حوار أجراه موقع الجزيرة نت مع د. وائل حلاق

قال المفكر العربي البارز البروفيسور وائل حلاق إن إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيين وغيرهم لا يستطيعون أن يلجموا عنفهم ضد الآخرين كما رأينا في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة، وليس في منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادي والهيمنة والميل إلى التدمير. وأضاف أن الأحداث التي بدأت بطوفان الأقصى توضح تجليات الأزمة الأخلاقية في الحداثة المتأخرة، وأن "الأحداث التي شهدناها في القرون الثلاثة الأخيرة تمثل الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع".

وأوضح أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، أن تحليل أفعال طرفي الصراع في قطاع غزة، إسرائيل وأميركا والغرب من جهة، والفلسطينيين وحركة حماس من جهة أخرى، ليس بالأمر الشديد الصعوبة، بل الأصعب هو إدراك بنية الصراع المعرفية، "فحين نفهم هذه البنية، يمكن أن نحلل تداعياتها".

وذكر المفكر الفلسطيني، في حوار خاص له مع موقع الجزيرة نت، أن تعاطف الغربيين مع الفلسطينيين نابع من أمرين، الأول هو أن الفلسطينيين ضحية للمخططات الاستعمارية منذ عام 1917 مع وعد بلفور، والآن مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين، والأمر الثاني هو أن حركة حماس أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية، رغم "أكاذيب إسرائيل اللامتناهية، والتافهة في الوقت نفسه"، كما أن "حماس كانت، كما يحب الغرب نفسه أن يقول، أكثر "تحضرًا" من الهجمات البربرية التي قامت بها إسرائيل".

وبيّن صاحب كتاب "إصلاح الحداثة" أن الصراع بين حماس وإسرائيل يعود في عمقه إلى اختلاف نظرة الطرفين للطبيعة والحياة، إذ إن الفلسطينيين وحماس ينطلقون من "مسؤولية أخلاقية تقتضي استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله، لا باعتباره ملكا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسؤولية (..) حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك، فستستمر في النظر إليهم على أنهم لا يساوونك في قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسؤولا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيًا".

في المقابل -يقول حلاق- تتصرف إسرائيل والغرب وفق منطق أنه ليس وراء الكون أو الطبيعة مسبب، فتكون النتيجة المنطقية أنه "لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلا إذا أعطانا إياها أحدهم. وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلها، فإن إنسانًا يعطي هذه القيمة إنسانًا آخر، استنادا إلى الذي يكون القرار بيده. وقوة القرار دائما ما تكون قوة بطشية، وهي قوة السيف: فقرار الضعيف في يد القوي، أي أن الأقوى بطشًا هو صاحب القرار".

 

فإلى نص الحوار:

كيف يمكن قراءة عملية طوفان الأقصى في مسار الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر؟

دعني أختصر المسألة وأعطيك جوابا مباشرًا: تمثل الأحداث التي بدأت بطوفان الأقصى وبلغت ذروتها مع الهجمات الإجرامية لإسرائيل على غزة، ثم مع جلسات استماع محكمة العدل الدولية في الحادي عشر من شهر يناير/كانون الثاني الجاري، تمثل أوضح تجليات الأزمة الأخلاقية في الحداثة المتأخرة. إذ تكون أعمال الجهات المختلفة تراكم التصادم البنائي بين القوى اللاأخلاقية والمعادية للأخلاق من جهة، وتلك التي تبقى ملتزمة بمبادئ السلوك الأخلاقي. فينبغي أن نسأل: ما هو هذا التصادم، وبين أي قوى يقع؟

هنا، يجب أن نفهم أن القوتين المتنافستين (الممثلتين بحماس والفلسطينيين والداعمين لهم من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة، وداعميهم الأوروبيين العنصريين من جهة أخرى) ليستا مجرد قوتين عسكريتين أو سياسيتين. وأود أن أوضح أن هذين الجانبين من النزاع لا يقعان ضمن دائرة اهتماماتي مباشرة، ذلك أن تحليلهما وفهمهما ليس بالأمر الشديد الصعوبة. ولكن ما يفوق هذا الأمر صعوبة هو إدراك بنية الصراع المعرفية. فحين نفهم هذه البنية، يمكن أن نحلل تداعياتها الأخلاقية.

إن الفرق بين القوتين المتنافستين (وسأفسر لاحقا ما يجعلهما متنافستين) لا يقتصر على توجهاتهما في الساحتين السياسية والعسكرية. وأعتقد أن السبب الذي صير الكثير من الغربيين داعمين متعاطفين مع الفلسطينيين هو أن الجانب الفلسطيني يمثل أمرين: أولًا، ليس من الصعب أن نرى كيف وقع هذا الجانب ضحية المخططات الاستعمارية منذ عام 1917، مع وعد بلفور، والآن، طبعا، مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين.

وثانيًا، تظهر لهم حركة حماس، على الرغم من أكاذيب إسرائيل اللامتناهية، والتافهة في الوقت نفسه، على أنها أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية. ذلك أن حماس كانت، كما يحب الغرب نفسه أن يقول، أكثر "تحضرًا" من الهجمات البربرية التي قامت بها إسرائيل. ولا شك أن هذين الاعتبارين مهمان، غير أنهما ليسا الأشد أهمية عند النظر إلى المسألة من وجهة نظر أخلاقية.

أخلاقيًا، يكمن الاختلاف الأهم في الأصل المعرفي لفلسفة مفهومي العالم التي تسطر سلوك القوتين المتنافستين. وترتكز فلسفة مفهوم العالم الإسرائيلية الغربية (على الرغم من الادعاء بأن إسرائيل دولة يهودية، وهو ادعاء يمثل دعاية أيديولوجية أكثر بكثير من كونه تمثيلًا صحيحًا للديانة اليهودية) ترتكز على مفهوم من الدنيوية واللحظة الآنية، "هنا والآن"، وهو مفهوم قد قطع صلاته بكوزمولوجيا أخلاقية ترى العالم على أنه خلْق إله محب ورحيم وعادل. وإذا كانت هذه كوزمولوجيا، فالكوزمولوجيا الإسرائيلية الغربية غير مكتملة، وقزمية، وغير ناضجة، وطفولية، وبدائية بالفعل. إنها كوزمولوجيا مفرطة البساطة فكريًا وروحيًا.

وينكر المفهوم الإسرائيلي الغربي خلق العالم من قبل إله يكون المالك الفعلي له، إله يكون فعل خلق العالم قد ولد له صفة أخرى، خاصية جوهرية أخرى، وهي أن الإله يملك العالم بكل ما للكلمة من معنى. فهو يملك العالم بشكل محدد من أشكال الملكية الفردية التي لا يمكن لنا نحن البشر، في الواقع، أن نفهمها. وإذا كان الإله يملك العالم، فلا يملك -في الحقيقة- أحدنا الآخر، فنحن جميعا سواسية عنده، وعلى المسافة نفسها من حيث علاقتنا به.

أما المفهوم الإسرائيلي الغربي، فتأتي الدولة وشعبها باعتبارهما أعلى مجموعة من القيم فيه، بينما تكمن العلمانية في الخلفية. هذه آلهة الغرب، وإسرائيل غربية -باستثناء جغرافيتها- بكل معنى الكلمة. وعلى القارئ أن يتنبه هنا إلى أن "الغرب" في مصطلحي ليس مكانا جغرافيا ولا سيمائية عرقية، وإنما هو نظام معرفي ومنظومة ثقافية.

 

لكن ما تداعيات ما وصفته الآن؟ كيف تؤثر هذه الأشياء في البعد الأخلاقي للصراع الحالي؟

دعني أختصر هذا: يدور هذا الصراع بشكل أساسي حول كيفية رؤية هاتين القوتين للطبيعة! ذلك أننا نميل إلى التسليم -إذا ما فكرنا في هذه المسألة أصلًا– إلى أن جميع الناس ينظرون إلى الطبيعة من المنظار نفسه، غير أن هذا غير صحيح إطلاقا، إذ يمكن التفكير في الطبيعة والنظر إليها بطرق مختلفة. فإن الذين ينظرون إلى الطبيعة على أنها خلق كائن ذكي يرون أنفسهم جزءً من هذا الخلق العظيم، جزءً أساسيًا ومهما منه. وإذا كان ينظر إلى الله، كما تنص تعاليم الإسلام على سبيل المثال، على أنه عهد إلى البشر مسؤولية أخلاقية تقتضي استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله، لا باعتباره ملكا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسؤولية.

أما الأهم من هذا، فهو أنهم سينظرون إلى الطبيعة على أنها جزء منهم، بقدر ما هم جزء منها، فتصبح الطبيعة كلها مقدسة. وهكذا، حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك، فستستمر في النظر إليهم على أنهم خلق الله، أي أنهم لا يساوونك في قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسؤولًا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيًا. قد يكون هؤلاء جهلة، وأغبياء، ومفلسين أخلاقيًا، ومجرمين، وعنيفين بشكل تام، غير أنهم يظلون بشرًا مثلك، فقد جاء كلاكما من المصدر نفسه، والحدث الكوزمولوجي نفسه، وخلقتما بيدي الله الرحيم نفسه.

أما الذين يؤمنون بالدولة والأمة باعتبارهما الوثنين الجديدين والإلهين الأعظمين، وتحميهما قوة "العلم" المطلقة والقوتان المالية والعسكرية، فالمعيار النهائي لوجودهم هو الأمة، وهي القيمة الأهم في الدولة. وبما أن القومية دائما تتطلب إعلاء قومية على القوميات الأخر فإن كل قوم يتفوقون في الغالب على الأقوام الآخرين نظريًا وعمليًا أيضًا، وأقصد بهذا التفوق التفوق الوجودي.

ففي القومية افتراض دائم بأنني -باعتباري كيانًا قوميًا– أشعر بأن وجودي مهدد، وبالتالي لوجودي الأولوية على وجودك؛ لأن أصولك ليست أصولي نفسها. ذلك أن القوميات لا ترجع إلى الأصل نفسه، فلكل قوم أصلهم الخاص بهم، وهذا بالضبط سبب اعتبار القوميات مختلفة بعضها عن بعض، ولو كانت تتحدث اللغة نفسها، وتملك عادات وتوجهات ثقافية شديدة التشابه (مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، إلخ).

فعلى خلاف المفهوم القرآني الذي يرى أن الأمم كلها خلق الله، يقول المفهوم الحديث العلماني القومي الدوْلي إنه لا قيمة للطبيعة في نفسها لأنها ببساطة موجودة، حدث أنها وجدت، من دون هدف ولا خطة، ذلك أن العالم ليس سوى حادث كوزمولوجي ليس وراءه مسبب، فالطبيعة، وفقا لهذا الموقف الحداثي، هي كما نراها نحن البشر، غير أن في هذا الكلام نوعا من التناقض.

فإذا كنا نحن البشر جزءا من طبيعة هي حادث كوزمولوجي ليس وراءه مسبب، ولا قيمة لها في نفسها، تكون النتيجة المنطقية، بناء على هذا المنطق، كالآتي: لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلا إذا أعطانا إياها أحدهم. وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلهًا، فإن إنسانا يعطي هذه القيمة إنسانا آخر، استنادًا إلى الذي يكون القرار بيده.

وقوة القرار دائما ما تكون قوة بطشية، وهي قوة السيف: فقرار الضعيف في يد القوي، أي أن الأقوى بطشا هو صاحب القرار. وهذا سبب انحدار زمننا إلى ما وصفه الكثيرون بـ"البربرية". وهو السبب نفسه الذي يدفع بنية العلوم السياسية كاملة إلى قبول المبدأ الأساسي القائل بأن القوة معيار السياسة ومطلبها النهائي.

أريد أن البيان الذي سمعناه مرارًا بعد السابع من أكتوبر، والذي يقول إن إسرائيل مجردة من الدافع الأخلاقي، لم يأت بسبب جنون إسرائيل جنون الكلب المصاب بداء السعار فحسب، بل لوجود سببية معرفية وكوزمولوجية مقنعة جدا.

ولقد قلت فيما سبق إن هناك سببًا وجيهًا يجعل هاتين القوتين متنافستين؛ ذلك أني أعتقد أنهما لا يمكن أن توجدا معًا؛ إذ لا بد أن تهيمن إحداهما وأن يتخلى عن الأخرى. وأعتقد أن هذا هو الاختلاف بين استمرار بقائنا على هذه الأرض وهلاكنا التام، وأن الدولة القومية ومفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث سيقوداننا إلى الهاوية. وهذا مما لا شك فيه عندي. فإذا لم نتغلب على هذه القوة، ونستبدل تقديرا فعليا للحياة الأخلاقية بها، فسنصبح في حكم الهلْكى. هذا مخرجنا الوحيد من الكارثة العامة، وما غزة إلا أخطر تصوير لها.

 

لكن كيف يؤثر الموقف من الطبيعة في المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

هذا سؤال جيد. في مفهوم العالم الذي خلق على يد قوة عظمى، هناك دوما مجموعة من المبادئ العليا التي توجه تفسير المبادئ الدنيا التي توجه هي كذلك تفسير الأسس التي تحدد كيف يتصرف المرء، وماذا يقول، وكيف يعيش. وفي هذا النظام الفكري، يصبح الناس ملزمين بهذه المبادئ العليا التي تقيدهم وتلجمهم وتمنعهم من التمادي في الظلم والفساد.

أما في نظام الدولة القومية التي لا تعترف بوجود إله، المدعومة بتصورات العلم الحديث غير المكتملة، التي هي دائما في حالة سيلان، فلا مبادئ أخلاقية مقيدة كهذه، باستثناء تلك التي تلفقها الدولة والعلم متى وكيف يشاءان. ففعل المرء ومقاله يعتمدان على مشيئته وإرادته اعتمادًا كاملًا، إذ يعتمدان على المصالح السياسية المباشرة التي تقرر بشكل تعسفي قيمة كل شيء في العالم، بما في ذلك ما يبدو جيدًا في اللحظة بعينها.

وقد عرفت أخلاقيات هذا النظام منذ وقت طويل بكونها أخلاقيات ذرائعية أداتية وانتهازية، بل استغلالية ومدمرة. ولهذا السبب لا تستطيع إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيون وغيرهم، أن يلجموا عنفهم ضد الآخرين، كما رأينا في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة. ولهذا السبب، ليس في منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادي، والهيمنة، والميل إلى التدمير.

أما العيش بشكل أخلاقي، فيعني العيش وفقا لمبادئ محمودة وأخلاقية، وقابلة للتطبيق في جميع الأوقات. إن العيش الأخلاقي يعني قبول الرأي القائل بأن عدوك إنسان مثلك، يستحق أن يعامل على أنه إنسان، مهما اختلفت معه، أو وجدته يستحق الهجوم العسكري. أما العيش من دون مبادئ فيعني أن يعيش المرء حياة خالية من الأخلاق. والمبادئ قوانين الروح والجسم، وقوانين الفرد والمجموعة. المبادئ الحقيقية هي تلك التي يجب أن تفترض، في منطلقها، أن كل حياة تستحق أن تعامل على أنها نتاج مصدر أعلى وأعظم، وأنها خلقت لغاية ذكية.

 

لاحظنا تناميا للتعاطف الشعبي الغربي مع قطاع غزة وإقبالا على فهم تضحيات أهل غزة، هل هذه بداية تحوّل في النموذج الأخلاقي لدى شعوب العالم؟

هذا صحيح، ظهر تعاطف كبير من قبل الشعوب الغربية اتجاه الفلسطينيين ومعاناتهم، حتى من قبل الكثير من اليهود والمجموعات اليهودية. وهذا أمر استثنائي للغاية لأن واقع أن هذا العدد الكبير من اليهود أظهروا التعاطف والدعم هو في ذاته أمر مهم لأسباب عدة، ولا سيما أنهم، في رأيي، سيكونون في المستقبل الحليف الأكبر للفلسطينيين في إيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية. وتشير الإحصائيات والاستطلاعات كلها إلى أن دعم الأمريكيين اليهود لفلسطين يزداد يوما بعد يوم.

لكن دعونا لا نخدع أنفسنا ظانين أن تعاطف الغربيين هذا يدل على تحول عميق أو بنيوي، على الرغم من صدق هذا التعاطف الذي لا يشك فيه. فقد رأينا أن كثيرًا من الناس بدأوا يشككون في الجانب الإسرائيلي، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى التحليلي أيضًا -إذا جاز التعبير- فقد بدؤوا الربط بين تدمير غزة وحركة حماس من جهة، والآثار السيئة -بشكل عام- للمؤسسات الرأسمالية الجشعة التي تحكم عالمنا اليوم، من جهة أخرى.

فقد ربط الكثيرون بين التصرفات الإسرائيلية في غزة وتدمير البيئة الذي ترتكبه إسرائيل والدول الصناعية كلها. غير أن فهم هؤلاء المؤيدين ليس عميقًا بما فيه الكفاية، فلا يصل إلى جذور المشكلة، وهي جذور مرتبطة بنيويا بالأصول الكوزمولوجية ومفاهيم مصادر الحياة. فلا يدرك هؤلاء حتى الآن تداعيات وعواقب الرأي القائل بأن العالم مجرد حادث كوزمولوجي. ولن يستطيعوا عبور الجسر الموصل إلى الإدراك الكامل حتى يفهموا هذه التداعيات.

 

ما التأثيرات القريبة والبعيدة المدى لطوفان الأقصى في المشاريع الفكرية العربية بشكل خاص؟ هل يمكن بناء نموذج فكري جديد على أنقاض ما يحدث في قطاع غزة؟

لا شك في أن أحداث إسرائيل وغزة في عامي 2023 و2024 بالغة الأهمية، وقد سببت صدمة من أشد أنواع الصدمات، ولا أجد حدثا يوازيها في التاريخ الفلسطيني باستثناء نكبة 1948. غير أن التفكير في كيفية تأثير هذه الكارثة الإنسانية في المشهد الفكري سابق لأوانه. لكن أستطيع أن أخبرك بما يحتاج الفلسطينيون والعرب والمسلمون إلى القيام به.

يجب أن نعيد النظر في أسس معرفتنا الخاصة، وأسس السياسات والقومية الحديثة، وأسس الدولة والاقتصاد الحديثين. فكلا النموذجين الاقتصادي والسياسي الحديثين غير صحيين في الحقيقة، بل هما مجموعة من الأمراض، والقومية مرضية بقدر أي من هذين.

يقول الكثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي إن مقاومة أهل غزة ستصبح حالة تدرس في كتب الحروب المدنية، وما شابه هذا. غير أن تركيزنا لا ينبغي أن يصب في هذا المصب، بل ينبغي أن ندرس طوفان الأقصى ونتائجه من منظور معرفي وأخلاقي. يجب أن ينظر إلى كفاح الفلسطينيين من أجل العدالة على أنه تعزيز شامل للعدالة التامة، أي للبشر وغيرهم.

لقد جلبت الحداثة الغربية للعالم أسلوبًا جديدًا للحياة هدف في الأصل إلى تحسين الظروف الإنسانية، غير أننا نعلم جيدا الآن، بعد ثلاثة قرون من التجارب، أنه هذا الأسلوب أصابنا بالفشل الذريع. بل كان هذا المشروع مصدر الدمار ووسيلته، دمار البيئة والنسيج المجتمعي والعائلة، وفي الآونة الأخيرة، دمار الروح، وتفكك الفرد نفسيا، وتفريغ الذات.

وفي الأحداث التي شهدناها في القرون الثلاثة الأخيرة الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع. وترتبط هذه الخصائص كلها ارتباطًا وثيقًا، بل هي في الواقع نتيجة اقتصادنا وسياساتنا، وهي نتيجة أساليب عنف الدولة أيضًا، إلى جانب الكثير من العوامل الأخرى.

ينبغي أن نبدأ التفكير في هذه المسائل كلها معًا باعتبار أنها مترابطة بنيويًا، ففلسطين جوهريًا مشكلة معرفة، وعلى هذا النحو، هي مشكلة أخلاقية، وليست مشكلة سياسية وعسكرية فقط. ولن نستطيع فهم المشكلة السياسية إطلاقًا، إلا إذا فهمناها في هذا الإطار. ففي التجربة الفلسطينية للحياة والموت تكمن خلاصة المشكلة العالمية للأخلاق والمعرفة.

_____________________

المصدر: الجزيرة نت، 17 يناير 2024، https://2u.pw/VDdoo0n

بداية أوضح أمرًا مهمًا، لست هنا اليوم لأسرد ما يقوله القانون الدولي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة وإنما ما سأقوله لا يعدو كونه رءوس أقلام كل منها موضوع بذاته يحتاج إلى محاضرات، وإنما نحن بصدد إجلاء بعض ما قد يكون غامضًا من مداخل القانون الدولي بشأن أزمة العدوان على غزة.

وعلى قدر ما كانت سعادة الإنسان بالغة بهذا التقدم التكنولوجي والمعلوماتي على قدر ما أصابته خيبة أمل من هذا الذي وجدناه على شاشات بعض الفضائيات من تشويه للحقائق من غير متخصصين يقولون بما لا يعرفون ويهرفون بما لا يفهمون، وأنا في هذا لا ألومهم، ولكني ألوم من أتى بهم.

كثر الكلام عن الأبعاد القانونية للعدوان على غزة، فهناك من قالوا إن إسرائيل بعدوانها على غزة إنما تدافع عن نفسها ضد حركات إرهابية تطلق صواريخها على المدنيين الإسرائيليين إما ترديدًا للمقولات الأمريكية، وإما قولا على غير فهم. والحقيقة القانونية هي أن مبادى الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان، وليس "دفاعًا ضد دفاع".

وإذا فرضنا جدلًا أن إسرائيل تدافع عن نفسها، فالدفاع هنا أيضا لابد أن يكون متناسبًا مع حجم العدوان، فلا يجوز أن تقول إسرائيل إن حماس قتلت خمسة عشر مدنيًا إسرائيليًا فتأتي هي وتدمر مدينة كاملة وتقتل وتجرح الآلاف، فلابد أن يكون هناك تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان.

أيضا من شروط الدفاع الشرعي أن يكون موجهًا لمصدر العدوان، فلو افترضنا جدلًا أن مطلقي الصواريخ معتدون، فهذا يعني أن توجه إسرائيل دفاعها إلى مطلقي الصواريخ وليس الشعب بمدنييه ونسائه وأطفاله.

إذا انتقلنا من هذه المقدمة وبدأنا في تحديد المعتدي والمعتدى عليه في عرف القانون الدولي سنجد ما يأتي..

إسرائيل انسحبت من قطاع غزة، وهي بذلك تزعم أنها ليست دولة احتلال، وهذا قانونا غير صحيح، فالاحتلال يعرف بأحد نوعين: إما أن تكون هناك قوات للدولة القائمة بالاحتلال بالفعل على الأرض مثلما كان الحال من قبل في قطاع غزة، أو أن تتحكم دولة الاحتلال تحكما كاملًا في الداخل والخارج من وإلى هذا الإقليم: بمعنى آخر أن تمارس هذه الدولة "حصارًا شاملًا" على الإقليم المحتل، فإسرائيل بالنسبة لنا وبعيدًا عن العواطف وبتعريف القانون الدولي دولة احتلال: لأنها تمارس حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا على قطاع غزة، وكما قال أستاذ لنا في القانون "إسرائيل تحتل قطاع غزة بالريموت كنترول".

فإسرائيل بهذا "دولة احتلال" والاحتلال بمعنييه بعد عدوانًا مستمرًا بإجماع من فقهاء القانون الدولي، وإذا كان العدوان كعدوان مبررًا لدفاع، فمن باب أولى العدوان المستمر، فإذا كنا هنا بصدد عدوان مستمر تمارسه إسرائيل على قطاع غزة، إذن فمن حق الشعب الفلسطيني في غزة وبموجب القانون الدولي الدفاع عن نفسه، ومن وسائل الدفاع: الدفاع بالسلاح. فما من منظمة دولية واحدة بدءًا بالأمم المتحدة مرورًا بكل المنظمات الإقليمية المعنية إلا وقد أقرت الحق لكل حركات التحرر والمقاومة الشعبية بحمل السلاح، كما أن هذه المنظمات منحت حركات التحرر الوطني الحق في الحصول على الدعم والتأييد من الدول الأعضاء في هذه المنظمات فالأمم المتحدة عبر جمعيتها العمومية ومجلس أمنها وبنصوص صريحة قد أوجبت على الدول الأعضاء فيها تقديم السلاح والدعم لحركات المقاومة، وأكثر من ذلك أنه في عام 1970 قال المندوب اليوغسلافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة "أن المقاومة بالإرهاب لیست إرهابًا".

أيضا هناك ما أقرته المحكمة الجنائية الدولية من أن إقامة مستوطنات على أراض محتلة تعد جريمة حرب وجريمة الحرب حسب القانون الدولي تبرر بداية ودون الحاجة إلى عدوان مستمر أو احتلال بالريموت كنترول تبرر، الدفاع الشرعي بالسلاح.

هذا هو القانون الدولي أما ما شاهدناه من تواطئ أمريكي وأوروبي، بالإضافة إلى حلف شمال الأطلسي في الحصار على قطاع غزة ومنع وصول السلاح لأصحاب الحق، فهذا ليس من القانون في شئ، وإنما نبحث له عن تفسير في مكان آخر.

وفي هذا السياق، وجب هنا أن نذكر أن القانون الدولي يلزم دولة الاحتلال بتقديم جميع الخدمات الواجبة للمدنيين على حكوماتهم الأصلية؛ أي أن دولة الاحتلال يجب عليها أن تقوم بما تقوم به الحكومة السوية فيما عدا الجانب العسكري، وإذا لم تلتزم دولة الاحتلال بهذا، وجب على المجتمع الدولي أن يقدم لهؤلاء، ما يقيم أودهم ويسيّر أمور حياتهم، وبالأحرى وجب هذا على المجاورين، وكل لبيب بالإشارة يفهم.

إذا اكتفينا من الغنيمة بالإياب وانتقلنا إلى قرار مجلس الأمن 186 سنجد أن معظم من تحدثوا عما إذا كان ملزمًا أم غير ملزم وهل ينتمي إلى الفصل السادس أم السابع، وتناسي الجميع أن القرار لا يحتوي على آليات تنفيذه. فإذا لم يكن مشتملًا  على آليات تنفيذه فلا قيمة له سواء كان منتميًا إلي الفصل السادس أو السابع.

والدليل على هذا أن إسرائيل ضربت به عُرض الحائط، ولم تلتزم به حتى من قبيل تجميل الوجه، ثم إن توقيت القرار يعد كارثة، حيث وجدنا مجلس الأمن ينتظر ما يقرب أسبوعين من اندلاع الحرب، مع أنه وبموجب القانون يكون المجلس في حالة انعقاد دائم إذا وجدت مشكلة تهدد السلم والأمن الدوليين، لكن فيما يبدو أن القائمين على مجلس الأمن لم يروا فيما يحدث في قطاع غزة ما يهدد السلم والأمن الدولين فانتظروا أسبوعين حتي اجتمعوا فوجدنا الجبل يتمخض عن فأر بهذا القرار الذي أصدره مجلس الأمن.

الحقيقة القانونية هي أن مبادئ الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان وليس دفاعا ضد دفاع

وهنا تبرز إشكالية أن القانون هو سلاح الضعفاء، لكن سلاح الضعفاء إذا لم يكن قويًا ومشحوذًا فلا قيمة له، وقديمًا قال فقهاء القانون الروماني "إن القوة تخلق الحق وتحميه". ونحن لم نصل معهم إلى تلك الدرجة، فالقوة هنا لم تخلق الحق لكنها بالضرورة حامية له؛ بدليل أن قضية كالعدوان على غرة على ما فيها من وضوح من عدوان على شعب أعزل لم ير فيها المجتمع الدولي خطرًا يوجب انعقاد مجلس الأمن وحينما أراد وفاق من سباته واتخذ قرارًا اتخذه على نحو مانع، فلم يجعل له آلية لتنفيذه.

إذن،  كيف نتعامل من الناحية القانونية مع ما حدث؟

 أمامنا أحد بدائل عدة:

البديل الأول: وهم الذي كثر الحديث عنه بغير علم، هو أن نذهب إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهذا غير ممكن؛ لأن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في الجرائم التي ارتكبت على أراضي الدول الأعضاء في النظام الأساسي وليست أي من الدول العربية عضوًا في النظام الأساسي فيما عدا الأردن وجزر القمر ومصر وقعت فقط لكنه لم يتم التصديق عليها، فهذا بديل برأيي غير ممكن لأن العدوان لم يقع على أراضي الأردن أو جزر القمر.

البديل الثاني: أن يكون القائمون بهذا الانتهاك والعدوان أطرافًا في النظام الأساسي للمحكمة الدولية، وإسرائيل ليست طرفًا في النظام الأساسي للمحكمة.

البديل الثالث: وهذا خاضع لتقدير مجلس الأمن، حيث إن مجلس الأمن إذا رأي أن ما يحدث في إقليم دولة ليست طرفًا في النظام الأساسي بهدد الأمن والسلم الدوليين فمن حقه هنا أن يحيل الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية لتتدارسه، كما هو الحال حاليا مع الرئيس السوداني البشير.

البديل الأخير: وفي تقديري هو الحل الأيسر والمتاح، وهو أن نلجأ مباشرة إلى محاكم الدول التي تقبل الاختصاص العالمي فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وهناك العديد من الدول التي يسمح قانونها الداخلي بالنظر في جرائم

ارتكبت خارج حدود أراضيها، بشرط أن تكون من قبيل جرائم الحرب والإبادة الجماعية وحقوق الإنسان، وهذه الدول كثيرة، منها: فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.

وهذه أسهل البدائل وإن شابها بعض صعوبة ستكون في طول الإجراءات والتكلفة المادية العالية، لكنه وفي ظل التعدد الشديد في منظمات المجتمع المدني والثروات العربية يبدو هذا ممكنا.

وما أحب أن أطمئنكم بشأنه هو أنه من الممكن ألا يري جيلنا وجيل أساتذتي هذا الحلم يتحقق لكن الجيل الحالي

يمكنه أن يرى ذلك.

ومن المفيد جدا هنا أن ندرك أن القضايا الخاصة بالانتهاكات الإنسانية "لا تسقط بالتقادم"؛ بمعني أنه ما حيينا وما حيوا سيظلون دومًا في تهديد إمكانية أن نحاصرهم بالقانون، طالما نحن غير قادرين على المحاصرة بغيره.

______________________________________

المصدر: حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 9، 2009، ص: 65- 67. يمكن تنزيل نسخة (pdf) من المقال عبر هذا الرابط: https://2u.pw/pVkaFRk.

Post Gallery

الاجتهاد والإرشاد والاتحاد في فكر الشيخ محمد رشيد رضا وحركته الإصلاحية (1-2)*

الجمعية الدولية لعلماء الإبادة: سياسات إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية

أثر الفقه الإسلامي في القانون المدني الفرنسي*

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة: جهود لجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري

المجاعة في غزة… إعلان أممي قد يجرّ قادة الاحتلال إلى المحاكمة

المرأة والتطور السياسي في الوطن العربي بين الواقع الحاضر وآفاق المستقبل*

حالة الاستثناء: الإنسان الحرام

خمسون مفكرًا أساسيًا معاصرًا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة*

الفقه الإسلامي: المصدر الرئيسي للتشريع*