطقة الكاريبي –فيما يعرف الآن بهاييتي وجمهورية الدومينيكان– كان يسكنهما ثمانية ملايين إنسان عندما دخلهما المستعمر الإسباني، ثم في خلال ثلاثين عامًا فقط، نجح القتل الجماعي أحادي الجانب في إفناء الملايين الثمانية، حتى لم يتبقَّ منهم غير عشرين ألفًا فقط.

2- كندا والولايات المتحدة كان يسكنهما نحو عشرة ملايين، قبل أن يستعمرهما الفرنسيون والإنجليز، ثم على مدى خمسة قرون، تم إفناؤهم، فلم يتبقّ منهم غير 237 ألفًا فقط، قتل رسمي برعاية الدولة ذاتها: قتل مباشر، تفشي أوبئة، مجاعات، سرقة أطفال، مصادرة الغذاء، وحرمان السكان الأصليين من مواردهم.

3- في عام 1788م كان سكان أستراليا الأصليون سبعمائة وخمسين ألفًا (ثلاثة أرباع المليون)، جرت إبادتهم حتى لم يتبقّ منهم عام 1911م غير واحد وثلاثين ألفًا فقط، بالأساليب نفسها: مذابح منظمة، حملات إبادة، أمراض فتاكة، مجاعات، سرقة أطفال، مصادرة موارد.

4- جزيرة تسمانيا – من جزر أستراليا – عام 1804م كان يعيش عليها قبل دخول المستعمرين الإنجليز أربعة آلاف وخمسمائة، وفي غضون ثمانين عامًا – حسبما يقول المؤلف – تمت إبادة كل من تجري في عروقهم دماء أصحاب الأرض الأصليين، فقد قُتل آخر رجل عام 1869م، ولقيت آخر امرأة حتفها في عام 1876م، ولم يبقَ على قيد الحياة إلا بعض المهجّنين، أي من زيجات مشتركة.

كان المستعمرون يقومون برحلات صيد بتصويب رصاص البنادق، ثم إطلاقه في عيون السكان الأصليين، كان تسميم الطحين سلوكًا معتادًا من المستعمرين ضد السكان الأصليين. (ص 58).

5- نموذج أكثر حداثة، أول عملية إبادة جماعية افتتح بها القرن العشرون، باكورة أعمال الألمان في سجل الإبادة، ففي ناميبيا كان شعب الهيريرو يبلغ عدده ثمانين ألفًا، أبادهم الألمان حتى لم يتبقّ منهم غير ستة عشر ألفًا.

 

يختتم المؤلف هذا الجزء من الفصل الأول بملاحظتين في قمة الشجاعة:

الأولى: الإبادة الجماعية الاستعمارية استهدفت الاستيلاء على الأرض، والموارد الطبيعية والبشرية، ومن ثم كانت حجر الزاوية في بناء الرأسمالية.

الثانية: التطور الديمقراطي كان يسير، يدًا بيد، مع عمليات القتل الجماعي الذي تأسست عليه إمبراطوريات الإسبان، والبرتغاليين، والهولنديين، والإنجليز، والفرنسيين، وأضيف إليه الأميركان والصهاينة.

__________________

أنور الهواري، ديمقراطيات الإبادة الجماعية، الجزيرة نت، 7 مارس 2024، https://2u.pw/oyfLkDam

أعد فريق موقع القانون من أجل فلسطين ملفًا يستعرض فيه ملخص القضية التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية تحت بند ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة وإليكم ما جاء فيه:

 

السياق

منذ 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، تشن إسرائيل هجومًا متواصلًا على الفلسطينيين في قطاع غزة، مستهدفة بشكل عشوائي المدنيين والأعيان المحمية في انتهاك للقانون الدولي. لقد أصبح واضحًا من حجم الهجمات ضد غزة أن إسرائيل تحاول ارتكاب إبادة جماعية، حيث يقول العديد من الأكاديميين وقادة العالم بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. في 29 ديسمبر/كانون أول 2023، بعد 83 يومًا من الهجوم المتواصل من القوات المسلحة الإسرائيلية، قدمت جنوب أفريقيا طلبًا لإقامة دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فيما يتعلق بانتهاكات من جانب إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (“اتفاقية الإبادة الجماعية”) فيما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة.

وتجادل جنوب أفريقيا بأن “الأفعال والتقصيرات التي قامت بها إسرائيل والتي اشتكت منها جنوب أفريقيا هي ذات طابع إبادة جماعية لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والقومية والإثنية الفلسطينية، والتي هي الجزء الموجود في قطاع غزة من الشعب الفلسطيني (“الفلسطينيون في غزة”).

يتميز طلب جنوب أفريقيا باستخدامه لمصطلح erga omnes partes (“اتجاه الكافة/أو حقوق تتعلق بالجميع”)، والذي تم تحديثه بعد الإجراءات التي رفعتها غامبيا ضد ميانمار في عام 2019. وفي القانون الدولي، يتعلق هذا المبدأ بالالتزامات التي تدين بها الدولة للمجتمع الدولي ككل، وتمتد إلى أبعد من حدود الاتفاقات الثنائية أو الاتفاقيات المتعددة الأطراف. ويعني هذا المفهوم أن المبادئ والمعايير الأساسية في القانون الدولي، مثل حظر الإبادة الجماعية، هي التزامات تقع على عاتق جميع الدول تجاه المجتمع الدولي ككل. ويعتبر انتهاك هذه الالتزامات جرائم ضد النظام الدولي، مما يمنح أي دولة الحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان منع تلك الانتهاكات.

يحتوي طلب جنوب أفريقيا على طلب اتخاذ التدابير المؤقتة، والتي تتطلب من المحكمة إصدار حكم أولي في القضية، من أجل “منع مزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية” ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. والمهم هنا، أن التدابير المؤقتة تحتاج إلى حد أدنى من الإثبات كي تقوم المحكمة بالحكم بها، بحيث “لا يتعين على المحكمة أن تقرر أن جميع الأفعال موضع الشكوى يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية”. ويعني انخفاض عبء الإثبات أن المحكمة لا يتعين عليها أن تثبت بشكل قاطع أن جميع الإجراءات المتضمنة في طلب جنوب أفريقيا تقع ضمن أحكام الاتفاقية، مما يسمح بعملية أكثر مرونة وسرعة عند طلب اتخاذ تدابير مؤقتة قبل الاستماع إلى القضية الكاملة المتعلقة بارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية.

 

النقاط الرئيسية في ملف جنوب أفريقيا

تتكون الوثيقة الشاملة التي قدمتها جنوب أفريقيا والمكونة من 84 صفحة بشكل أساسي من معلومات واقعية وأدلة تم جمعها من مصادر مختلفة. وتشمل هذه المعلومات تقارير المقررين الخاصين للأمم المتحدة، وإصدارات مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتقارير الصحفيين الموجودين على الأرض في غزة، وتقارير المنظمات غير الحكومية ذات السمعة الموثوقة. يركز الطلب على عناصر الفعل الإجرامي (الأفعال المادية المتخذة ضمن ارتكاب الجريمة) وعلى عناصر القصد الجنائي (الركائز المعنوية للجريمة؛ أي النية لارتكاب الجريمة). ويشير هذا إلى أن الغرض من الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا هو الضغط من أجل اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الهجمات المستمرة على الفلسطينيين، بدلاً من مناقشة قضية الإبادة الجماعية الكاملة الآن، وهو الأمر الذي سيحدث في وقت لاحق.

وتذكر جنوب أفريقيا، أن إسرائيل، وقت تقدم الملف من قبل جنوب أفريقيا، كانت قد “قتلت ما يزيد عن 21,110 فلسطينيًا، من بينهم أكثر من 7,729 طفلًا – مع فقدان أكثر من 7,780 آخرين، ويُفترض أنهم ماتوا تحت الأنقاض”. ومضت الوثيقة لتشير إلى أن القصف الإسرائيلي قد أصاب أكثر من 55,243 فلسطينيًا آخرين وأن “إسرائيل دمرت أيضًا مناطق واسعة من غزة، بما في ذلك أحياء بأكملها، وألحقت أضرارًا أو دمرت ما يزيد عن 355,000 منزلًا فلسطينيًا”.

الأهم من ذلك، أن جنوب أفريقيا تضع الإبادة الجماعية الإسرائيلية في سياقها بالإشارة إلى “السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين من خلال نظام الفصل العنصري الذي دام 75 عامًا، واحتلالها الحربي للأراضي الفلسطينية الذي دام 56 عامًا، وحصارها المستمر لغزة منذ 16 عامًا”. والجدير بالذكر أن الملف ينص على أن “أعمال الإبادة الجماعية تشكل حتمًا جزءًا من سلسلة متصلة”، مع التركيز على أهمية فهم الأحداث الجارية من منظور الاحتلال الإسرائيلي والقهر والاستعمار، وليس من خلال أحداث 7 أكتوبر بشكل ضيق.

ينصب التركيز الأساسي للوثيقة على الهجوم الإسرائيلي على غزة، مع إشارة محدودة إلى الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، بالإضافة إلى الهجمات التي شنتها حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وبينما يدين الملف تلك الهجمات، فإنه يؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، كما تم توثيقه في الهجوم الإسرائيلي.

يفصّل ملف جنوب أفريقيا بشكل موسع في عدة فئات من أعمال الإبادة الجماعية ضمن تحليل الفعل الإجرامي، ويشمل ذلك قتل الفلسطينيين في غزة، مما سبب لهم أذى جسديًا وعقليًا خطيرًا، وفرض ظروف معيشية عليهم تهدف إلى تدميرهم جسديًا. وتُعزى هذه الأفعال إلى إسرائيل، التي لم تفشل في منع الإبادة الجماعية فحسب، بل ترتكب بنشاط الإبادة الجماعية. علاوة على ذلك، انتهكت إسرائيل وما زالت تنتهك الالتزامات الأساسية الأخرى بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك “الإخفاق في منع أو المعاقبة على التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من قبل كبار المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم”. ويفصّل الملف في ذكر حقائق وإحصائيات تسلط الضوء على مدى الضرر الذي قامت به إسرائيل، على سبيل المثال، كدليل على أعمال الإبادة الجماعية:

وبحسب ما ورد، قُتل ما يزيد على 21,110 فلسطينيا منذ أن بدأت إسرائيل هجومها العسكري على غزة، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، ويُعتقد أن 70% منهم على الأقل من النساء والأطفال. وتم الإبلاغ عن وجود ما يقدر بنحو 7,780 شخصًا إضافيًا، بما في ذلك ما لا يقل عن 4,700 امرأة وطفل، في عداد المفقودين، ويفترض أنهم ماتوا تحت أنقاض المباني المدمرة – أو يموتون ببطء – أو يتحللون في الشوارع حيث قتلوا.

يستخدم تحليل القصد الجنائي (النية) مجموعة متنوعة من التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون كدليل على نية الإبادة الجماعية. وتشير جنوب أفريقيا إلى التصريحات المتكررة التي أدلى بها ممثلو الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك تلك التي تتضمن نوايا صريحة من كل من رئيس الوزراء والرئيس، فضلا عن التصريحات التي يمكن من خلالها استنتاج نية الإبادة الجماعية فيما يتعلق بسير العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.

وتجدر الإشارة إلى الاهتمام الكبير الذي حظيت به تقارير المقررين الخاصين ومجموعات العمل التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وبعثات تقصي الحقائق. وفي حين أن هذا لم يتم استخدامه على نطاق واسع في القضايا السابقة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، فمن المأمول أن تنظر المحكمة بشكل إيجابي إلى هذه الأدلة بسبب الجودة العالية والطبيعة الغنية بالمعلومات لتقارير الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن الطلب يؤكد اعتماده على البيانات والتقارير الواردة من رؤساء وهيئات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وشهود العيان من غزة، بما في ذلك الصحفيين الفلسطينيين على الأرض، إلا أنه كان يميل في الغالب نحو المصادر الدولية مثل: الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني، بدلاً من الاعتماد على نطاق واسع على المصادر الفلسطينية.

ومن خلال قراءة الملف، يتضح أن نية جنوب أفريقيا كانت التركيز على الأمر بالإجراءات المؤقتة لوقف العنف المستمر. ومن المهم أن التركيز الأساسي في هذه المرحلة ينصب على إثبات أن الأفعال “يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية”. وهذا يعني أنه بدلاً من إثبات حالة الإبادة الجماعية برمتها، يجب على جنوب أفريقيا أن تثبت أن الوضع الحالي يمكن أن يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مما يجعل في النهاية عتبة عبء الإثبات أكثر سهولة.

 

العناوين والعناوين الفرعية التي تضمنها الملف:

أولا: المقدمة

ثانيا: اختصاص المحكمة

ثالثا: الحقائق

1 المقدمة

  1. خلفية

 قطاع غزة

الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية)

الهجمات التي وقعت في إسرائيل في 7 أكتوبر 2023

  1. أعمال الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني

قتل الفلسطينيين في غزة

التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة للفلسطينيين في غزة

الطرد الجماعي من المنازل وتهجير الفلسطينيين في غزة

حرمان الفلسطينيين من الحصول على الغذاء والماء الكافي

حرمان الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى المأوى الملائم والملابس والنظافة والصرف الصحي

الحرمان من المساعدات الطبية الكافية للفلسطينيين في غزة

تدمير الحياة الفلسطينية في غزة

فرض إجراءات تهدف إلى منع الولادات الفلسطينية

  1. التعبير عن نية الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل مسؤولي الدولة الإسرائيلية وآخرين
  2. تحديد نية إسرائيل الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين

رابعا: ادعاءات جنوب أفريقيا

خامسًا: التدخل المطلوب

سادسا: طلب اتخاذ تدابير مؤقتة

  1. الظروف القاهرة تتطلب اتخاذ التدابير المؤقتة
  2. الاختصاص الظاهر للمحكمة
  3. الحقوق المطلوب حمايتها وطبيعتها المعقولة والارتباط بين هذه الحقوق والتدابير المطلوبة
  4. خطر الخلل الذي لا يمكن إصلاحه والاستعجال
  5. التدابير المؤقتة المطلوبة

سابعا: حفظ الحقوق

ثامنا: تعيين الوكلاء

 

أسئلة وأجوبة

ما هي محكمة العدل الدولية؟

محكمة العدل الدولية (ICJ) هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. ويتمثل دورها في تسوية المنازعات القانونية المقدمة من دولة أو أكثر وفقًا للقانون الدولي وإبداء الرأي الاستشاري بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA) أو مجلس الأمن (UNSC).

تتألف محكمة العدل الدولية من 15 قاضياً، كل منهم يحمل جنسية مختلفة، يتم انتخابهم لمدة تسع سنوات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (المادة 3 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). ويجب أن يتم توزيع القضاة جغرافيًا بشكل عادل واختيارهم بطريقة تكفل تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم (المادة 9 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). يقع مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، هولندا.

تم إنشاء محكمة العدل الدولية بموجب ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد أن أصدرت القوى المتحالفة (الصين والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) إعلانًا مشتركًا يعترف بضرورة “إنشاء منظمة دولية عامة، في أقرب وقت ممكن، تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام، وتكون مفتوحة لعضوية جميع هذه الدول، كبيرها وصغيرها، لصون السلام والامن الدوليين”.

 

ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟

في حين أن محكمة العدل الدولية هي محكمة مدنية لتسوية النزاعات بين الدول، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة جنائية لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية.

تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002 من خلال نظام روما الأساسي لعام 1998، الذي أسس لأربع جرائم دولية أساسية – الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان – ومحكمة لمحاكمة هذه الجرائم. إسرائيل ليست طرفا في نظام روما الأساسي، ولكن تم قبول فلسطين كدولة طرف في نظام روما الأساسي في عام 2015. وعلى هذا النحو، يمكن أن تقع الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. في 3 مارس 2021، أعلن المدعي العام عن فتح التحقيق في الوضع في دولة فلسطين. ويمكنك العثور على مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع هنا.

 

لماذا تقوم جنوب أفريقيا بتوجيه تهمة الإبادة الجماعية إلى إسرائيل؟

كما هو موضح في المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (“اتفاقية الإبادة الجماعية”)، تشتمل الإبادة الجماعية على عنصرين:

الركن العقلي (القصد الجنائي): “التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه”؛ و

الركن المادي (actus reus): ويتضمن الأفعال الخمسة التالية:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.

(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

وتزعم جنوب أفريقيا في الطلب المقدم من طرفها أن تصرفات إسرائيل في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث تستهدف الشعب الفلسطيني – الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة. وتشمل أعمال الإبادة الجماعية المزعومة قتل الفلسطينيين، والتسبب في أضرار جسدية وعقلية خطيرة، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديًا. وتؤكد جنوب أفريقيا أن هذه الأفعال تنسب إلى إسرائيل، التي فشلت في منع الإبادة الجماعية وتنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. ويشير الطلب إلى أعمال محددة قامت بها إسرائيل، مثل قتل الأطفال الفلسطينيين، والتهجير الجماعي، وتدمير المنازل، والحرمان من الضروريات الأساسية، والتدابير التي تعيق الولادات الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الضوء على استهداف جامعات غزة وتدمير المراكز الثقافية.

 

جنوب أفريقيا لم تتأثر بشكل مباشر من الإبادة، فكيف يمكن رفع هذه القضية؟

تؤكد جنوب أفريقيا موقفها القانوني في القضية الحالية استنادا إلى مبدأ erga omnes parts. يسمح هذا المبدأ لجميع الدول بالاحتجاج بقواعد المسؤولية الدولية التي يمكن الاستناد إليها بسبب أن دولة أخرى قامت بأفعال غير قانونية، إذا كانت تلك الأفعال تمثا انتهاكا “لالتزام يعد واجباً تجاه المجتمع الدولي ككل” (المادة 48 (6) من ﻣﺸﺎرﻳﻊ اﻟﻤﻮاد اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺴﺆوﻟﻴﺔ اﻟﺪول ﻋﻦ اﻷﻓﻌﺎل ﻏﻴﺮ اﻟﻤﺸﺮوﻋﺔ دوﻟﻴﺎ).

وفي سياق اتفاقية الإبادة الجماعية، تشترك جميع الدول الأطراف في الاتفاقية في مصلحة جماعية في منع أعمال الإبادة الجماعية وضمان عدم إفلات المسؤولين عن هذه الأفعال من العقاب. والحجة الأساسية هي أن واجب منع الإبادة الجماعية والتصدي لها يتجاوز العلاقات الثنائية، ويشكل مسؤولية تجاه المجتمع الدولي برمته. وتؤكد هذه الاستراتيجية القانونية خطورة الجريمة وتؤكد الالتزام المشترك للدول بمحاسبة مرتكبيها ومنع وقوع مثل هذه الأفعال الشنيعة.

 

من هم الفرق القانونية التي تمثل جنوب أفريقيا وإسرائيل؟

جنوب أفريقيا: جون دوجارد، ماكس دو بليسيس، تمبيكا نجكوكايتوبي، عديلة هاشم

مساعدين: سارة بوديفين جونز، ليراتو زيكالالا، تشيديسو راموغالي

مساعدين خارجيين: بلين ني غرالاي، فوغان لوي

القاضي الخاص: ديكغانغ موسينيكي

إسرائيل: مالكولم شو

القاضي الخاص: أهارون باراك

* القضاة الخاصون: وفقًا للفقرتين 2 و3 من المادة 31 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، عندما لا يكون لدولة طرف في قضية معروضة على محكمة العدل الدولية قاضٍ من جنسيتها في هيئة المحكمة، يكون لها الحق في تعيين شخص ليكون بمثابة قاض خاص لتلك القضية المحددة. ونتيجة لذلك، قامت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل باختيار قضاة خاصين للانضمام لمحكمة العدل الدولية في هذه القضية.

 

لماذا تطالب جنوب أفريقيا بـ «تدابير مؤقتة»؟

التدابير المؤقتة هي سبل انتصاف مؤقتة تُمنح في ظروف خاصة لتجنب أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع أو اتساعه، في الوقت الذي تستمر فيه إجراءات المحكمة في المرحلة التالية. وهي تعادل تقريبًا الأوامر القضائية المؤقتة في المحاكم الوطنية (الإجراءات المستعجلة)، ولها الأولوية على جميع القضايا الأخرى المعروضة على محكمة العدل الدولية بسبب إلحاحها. وهنا، تطلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تأمر ب تدابير مؤقتة في ضوء أعمال الإبادة الجماعية المستمرة والمتصاعدة التي ترتكبها إسرائيل.

بموجب المادة 41 (1) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، “تكون للمحكمة صلاحية الإشارة، إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك، إلى أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على حقوق أي من الطرفين.”

وتقول جنوب أفريقيا إن التدابير المؤقتة ضرورية في هذه القضية “للحماية من المزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي لا يزال يتم انتهاكها مع استمرار الإفلات من العقاب”. في حين أن هذا لا يتعلق بشكل مباشر بـ «الحقوق الخاصة لأي من الطرفين»، فإن جنوب أفريقيا تستخدم مبدأ erga omnes partses، أو مبدأ «الالتزامات تجاه الجميع»، لتقديم هذا الطلب.

 

ما الفرق بين جريمة الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة الأخرى؟

تشمل الجرائم الفظيعة في القانون الدولي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، والتي تم تحديدها في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، ونظام روما الأساسي لعام 1998. جرائم الحرب هي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني في أوقات الحرب ضد المدنيين أو المقاتلين، في حين أن الجرائم ضد الإنسانية هي «هجمات واسعة النطاق أو منهجية موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدنيين». وتختلف جريمة الإبادة الجماعية عن هذه الجرائم الأخرى من حيث أنها تتطلب نية خاصة (dolus Specialis) – «نية تدمير… مجموعة».

وتقول جنوب أفريقيا في طلبها إن هذه النية الخاصة لتدمير الفلسطينيين في غزة قد تجلت في التصريحات التي أدلى بها المسؤولون والسياسيون والقادة العسكريون والصحفيون الإسرائيليون (وكما يظهر في قاعدة البيانات التي أنشأتها القانون من أجل فلسطين).

وتتعزز هذه النية الخاصة أيضًا من خلال أفعال إسرائيل وإغفالاتها تجاه أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. وعلى حد تعبير الطلب، فإن أفعال إسرائيل وإغفالاتها ترتكب “مع النية المحددة المطلوبة (dolus Specialis) لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنية والقومية والإثنية الفلسطينية الأوسع”.

 

ما هو الفرق بين النية الجرمية (الركن المعنوي) والفعل الجرمي (الركن المادي)؟

يعد كلا النية الجرمية (الركن المعنوي) والفعل الجرمي (الركن المادي) عنصرين مطلوبين بموجب القانون لاعتبار أن هناك جريمة. وينطبق هذا على الجرائم التي تقع ضمن نطاق الولايات القضائية الوطنية، وأيضا بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، يمكن أن يختلف الركن المادي والركن المعنوي للجرائم بين البلدان ويؤدي إلى اختلافات في القوانين المتشابهة للغاية، على سبيل المثال، لا يوجد مفهوم “درجات” للقتل في المملكة المتحدة كما هو موجود في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن القتل يعتبر جريمة في كلا البلدين.

الفعل الإجرامي هو الركن المادي الذي عادة ما يكون مطلوبًا لوجود جريمة، على سبيل المثال، في معظم الولايات القضائية الوطنية، القتل هو فعل قتل شخص ما بشكل غير قانوني.

الركن المعنوي هو العنصر العقلي أو النفسي الذي يشكل الجريمة. على سبيل المثال، في معظم الولايات القضائية، يعد القتل جريمة تتطلب النية، ولا يمكن عادةً ارتكابها عن طريق الخطأ – لذلك يجب أن تنوي ارتكاب جريمة قتل حتى يتم إدانتك بارتكاب جريمة القتل لقتل شخص بشكل غير قانوني.

يتم تحديد الركن المادي للإبادة الجماعية بموجب المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية على أنه الأفعال التي تهدف إلى تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كليًا أو جزئيًا، وذلك من خلال أساليب: قتل أفراد الجماعة؛ التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضاء الجماعة؛ تعمد فرض ظروف معيشية على الجماعة بهدف تدميرها الجسدي كليًا أو جزئيًا؛ فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة؛ أو نقل أطفال الجماعة قسراً إلى مجموعة أخرى.

يتم تعريف القصد الجنائي للإبادة الجماعية أيضًا في المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية، ويعني ببساطة أن الأفعال المدرجة في الركن المادي يجب أن تُرتكب بقصد تدمير جماعة موجودة، إما كليًا أو جزئيًا. مثل القتل، يجب أن تنوي ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية (أن تنوي القضاء على الشعب الفلسطيني) لتكون مذنبًا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

 

ما المطالب المحددة التي قدمتها جنوب أفريقيا في هذه القضية؟

وفي هذه القضية، قدمت جنوب أفريقيا المطالب المحددة التالية:

  • الوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وضدها.
  • التأكد من أن أي وحدات مسلحة عسكرية أو غير نظامية خاضعة لسيطرة إسرائيل، وكذلك المنظمات والأفراد الخاضعين لسيطرتها، لا تتخذ أي خطوات لتعزيز العمليات العسكرية المذكورة في الطلب الأول.
  • يجب على كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل، وفقا لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اتخاذ جميع التدابير المعقولة في حدود سلطتهما لمنع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
  • إسرائيل مطالبة بالكف عن ارتكاب الأفعال المنصوص عليها في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل أعضاء الجماعة الفلسطينية، والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير، وتعمد إلحاق أحوال معيشية تؤدي إلى التدمير الجسدي، وفرض تدابير لمنع الولادات داخل الجماعة.
  • يجب على إسرائيل أن توقف إجراءاتها، بما في ذلك إلغاء الأوامر والقيود والمحظورات ذات الصلة، لمنع الطرد والتهجير القسري والحرمان من الوصول إلى الغذاء والماء والمساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية وتدمير حياة الفلسطينيين في غزة.
  • التأكد من أن الجيش الإسرائيلي أو الوحدات المسلحة غير النظامية أو الأفراد المتأثرين به لا يرتكبون الأفعال الموصوفة في المطلبين 4 و5، واتخاذ خطوات نحو العقاب في حالة حدوث مثل هذه الأفعال.
  • يجب على إسرائيل اتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب أفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، وبما يضمن السماح لبعثات تقصي الحقائق والجهات الدولية بالوصول إلى غزة لهذا الغرض.
  • تقديم تقرير إلى المحكمة بجميع الإجراءات المتخذة لتنفيذ الأمر خلال أسبوع من صدوره، وعلى فترات منتظمة حتى صدور القرار النهائي في القضية.
  • يجب على إسرائيل الامتناع عن أي عمل قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو يجعل حله أكثر صعوبة.

 

ماذا سيحدث بعد ذلك؟

بعد بدء جلسة الاستماع، يتسم الجدول الزمني للقضية بإعطائه الأولوية والمعالجة السريعة لطلبات التدابير المؤقتة، والتي غالبًا ما تستغرق أسابيع فقط. وستشرف لجنة مخصصة على قرار المحكمة بشأن الإجراءات المؤقتة، ويظل القرار المؤقت قائمًا حتى صدور حكم نهائي في القضية.

ومع ذلك، هناك تعقيد محتمل. حيث من المقرر أن يتنحى بعض القضاة في فبراير/شباط القادم، حيث سينضم قضاة جدد إلى المحكمة. ولا يزال تأثير هذا التحول على الجدول الزمني للقضية غير مؤكد. ومن الضروري الإشارة إلى أن القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية لها وزن كبير، كونها ملزمة ونهائية للدول الأطراف المعنية في القضية. وهذه القرارات لا يوجد استئناف عليها، وذلك على النحو المنصوص عليه في المادة 94 (1) من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 60 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.

 

ما المدة التي من المتوقع أن تستغرقها المحكمة قبل إصدار حكمها؟

نظرًا لطلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة، سيتم الاستماع إلى المرافعات الشفهية الأولية خلال الفترة من 11 إلى 12 يناير/كانون ثاني 2024، وخاصة بشأن التدابير المؤقتة. وستبت المحكمة في هذه الإجراءات خلال الأيام التالية. وفي القضيتين الأخريين المنظورتين أمام محكمة العدل الدولية ضمن اتفاقيات الإبادة الجماعية، لدينا قضية غامبيا ضد ميانمار وأوكرانيا ضد روسيا، أمرت المحكمة باتخاذ التدابير المؤقتة في القضية الأولى بعد حوالي 40 يومًا وفي القضية الثانية بعد 8 أيام من جلسات الاستماع العامة لاتخاذ التدابير المؤقتة.

وبغض النظر عما هو القرار في التدابير المؤقتة، فإن القضية ستمضي قدما في محكمة العدل الدولية. وقد تضغط إسرائيل من أجل رفض مبدئي للقضية في هذه المرحلة، ولكن فقط على أساس الاختصاص القضائي. وعلى افتراض عدم تقديم إسرائيل أي مطالبة بشأن الاختصاص، أو أن المحكمة ترفض أي مطالبات من هذا النوع تقدمها إسرائيل، سيتم النظر في القضية من قبل محكمة العدل الدولية في الوقت المناسب، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن تمر سنوات بين الادعاءات الأولية وجلسات الاستماع الرسمية بشأن موضوع القضية.

 

هل يتعين على إسرائيل الالتزام بقرار المحكمة؟

تنص المادة 94 (1) من الفصل الرابع عشر من ميثاق الأمم المتحدة على أن “يتعهد كل عضو في الأمم المتحدة بالامتثال لقرار محكمة العدل الدولية في أي قضية يكون طرفا فيها”. وتنص المادة 94 (2) على أنه في حالة عدم الامتثال، “يجوز لمجلس الأمن، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدم توصيات أو يقرر التدابير التي يتعين اتخاذها لتنفيذ الحكم”.

علاوة على ذلك، يمكن للطرف الذي يشعر بوجود عدم امتثال لحكم محكمة العدل الدولية أن يعرض ذلك أيضًا على الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب المواد 10 و11 و14 و22 و35 من الميثاق، وأيضا فيما يتعلق بأحكام القرار 377 المعروفة عموما باسم “الاتحاد من أجل السلام”.

ومن واجب الأمين العام للأمم المتحدة أيضًا ضمان الامتثال للحكم عملاً بالمادتين 98 و99 من ميثاق الأمم المتحدة.

ومع ذلك، يوجد نقص ملحوظ في التنفيذ الفعال لأوامر محكمة العدل الدولية، وقد رأينا الدول تتجاهل محكمة العدل الدولية بشكل متزايد. ومن بين القضايا التوضيحية قضية لاجراند، التي استمعت إليها محكمة العدل الدولية في عام 2001. فقد انحازت المحكمة إلى طلب ألمانيا تعليق عقوبة الإعدام بحق المواطنين الألمان المحتجزين في الولايات المتحدة. ومن خلال اعتبار التدابير المؤقتة ملزمة قانونًا، حاولت محكمة العدل الدولية ممارسة سلطتها. ومع ذلك، اختارت الولايات المتحدة تجاهل أوامر المحكمة هذه وإعدام المواطنين الألمان، في تحدٍ لأوامر محكمة العدل الدولية. ولم يكن هناك أي تداعيات أو توبيخ حقيقي نتيجة لعدم امتثالها.

وفي الآونة الأخيرة، في مارس/آذار 2022، أمرت المحكمة روسيا بتعليق غزوها المستمر لأوكرانيا ردًا على طلب أوكرانيا اتخاذ تدابير مؤقتة في قضيتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية. ومن الواضح أن هذا لم يحدث، لكن عددًا من الدول فرضت عقوبات على روسيا بسبب الغزو غير القانوني. إذا اختارت إسرائيل عدم الامتثال لأي حكم من محكمة العدل الدولية، يمكننا أن نأمل أن تنفذ الدول العقوبات أو تستخدم أساليب أخرى كتوبيخ لعدم الامتثال، ولكن ليس هناك ضمان مطلق.

غير أنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن أمر محكمة العدل الدولية ملزم قانونًا للأطراف، وتجاهله يضع عبئًا كبيرًا على الدولة غير الممتثلة له. بالإضافة إلى ذلك، تاريخيًا، واجهت الدول المتهمة بالإبادة الجماعية عزلة دولية، مما أثر على العلاقات الدبلوماسية والدعم، نظرًا لأن الإبادة الجماعية تعتبر “جريمة الجرائم”.

 

هل يستطيع مجلس الأمن استخدام حق النقض ضد قرار محكمة العدل الدولية؟

لا، لا يمكن لدولة ما أن تستخدم حق النقض ضد قرار محكمة العدل الدولية لأن هذه القرارات تنشئ التزامات ملزمة قانونًا. ومع ذلك، يتمتع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بناءً على طلب الدولة المتضررة، بسلطة اتخاذ تدابير خاصة لإنفاذ الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية (المادة 94 (2) من ميثاق الأمم المتحدة). ونظرًا لدعم الولايات المتحدة المستمر وغير المشروط على ما يبدو لإسرائيل، لا يمكننا أن نتوقع أي إجراء من مجلس الأمن الدولي.

لتحميل ملف ملخص القضية والأسئلة الشائعة رجاء النقر هنا

للوصول إلى الملف الكامل والمؤلف من 84 صفحة والذي قدمته جنوب أفريقيا، رجاء النقر هنا

___________________________________

قضية الإبادة الجماعية في غزة: ملخص شامل لمعركة جنوب أفريقيا القانونية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية ... ملخص القضية والأسئلة الشائعة، القانون من أجل فلسطين، 10 يناير 2024، https://2u.pw/cadbm0b

منذ أن رفعت دولة جنوب أفريقيا دعواها إلى محكمة العدل الدولية التي تتهم فيها الكيان الصهيوني بشن حرب إبادة جماعية في غزة، انهالت الكتابات والتعليقات التي تتناول هذا الأمر؛ إما بالتهوين من تلك الدعوى والآثار المتوقعة لها، أو بالتعامل معها وكأن تحرير غزة وفلسطين كلها من الاحتلال الصهيوني بات يتوقف على القرار الذي سيصدر من محكمة العدل الدولية في هذا الشأن!

والواقع أن لكل اتجاه من اتجاهي التهوين والتهويل مبرراته القوية؛ فالجانب الذي يستخف باللجوء إلى محكمة العدل الدولية يستند إلى أنه حتى لو أدانت المحكمة الصهاينة بشن حرب إبادة جماعية على فلسطين، فإنها ستحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قراره الرامي إلى وقف هذه الحرب على الفور، وهو القرار الذي من المستحيل صدوره في ظل وجود «حق الفيتو» كما هو معلوم!

أما الاتجاه الذي يهول من رفع الدعوى ضد الصهاينة، فإنه يتحدث عن المسألة وكأن المحكمة ستحرر فلسطين، باعتبار أن حكمها المنتظر سيفضح الصهاينة ويكشف «نازيتهم»، ولن يعوق هذا الأمر (حق الفيتو) باعتبار أن التأثير الأدبي للحكم سيكون قوياً إلى الحد الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الدول الكبرى الداعمة للصهيونية ويؤثر عليها بالسلب أمام الرأي العام العالمي، كما أنه سيمثل غطاء يعضد إمكانية ملاحقة المجرمين الصهاينة ومحرضيهم وداعميهم جنائياً.

القانون الدولي يعاني أزمة معقدة تحدّ من آمال تحقيق العدالة على المستوى العالمي

ولسنا الآن في مقام مناقشة حجج كل من الاتجاهين، إذ نسعى عبر هذا المقال إلى فقه الواقع كما هو حتى نستطيع التعامل معه وفق معطياته الفعلية، دون التحليق في الخيال أو التشبث بالأوهام، وكذلك دون أن نضيع فرصاً قد تكون سانحة يمكن أن نستثمرها في نصرة قضيتنا الأهم، وهي القضية الفلسطينية.

حقائق مهمة

فهناك عدد من الحقائق المهمة التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار عند تناول هذه المسألة لوضعها في إطارها المطابق للواقع، حتى يكون وعينا لها مناسباً، وتعاملنا معها فعالاً، ومنها:

الحقيقة الأولى تتمثل في أن القانون الدولي المعاصر (وكذلك النظام الدولي) يعاني من أزمة معقدة ومركبة، تهدد حتى وصفه بالقانون، أو على الأقل تحدّ من الآمال المعولة عليه لتحقيق العدالة على المستوى العالمي؛ إذ ينقص هذا القانون عادة عنصر الإلزام الذي يتوجب أن يتوافر في قاعدة ما، لاعتبارها قاعدة قانونية مجردة، كما ينقصه عنصر الجزاء، الذي يتطلب وجود سلطة أعلى من سلطة الدول لتوقعه.

وأستند في هذا إلى ما سبق أن قرره الفيلسوف والفقيه القانوني الإنجليزي جون أستون (1790 – 1859م) من اشتراطه في القانون وجود سلطة سيادية تصدر الأوامر وتملك القدرة على إنزال العقاب على من يخالفها، ومن ثم إلى نفيه وجود تلك السلطة السيادية في «القانون الدولي»، وذهابه إلى أن قواعده مجرد مجموعة قواعد أخلاقية.

وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى نظرية أوستن تلك -وما زالت توجه إليها- بزعم أن هناك بالفعل سلطات تعلو فوق سلطة الدول، مثل الأمم المتحدة وأجهزتها الستة، وعلى رأسها مجلس الأمن وجهازها القضائي المتمثل في محكمة العدل الدولية، فإن الواقع ينطق بغير ذلك؛ حيث إن الأمم المتحدة تعتمد في إنفاذ أهم قراراتها، وهي القرارات المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، على توافر الإرادة السياسية للدول الخمس الأقوى في العالم مجتمعة، وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، وعلى توازن القوى فيما بينها، فإذا اعترضت دولة منها على الأقل فإن من شأن هذا الاعتراض أن يعرقل إصدار القرار المعترض عليه، ولو كان هذا القرار مستنداً إلى حكم لمحكمة العدل الدولية!

دعوى دولة جنوب أفريقيا خطوة بالغة الأهمية من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم

وحتى إذا اعتبرنا إرادات هذه الدول الخمس تعلو إرادات ما دونها من دول العالم، ومن ثم تكمل النقص الذي يعتري القانون الدولي، فإن هذه «الدول السيادية» ستماثل بذلك -في حقيقة الأمر- «الجهات السيادية» المهيمنة في الدولة السلطوية (الدكتاتورية)، فهي المشرع والقاضي والمنفذ في الوقت نفسه، ومن ثم لا يسوغ أبداً اعتبارها «دولة قانون»، بل «دولة قانون الغاب»، وذلك هو وضع القانون والتنظيم الدوليين الآن للأسف الشديد!

وآية ذلك، أن الأصل في المنظور الغربي أن العلاقات الدولية -والفردية والمجتمعية- هو الصراع، وأن البقاء ليس للأصلح بل للأقوى، وهو ما انعكس على طبيعة منتوجات الفكر الغربي، ومن ضمنها القانون الدولي بصفة عامة ومواثيق المنظمات الدولية بصفة خاصة، عدا بعض الثغرات التي قد ينفذ منها المستضعفون عسى أن يتخللوا النظام الدولي في محاولة لتقويم عوجه، وتوجيهه نحو نصرة المستضعفين.

منتوجات السياسة الغربية

الحقيقة الثانية: أن الكيان الصهيوني نفسه هو أحد منتوجات الفكر والسياسة الغربيين كذلك، حيث بدأ التفكير في إنشاء هذا الكيان منذ صدور الوعد البريطاني بإنشائه («وعد بلفور» في عام 1917م)، وصولاً لإعلانه فعلاً في عام 1948م برعاية غربية (بريطانية أمريكية فرنسية روسية..)، بعدما قررت أمريكا أن تحل محل البريطانيين والفرنسيين في احتلالهما العسكري المباشر لدول العالم الإسلامي وغيرها من الدول النامية، باحتلال يحمل صيغة جديدة تقوم على التحكم عن بُعد، مع إبقاء قوة عسكرية على أرض فلسطين تستخدمها أمريكا -وحلفاؤها- للترغيب والترهيب والتفتيت، لنكتشف بذلك أن المتحكم في سن قواعد القانون الدولي المعاصر وفي تطبيقه هو نفسه المؤسس للكيان الصهيوني والداعم له!

الحقيقة الثالثة: أن الدولة التي أدركت هذا الواقع -المظلم- بالفعل هي دولة جنوب أفريقيا (الحرة المستقلة)، استندت إلى «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، ورفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد غزة، مع طلب التعجيل بإصدار «تدابير مؤقتة»، وفق ما تقرره المادة (41) من النظام الأساسي للمحكمة، للحفاظ على الحقوق الخاصة بالفلسطينيين، ووقف تلك الحرب، وهي خطوة بالغة الأهمية، من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم من الدول الغربية، لا سيما إذا قررت المحكمة فرض تدابير مؤقتة تمنع استمرار تلك الحرب إلى حين البت النهائي في القضية.

الحقيقة الرابعة: أن هذه الخطوة الشجاعة من دولة جنوب أفريقيا وإن كانت تمثل دعماً قانونياً وقضائياً وسياسياً وأدبياً وإعلامياً للفلسطينيين، إلا أنها لن تحرر فلسطين، بل سيحررها أبناؤها، الذين شرعوا بالفعل في حربهم لتحرير وطنهم في السابع من أكتوبر الماضي، إدراكاً منهم بعد تراكم خبراتهم مع الاحتلال، أن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقلال.

ومن حسن الحظ أن تدابير محكمة العدل الدولية وقرارها المنتظر سيؤكد شرعية ذلك الخيار المقاوم والمشروع وفق قواعد القانون الدولي نفسه، حتى بحالته المهترئة تلك، وحتى لو تم استخدام «الفيتو» ضد القرار.

___________________ 

د. حازم على ماهر، التعويل على محكمة العدل الدولية.. بين التهوين والتهويل!، مجلة المجتمع، 18 يناير 2024، https://2u.pw/MejZcje

قال خبيران قانونيان، إن حق الدفاع عن النفس لا ينطبق على إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وإن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية التي تزعم هذا الحق "ليست قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". وشدد الخبيران، في أحاديث منفصلة لوكالة الأناضول، على أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة تصل إلى مستوى "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية".

وخلال زيارته إلى إسرائيل في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يكتف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بالقول إنه يدعم "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بل وأكد بالقول: "بل ولزامًا عليها ذلك، وندعمها بقوة". وشدد بلينكن، في تصريح صحفي، على "ضرورة تمكين الجيش الإسرائيلي من هزيمة (حركة) حماس في غزة".  كما أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي (27 دولة) عبر بيان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، "دعمهم لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بما يتماشى مع القانون الإنساني والدولي".

 

أراضٍ تحت الاحتلال

مدير مؤسسة الحق (غير حكومية) شعوان جبارين قال للأناضول إن "العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تتعارض وتتناقض مع القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة في الدفاع عن النفس". وأوضح أن "حق الدفاع عن النفس ينطبق على دولة عندما تهاجمها أخرى ويتعرض أمنها القومي ووجودها للخطر، وحينها تُعلم هذه الدولة الأمم المتحدة أولا ثم تستخدم القوة للدفاع عن نفسها، وهذا لا ينطبق على الحالة الجارية هنا (غزة)". جبارين تابع أن "فلسطين وحماس ليست دولة، وهي أرض محتلة وغزة والضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وسابقا نوقش رأي استشاري فيما يخص بناء إسرائيل لجدار الفصل (بالضفة الغربية) في عام 2004 بحجة الدفاع عن النفس، وخلصت (محكمة العدل الدولية) إلى أنه: ليس من الحق أن تتحجج إسرائيل بأن لها الحق في الدفاع الشرعي عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة". وشدد على أن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها "تخالف القانون الدولي، وهي ليست تصريحات قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". "إن لم تمارس إسرائيل الإبادة"، بحسب جبارين، "فهي ذاهبة للإبادة، ولذلك عملياتها فيها كل أركان الإبادة في ظل تصريحات أعلى الهرم في إسرائيل من سياسيين وعسكريين، والتي تؤكد نيتهم قتل جزء أو كل من الشعب الفلسطيني في غزة". وأردف أن "الممارسة في أرض المعركة تترجم هذه التوجهات من قتل وتدمير للمدنيين ودون أي ضرورة عسكرية، ما يوصلنا إلى نقطة إبادة جماعية في قطاع غزة". وعادة ما تنفي إسرائيل ارتكابها جرائم في غزة، وتزعم أنها تدافع عن نفسها، بعد أن أطلقت حركة "حماس"، في 7 أكتوبر، هجوم "طوفان الأقصى"؛ "ردا على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى".

 

لا مبرر لارتكاب الجرائم

أما أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية بمدينة جنين في الضفة رائد أبو بدوية فقال إن "حق الدفاع عن النفس مكفول، ولو سلمنا جدلًا بأن لإسرائيل هذا الحق، فإنه لا يبرر ارتكاب الجرائم". أبو بدوية أضاف للأناضول أنه "في حالة الدفاع عن النفس في الأصل لا يجوز لك انتهاك قواعد القانون الدولي ولا يجوز أن تستهدف المدنيين، وأي جرم غير مسموح تحت تبرير الدفاع عن النفس". وتابع: "ما تستهدفه إسرائيل في غزة ليست أهداف عسكرية، واضح مما نشاهده وما يُرصد أن طبيعة الأهداف مساكن مدنية ومؤسسات خدمة مدنية ومستشفيات، وكل ما سبق يعتبر جريمة حرب". ومشددا على وجود "جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية"، لفت أبو بدوية إلى "ما تنفذه إسرائيل اليوم من استهداف للمدنيين وترحيلهم وتجويعهم ومنع الاحتياجات الرئيسية".

ومنذ اندلاع الحرب، تقطع إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ عام 2006. واستشهد أبو بدوية بميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية الذي يصنف تلك الأعمال "جريمة حرب". وختم بأن "الدفاع عن النفس مكفول، ولكن ضمن ضوابط وليس حق مطلق، وما تنفذه إسرائيل في معظمه تجاوز للقانون، وهي جرائم دولية".

______________

قيس أبو سمرة، قانونيان: "حق الدفاع عن النفس" لا ينطبق على إسرائيل في غزة، وكالة الأناضول، 10 نوفمبر 2023، https://2u.pw/GA0OsxN.

الموضوع الذي أمامنا اليوم هو موضوع غزة، وهذا الموضوع عايشناه جميعا يومًا بيوم وأصبحت معلوماتنا عنه متساوية، فليس منا من لديه معلومات أكثر من الآخر. إذن نحن نتحدث عن موضوع سبق العلم به، وتساوينا تقريبا في المعارف الخاصة بوقائعه، وبقدر كبير من التحليلات الخاصة به، ولذا تصورت أن الحديث فيه سيكون في ثلاث أو أربع نقاط، وذلك لإعادة ترتيب الوقائع بشكل أو بآخر حتى نستطيع فهمها والحوار حولها.

- النقطة الأولي: تتعلق بأهمية أرض الشام لمصر وللتاريخ المصري.

- النقطة الثانية: تتعلق بقدر الحروب التي دخلنا فيها وهذه الحرب الأخيرة في سياق الحروب الممتدة في التاريخ المعيش المعاصر.

- النقطة الثالثة: الحروب النظامية والمقاومة الشعبية.

- النقطة الرابعة: النقطة الرابعة تتعلق بالمقاومة في فلسطين بين أهل الداخل وأهل الخارج

 

فيما يتعلق بأهمية فلسطين أو أرض الشام عامة بالنسبة لمصر، خاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين في أرض الشام، وكان وهو يحكم مصر يقوم بالدفاع عن المنطقة كلها، كان هذا في عام 1187. والمظفر قطز عندما أراد مواجهة التتار كان ذلك في موقعة عين جالوت في أرض الشام أيضا عام 1260. إذن من يحاول الدفاع عن هذه المنطقة لا يدافع عنها من داخل مصر، ولكنه يخرج إلى أرض الشام. إذن حين حاربنا الصليبيين القادمين من الغرب وحين حاربنا التتار القادمين من الشرق ومع كليهما كانت أرض الشام هي مجال المعركة، وكلتاهما كانت معركة الحسم أيضا.

 وبعد ذلك جاء السلطان سليم الأول عندما أراد توحيد المنطقة الإسلامية قبل أن يصل إلى مصر كان قد فرض سيطرته على الشام؛ فى1516 سيطر على الشام وفى عام 1517 سيطر على مصر. ثم استقل علي بك الكبير بمصر عام 1759 وأرسل أحد الولاة ليسيطر على الشام فلم يستطع، وتلاشي حكمه لمصر بعد عدد من السنوات، فلم يستطع أن يحتفظ بولايته على مصر مستقلا عن الدولة العثمانية مادامت أرض الشام بعيدة عنه. وعندما قام نابليون بغزو مصر كان ذلك في شهر يونيو سنة 1798، وفي يناير1799 ذهب إلى عكا وحاصرها ولم يمكنه أحمد باشا الجزار من اقتحامها وفشلت الحملة وعاد إلى مصر، وانتهت الحملة الفرنسية على مصر بعدها بعامين.

 إذن لننظر إلى مدى إمكانية استقلال واستقرار لحكم ثابت في مصر دون أن يكون محميًا من أرض الشام. وعندما أراد محمد علي السيطرة على مصر وكان واليا عثمانيا، وعندما بدأ ينازع الدولة العثمانية سلطاتها كان أمامه طريق الشام وسيطر عليه، وبعد ذلك في عام 1840 جاءت معاهدة لندن التي أخرجت محمد علي من الشام وجعلته محصورا في مصر، وبقيت أرض الشام في يد الدولة العثمانية. من هذا التاريخ تقريبا نستطيع أن نحدد أن كلا المنطقتين فقد استقلاله وظل تحت الهيمنة الأوربية. معاهدة لندن عام 1840 جعلت مصر أو الشام تحت الهيمنة الأوربية، بوجود كل منهما منفصلا عن الآخر، ولذلك بقيت أسرة محمد علي تحكم مصر، ولكن تحت الحماية الأوربية التي بدأت حسبما نعرف من التاريخ المصري في عهد سعيد، ومن بعده احتلت انجلترا مصر عام 1882، لكن مصر كانت تحت الهيمنة الأوروبية عامة منذ عام 1840، والإنجليز احتلوها ليستخلصوها من أي نفوذ أوروبي آخر.

ومع ضعف الدولة العثمانية بقيت المنطقة كلها تحت التأثير الأوروبي والهيمنة الأوروبية عليها، في الوقت الذي بدأ الإنجليز فيه الانفراد بمصر وفرض الحماية عليها رسميا كان ذلك عام 1914، أعلنت الحماية على مصر 1914، وفي 1917 صدر وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ووقتها قال الساسة الإنجليز أن هذا الأمر مقصود به حماية قناة السويس، بمعني حماية نفوذهم وسيطرتهم على قناة السويس. وأوجدوا هذا الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وُضَعت فلسطين رسميا تحت الحماية الإنجليزية سنة 1922 بمعاهدة السلام وجاءوا لها بمندوب سامي يهودي هو هربرت صامويل لينفذ المشروع الإسرائيلي، وفي نفس الوقت اعترفوا باستقلال مصر، كان ذلك بعد ثورة 1919.

 وبعد الاعتراف باستقلال مصر، وضعت فلسطين تحت إطار تنفيذ المشروع الصهيوني، في نفس الوقت الذي فُرضت فيه الحماية علي مصر وصدر وعد بلفور، عُقدت اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم أرض الشام، ولا أقصد بأرض الشام دمشق كما يقال ولكنني أقصد ما نقوله نحن في مصر بر الشام ونعني به سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، في أيام الحرب العالمية الثانية والإنجليز يحتلون مصر فأصبحت منطقة لابد من الدفاع عنها ضد الغزو الألماني الذي كان قادما عن طريق شمال إفريقيا ووصل عن طريق تونس وليبيا إلي العلمين بالساحل الغربي لمصر، وكلنا نعرف المعركة التي دارت هناك، وقتها أنشأ الإنجليز مركز تموين الشرق الأوسط لأنهم أحسوا أنه لكى يمكن الدفاع عن مصر لابد أن تكون مصر والشام معا، ويكونان نوعًا من أنواع التكامل الاقتصادي أثناء الحرب، وأيضا نوع من أنواع الدفاع المشترك.

 إذن لكي تدافع عن مصر حتى وأنت أجنبي لابد أن تضمن أين أرض الشام بالنسبة لك، فالوزير البريطاني اللورد موين -الذي كان مقيمًا في مصر وقتها- أرسل الصهاينة فردين لقتله، لأنه نظرًا للتوازنات اللازمة أثناء الحرب بدأ يأخذ سياسة لا تحقق الطموح الصهيوني كاملا فقتلوه في الزمالك بالقاهرة. إذن ارتباط مصر بهذه المنطقة ارتباط تاريخي ويستحيل التقليل من أهميته، وفيما عدا الحملة الفرنسية لم يتم احتلال مصر إلا عن طريق بوابتها الشرقية، حتى عندما حاول الإنجليز احتلال مصر عام 1882جاءوا عن طريق الإسكندرية ولم يستطيعوا فغيروا طريقهم ودخلوا عن طريق قناة السويس، بمعني إنهم جاءوا أيضا من الشرق.

مصر حقيقة هي متجانسة بل لديها قدر كبير من التجانس من أسوان حتى الإسكندرية، فلا يوجد فيها قبائل أو تكوينات طائفية أو إقليمية تتحدي هذا التجانس، وهذه ميزة في مصر ولكن بها عيب واحد هو أن أمعائها خارج جسمها، بمعني أن أمنها القومي كله خارج حدودها، فمصر لا تستطيع العيش إلا من خلال ضمان السودان وضمان حدودها الشمالية الشرقية، فهي تُحتل وتُغتصب ولا تستطيع أن تكون لها إرادة سياسية وطنية صادرة عن مصالح هذا الشعب إذا لم تكن مؤمنة من جانب حدوها الشمالية الشرقية وجانب السودان.

 وقد فهم الإنجليز ذلك وهم يحتلون مصر، ولكن السياسي الماهر -ويبدو أن السياسيين الاستعماريين كانوا مهرة بالفعل- فأحيانًا يفكر السياسي المحتل في ماذا لو اضطررت لإخراج قواتي منها؟ فكانوا يفكرون في كيفية احتلال مصر من خارج حدودها، ومصر بها هذه الخاصية فهي يمكن احتلالها عسكريا من خارج حدودها، وهي داخل حدودها لا يجوز احتلالها عسكريا، ولكن متى تُحتل عسكريا من الخارج؟ إذا وجدت قوة عسكرية استعمارية مناوئة لها أو تحت سيطرة أجنبية في السودان أو قوة عسكرية مناوئة واستعمارية في أرض الشام، فإن مصر تعاني من الضغوط على إرادتها الوطنية، مما يجعل من الصعب عليها أن تقيم هذه الإرادة صدورًا عن الصالح الوطني العام، ونحن عندما يكون هناك احتلال على الفور نطالب بإزاحته ونطالب بالجلاء، ولكن عندما يبدو هذا الجلاء قائمًا او يتحقق تبدأ على الفور الإملاءات الخاصة بالاعتبارات الأمنية المتعلقة بضمان هذا الاستقلال من خارج حدودها. ويقال لابد أن تكون لها سياسة خارجية ونحن نسميها خارجية لأنها خارج القطر المصري وهي متعلقة بتأمين هذا الوضع المتعلق بالشام أو المتعلق بالسودان.

وعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952، وجدت أن موضوع السودان مشكلة فأرادت حله بشكل ما، وقد كانت هناك مشكلة في مصر والسودان، فقد كانت هناك إثارة لموضوع وحدة مصر والسودان ولكن القوة الوطنية الحاكمة أيامها لم تكن لديها سعة أفق بحيث تجعل تنظيماتها مصرية سودانية في نفس الوقت، فعندما تشكل الحزب الوطني تشكل من المصريين فقط دون السودانيين، وعندما تشكل حزب الوفد تشكل من المصريين دون السودانيين، وعندما تشكل جهاز الدولة كان دائمًا من المصريين فقط، فبأي حق يطلب المصريون الوحدة مع السودان والتكوينات المؤسسية الرسمية والأهلية لا تعكس هذا؟! ولقد كانت طموحات الحركة الوطنية المصرية أكثر من إمكانياتها المؤسسية وهى بتشكيلها المصري القح حكمت بانفصال مصر عن السودان.  

جهود ثورة 23 يوليو الحقيقة أنها حاولت أن تضمن باتفاقية السودان سنة 1953 ألا يكون السودان تابعا للإنجليز ويخير فقط بين الاستقلال الوطني أو الوحدة مع مصر، وبالطبع اختار الاستقلال الوطني، وعلي الفور بدأ الحكم الوطني هناك، وفي نفس الوقت نشأ السد العالي ليكفل لمصر القدرة علي حماية مياه النيل لعدة سنوات إذا حدث شيء يتعلق بهذه المياه، لأن قبل ذلك لم يكن لدينا السد العالي وكان لدينا خزان أسوان فقط، وخزان أسوان كان ينظم الري لمدة سنة زراعية فقط فلم يكن يحتمل تخزين مياه أكثر من ذلك، وكان هناك عدة خزانات في السودان، وبذلك كانت الخزانات السودانية تستطيع أن تتحكم في المياه المصرية زرعة بزرعة، فإذا لم يعطني حجم المياه المطلوبة في شهر يونية مثلا لزراعة الأرز لن أستطيع زراعته، فالوضع كان يشبه وجود صنبور يستطيع إغلاق المياه في أي وقت، ولذلك نجد أن مفتشين الري المصريين دائمي الوجود في السودان وقتها، فالسد العالي كفل لمصر الحماية فيما يتعلق بالمياه لعدد من السنوات القليلة، تستطيع إدارة أمورها ويطول به نفسها حتى تستطيع تدارك أمرها في هذا الشأن، كان هذا بالنسبة للسودان.

 بالنسبة للوضع الثاني، كانت هناك فلسطين وظهور الدولة الصهيونية بها، ولذلك أول اتفاقية تمت لثورة 23 يوليو كانت اتفاقية دفاع مشترك الخاصة بجامعة الدول العربية. كانت هناك اتفاقية تمت في سنة 1951، ولكن تمت اتفاقية أخري سنة 53 للدفاع المشترك بين سوريا ومصر والسعودية أيام الملك عبد العزيز، وبحس عسكري لابد أن يكون لديك دفاع مشترك ليس فقط من أجل الوحدة الوطنية والقومية العربية، ولكن لأنه لابد أن يكون هناك خط دفاع موجود بالنسبة لهذه البلاد وخاصة مصر والشام، ومن هذا الوقت وحتى اليوم لم يحدث قط أن اتفقت السياسة المصرية مع السياسة السورية والسعودية أبدًا، فدائما تأتي مصر مع سوريا فتفلت السعودية، وإذا جاءت مصر مع السعودية تفلت سوريا، وكل هذا يؤدي إلي استمرار التبعية والخضوع والهيمنة ومن أجل ذلك نتكلم عن فلسطين.

 وأنا أري أنه من العيب أن نقول مصر أولاً، فهذا الكلام غير منطقي فالأمن أهم من الطعام، وليجرب كل منا يخاف أم يجوع؟ فالخوف أشد وطأة على الإنسان من الجوع، الإنسان يفقد قدرته وإنسانيته عند الخوف وليس عند الجوع، فمع الجوع يستطيع المقاومة ويستطيع تدبير نفسه أما مع الخوف فلا، إذن هذه الأمور تتعلق بالأمن وليست متعلقة حتى بالرخاء.

 

النقطة الثانية المتعلقة بالحرب الأخيرة في غزة، أنها الحرب الثانية عشرة في سلسلة من الحروب المتواصلة من 1948- 2008 أي علي مدار ستين سنة، و أنا أقوم بحساب الحروب الأمريكية مع الحروب الإسرائيلية علي أساس أنهم كتلة واحدة، فليس هناك سياسة في العالم توحدت بين دولتين مثل هذا التوحد اللصيق الذي لا ينفصم أبدا كما توحدت السياسة الأمريكية والإسرائيلية، وسنجد أن السياسة الأمريكية علي مدي هذه السنوات الطويلة قد تغيرت، مع الاتحاد السوفيتي وبعد ذلك مع مجيء روسيا تغيرت أيضا، وتغيرت أيضا مع الصين من عدم الاعتراف بها ثم الاعتراف بها ثم قيام علاقات مع سلام بارد، وتغيرت أيضا مع الهند وباكستان كما تغيرت أيضا مع دول كثيرة في أمريكا الجنوبية، يتم إذن تعديل السياسة حسب الظروف والأحوال فيما عدا هذه العلاقة المتعلقة بالأمريكان والصهاينة فلم تتغير أبدًا، فهذه سياسة ثابتة مستقرة علي مدي هذه السنين لم يحد سياسي أمريكي عنها، لا جمهوري ولا ديموقراطي، لا أيزنهاور ولا كلينتون ولا أوباما ولا غيرهم. إذن من حقنا أن نعتبر أن حروبهم واحدة، خصوصًا أننا نجد أن المصلحة ليست مشتركة فقط ولكنها متحدة بين إسرائيل وبين السياسة الأمريكية الثابتة المستقرة، وعندما نضع هذا في اعتبارنا سنجد أنها 12 حرب بالفعل، وهي كالآتي:

  • حرب 1948.
  • حرب 1956.
  • حرب 1967.
  • حرب الاستنزاف التي تمت بين مصر وإسرائيل بين الحربين السابقة واللاحقة.
  • حرب 1973.

وهذه الحروب الخمسة كانت مصر مشاركة فيها بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، وانتهت بحرب 73 فلم تعد مصر تحارب.

وجاءت بعد ذلك سبعة حروب هي:

  • حرب 1982اجتياح لبنان.
  • انتفاضة 1987 الفلسطينية في أرض فلسطين.
  • حرب الأمريكان في الكويت والعراق سنة 1991.
  • انتفاضة عام 2000 الفلسطينية في أرض فلسطين.
  • حرب العراق سنة 2003.
  • حرب لبنان 2006.
  • حرب غزة 2008.

إذن هناك 12 حرب علي مدي ستين سنة، أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات. إذن هي حرب واحدة ووقائع متسلسلة، هي حرب واحدة ومستمرة ولذلك هناك عدو إستراتيجي أمامنا، إذا نظرنا لمعاركه سنجدها تتنقل: مصر ثم لبنان ثم تنتقل إلى العراق والكويت، وغرب سوريا مازال محتلا حتى الآن. إذن العدو هنا يوحدنا ونحن لا نتعظ ولا نتوحد، ولذا من حقنا أن نعتبر أن هذه الحرب هي مواجهة إستراتيجية على مدي طويل، ونحن أحيانا نجد بعض المسئولين يقول أن العلاقة بيننا وبين أمريكا هي علاقة تحالف إستراتيجي!! والحقيقة أنني أجد هذا الكلام غريبا جدًا فهل من الممكن أن تقيم تحالف إستراتيجي مع عدو إستراتيجي؟!!

 إذن هناك 12 حرب علي مدي ستين سنة، أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات. إذن هي حرب واحدة ووقائع متسلسلة، هي حرب واحدة ومستمرة ولذلك هناك عدو إستراتيجي أمامنا، إذا نظرنا لمعاركه سنجدها تتنقل: مصر ثم لبنان ثم تنتقل إلى العراق والكويت، وغرب سوريا مازال محتلا حتى الآن. إذن العدو هنا يوحدنا ونحن لا نتعظ ولا نتوحد، ولذا من حقنا أن نعتبر أن هذه الحرب هي مواجهة إستراتيجية على مدي طويل، ونحن أحيانا نجد بعض المسئولين يقول أن العلاقة بيننا وبين أمريكا هي علاقة تحالف إستراتيجي!! والحقيقة أنني أجد هذا الكلام غريبا جدًا فهل من الممكن أن تقيم تحالف إستراتيجي مع عدو إستراتيجي؟!!

 النقطة الثالثة وهي الحروب النظامية والمقاومة الشعبية، هل إسرائيل تشكل احتلالاً للإرادة المصرية من خارج الحدود المصرية؟ حروبنا مع إسرائيل دائما حروب تحرير، وبمعني آخر أن العدوان علينا دائما من إسرائيل، ففي حرب 48 العدوان علي فلسطين، وفي 56 العدوان علينا في مصر، وفي 67 العدوان علينا أيضا، وفي 73 وقبلها حرب الاستنزاف حروب تحرير الأرض المصرية، وفي هذه الحرب يدخل الشأن المصري بشكل أكبر، إسرائيل لديها مدد سلاح وتنظيم وعلوم وتكنولوجيا من أمريكا والغرب لا ينقطع، وأيضا إمكانيات اقتصادية ضخمة. المقاومة ضد أي احتلال عسكري من دولة كبري بجيش نظامي محكوم عليه بالفشل، هذه نقطة محسومة حتى لو نظرنا إليها من أيام محاربة أحمد عرابي للاحتلال الإنجليزي وفشله.

 الحروب النظامية تكون بين دول متعادلة من ناحية القوة العسكرية، الوسيلة الأساسية لمقاومة الاحتلال العسكري من دولة كبري هي المقاومة الشعبية، والمقاومة الشعبية لا تعتمد على القوة الخاصة بالجيوش ونظمها والأسلحة التي لديها وقوتها النظامية والاقتصادية. يدافع المحتل عن مصلحة والمقاومة تدافع عن وجود وعن حرية، المصلحة أقصر نفسًا من الوجود وأقل ضرورة منه، وهذا يجعل المقاوم أطول نفسًا؛ لأنه لن يتوقف فهو يدافع عن وجوده، الذي يدافع عن مصلحته إذا جعلته يشعر أنه لا يحققها وإذا جعلته يشعر أنها تؤدي به إلى الخسارة وليس إلى النفع انتهت آماله، ولذا نجد أن الفيتناميين –رغم صغر حجم ومساحة فيتنام- غلبوا الولايات المتحدة، ونجد أن الصين بالرغم من إنها كانت فقيرة جدا غلبت الاحتلال الياباني، الجزائريون أيضا غلبوا الفرنسيين.

 ما قامت حرب تحرير شعبية إلا وانتهت بالنصر علي المعتدي، وقديما كانوا يقولون حين تسقط العاصمة تسقط البلد، ذلك في التاريخ الوسيط، واستمرت هذه القاعدة موجودة حتى اليوم ليس عن طريق العاصمة ولكن عن طريق الجيش النظامي، إذا غلب أحد الجيشين الآخر في معركة نظامية حاسمة تسقط الدولة. أول شرط في المقاومة الشعبية هو تفادي المعارك الحاسمة، حتى في الكتب الخاصة بحرب العصابات يقولون إذا تابعك العدو تجري وتهرب، وإذا تقدم تقهقر، وإذا توقف ناوشه، وإذا استقر فاضربه، وتفادي المعارك الحاسمة، وبهذا الشكل لن يستطيع هو أن يدخل معك في معركة حاسمة، وهذه الحروب تحتاج إلي تضحيات ولذلك نجد أن أعداد الخسائر البشرية في المقاومة الشعبية كثيرة جدا. إذن المقاومة الشعبية تعتمد علي تقديم تضحيات بشرية ضخمة وتتفادى المعارك الحاسمة وتجعل العدو دائما قلقًا وغير مستقر.

 وسنضرب مثلا علي ذلك بالحركة الشعبية في مصر سنة 1951 عندما قويت جدا فقرروا إلغاء المعاهدة مع الإنجليز والتي تمكنهم من الوجود العسكري المشروع في مصر، وجاء مصطفي النحاس وأعلن إلغاء المعاهدة، فأصبح الوجود الإنجليزي في مصر غير مشروع، وراحت الناس تتنادي لعمل مقاومة شعبية، وأخذت الأحزاب تعمل علي ذلك قدر طاقتها، وكنا طلبة في ذلك الوقت، وكان هناك معسكر داخل الجامعة –بعلم وموافقة عبد الوهاب مورو رئيس الجامعة وتحت نافذة مكتبه- لتعليم الطلاب استخدام السلاح وكيفية إلقاء القنابل اليدوية والرماية، وكان يقوم بذلك أفراد يرتدون اللون الكاكي، وكانت هناك معسكرات مثل هذه في كثير من الأماكن، وشعر الإنجليز أن ذلك سوف يتزايد وينمو أكثر مع الوقت ويكتسب خبرات وما إلي ذلك، فقاموا بعمل مذبحة البوليس في الإسماعيلية لكي يستدرجوا الدولة وتكون معركة حاسمة وينتهي الأمر، ولكن طالما المسألة بين الشعب والمحتل فلن يستطيع التصرف، أما عندما تكون مع الدولة، يستطيع الضرب وإنهاء الموضوع. كان ذلك يوم 25 يناير وبالفعل قتلوا الكثير من أفراد البوليس المصري في المقر الخاص بهم في الإسماعيلية، وقامت بعد ذلك ثورة 23 يوليو وألغت الأحزاب وأصبحت الدولة فقط، والإنجليز محتلين غير معترف بهم، فهل سيستمر الدفاع الشعبي والتدريب العسكري في الجامعات بالطبع لا، والجيش النظامي لن يستطيع، ولكن حكومة الثورة حكومة وطنية وتريد إخراج الإنجليز بالفعل فماذا تفعل؟ فخلع لابسي الكاكي زيهم وارتدوا الملابس العادية وقاموا بعمل مقاومة شعبية وظلوا مرتبطين بالجيش في نفس الوقت.

ونجد من قاموا بتشكيل أجهزة الأمن بعد ذلك ينتمون إلى نفس العناصر مثل كمال رفعت، وبذلك تكون المقاومة الشعبية تكونت من ناس مرتبطين بجهاز الدولة دون أن يكونوا من جهاز الدولة، وكسبت هذه المقاومة وحدثت اتفاقية 1954 وما حدث في التاريخ بعد ذلك، وبدأ التفكير في تطبيق هذه الخطة فيما يتعلق بفلسطين، وجري تنفيذ ذلك عن طريق غزة والتي كانت تحت الإدارة المصرية وبالفعل كان الأفراد يخلعون الكاكي ويرتدون الملابس المدنية ويقومون بتدريب الناس علي استخدام الأسلحة، تنبهت إسرائيل إلي ذلك فقامت بتوجيه ضربات مؤلمة للجيش المصري في سيناء لكى تستدرج الدولة وجيشها النظامي، ومع كون الحكم في مصر حكم عسكري فضرب الجيش لا يجوز ويعتبر إهانة، وبذلك نجحت إسرائيل في إجبار مصر علي الدخول في حروب نظامية في صراعها مع إسرائيل، فبوجود حكم عسكري يعتمد علي الدولة لا يمكن أن يتم ضرب الجيش ويتعامل مع الموقف عن طريق المقاومة الشعبية.

 ومنذ ذلك الوقت بدأت الحروب النظامية ضد إسرائيل. ومن الانصاف القول أنه كان محكوما عليها أن تكون كما حدثت بالضبط، فأنت بالفعل تحارب أمريكا؛ أقوى قوة عسكرية منظمة في العالم بكل ما فيها من أسلحة وتكنولوجيا وكل ما فيها من علوم ومخترعات حديثة. إذن الحروب النظامية هنا لن تصلح، ولذلك الشيء الإيجابي الوحيد الذي تم من أيام الرئيس السادات قوله أن حرب 73 هي آخر الحروب بالرغم من إنه كان يقصد أن بعد ذلك سيكون هناك سلام، بالطبع السلام لم يتحقق ولن يتحقق طالما أن هناك إسرائيل توسعية بهذا الشكل الذي نراه، ولكن وجه الصواب في هذه المقولة هو أن حرب أكتوبر 73 ستكون آخر الحروب النظامية؛ لأن بعدها سيتجه الأمر إلي الكفاح الشعبي والمقاومة الشعبية، وتمثل ذلك في الدول التي ليس بها سلطة مركزية قوية، لأن السلطة المركزية القوية لا تقبل أن تكون لديها مقاومة شعبية قوية خارجة عن سيطرتها، ولذلك نشأت المقاومة الشعبية في لبنان حيث الدولة ضعيفة وفي فلسطين حيث لا دولة، وفي الصومال أيضًا. فكلما كانت الدولة ضعيفة كلما كانت المقاومة قادرة على الوجود المستقل وقادرة على التنفس، وهذه معضلة لن نستطيع حلها قريبًا.

 

النقطة الرابعة تتعلق بالمقاومة في فلسطين، وفلسطين كانت مجتمعًا بشريًا مثل كل المجتمعات التي خلقها الله في العالم، بمعني مجتمع مستقر وضعه، فيه طوائف وطبقات ودولة وفئات مختلفة وأيضا قبائل وأسر وقري وحواضر، وبدخول الصهاينة ومع التشتيت والتهجير والضرب والتقتيل تمزقت البنية الاجتماعية داخل فلسطين، فلم تعد الأسر متجانسة ومترابطة، ولم تعد هناك علاقة بين الطبقات فأصبح المجتمع مهلهلاً، وبذلك أصبح المجتمع ركام يعيش أهله في الملاجئ والمخيمات وتوزعوا علي البلاد العربية، وبعضهم ذهب إلى أمريكا وباقي دول العالم. وبظهور فتح احتاج المجتمع إلي عشرات السنين لكي يتجمع مرة أخري ويظهر ويكون له تكوين سياسي، وكان ذلك أساسا في المهجر، إذ بدأت التركيبات الضخمة للفلسطينيين في المهجر في التجمع مع بعضهم البعض وكان يجب أن يمر وقتٌ طويل حتى يتجمّع المجتمع من جديد ويستقر.

وفي ذلك الوقت كانت منظّمة التحرير الفلسطينيّة تمثّل للفلسطينيّين رمز الوطن، ورمز الانتماء للوطن، أي أنّها كانت بمثابة وطن تصوّري، أنت لست في بيتك أنت في بلد عربي، وبحكم تنقّلها بين عدّة أقطار عربيّة أخذت المنظمة طابع الدولة التي تتخذها مقرًا لها، لم تكن المنظمة مستقلة في سياساتها ولكن من حسن الحظ كان لدينا حكومات وطنية مثل مصر وسوريا، ولم يكن متاح للمنظمة  إلا أن تخضع لتوازنات البلاد العربية وتعمل في إطار هذه التوازنات، حتى إنه يمكن قراءة ملامح السياسة للأقطار العربية ذات التوجّه الاستقلالي من خلال المنظمة، ولم يكن للمنظمة إلا ذلك فلم يكن لها استقلال، ولما انهارت هذه الحكومات الوطنية بدأ الاستقلال يقع وبدأت سياسات أخرى تظهر، فوقعت أحداث أيلول الأسود في الأردن.

 وقد تنبّه لهذا الأمر ياسر عرفات فكان يخشى على المنظمة من أن تُستوعب في الدولة التي تقيم فيها، ومن هنا كان دائمًا يرفع شعار: منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعندما اختفى التوجه الاستقلالي للبلاد العربية بدأت الحركة الفلسطينيّة تنتقل من الخارج إلى الداخل؛ أي إلى داخل أرض فلسطين المحتلة، وبدأت منظمة التحرير الفلسطينيّة تتحول من "وطن" إلى "تنظيم"؛ لأن الوطن قد صار متحققًا في الأرض المحتلة ذاتها.

 

 وبدأت تظهر قوة الداخل الفلسطيني، وفوجئنا في عام 1987 بظهور أطفال الحجارة، حين قام أطفال لا تزيد أعمارهم على 15 و16 سنة بحمل الحجارة ورميها على الإسرائيليين.

 وهنا بدأ الداخل الفلسطيني يتحرك، وبدأ مركز الحركة الفلسطينية ينتقل من الخارج إلي الداخل ويعمل وهذا ما أدركه ياسر عرفات، ففي البداية كان يخشي من الأردن وكان يقول أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في مواجهة ألا يتم استيعابها من الأردن، وعندما بدأت حركة الداخل أصبح هذا الشعار في مواجهة الداخل، حتى لا يكون الداخل هو الممثل لأن الداخل أصبح أكثر كفاءة وأكثر قدرة علي الاستقلالية من ضغوط الخارج عليه، كما أصبح أكثر قوة علي إنقاذ نفسه من التوازنات الخاصة بالحكومات العربية وبالمنطقة العربية وإخراج نفسه منها، وأيضا يستطيع فرض سياسة خاصة به في حدود إمكانياته، كل ذلك لا يقدر عليه عرفات وهو بالخارج، فأصبحت مشكلته مع الداخل، بعدما كان الخطر أن تقضي عليه دول أخري، أصبح الخطر أن بقضي علية الداخل، وبذلك تتحول المنظمة من ممثل وطن إلي تنظيم، ولذلك بدأ يأخذ سياساته في مواجهة الداخل الفلسطيني. كارل ماركس له كلمة في سياق النظرية الماركسية فهو يقول: أن الطبقة البرجوازية تظل وطنية حتى تجد الطبقة العاملة قد أخذت تنمو وتكبر واستشعرت خطرها فلا تبقي الطبقة البرجوازية وطنية.

 وإذا استبدلنا طرفي نظرية كارل ماركس بالداخل والخارج سنجد الصورة كالآتي: أن أهل الخارج كانوا وطنيين حتى بدأ أهل الداخل منازعتهم الأمر فبدؤوا في تأكيد علاقتهم بالخارج ضد الداخل وهنا المشكلة. ونحن نري أن كل قوي المقاومة، سواء كانت حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية، تعتمد أساسا علي المواطنين داخل فلسطين في الضفة وغزة، وعمومًا هذه المشكلة سنجدها عندما نتحدث في أي موضوع يتعلق بتنظيمات سياسية وانشقاقات عن هذه التنظيمات، فحيثما توجد تنظيمات سياسية بها من يحمل السلاح وبها أيضا السلميين سوف يدب نوع من أنواع الصراع بين الاتجاهين، وحيثما يوجد أهل داخل وأهل خارج سوف يدب الصراع بين هؤلاء وأولئك، وذلك لأن الرؤية مختلفة والأوضاع مختلفة والإمكانيات مختلفة والأدوات التي يستخدمونها أيضًا مختلفة، وبالطبع كل ذلك يؤدي إلي اختلافات في السياسات المقترحة.

__________________________

المصدر: طارق البشري، العدوان على غزة ... الحرب الثانية عشر، افتتاحية حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 9، 2009، ص: 7- 13نص تفريغ محاضرة المستشار طارق البشرى " العدوان على غزة" التي عقدت في مركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة في 4 فبراير 2009، https://2u.pw/dWegmrV

Post Gallery

الاجتهاد والإرشاد والاتحاد في فكر الشيخ محمد رشيد رضا وحركته الإصلاحية (1-2)*

الجمعية الدولية لعلماء الإبادة: سياسات إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية

أثر الفقه الإسلامي في القانون المدني الفرنسي*

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة: جهود لجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري

المجاعة في غزة… إعلان أممي قد يجرّ قادة الاحتلال إلى المحاكمة

المرأة والتطور السياسي في الوطن العربي بين الواقع الحاضر وآفاق المستقبل*

حالة الاستثناء: الإنسان الحرام

خمسون مفكرًا أساسيًا معاصرًا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة*

الفقه الإسلامي: المصدر الرئيسي للتشريع*