أولًا: ميلاده
ولد الشيخ الزرقا في مدينة حلب الشهباء سنة (1325هـ - 1907م).وقد نشأ في بيئة إسلامية، وأسرة عُرِفت بالعلم والصلاح، وقد أسس دعائم العلم فيها جده الكبير محمد الزرقا، وورثه ابنه والد شيخنا العلامة أحمد الزرقا، وتسلسل العلم في الأسرة المباركة حتى وصلت الراية إلى صاحب الترجمة، ولم تتوقف عنده بعد وفاته، فقد حملها عنه ابنه الأستاذ الدكتور أنس الزرقا من علماء الفقه والمتخصص في الدراسات الاقتصادية الإسلامية.
ثانيًا: مؤهلاته
في سوريا تخرج في:
- معهد الحقوق العربي (كلية الحقوق).
- مدرسة الآداب العليا (كلية الآداب).
وتخرَّج في هاتين الكليتين سنة (1933م) وحصل على المرتبة الأولى في كلا التخصصين.
ثم سافر إلى القاهرة والتحق بكلية الحقوق، وحصل على الدبلوم العالي في الشريعة (1947م).
ثالثًا: الأعمال التي تولاها
- اشتغل بالمحاماة لمدة عشر سنين بعد تخرجه في كلية الحقوق أمام المحاكم الوطنية والمختلطة الفرنسية بحلب.
- عُيِّن أستاذًا للحقوق المدنية والشريعة في كلية الحقوق بالجامعة السورية سنة ١٩٤٤م، وبقي فيها أستاذًا للقانون المدني، ورئيسًا لقسمه، وأستاذًا للشريعة الإسلامية إلى حين بلوغه سن التقاعد في آخر عام ١٩٦٦م.
- اختارته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت سنة (١٩٦٦م) خبيرًا للموسوعة الفقهية، التي قامت الوزارة المذكورة بتنفيذ مشروعها، واستعارته لهذه الغاية من جامعة دمشق، وبقي في الكويت خمس سنوات قائمًا بهذه المهمة، حيث أنجز من مشروع الموسوعة الفقهية مقدارًا، ومعجمًا للفقه الحنبلي يقع في (١١٤٢) صفحة، مرتبًا هجائيًّا، إلى أن توقفت الوزارة في الكويت عن مشروع الموسوعة قبل أن تكملها وتصدرها فيما بعد لتكون مرجعًا لكل دارس للفقه الإسلامي أو مهتم به.
- دعته الجامعة الأردنية للتدريس في كلية الشريعة، وذلك في عام ١٩٧١م، وظل هناك حتى عام (١٩٨9م) قائمًا بتدريس مادة المدخل الفقهي العام، ومدخل العلوم القانونية، وقواعد القانون المدني الوضعي.
- شارك في وضع مشروع القانون المدني الأردني الجديد، المستمد من الفقه الإسلامي بصورة أساسية.
- اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة عضوًا في المجمع الفقهي منذ إنشائه عام (١٣٩٨هـ - ١٩٧٨م)، وقدم للمجمع عدة دراسات فقهية لمواضيع معاصرة.
- اختارته إدارة التشريع والبحوث -في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية- عضوًا خبيرًا في لجنة الخبراء، الذين اختارتهم لوضع مشروع قانون مدني موحد للبلاد العربية، مستمد من الفقه الإسلامي ووافٍ بالحاجات الزمنية الحديثة، وذلك منذ عام ١٩٧٨م، ولا تزال اللجنة تواصل عملها.
- كان أحد أعضاء هيئة التدريس بمعهد الدراسات العربية العليا، قسم الدراسات القانونية، بجانب فقهاء كبار وأجلاء، مثل عبد الرزاق السنهوري ومحمد يوسف موسى، وعبد الوهاب خلاف.
- كان عضو اللجنة الرسمية التي وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري عام (١٣٧٢هـ - ١٩٥٢م).
- ساهم في تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق، ووضع مناهجها عام (١٣٧٣هـ - ١٩٥٤م)، وكان فيها العديد من جوانب التجديد في تدريس الشريعة الإسلامية.
رابعًا: مشروعه الفكري ومنهجه
اهتم الأستاذ الزرقا بالعديد من المجالات التي تخص حاضر الفقه الإسلامي ومستقبله، ومنها:
- تقريب صياغته حين كتب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، وأشار إلى ضرورة تعديل صياغة الفقه الإسلامي بما يتناسب مع ذوق العصر.
- التأصيل للنظريات الكبرى التي تحكم الفكر الفقهي، فقد كتب العديد من النظريات التي أصبحت مرجعًا هامًّا للباحثين والمقارنين على المستوى القانوني والفقهي مثل: نظرية الأهلية، والعرف، والفساد، والالتزام، كما اجتهد في بيان النظريات الفقهية التي تساعد في تطوير القوانين العربية مثل: نظرية التعسف في استعمال الحق.
- العمل على مراجعة القوانين وإحلال الفكر الفقهي مكانها، ويظهر ذلك جليًّا في تعليقه على القانون المدني السوري، فلا يكاد يترك مادة إلا وبيَّن موقف الفقه الإسلامي منها، ومن ينظر إلى حواشي كتبه الحديثة يجدها كثيرة الإشارة إلى هذا الأمر.
- الاهتمام بوضع موسوعات للفقه الإسلامي؛ لتيسير مراجعة أحكامه كفكرة الموسوعة الكويتية الذي كان واحدًا من مؤسسيها.
- اعتنى بالمعاملات الحديثة وخاصة الأعمال المصرفية، واجتهد بصورة قوية في تأصيل المصارف التي تتوافق مع تصور الفقه الإسلامي، فقد كتب بحثًا في تطوير العمل المصرفي في البنوك، كما أشرف على عدد من البنوك التي حاولت تبني المنهج الإسلامي في تعاملاتها.
- أما عن منهج الزرقا المقارن فيمكن أن نتلمسه من خلال الآتي:
أولًا: يهدف إلى تطوير الفقه الإسلامي، لكنه يرى أن التطوير لا يتعدى حدود الصياغة، ولا يحتاج سوى عملية تنظيمية لأحكامه، يقول الزرقا: "فهدفي أن أقلب صياغة الفقه الإسلامي، فأبني من قواعده ومبادئه نظرية عامة على غرار نظرية الالتزام العامة في الفقه القانوني الأجنبي الحديث؛ خدمة لفقهنا الجليل كي يتجلى ما فيه من جوهر نفيس كان محجوبًا بالأسلوب القديم الذي أصبح عسير الهضم على رجال العصر وفاء للحاجة إلى الطريقة التعليمية الحكيمة في الدراسة الجامعية لهذا العلم، أما الأحكام فقد أغنى التشريع الإسلامي عن كل اقتباس فيها عن أمة أخرى وتشريع غريب بما في الفقه الإسلامي الواسع الأفق من القواعد العامة المتنوعة، والأسس الثابتة التي رسخت فيها فكرة إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، ودرء المفاسد وجلب المصالح، واحترام الإرادات والعقود، ومنع الإكراه وإسقاط ما يترتب عليه، وإزالة الضرر واعتبار الضرورات، ومسؤولية التسبب، وتنويع وتوزيع الضمانات بعدل متوازن، واعتبار العرف والعادات في العقود والأعمال والالتزامات، إلى غير ذلك من المبادئ الأساسية الكثيرة المغنية في التشريع الإسلامي وفقهه".
ثانيًا: يعتمد الزرقا في عملية المقارنة على المذهب الحنفي، ويتطرق أحيانًا للمذاهب الأخرى حين لا يجد حلًّا، يقول الزرقا: "وقد اتخذت من المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي أساسًا للبحث لأنه المعمول به في القضاء مع الإلمام بالمذاهب الأخرى في بعض المواطن بحسب حاجة البحث".
ثالثًا: اهتم الزرقا في مقارناته بالجانب النقدي في إظهار مدى تفوق الفقه الإسلامي على غيره، ولنا أن نفسر هذا التركيز على نقد القانون الفرنسي أو المصري ذي المرجعية الفرنسية بالظروف المحيطة به، حيث لم يكن الدافع للمقارنة -في المقام الأول- هو الإفادة منها، بل كان الدافع هو رد حالة العدوان التشريعي التي استباحت سوريا في عصره، ولا أدل على ذلك من مقدمته، فقد وضح أنه يحلم بأن يكون هناك قانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي، وكتب بحثًا توجيهيًّا بعنوان (قانوننا المدني المنتظر وفضل بنائه من الفقه الإسلامي)، لكن الزرقا -وهو في طريقه إلى هذا العمل- فوجئ بإصدار القانون المدني السوري في عهده عام 1949م، وكان صدور هذا القانون بمساعي السيد أسعد الكوراني، الذي أقنع سيده الذي تولى السلطتين التشريعية والتنفيذية بأن قانونًا مدنيًّا أجنبيًّا بدلًا من التشريع الإسلامي في هذه البلاد هو خير وسيلة لخلود الذكر وعظيم المكانة في نظر الأجانب، وأوهمه أن هذا العمل يجعله كنابليون الذي كان القانون المدني الفرنسي أكثر تخليدًا له من فتوحاته! وقد وجدوا أن القانون المدني المصري الجديد يحقق هذا الغرض؛ لأنه أجنبي أوروبي المصادر، فأصدروه بين عشية وضحاها بجرة قلم، وهدموا بها أعظم صرح فقهي في العالم، وأقاموا بها قانونًا لا مرجع فيه لقاضٍ أو محامٍ أو دارس إلا أصوله واصطلاحاته الأجنبية.
وقد رأى الزرقا أن خير عمل يقوم به بعد هذه الجناية التي جنتها على مجد العروبة الفقهي أيدي شعوبية أثيمة -هو أن يتابع صياغة هذه السلسلة الفقهية الجديدة بتبسيط وإحكام؛ كي يعرف الجيل العربي الحقوقي الجديد ما أفاد وما ضاع، فيفتح له طريق الرجوع بعد أن يملك من المعرفة ما يحكم به على تلك الجناية وجناتها، واستعان الزرقا -في سبيل تحقيق هذا الغرض من المقارنة- بكل الكتب التي تقوم بنقد القانون المصري، ومنها كتاب: نقد مشروع القانون المدني الجديد، وطلب استمداده من فقه الشريعة الإسلامية بمذاهبه المختلفة مع نموذج لكتاب العقد من القانون مستمدًّا من الفقه الإسلامي قام بوضعه جماعة من علماء القانون والشريعة الإسلامية كلية الحقوق بجامعة القاهرة.
والزرقا لا يقف عند مرحلة النقد فقط، بل يرمي إلى أبعد من ذلك حين يقرر أن الفقه الإسلامي أمد الفكر القانوني بالعديد من المصطلحات، "ففي الاصطلاح القانوني الشائع اليوم في عصرنا يسمى انسحاب الأحكام على الماضي (أثرًا رجعيًّا)، ويستعمل هذا التعبير في رجعية أحكام القوانين نفسها كما في آثار العقود على السواء، فيقال: هذا القانون له أثر رجعي، وذاك ليس له، كما يقال: إن بيع ملك الغير بدون إذنه إذا أجازه المالك يكون لإجازته أثر رجعي، فيعتبر حكم العقد ساريًا منذ انعقاده لا منذ إجارته، وليس في القانون اسم لعدم الأثر الرجعي. أما الفقه الإسلامي الغني بلغته ومصطلحاته التي تتجلى فيها عبقرية فقهائه خلال العصور، فيسمي عدم "رجعية الآثار" اقتصارًا "بمعنى أن الحكم يثبت مقتصرًا على الحال لا منسحبًا على الماضي، ويسمي رجعية الأثر (استنادًا) وهو اصطلاح المذهب الحنفي، ويسميه المالكية: "انعطافًا"، وقانوننا المدني الجديد قد اقتبس هذا الاصطلاح من الفقه الإسلامي، فاستعملوا فيه لفظ الاستناد بمعنى الأثر الرجعي".
خامسًا: من مؤلفاته
(أ) الفقه وأصوله.
- المدخل الفقهي العام.
- المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي.
- العقود المسمَّاة في الفقه الإسلامي: عقد البيع.
- وهذه الكتب الثلاثة صدرت تحت شعار الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد.
- أحكام الأوقاف (الجزء الأول).
- نظام التأمين: حقيقته، والرأي الشرعي فيه.
- الفقه الإسلامي ومدارسه.
- أحكام الزواج والأحوال المتفرِّعة عنه في سورية.
- عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.
- الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها.
- الشمس الجلية في الرد على من أفتى ببطلان أوقاف الذرية.
- فتاوى مصطفى الزرقا.
- قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي.
(ب) في القانون والصياغة التشريعية.
- الفعل الضار والضمان فيه.
- مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد في عهد الوحدة.
- صياغة قانونية لنظرية التعسف باستعمال الحق في القانون الإسلامي.
- شرح القانون المدني السوري: نظرية الالتزام العامة، المصادر: نظرية العقد والإرادة المنفردة.
سادسًا: وفاته
بعد حياة قاربت على المائة من الجهد والاجتهاد والعطاء المتميز توفى شيخنا -رحمه الله- في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وذلك عصر يوم السبت 19/3/1420هـ الموافق 3/7/1999م.
المراجع:
- علماء ومفكرون عرفتهم، محمد المجذوب، دار الشروق، مصر، الطبعة الرابعة، 2001م.
- فتاوى مصطفى الزرقا، مجد مكى، دار القلم بدمشق، سنة (1999م).
- صياغة قانونية لنظرية التعسف باستعمال الحق في القانون الإسلامي، مصطفى الزرقا، ط. دار البشير بعمَّان، سنة (1983م).
- وجوب تطبيق الشريعة والشبهات التي تثار حول تطبيقها، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام سعود بالرياض، مطبوعات إدارة النشر والثقافة بجامعة محمد بن سعود، الرياض، (1401/1981م)، وقد شارك الرزقا ببحث قيم في هذا المؤتمر.
- المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 142هـ/2004م.
- المصارف: معاملاتها وودائعها وفوائدها، ط. جدة، سنة (1984م)، وقرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي، ط. الرياض، سنة (1998م)، وكان الشيخ الزرقا عضوًا في الهيئة التي أصدرت القرارات.