في تقريرٍ جديد مثيرٍ للجدل، قدّمته المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانسيسكا ألبانييز إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 2 يوليو 2025، تحت عنوان «From Economy of Occupation to Economy of Genocide» (من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة)، جرى توثيق التحوّل الخطير الذي شهده الاقتصاد الإسرائيلي من اقتصادٍ قائمٍ على الاحتلال والاستغلال إلى اقتصادٍ يُغذّي بصورة مباشرة ما وصفه التقرير بـ«جرائم إبادة» ضدّ الشعب الفلسطيني، خصوصًا في قطاع غزة بعد أكتوبر 2023م.
من الاحتلال إلى الإبادة: بنية اقتصادية تمكّن العنف:
يؤكد التقرير أن الاحتلال الإسرائيلي، الممتد منذ عام 1967، لم يكن مجرد مشروع سياسي أو عسكري، بل كان في جوهره نظامًا اقتصاديًا استعماريًا هدفه السيطرة على الموارد الفلسطينية واستغلالها، ثم تحويلها إلى مصدر ربحٍ للشركات الداعمة لهذا النظام. لكن مع تصاعد الحرب على غزة بعد أكتوبر 2023، يرى التقرير أن هذا الاقتصاد انتقل إلى مرحلةٍ جديدة هي «الاقتصاد الإبادي» الذي يشارك -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- في تمويل وتيسير أعمالٍ وصفتها المقررة بأنها جرائم جسيمة وفق القانون الدولي الإنساني، تشمل القتل الجماعي والتدمير الممنهج للبنية التحتية والتهجير القسري.
نطاق التحقيق وحجمه:
اعتمد التقرير على قاعدة بيانات موسّعة تضمّ نحو 1000 كيانٍ تجاري جُمعت معلوماتها من أكثر من 200 مساهمة واستطلاع، وأُخطرت 45 جهةٍ تجارية رسميًا بالنتائج الأولية، تلقّت منها المقررة 18 ردًّا فقط. هذا الجهد الاستقصائي غير المسبوق سمح برسم صورةٍ دقيقة لشبكة المصالح التي تربط بين الحكومة الإسرائيلية ومجموعةٍ واسعة من الشركات المحلية والدولية التي تدعم الاحتلال بصورة مباشرة أو عبر سلاسل الإمداد.
الشركات المتورطة وقطاعات النشاط:
يُبرز التقرير مسؤولية شركاتٍ ومؤسساتٍ من سبعة قطاعات رئيسية، هي:
- صناعة الأسلحة والدفاع التي تزود الجيش الإسرائيلي بتقنياتٍ وتجهيزاتٍ تُستخدم في العمليات ضد المدنيين.
- التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية التي تمكّن أنظمة المراقبة والتعقب الرقمي للفلسطينيين.
- قطاع النقل والشحن الذي يسهل نقل الجنود والمعدات إلى الأراضي المحتلة.
- قطاع البناء والإنشاءات الذي يشارك في توسعة المستوطنات وبناء الجدار العازل.
- المصارف وصناديق الاستثمار والتأمين التي تموّل المشاريع الاستيطانية أو تغطي مخاطرها.
- الجامعات ومراكز البحث التي تطوّر أبحاثًا وتقنيات عسكرية تُختبر على الفلسطينيين.
- سلاسل التجزئة والزراعة التي تستغل الأراضي المحتلة لتسويق منتجات تحت علامة «صنع في إسرائيل».
وترى المقررة أن هذه المنظومة تمثل «اقتصادًا مُمكّنًا للإبادة» لأنها تُمدّ آلة الاحتلال بالتمويل والشرعية التقنية والقانونية والبحثية.
المسؤولية القانونية والدعوة إلى المساءلة:
استند التقرير إلى مبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، ولا سيّما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ليؤكد أن استمرار الشركات والمؤسسات في دعم الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يرقى إلى «مساهمة متعمدة في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة». ولهذا دعا التقرير الدول الأطراف في الاتفاقيات الدولية إلى اتخاذ إجراءاتٍ عملية، تشمل:
- فرض عقوبات اقتصادية على الكيانات المتورطة.
- تجميد الأصول ووقف تصدير الأسلحة والمعدات ذات الاستخدام المزدوج.
- التحقيق القضائي مع المسؤولين التنفيذيين في الشركات التي يثبت تورطها.
- إلزام الدول والشركات بتعويض الضحايا الفلسطينيين عن الأضرار المباشرة وغير المباشرة.
كما شددت المقررة على أن الحياد الاقتصادي غير ممكن في سياق الإبادة، وأن الصمت المؤسسي أو التواطؤ المالي يمثل مشاركةً فعلية في الانتهاكات.
السياق الأكاديمي والأهمية البحثية:
يُعدّ هذا التقرير وثيقةً مرجعية في فهم التداخل بين الاقتصاد السياسي والعدالة الدولية، إذ يربط لأول مرة بين البنية الرأسمالية العالمية وسياسات الاحتلال العسكري في فلسطين. ويفتح أمام الباحثين القانونيين والاقتصاديين والحقوقيين آفاقًا لدراسة المسؤولية المشتركة للشركات في النزاعات المسلحة، كما يوفّر مادة تحليلية يمكن البناء عليها في تطوير مبادئ قانونية جديدة حول "اقتصاد الإبادة".
دعوة إلى الفعل والمقاطعة المسؤولة:
يختم التقرير بدعوةٍ موجهةٍ إلى الدول والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني إلى مراجعة علاقاتهم التجارية والعلمية مع الكيانات المتورطة، والانخراط في مبادرات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، بوصفها أدواتٍ سلمية لمساءلة الاقتصاد الاستعماري ومناهضة الإبادة.
يمثل تقرير «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة» لحظةً فارقة في الخطاب الأممي، إذ يتجاوز توصيف الانتهاكات إلى تحليل جذورها الاقتصادية وشبكات تمويلها. فهو لا يكتفي بتجريم الأفعال العسكرية، بل يوسّع دائرة المسؤولية لتشمل الشركات والمستثمرين والمراكز البحثية التي توفر الغطاء المادي والمعرفي للعدوان.
ويضع التقرير العالم أمام سؤالٍ أخلاقي وقانوني حاد:
هل يمكن الاستمرار في التعامل مع اقتصادٍ يُنتج الإبادة وكأنه جزءٌ من الاقتصاد العالمي الطبيعي؟
تحميل ملف التقرير باللغة الإنجليزية
__________
المصدر:
تقرير المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة: From Economy of Occupation to Economy of Genocide، مجلس حقوق الإنسان – الأمم المتحدة، الوثيقة رقم (A/HRC/59/23)، 2 يوليو 2025.