أعدت هذه الدارسة بتكليف من لجنة الجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، كما قام بالبحث والصياغة بدقة المركز الأيرلندي لحقوق الإنسان التابع لجامعة أيرلندا الوطنية غالواي، وأنشئت هذه اللجنة عام 1975 عملًا بقرار الجمعية العامة رقم (3376). وطلبت الجمعية العامة أن توصي اللجنة بوضع برنامج تنفيذي من أجل تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف المتمثلة في تقرير المصير دون تدخل خارجي، وفي الاستقلال والسيادة الوطنيين؛ وفي العودة إلى دياره وممتلكاته التي شُرِّد منها.

مقدمة:

يُعدّ الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967 الحقيقة الوحيدة التي نشأت عليها أجيال من الفلسطينيين. ولا يزال لهذا الوضع آثار بعيدة المدى على حياة الشعب الفلسطيني وحقوقه. ويتعين علينا، كمجتمع دولي، أن نعمل على تعميق فهمنا للمسائل القانونية التي يثيرها هذا الاحتلال الذي طال أمده وتأثيره العميق على حقوق الإنسان والسلام والاستقرار في المنطقة.

وإزاء هذه الخلفية، فإن الدراسة حول شرعية الاحتلال الإسرائيلي تسُدُّ ثغرة معرفية بالغة الأهمية. يطمح هذا التحليل القانوني الشامل إلى المساهمة في خطاب مستنير، وتمكين الأفراد والمؤسسات بتزويدهم بالمعرفة والأدوات للدفاع عن العدالة والمساءلة وإعمال الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. ومن خلال دراسة الصكوك والاتفاقيات والقرارات القانونية الدولية ذات الصلة، توفر الدراسة أيضًا تقييمًا شاملًا للالتزامات والمسؤوليات القانونية الملقاة على عاتق قوة الاحتلال والأطراف المعنية.

وتؤكد هذه الدراسة أيضا الحاجة الملحة إلى التوصل إلى حل عادل ودائم يستند إلى القانون الدولي لقضية فلسطين بجميع جوانبها. كما تسلط الضوء على ضرورة التمسك بمبادئ القانون الدولي، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان وتقرير المصير وحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وهذا الفهم أمر بالغ الأهمية لتهيئة بيئة مواتية تمهد الطريق لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإعمال حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال طبيعة هذه الدراسة التي جاءت في حينها في وقت تعمل فيه إسرائيل على تعميق استعمارها وضمها الزاحف للأرض الفلسطينية المحتلة. وفي مشهد عالمي سريع التغير حيث تستمر الديناميات الجيوسياسية في صياغة مضمون النقاش حول قضية فلسطين، توفر الدراسة إطارًا مرجعيًا لصانعي السياسات والدبلوماسيين والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني بشأن تحليل قانوني شامل وموثوق يمكّن من اتخاذ قرارات مستنيرة والدعوة والسعي لتحقيق العدالة.

تناول هذه الدراسة سؤالين مركزيين:

أولًا، تتساءل الدراسة عما إذا كانت إجراءات الضم بحكم الواقع وبحكم القانون المتخذة من قبل إسرائيل، والاستيطان المستمر والاحتلال طويل الأمد للأرض الفلسطينية –الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة – تجعل الاحتلال غير شرعي بموجب القانون الدولي. ثانيًا، تبحث الدراسة في السؤال الذي تطرحه الآثار المترتبة على ثبوت احتلال غير مشروع. إذا كان من الممكن أن يصبح الاحتلال غير شرعي، فما هي العواقب القانونية التي ستلحق بجميع الدول وبالأمم المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار، من بين أمور أخرى، قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ميثاق الأمم المتحدة؛ اتفاقية جنيف الرابعة؛ القانون الدولي لحقوق الإنسان؛ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة؛ فتوى محكمة العدل الدولية الصادر في 9 يوليو 2004؟

تثبت الدراسة أن هناك سببين واضحين في القانون الدولي يحددان متى يمكن تصنيف الاحتلال الحربي على أنه غير شرعي:

أولًا، عندما ينجم الاحتلال الحربي عن استخدام محظور للقوة يرقى إلى مستوى العمل العدواني، فإن هذا الاحتلال يعتبر غير شرعي منذ بدايته. ثانيًا، عندما يكون الاحتلال الحربي ناتجًا عن استخدام مسموح به للقوة دفاعًا عن النفس بموجب المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن يتم تنفيذه بعد ذلك بشكل يتجاوز مبادئ وقواعد القانون الإنساني الدولي وينتهك القواعد القطعية للقانون الدولي، فإن سلوك الاحتلال قد يرقى إلى مستوى الاستخدام غير الضروري وغير المتناسب للقوة دفاعًا عن النفس.

وتبحث الدراسة في انتهاكات إسرائيل لقواعد القانون الدولي القطعية، وحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، والحق في تقرير المصير، وحظر التمييز العنصري والفصل العنصري، باعتبارهما مؤشرًا على أن إدارة الاحتلال تنتهك مبادئ ضرورة وتناسب استخدام القوة في الدفاع عن النفس.

طبيعة الاحتلال الحربي:

تناولت الدارسة في هذا الجزء مقدمة موضوعية للطبيعة القانونية للاحتلال الحربي والنهج المتباين الذي تتبعه إسرائيل تجاه احتلال فلسطين. وإذ يقوم بذلك، فإنه يدرس على نطاق واسع المبادئ التي تقوم عليها القوانين التي تحكم الاحتلال الحربي، ويعرض نظرية الاحتلال الحربي على أنه غير شرعي بموجب قانون الحرب، كما يسلط الضوء على الممارسات الدولية والاجتهاد القضائي الذي يصنّف الاحتلال الحربي على أنه غير شرعي بموجب قانون مسوِّغات الحرب. علاوة على ذلك، تعرض الدراسة المبادئ الأساسية لسياسات ومواقف إسرائيل الرسمية بشأن طبيعة الاحتلال الحربي لفلسطين، ومشروعها الاستيطاني، وضمها للأرض الفلسطينية.

ترسي القوانين التي تحكم الاحتلال الحربي عددًا من المبادئ المهمة، بما في ذلك طابع الاحتلال، مؤقتًا كان أو فعليًا بحكم الأمر الواقع، كما ورد في المادة 42 من لوائح لاهاي (1907) التي تنص على أن “الأرض تُعتبَر محتلة عندما توضع فعليًا تحت سلطة الجيش المعادي”. وبالتالي، على الرغم من أن السلطة الحكومية قد تكون “معطلة مؤقتًا أو مقيدة إقليميًا” أثناء الاحتلال الحربي، فإن “الدولة تظل نفس الشخص الدولي”. ومن ثم، فإن قوة الاحتلال لا تكتسب السيادة على الأراضي المحتلة، بل إنها ملزمة بإدارة الأراضي مع الموازنة بين المصالح الفضلى للسكان الخاضعين للاحتلال ومصالح الضرورة العسكرية، بموجب مبدأ المحافظة الذي يفرض قيودًا. ومن الجدير بالذكر أن هذه الدراسة تسلط الضوء على مواقف السلطات الرائدة في القانون الدولي التي تعتبر أن ممارسة “الاحتلال المطول” ارتبطت باحتلالات لا تزيد مدتها على أربع أو خمس سنوات، مثل احتلال ألمانيا لبلجيكا لمدة أربع سنوات خلال الحرب العالمية الأولى، أو احتلال ألمانيا للنرويج لمدة خمس سنوات خلال الحرب العالمية الثانية. ويشير المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة مايكل لينك إلى أن الاحتلالات الحديثة المتوافقة مع مبادئ قانون الاحتلال لم تتجاوز 10 سنوات، بما في ذلك الاحتلال الأمريكي لليابان، واحتلال الحلفاء لألمانيا الغربية، واحتلال العراق الذي قادته أمريكا.

وأن اعتبار الاحتلال الحربي غير شرعي لا يقتصر على إسرائيل. على سبيل المثال، رأت محكمة العدل الدولية في القضية المتعلقة بالأنشطة المسلحة على أراضي الكونغو (2005)، أن احتلال أوغندا لإيتوري “ينتهك مبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية ومبدأ عدم التدخل”. وفي الوقت نفسه، أدان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “الاحتلال العراقي غير الشرعي” للكويت، و”الإدارة غير المشروعة” لجنوب أفريقيا في ناميبيا. وفي غضون ذلك، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الثالثة إلى “عدم الاعتراف بشرعية الوضع الناتج عن احتلال أراضي جمهورية أذربيجان” وأدانت البرتغال “لإدامة احتلالها غير الشرعي” لغينيا بيساو. وعلى نحو مماثل، أدانت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان "استمرار احتلال فيتنام غير الشرعي لكمبوتشيا". وفي عام 1977، أعربت الجمعية العامة عن قلقها العميق “لكَون الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 لا تزال، لأكثر من عشر سنوات، تحت الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي، ولأن الشعب الفلسطيني، بعد ثلاثة عقود، لا يزال محروماً من ممارسة حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف”. وبالمثل، تشير ديباجات القرارات المتعاقبة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة إلى “التأثير الشديد للاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي المستمر بجميع مظاهره”.

وأخيرًا، يختتم هذا الجزء بعرض سياسات إسرائيل ومواقفها من طبيعة إدارتها للأرض الفلسطينية، وشرعية المستوطنات، وضمها للقدس. فعلى سبيل المثال، ترى وزارة الخارجية الإسرائيلية أن هناك “مطالبات متنافسة” على الضفة الغربية “يجب حلها في مفاوضات عملية السلام”، بما في ذلك المستوطنات.  ومع ذلك، رأت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، في قضية المجلس الإقليمي لساحل غزة ضد الكنيست الإسرائيلي، أن “النظرة القانونية لجميع الحكومات الإسرائيلية” هي أن “إسرائيل تسيطر على المناطق في إطار احتلال حربي”. ومع ذلك، فإن إسرائيل لا تطبق اتفاقية جنيف الرابعة (1949) على الأراضي المحتلة لأنها لم يتم دمجها في قانونها المحلي؛ ومن الناحية السياسية أيضًا، تعترض إسرائيل على تطبيق الاتفاقية بناءً على نظريتها حول “السيادة المفقودة”. وفي غضون ذلك، تعتبر إسرائيل القدس المحتلة “العاصمة الأبدية غير المقسمة لإسرائيل” وتوضح أن القدس “أعيد توحيدها” في عام 1967 “نتيجة لحرب الأيام الستة التي شنها العالم العربي ضد إسرائيل”.

 

شرعية الاحتلال:

في هذا الجزء قدمت الدراسة سببين منفصلين بموجب قانون مسوِّغات الحرب حيث يمكن اعتبار الاحتلال الحربي غير شرعي، سواء منذ بدايته أم بداية من مرحلة لاحقة من الاحتلال:

أولًا، الاحتلال الناشئ عن عمل عدواني يعتبر غير شرعي منذ بدايته. وتنص المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة على أن “يمتنع جميع الأعضاء في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة”.  وقد تنشأ المسؤولية الجنائية عن أعمال الاحتلال العدوانية؛ على سبيل المثال، اعتبرت المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ أن النمسا “محتلة وفق خطة عدوان مشتركة”.

ثانيًا، قد يتم تنفيذ الاحتلال الحربي بطريقة ترقى إلى استخدام غير ضروري وغير متناسب للقوة في الدفاع عن النفس. وهنا يوفر الاجتهاد القضائي لمحكمة العدل الدولية إرشادات مفيدة بشأن التناسب. على سبيل المثال، في قضية نيكاراغوا، رأت محكمة العدل الدولية أن “رد فعل الولايات المتحدة في سياق ما اعتبرته دفاعًا عن النفس، قد استمر لفترة طويلة بعد الفترة التي كان من المعقول التوخي فيها هجومًا مسلحًا مفترضًا من جانب نيكاراغوا”. علاوة على ذلك، فيما يخص مسألة الأسلحة النووية، اقترحت محكمة العدل الدولية أن استخدام القوة يجب أن يحترم “على وجه الخصوص مبادئ وقواعد القانون الإنساني” ليكون استخدامًا مشروعًا للقوة في الدفاع عن النفس. وتشير هذه الدراسة إلى أن انتهاك سلطة الاحتلال لمبادئ وقواعد القانون الإنساني الدولي والقواعد القطعية للقانون الدولي يشكل مؤشرا قويا على أن استخدام القوة غير متناسب. وتشمل هذه الانتهاكات ضم الأراضي بحكم الواقع وبحكم القانون، والاستيلاء غير المشروع على الأراضي من خلال استخدام القوة، والحرمان من حق تقرير المصير، وإدارة الأراضي المحتلة انتهاكاً لحظر التمييز العنصري والفصل العنصري.

بعد تحديد السببين للاحتلال غير الشرعي بموجب قانون مسوِّغات الحرب، تبحث الدراسة، كسبب منفصل ولاحق لعدم الشرعية، في انتهاك قوة الاحتلال لحق فلسطين الخارجي في تقرير المصير كأرض تحت الانتداب. وتنص المادة 1 (2) من ميثاق الأمم المتحدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي تفرض على الدول التزامات ذي حجية مطلقة تجاه الكافة. إن حق تقرير المصير له صدى خاص بالنسبة للأراضي الخاضعة للانتداب، التي يُنظر دولياً إلى حقها في تقرير المصير بمثابة “أمانة مقدسة” حتى الاستقلال الكامل. ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار أن العملية الاستعمارية قد انتهت تمامًا إلا بعد ممارسة سكان المستعمرة حق تقرير المصير. وتشكل الفتوى بشأن جنوب غرب أفريقيا المثال الرائد للاحتلال غير الشرعي للأراضي الخاضعة للانتداب، والذي تعتبره محكمة العدل الدولية غير شرعي منذ بدايته. ومع ذلك، في حين أن جنوب غرب أفريقيا كان منطقة تحت الانتداب، وبقيت تحت الاحتلال بعد انتهاء الانتداب، فإنه يمكن تمييزها عن فلسطين، التي هي أرض تحت الانتداب خاضعة لاحتلال حربي في سياق نزاع مسلح دولي. ومع ذلك، إذا تمت إدارة الاحتلال بطريقة تحرم الشعب من ممارسة حقه في تقرير المصير والسيادة الخارجية، فيمكن اعتبار ذلك أيضًا انتهاكًا لـ “الأمانة المقدسة”. وحسب الظروف التي تؤدي إلى انتهاك الحق في تقرير المصير، يمكن أن يكون الاحتلال غير شرعي سواء منذ بدايته أو في مرحلة ما بعد ذلك.

 

الأدلة الداعمة للاستنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي أصبح غير شرعي:

يقدم هذا الجزء من الدراسة الأساس الواقعي لدعم الاستنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي غير شرعي. تقدم الدراسة أدلة واضحة ومقنعة على أن إسرائيل هي من هاجمت مصر أولًا، في عمل عدواني، مما جعل الاحتلال المترتب عن ذلك غير شرعي منذ بدايته. وفي اجتماع مجلس الأمن حول هذا الموضوع في عام 1967، تم رفض حجة الدفاع الاستباقي عن النفس باعتبارها تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. واستندت إسرائيل في حججها في الدفاع عن النفس إلى سببين:

الأول، أن الحصار الذي فرضته مصر على مضيق تيران كان بمثابة عمل عدواني؛ وثانيًا، أن الأعمال التي قامت بها جاءت ردًا على هجمات عبر الحدود شنتها طوابير مدرعة مصرية. ولكن الحصار الذي فرضته مصر على مضيق تيران كان في الأساس حصارًا مصريًا على بحرها ردًا على تهديد بهجوم من إسرائيل، وهو يختلف عن “حصار الموانئ أو السواحل” الإسرائيلي. وكما يشير شوارزنبرجر، فإن “المادة 51 من الميثاق تسمح بالتحضير للدفاع عن النفس”. وتشمل التدابير التحضيرية التي تتخذها الدولة للدفاع عن النفس تدابير احترازية خاصة في مياهها الإقليمية. ومع ذلك، نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية علنًا أنها هاجمت مصر بشكل استباقي، قائلة: “استبقت إسرائيل الهجوم الحتمي، فضربت القوات الجوية المصرية بينما كانت طائراتها لا تزال على الأرض”. ونظرًا لحظر الضربات الاستباقية، فإن الهجوم الإسرائيلي على مصر قد يرقى إلى مستوى الاستخدام غير المشروع للقوة، مما يجعل الاحتلال اللاحق غير شرعي.

وتتناول الدراسة كذلك انتهاك إسرائيل لثلاثة قواعد قطعية للقانون الدولي كمؤشرات على أن الاحتلال الحربي يُدار بطريقة تنتهك مبدأي الضرورة والتناسب للدفاع عن النفس:

أولًا، تثبت الدراسة أن إسرائيل ضمّت القدس الشرقية في عام 1967، بحكم القانون من خلال إقرار قانون البلديات (تعديل رقم 6)، 5727-1967؛ ثم، في عام 1980، بموجب قانونها شبه الدستوري “قانون أساس: القدس”، ادعت إسرائيل دستوريًا أن المدينة هي “عاصمة إسرائيل”، مما يدل على العداء للاستحواذ على الأراضي بشكل دائم. وتخلص الدراسة كذلك إلى أن إسرائيل قامت بحكم الأمر الواقع بضم المنطقة (ج) من الضفة الغربية. في عام 1967، أشار المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، في برقية سرية، إلى أسباب الضم التي جعلت إسرائيل غير قادرة على تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة (1949): “يتعيّن علينا أن نترك جميع الخيارات مفتوحة فيما يتعلق بالحدود، ويجب ألا نعترف بأن وضعنا في الأراضي الخاضعة للإدارة هو ببساطة وضع قوة احتلال”. على مدى عقود، نفذت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خططًا رئيسية لاستيطان الضفة الغربية. وبحلول عام 1992، من أصل 70 ألف هكتار من الأرض الفلسطينية في المنطقة (ج)، لم يتبق سوى 12 في المائة للتنمية الفلسطينية بعد أن استولت عليها إسرائيل باعتبارها “أراضي الدولة”. وفي الوقت نفسه، غيرت إسرائيل التركيبة السكانية للمنطقة (ج) بشكل جذري، حيث قامت بنقل أكثر من 500 ألف مستوطن يهودي إسرائيلي – وهو إجراء لا رجعة فيه وله عواقب دائمة، ويدل على التعبير عن السيادة. وفي الوقت نفسه، تطبق إسرائيل عددًا من قوانينها المحلية مباشرة على الضفة الغربية، بما في ذلك قانون التعليم العالي وقانون محكمة الشؤون الإدارية.

ثانيًا، إن سلوك إسرائيل في إدارة فلسطين المحتلة، والذي يتسم بالطبيعة المطولة للاحتلال وسياساتها وخططها لبناء المستوطنات، يدل بشكل أكبر على انتهاك حق تقرير المصير. إذا أخذنا في الاعتبار المدة الطويلة للاحتلال الإسرائيلي الحربي، حيث مضى الآن حوالي 56 عامًا على صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) الذي يدعو إلى “الانسحاب”، وبعد 45 عامًا من اتفاقيات كامب ديفيد التي أنهت النزاع مع مصر، وبعد 29 عامًا من اتفاق السلام مع الأردن، فمن الواضح أن التهديد الأولي المزعوم الذي دفع إسرائيل إلى اللجوء إلى القوة للدفاع الوقائي عن النفس قد انتهى تماماً وبلا رجعة. وفي الوقت نفسه، أدى تقسيم إسرائيل للممتلكات الفلسطينية غير المنقولة إلى مستوطنات سكنية وزراعية وصناعية وسياحية، ومحميات طبيعية وأثرية، ومناطق إطلاق نار عسكرية، إلى الاستيلاء على أكثر من 100 ألف هكتار من الأرض الفلسطينية الخاصة والعامة، وهدم أكثر من 50 ألف منزل فلسطيني منذ عام 1967. ويمكن القول أن تغيير إسرائيل للحقائق على الأرض، ومحو الوجود الفلسطيني، والتدخل في العملية الديمقراطية، إنما يؤدي إلى تقويض قدرة فلسطين على البقاء كدولة مستقلة، من خلال إنكار الحق الجماعي للشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

ثالثًا، هناك حاليًا اعتراف متزايد بأن إسرائيل تنفذ سياسات وممارسات تمييزية ضد الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر. والجدير بالذكر أن إسرائيل تمنح الحقوق لليهود الإسرائيليين وتميّز بشكل منهجي ضد الفلسطينيين. فقانون حيازة الأراضي 5713-1953، على سبيل المثال، يسهل نقل ملكية الأرض الفلسطينية المصادَرة إلى مؤسسات الدولة الإسرائيلية المختلفة، بما في ذلك هيئة التنمية. ويتم تمكين المنظمات شبه الحكومية، مثل الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، لممارسة التمييز المادي، بما في ذلك منح الأرض الفلسطينية المصادرة لليهود الإسرائيليين. وفي الوقت ذاته، يمكن لليهود الإسرائيليين المطالبة بملكية العقارات السكنية الفلسطينية في القدس الشرقية المحتلة بموجب قانون الشؤون القانونية والإدارية (1970). إن السعي إلى هندسة أغلبية ديموغرافية يهودية وتقليص وإبعاد الفلسطينيين قد تقدّمت به الحكومات المتعاقبة. وبموجب قانون العودة الإسرائيلي (1950)، “يحق لكل يهودي أن يأتي إلى هذا البلد بصفة أوليه” (بصفة مهاجر جديد) ويتم منح الجنسية الإسرائيلية “لكل يهودي يعرب عن رغبته في الاستقرار في إسرائيل”. وفي الوقت نفسه، هناك حوالي سبعة ملايين لاجئ فلسطيني محرومون من حقهم في العودة، بما في ذلك 450 ألف فلسطيني نزحوا كلاجئين خلال النكسة التي أعقبت حرب الأيام الستة عام 1967. وتشير هذه الممارسات، من بين أمور أخرى، إلى أن إسرائيل تدير الأرض الفلسطينية المحتلة في ظل نظام من التمييز العنصري والفصل العنصري المنهجيين.

ويخلص القسم إلى أن انتهاك إسرائيل لحظر الضم، والحرمان من ممارسة حق تقرير المصير، وتطبيق نظام الفصل العنصري في فلسطين المحتلة قد يكون مؤشرًا على إدارة غير شرعية سيئة النية للأرض المحتلة، انتهاكًا لمبادئ الفورية والضرورة والتناسب للدفاع عن النفس. ثم تبحث الدراسة في الآثار المترتبة على الاحتلال بسوء نية على ممارسة حق الشعوب الخارجي في تقرير مصيرها. ونظرًا لوضع فلسطين باعتبارها أرضًا خاضعة للانتداب سابقًا، لا يزال على المجتمع الدولي التزام دولي، باعتباره “أمانة مقدسة” تجاه الشعب الفلسطيني، “بعدم الاعتراف بأي تغيير أحادي الجانب في وضع الأرض”. وفي الفتوى بشأن جنوب غرب أفريقيا، تم الاستغناء بشكل إيجابي على فكرة عودة الأراضي، سواء التي كانت محتلة أو التي كانت خاضعة للانتداب سابقًا، إلى وضعها الاستعماري. وأوضحت محكمة العدل الدولية أن “قبول ادعاء حكومة جنوب أفريقيا بخصوص هذه النقطة كان يستلزم إعادة الأراضي الخاضعة للانتداب إلى الوضع الاستعماري، واستبدال نظام الانتداب بالضم، وهو الأمر الذي تم استبعاده بشكل حازم في عام 1920. والأهم من ذلك، أنه تم الاعتراف بالوضع في فلسطين كحالة “تتعلق بحق تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو الأجنبية” والتي لم تتم تسويتها بعد. ومن هذا المنطلق، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيء النية للأرض الفلسطينية التي يتعامل معها على أنها “إقليم متنازع عليه” و “يفتقد السيادة”، وعمليات الضم العديدة بحكم القانون وبحكم الواقع، وتغيير التركيبة الديموغرافية والمشاريع الاستيطانية، من بين انتهاكات أخرى، ينتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي السيادة باعتبار الإقليم تحت الانتداب.

 

الالتزام بإنهاء الاحتلال غير الشرعي:

يُلزم القانون الدولي المتعلق بمسؤولية الدول إسرائيل بوقف الأفعال غير المشروعة دولياً وتقديم “التأكيدات والضمانات المناسبة بعدم التكرار”. ومن الجدير بالذكر أن محكمة العدل الدولية رأت أن جنوب أفريقيا ملزَمة “بسحب إدارتها من إقليم ناميبيا”، وبالمثل، شجعت في تشاغوس على إنهاء الإدارة البريطانية لأرخبيل تشاغوس “في أسرع وقت ممكن”. بالنسبة لفلسطين، فإن الرد المناسب يمكن أن يتخذ شكل إطلاق سراح السجناء السياسيين الفلسطينيين؛ إعادة الممتلكات، بما في ذلك الممتلكات الثقافية التي استولت عليها سلطات الاحتلال؛ وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية؛ رفع الحصار عن قطاع غزة؛ وتفكيك نظام الفصل العنصري المؤسسي القائم على القوانين والسياسات والممارسات التمييزية؛ وتفكيك إدارة الاحتلال. ونظرًا لعدم تنفيذ إسرائيل للفتوى السابقة بشأن بناء جدار الضم، فإن التأكيدات والضمانات بعدم التكرار قد لا تكون علاجًا كافيًا. وقد يكون من الضروري أيضًا إنشاء لجنة تحكيم محايدة للنظر في المطالبات الجماعية الناشئة عن عواقب الانتهاكات التي ترتكبها سلطة الاحتلال. والجدير بالذكر أن دراسة أجراها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عام 2019 خلصت إلى أن التكلفة المالية التراكمية التي يتحملها الاقتصاد الفلسطيني بسبب الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة 2000-2019 تقدر بنحو 58 مليار دولار أمريكي. وفي قطاع غزة، قدرت التكاليف الاقتصادية للاحتلال في الفترة 2007-2018 بنحو 16.7 مليار دولار. إن استغلال الموارد الطبيعية ومنع تطويرها كلّف الاقتصاد الفلسطيني 7.162 مليار دولار أمريكي على مدى 18 عامًا من عائدات الغاز من بحر غزة و67.9 مليار دولار أمريكي من عائدات النفط من حقل مجد النفطي في رَنْتِيس. وإجمالًا، تقدر الخسائر التي تكبدتها فلسطين منذ عام 1948، بأكثر من 300 مليار دولار.

وتُظهر الدراسة أن الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي وانتهاكاته للمعايير القطعية للقانون الدولي له عواقب دولية، وأن الدول الثالثة والمجتمع الدولي ملزمون بوضع حد للإدارة غير الشرعية للأراضي المحتلة. ومن خلال القيام بذلك، تُبرز هذه الدراسة متطلبات الإنهاء الكامل للاحتلال وإنهاء الاستعمار في الأرض الفلسطينية، بدءً بالانسحاب الفوري وغير المشروط والكامل لقوات الاحتلال الإسرائيلية وتفكيك الإدارة العسكرية. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الانسحاب، باعتباره إنهاء فعل غير مشروع دوليا، لا يمكن أن يكون موضوعًا للتفاوض. وينبغي تنفيذ العقوبات والتدابير المضادة الكاملة، بما في ذلك القيود الاقتصادية وحظر الأسلحة وقطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، على الفور، كرد فعل تجاه الكافة من جانب الدول الثالثة والمجتمع الدولي على انتهاكات إسرائيل الخطيرة لقواعد القانون الدولي القطعية. ويجب على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات فورية نحو إعمال الحقوق الجماعية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك اللاجئين والمنفيين في الشتات، بدءً بإجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة، للشروع في استكمال عملية إنهاء الاستعمار.

وحثّ قرار مجلس الأمن 2334 (2016) بشكل خاص على بذل جهود دولية ودبلوماسية دون تأخير “لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967”. ومع ذلك، يبدو أن هذه الجهود الدبلوماسية منذ التسعينيات مبنية على صيغة “الأرض مقابل السلام” المشكوك فيها، والتي إذا تم استخدامها لحرمان السكان الفلسطينيين المحميين من حقوقهم غير القابلة للتصرف في تقرير المصير والسيادة الدائمة على الموارد الوطنية، فإنها ستشكل أيضًا عملاً غير مشروع دوليًا. وعليه، فإن التزام الدولة بالانسحاب من الأراضي المحتلة بشكل غير مشروع هو التزام غير مشروط وفوري ومطلق. وتتضمن قرارات الجمعية العامة شروطًا مهمة لـ “الانسحاب الكامل وغير المشروط” لإسرائيل، بمعنى أن الانسحاب لا يجب أن يكون موضوعًا للتفاوض، بل هو بالأحرى إنهاء الفعل غير المشروع دوليًا.

 

الخلاصة:

خلصت الدراسة إلى أن خارطة الطريق الأكثر تبصّرًا لإنهاء الاحتلال وإنهاء الاستعمار في الأرض الفلسطينية تأتي في شكل نسيج غني من توصيات الدول الثالثة والتوصيات الدولية المقدمة في قضيتي شاغوس وناميبيا. ومن الواضح أيضًا أن القانون العام المتعلق بمسؤولية الدول عن الانتهاكات الجسيمة للقواعد القطعية للقانون الدولي يمكن أن يستمد من قرارات مجلس الأمن “كفكرة عامة تنطبق على جميع الحالات الناجمة عن انتهاكات جسيمة”، بما في ذلك حظر المساعدة أو المساعدة في الحفاظ على النظام غير الشرعي. ومن الطبيعي أن المحكمة الأنسب لفحص مشروعية الاحتلال هي محكمة العدل الدولية. وسواء كان الاحتلال غير شرعي منذ بدايته أو أصبح غير مشروع، فإن العواقب يجب أن تكون الانسحاب الفوري وغير المشروط والكامل للقوات العسكرية الإسرائيلية؛ انسحاب المستوطنين؛ وتفكيك النظام الإداري العسكري، مع تعليمات واضحة بأن الانسحاب بسبب ارتكاب فعل غير مشروع دوليًا لا يخضع للتفاوض. وينبغي القيام بإجراءات جبر كامل ومتناسب لفائدة الأفراد والشركات والكيانات الفلسطينية عن الأضرار التي لحقت بالأجيال والناجمة عن مصادرة إسرائيل للأراضي والممتلكات، وهدم المنازل، ونهب الموارد الطبيعية، والحرمان من العودة، وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تم التخطيط لها من أجل تحقيق الأهداف الاستعمارية والتوسعية لمحتل غير شرعي.

____________

شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، لجنة الجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، 27 نوفمبر 2023، https://2u.pw/dj3zMKX

رابط ملف الدراسة كاملة

قال خبيران قانونيان، إن حق الدفاع عن النفس لا ينطبق على إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وإن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية التي تزعم هذا الحق "ليست قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". وشدد الخبيران، في أحاديث منفصلة لوكالة الأناضول، على أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة تصل إلى مستوى "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية".

وخلال زيارته إلى إسرائيل في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يكتف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بالقول إنه يدعم "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بل وأكد بالقول: "بل ولزامًا عليها ذلك، وندعمها بقوة". وشدد بلينكن، في تصريح صحفي، على "ضرورة تمكين الجيش الإسرائيلي من هزيمة (حركة) حماس في غزة".  كما أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي (27 دولة) عبر بيان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، "دعمهم لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بما يتماشى مع القانون الإنساني والدولي".

 

أراضٍ تحت الاحتلال

مدير مؤسسة الحق (غير حكومية) شعوان جبارين قال للأناضول إن "العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تتعارض وتتناقض مع القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة في الدفاع عن النفس". وأوضح أن "حق الدفاع عن النفس ينطبق على دولة عندما تهاجمها أخرى ويتعرض أمنها القومي ووجودها للخطر، وحينها تُعلم هذه الدولة الأمم المتحدة أولا ثم تستخدم القوة للدفاع عن نفسها، وهذا لا ينطبق على الحالة الجارية هنا (غزة)". جبارين تابع أن "فلسطين وحماس ليست دولة، وهي أرض محتلة وغزة والضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وسابقا نوقش رأي استشاري فيما يخص بناء إسرائيل لجدار الفصل (بالضفة الغربية) في عام 2004 بحجة الدفاع عن النفس، وخلصت (محكمة العدل الدولية) إلى أنه: ليس من الحق أن تتحجج إسرائيل بأن لها الحق في الدفاع الشرعي عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة". وشدد على أن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها "تخالف القانون الدولي، وهي ليست تصريحات قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". "إن لم تمارس إسرائيل الإبادة"، بحسب جبارين، "فهي ذاهبة للإبادة، ولذلك عملياتها فيها كل أركان الإبادة في ظل تصريحات أعلى الهرم في إسرائيل من سياسيين وعسكريين، والتي تؤكد نيتهم قتل جزء أو كل من الشعب الفلسطيني في غزة". وأردف أن "الممارسة في أرض المعركة تترجم هذه التوجهات من قتل وتدمير للمدنيين ودون أي ضرورة عسكرية، ما يوصلنا إلى نقطة إبادة جماعية في قطاع غزة". وعادة ما تنفي إسرائيل ارتكابها جرائم في غزة، وتزعم أنها تدافع عن نفسها، بعد أن أطلقت حركة "حماس"، في 7 أكتوبر، هجوم "طوفان الأقصى"؛ "ردا على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى".

 

لا مبرر لارتكاب الجرائم

أما أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية بمدينة جنين في الضفة رائد أبو بدوية فقال إن "حق الدفاع عن النفس مكفول، ولو سلمنا جدلًا بأن لإسرائيل هذا الحق، فإنه لا يبرر ارتكاب الجرائم". أبو بدوية أضاف للأناضول أنه "في حالة الدفاع عن النفس في الأصل لا يجوز لك انتهاك قواعد القانون الدولي ولا يجوز أن تستهدف المدنيين، وأي جرم غير مسموح تحت تبرير الدفاع عن النفس". وتابع: "ما تستهدفه إسرائيل في غزة ليست أهداف عسكرية، واضح مما نشاهده وما يُرصد أن طبيعة الأهداف مساكن مدنية ومؤسسات خدمة مدنية ومستشفيات، وكل ما سبق يعتبر جريمة حرب". ومشددا على وجود "جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية"، لفت أبو بدوية إلى "ما تنفذه إسرائيل اليوم من استهداف للمدنيين وترحيلهم وتجويعهم ومنع الاحتياجات الرئيسية".

ومنذ اندلاع الحرب، تقطع إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ عام 2006. واستشهد أبو بدوية بميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية الذي يصنف تلك الأعمال "جريمة حرب". وختم بأن "الدفاع عن النفس مكفول، ولكن ضمن ضوابط وليس حق مطلق، وما تنفذه إسرائيل في معظمه تجاوز للقانون، وهي جرائم دولية".

______________

قيس أبو سمرة، قانونيان: "حق الدفاع عن النفس" لا ينطبق على إسرائيل في غزة، وكالة الأناضول، 10 نوفمبر 2023، https://2u.pw/GA0OsxN.

"نحن نقاتل حيوانات بشرية [...] ونتصرف على هذا الأساس"، بهذا التصريح العنصري الفج، وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، أهالي غزة ومقاومتها، مُحاولًا نزع صفة البشر عن أكثر من مليونين ونصف المليون من مدنيي القطاع، لتبرير ما ارتُكِب وما سيُرُتَكب من جرائم وانتهاكات ضدّهم. هذه المرة كانت الانتهاكات غير مسبوقة، مع ما يزيد على عشرة آلاف شهيد، بينهم أكثر من أربعة آلاف طفل، وأكثر من 26 ألف مُصاب حتى وقت إعداد الدراسة، حيث يشكل الأطفال والنساء والمُسنّون ما نسبته حوالي 70 في المئة من الضحايا، إلى جانب تدمير الآلاف من المباني السكنية، والبنية التحتية والمدنية، بأنواعها كلها، بما في ذلك – على سبيل المثال - المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بقصفه المستشفى المعمداني (الأهلي).

وفي هذا السياق، يبقى السؤال: أين القانون الدولي الإنساني؟ وإلى أي مدى جرى تطبيقه؟ فقد بدا واضحًا ارتكاب إسرائيل، وفقًا لتقارير وشهادات عدة، انتهاكات فاضحة لطَيفٍ واسع من الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين الدولية المتعلقة بقواعد النزاعات المسلحة، في ظل تجاهل معظم دول المجتمع الدولي، التي عمدت مؤخرًا إلى التبرير والدفاع عن تلك الانتهاكات، في مقابل أصوات خجولة من منظمات دولية وصفت أعمال الاحتلال بأنها جرائم حرب، وانتهاك للقانون الدولي4، مُطالبةً بمحاكمته، وهي أصواتٌ يبدو كأنها تستدعي قانونًا نائمًا.

لا تسعى هذه الدراسة لإثبات ما هو مُثبت، إنما تحاول مناقشة مجموعة من القضايا المحورية لفهم القانون الدولي الإنساني وتوصيف حالته في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة؛ حيث تبدأ ببيان ماهيته وغاية سنّه، ثم الإجابة عن موضع حالة غزة في إطاره، لتنتقل بعدها إلى بحث أبرز الانتهاكات الإسرائيلية له خلال فترة الحرب الآنية على القطاع، لتجيب بعدها عن التساؤلات المثارة بغرض نفي الانتهاكات وتسويغها، مثل حق الدفاع عن النفس ومسألة توجيه الإنذارات قبل القصف. عقب ذلك، تلقي الدراسة الضوء على المخالفات الدولية للقانون والتقاعس في اتخاذ التدابير الممكنة لتعزيز الامتثال له.

أولًا: القانون الدولي الإنساني: التعريف والمصادر وآليات التنفيذ

القانون الدولي الإنساني، أو ما يعرف بقواعد الحرب، هو فرع من فروع القانون الدولي العام الذي يهدف إلى تخفيف حدّة النزاع المسلح والمعاناة الناتجة منه عبر تحقيق حماية للأشخاص الذين لا يشاركون، أو توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية خلال النزاعات المسلحة، وكذلك تحديد الوسائل والأساليب المسموح بها، وغير المسموح بها في القتال 5؛ أي إنه يمثل إطارًا قانونيًا يحاول تحقيق حدٍّ أدنى من الحفاظ على الإنسانية في النزاعات المسلحة وحماية الأبرياء والتخفيف من المعاناة، بالتوازن مع هدف إضعاف العدو، آخذًا في الحسبان "الاحتياجات العسكرية" لأطراف النزاع المسلح، خلال سعيها ل "هزيمة الخصم"، وذلك من منطلق كون الحروب حقيقةً واقعةً منذ الأزل.

يستند القانون الدولي الإنساني في ذلك إلى مصادر عدة؛ أبرزها: اتفاقيات جنيف التي تم توقيعها في عام 1949، وبروتوكولات جنيف الإضافية في عام 1977، حيث يهدف البروتوكول الأول إلى حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية؛ ويتخصص البروتوكول الثاني بالنزاعات غير الدولية. هذا إلى جانب القوانين والعُرف الدولي المحدّد للسلوك في هذه النزاعات. وقد صدقت الدول، البالغ عددها 196 دولة، على اتفاقيات جنيف (وهي العنصر الرئيس للقانون الدولي الإنساني). وجدير بالذكر أنه لم يحظَ سوى عدد قليل من المعاهدات الدولية بهذا المستوى من الدعم.

على الرغم من وجود بعض الخلافات الموضوعية، القديمة والجديدة، حول قواعد هذا القانون، بما في ذلك ادّعاءاتٍ حول عدم مناسبة القانون الدولي الإنساني بعد الآن لواقع النزاعات المسلحة المعاصرة، فإن ثمة توافقًا شبه كامل بين الدول والباحثين على أن التحدي الرئيس يكمن في تنفيذه بفعالية على أرض الواقع، نظرًا إلى كون قواعده تدور حول محاولة الحدّ من همجية الحروب، وهو سياق معقّد. وتُقسم آليات تنفيذ هذا القانون إلى فئات ثلاث؛ أولها: التدابير الوقائية في وقت السلم، عبر سن التشريعات الوطنية والبرامج التدريبية والتوعية؛ وثانيها: التدابير التي تضمن احترام القانون خلال/ أو في أثناء النزاعات المسلحة، مثل توثيق الانتهاكات ولجان التحقيق وممارسة الضغط على الأطراف المتنازعة؛ وثالثها: التدابير المخصصة لقمع الانتهاكات في حال ارتكابها، مثل توثيق جرائم الحرب وتقديم مرتكبيها إلى المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية.

 

ثانيًا: غزة: حرب أم احتلال؟

وفقًا لقواعد لاهاي في عام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة في عام 1947، "تعتبر الأرض محتلة عندما تكون واقعة تحت سلطة الجيش المعادي. ويمتد الاحتلال فقط إلى الأراضي التي أُنشئت فيها هذه السلطة ويمكن ممارستها". وتبعًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن أراضي قطاع غزة - إلى جانب الأراضي الأخرى التي سيطرت عليها إسرائيل في أعقاب حرب عام 1967 - تُعدّ خاضعةً للاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم هي خاضعة لقانون الاحتلال، المعتمد من المحكمة العليا في إسرائيل نفسها في أحكامها القضائية، مُعبّرّة عن قبولها به، بحكم الأمر الواقع. وتُفسّرّ اللجنة الدولية حكمها باعتبار قطاع غزة أرضًا محتلة على أساس كون إسرائيل، على الرغم من عدم وجودها على الأرض، تمارس عناصر رئيسة من السلطة عليها، بما في ذلك السيطرة على مجالاتها الجوية والبحرية والبرية، ولذا تبقى مُلزمةً بما يفرضه قانون الاحتلال، بما يتناسب مع درجة سيطرتها على القطاع. ويشمل هذا تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، وما يسمح به للعيش ضمن ظروف مادية مناسبة (المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة)، فضلًا عن احترام مبدأ التناسب في الظروف كلها. وتعكس قواعد "قانون الاحتلال" مجموعة من المبادئ، أبرزها "أن القوة المحتلة لا تكتب حقوقًا سيادية على الأرض المحتلة، وبالتالي لا يمكنها أن تحدث تغييرات في وضعها وسماتها الجوهرية"، وأن "الاحتلال وضع مؤقت"؛ أي منع تبني سياسات وتدابير تؤدي إلى تغييرات دائمة، ومبدأ موازنة الاحتياجات العسكرية مع احتياجات السكان المحليين، ومبدأ عدم السماح "للقوة المحتلة ممارسة سلطتها من أجل تعزيز مصالحها الخاصة" (بخلاف مصالحها العسكرية).

مع ذلك، هناك من يميل إلى تصنيف الوضع في غزة، تحديدًا، بصورة مختلفة، استنادًا إلى حجة أن وقوع أحداث قتالية في منطقة محتلة، ووصولها إلى مستوى النزاع المسلح بين جهتين، مثلما هي الحال عند تصاعد المواجهات بين حركة حماس وإسرائيل، يجعلها تُدرج تحت مظلة قانون النزاعات المسلحة فحسب، فضلًًا عمن يجادل في أن إسرائيل "تنازلت عن السيطرة الفعالة" المطلوبة بموجب التعريف القانوني للاحتلال، ومن ثم أنهت الاحتلال في غزة، وهو قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية في عام 2008، لكن التصريحات الإسرائيلية نفسها تناقض ذلك، فقد صرّح غالانت نفسه، مؤخرًا، بأنه بعد التطورات الأخيرة، لن يكون على إسرائيل "أي مسؤولية بعد الآن عن الحياة في قطاع غزة"؛ ما يشير إلى أن هذا تغيير طارئ.

يبقى الرأي الدولي الرسمي السائد ممثلًا في كل من "اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، والجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA)، والاتحاد الأوروبي (EU) والاتحاد الأفريقي والمحكمة الجنائية الدولية (الدائرة التمهيدية الأولى ومكتب المدعي العام) ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش"، إضافة إلى خبراء قانونيين دوليين ومنظمات أخرى وباحثين، ويعتبر هذا الرأي أن غزة منطقة محتلة منذ عام 1967، مُعلّلًا ذلك بأن إسرائيل تحافظ على السيطرة المطلوبة عبر الوسائل المختلفة، بما فيها الوسائل الحديثة واستخدام التكنولوجيا، ويشمل ذلك السيطرة على "المجال الجوي والمياه الإقليمية والمعابر البرية على الحدود وإمدادات البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المياه والكهرباء، والوظائف الحكومية الرئيسة، مثل إدارة السجل السكاني الفلسطيني"، وممارستها "أشكالًا أخرى من القوة، مثل التوغلات العسكرية وإطلاق الصواريخ"، وكونها "لم تنقل السلطات السيادية"، وهو ما يفرض على إسرائيل الالتزام بمزيد من القوانين في غزة، باعتبارها دولةً مُحتلة، إلى جانب قواعد النزاعات المسلحة، وتتمثل تلك القوانين في اتفاقية لاهاي الرابعة واتفاقية جنيف الرابعة والقانون الدولي العرفي والبروتوكول الإضافي الأول.

 

ثالثًا: الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني

منذ حصار غزة (2006)، وما تخلّله من حروب ومواجهات، لم تتوقف إسرائيل عن ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وفي ظل الحرب الدائرة منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، باتت تلك الانتهاكات أكثر فجاجة من حيث الكم والكيف، وتشمل انتهاكات لكل من اتفاقيات جنيف والبروتوكولات المُلحقة بها، وميثاق الأمم المتحدة، وإعلان سان بطرسبرغ في عام 1868 لحظر القذائف المتفجّرة، وقانون الاحتلال الحربي، واتفاقية لاهاي في عام 1907 الهادفة إلى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحّة، وبروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات السامة في عام 1925 ، واتفاقية منع استخدام الأسلحة الكيماوية، واتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة، وغيرها من الاتفاقيات الدولية 13 . وتعرض هذه الدراسة، باقتضاب، أبرز الاشتراطات القانونية المنتهكة.

بدايةً، من الجلي، في المواجهات والغارات الإسرائيلية التي تركزت على الأهداف المدنية، وحتى في الحصار المفروض في حد ذاته، وما جدّ فيه من تشديداتٍ 14 ، انتهاك المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، والمادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف الأربع، التي تنص على أن "الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية ]...[ يُعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية"، إضافة إلى القاعدة 7، المقنّنة في المادتين (48) و (52 / 2) من البروتوكول الإضافي الأول، وفحواها ضرورة التمييز في الأوقات كلها بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وعدم توجيه الهجمات إلّّا إلى الأهداف العسكرية فحسب 15 .

كما يمكن تأطير تلك الانتهاكات وفقًا للمادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمعنية بالأفعال الموجّهة ضد الأشخاص أو الممتلكات المحمية بموجب اتفاقيات جنيف، بما في ذلك القتل العمد والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، وإلحاق الأذى الجسدي الخطر وتعمّد إحداث معاناة شديدة وإلحاق دمار واسع، والإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع، وقائمة أخرى طويلة جدًا، تتّبعها إسرائيل بحذافيرها، وليس آخرها "تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية ... والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى"، كما حدث يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، عند استهداف المستشفى المعمداني، وهي مجزرة فاضحة حاولت إسرائيل التنصّل من ارتكابها، وهي التي درجت على عرض ما تراه "إنجازات عسكرية". كل ما سبق يُصنَّف جريمة حرب، وفقًا للمادة المذكورة. مع ذلك، استمرت إسرائيل باستهداف المؤسسات الصحية وكوادرها، وبحلول الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، استهدفت أكثر من 105 مؤسسات صحية، قتلت فيها أكثر من 150 شخصًا من الكوادر الطبية، كما دمّرت 27 سيارة إسعاف، فضلًا عن تأثر المستشفيات بنقص الغذاء والمياه النظيفة والوقود اللازم لتشغيل مولدات الطاقة، كما تفيد منظمة الصحة العالمية. ويشكل استهداف أفراد الخدمات الطبية والأنشطة والوحدات الطبية، تحديدًا، اختراقًا للمواد 12 و15 و16 من البروتوكول الإضافي الأول.

فضلًا عن ذلك، تخترق التدابير الإسرائيلية المتّخذة في بداية الحرب، على خلفية تصريح غالانت حول محاربة "حيوانات بشرية"، مثل قطع الإمدادات الأساسية من كهرباء وماء ووقود، وقطع الإمدادات الغذائية وفرض حصار شامل، ومحاولة فرض التهجير القسري على أكثر من مليوني ونصف المليون فلسطيني، المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محميّ على جريمة لم يرتكبها هو شخصيًا. وتحظر العقوبات الجماعية". وفي هذا السياق، كان فولكر تورك، مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، قد رد على تلك التدابير في بيان رسمي، يؤكد أن "فرض حصار يعرّض حياة المدنيين للخطر من خلال حرمانهم من السلع الأساسية للبقاء، محظور بموجب القانون الدولي الإنساني". وفي هذا الصدد، صّرحت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أن إسرائيل أظهرت في "نيّتها المعلنة في استخدام كافة الوسائل ... ازدراءً صادمًا لأرواح المدنيين"، وهو ما تدور حوله غالبية قواعد القانون الدولي الإنساني.

يظهر هذا من جديد في اختراق آخر لقواعد القانون الدولي الإنساني بشأن مرور مواد الإغاثة الإنسانية للمدنيين المحتاجين إليها وتأمين حرية حركة العاملين في الإغاثة الإنسانية، حيث راح ضحية هجمات إسرائيل نحو 72 شخصًا من عمال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال أقل من شهر، وهو "أكبر عدد من عمال الإغاثة الذين قتلوا في صراع في مثل هذا الوقت القصير في تاريخ الأمم المتحدة"، بحسب بيان المفوض العام للأونروا. هذا عدا عن أن منع وصول المساعدات الغذائية في ظل الحصار المشدد، يُعدّ اختراقًا للمواد المتعلقة بحظر استخدام التجويع أسلوبًا من أساليب الحرب.

يرقى ما سبق إلى اعتباره جريمة إبادة جماعية وفقًا للمادة (6) من نظام روما الأساسي، فما ترتكبه إسرائيل في ظل تهديد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتحويل غزة إلى أنقاض، واصفًا إياها ب "مدينة الشر" 25 ، يبدو كأنه تطبيقٌ مباشر للأفعال التي تشير إليها المادة (6)، والتي تُرتكب "بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكًا كلّيًا أو جزئيًا"، وتشمل قتل أفراد تلك الجماعة وإلحاق الأضرار الجسيمة بأفرادها، وإخضاعهم "عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلّيًا أو جزئيَا". وفي ظل كون الأطفال يشكلون ما تزيد نسبته على 47 في المئة من سكان القطاع، ولكون بنك الأهداف الأخير لإسرائيل في حقيقة الأمر، عبارة عن أهداف مدنية ذات كثافة سكانية عالية، فإن الأفعال الأخرى التي تتضمنها المادة (6)، مثل "فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب" و"نقل أطفال الجماعة عُنوة إلى جماعة أخرى"، تبدو أقل إجرامًا مما يحدث فعليًا في الميدان من استهداف مباشر للأطفال.

علاوة على سبق، حتى المادة (7) من نظام روما، والمعنية بالجرائم ضد الإنسانية، تبدو منطبقة على السياق الذي تعالجه هذه الدراسة، فالأفعال التي تشكل جريمة ضد الإنسانية هي الأفعال التي تُرتكب "في إطار هجوم واسع أو منهجي، موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين"، وتشمل القتل العمد وإبعاد السكان أو النقل القسري والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية والفصل العنصري. وقد دانت منظمة أوكسفام في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر أمر الإخلاء، الصادر في 13 تشرين الأول/ أكتوبر بحق سكان شمال غزة، ففضلًا عن "المخاطر الإضافية التي خلقها" وفقًا للمنظمة، فهو يرقى إلى الترحيل القسري.

 

رابعًا: موقف القانون الدولي الإنساني من ادّعاء "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"

يكرر المسؤولون الإسرائيليون وحلفاؤهم الحديث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، منذ هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تبريرًا للممارسات والانتهاكات الإسرائيلية بحق سكان قطاع غزة. لكن ما يجدر تأكيده هو أن قوانين الحرب تنطبق على الأطراف كلها المشاركة في القتال، بغض النظر عن دوافعها، وبغض النظر عما فعله الطرف الآخر. يحكمُ القانون الدولي الإنساني ما يتعلق بسير الأعمال العدائية، وهو مختلف عن القانون الذي يحكم قرار استخدام القوة؛ أي قانون استخدام القوة الذي يُنظّمه ميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بالعلاقات بين الدول، ومن ثم مهما حظي قرار استخدام القوة بالشرعية، افتراضًا، يبقى على الأطراف كلها الالتزام بقواعد قانون الحرب. وكما تفيد هيومن رايتس ووتش، فإن أي استهداف متعمد للمدنيين، أو عقوبات جماعية، "لا يمكن أبدًا تبريرها بالادّعاء بأن طرفًا آخر ارتكب انتهاكات، أو أن هناك اختلالًا في موازين القوى، أو غير ذلك من المظالم"؛ أي إنه لا يمكن شرعنة جرائم الاحتلال، ولا حتى عبر رفع ورقة الجوكر (تهمة الإرهاب) التي درجت القوى الاستعمارية خلال العقود الأخيرة على استخدامها.

من ناحية أخرى، ونظرًا إلى وقوع غزة تحت الاحتلال، وإن اختلفت الأساليب، فالقانون الدولي الإنساني يمنح الشعب المحتل حق المقاومة من خلال البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف في عام 1949، ومن خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37 / 43 الذي يؤكد "شرعية نضال الشعوب من أجل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية ... والتحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي بالوسائل كلها المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح". في المقابل، لا يضم القانون أي بنود تُعطي قوى الاحتلال "حق الدفاع" عن نفسها ضد من تحتلهم. ولا يمكن منح استثناءات خاصة لإسرائيل على أي أساس قانوني.

درجت الحكومة الإسرائيلية وصنّاع القرار فيها على ازدراء القانون الدولي الإنساني، والإفلات من العقاب، واحتكار الحقوق، في مقابل تبرير الجرائم والاستهداف المتعمد للمدنيين، بغض النظر عن أي معطيات أو عن شرعية ممارساتها قانونيًا. برز هذا خلال الحرب الدائرة الآن، من خلال التصريحات الرسمية للمسؤولين الإسرائيليين، فعلى سبيل المثال، عندما وُجّه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت سؤال من إحدى الوكالات الإعلامية حول ما يتعرّض له الأطفال في غزة في ظل الحرب الدائرة، كان ردّه: "هل أنت جاد بسؤالي عن المدنيين الفلسطينيين؟ ماذا دهاك؟ ألم ترَ ما حدث؟ نحن نقاتل النازيين". وصرح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ: "هناك أمة بكاملها تتحمل المسؤولية"، محاولًًا تبرير جريمة العقاب الجماعي.

بينما قال الممثل السابق لإسرائيل في الأمم المتحدة، دان غيلرمان: "إنني محتار بشأن اهتمام العالم المستمر بالمدنيين الفلسطينيين وتعاطفه مع حيوانات غير آدمية متوحشة"، منتقدًا عدم انسياق ذلك "العالم" إلى نزع الآدمية عن هذه الفئة الواقعة تحت حماية القانون الدولي الإنساني. بينما قال السفير الإسرائيلي السابق في إيطاليا، درور إيدار: إسرائيل "غير مهتمة، ولديها هدف واحد، وهو تدمير غزة"، مع عدم الإشارة إلى أي استثناءات من ذلك "التدمير". هذا الخطاب غير المكترث بأي أبعاد إنسانية أو قانونية، صُعّد إلى حد تصريح عميحاي إلياهو، وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، بأن "إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن، وبالنسبة إلى المختطفين، فالحرب لها أثمان". واجه هذا التصريح تحديدًا، دون غيره، ردات أفعال غاضبة من الحكومة، لكن ما أثار حفيظة منتقديه تركّز أساسًا في قضية التصريح بفكرة التضحية بالأسرى الإسرائيليين، علمًاً أن المادة (51/ 2) من البروتوكول الإضافي الأول، تُحرّم حتى مجرد التهديد بأعمال العنف، بهدف بثّ الذعر بين السكان المدنيين، ومن ثم، لا يمكن إرجاع هذه التصريحات - وإن بقيت تصريحات مجردة - إلى حق الدفاع عن النفس، وكأنها ردة فعل غاضبة على مظلمة مدّعاة.

 

خامسًا: هل تُعفي الإنذارات إسرائيل من التزاماتها القانونية؟

يحتجّ بعض الأطراف المحسوبة على الحكومة الإسرائيلية، أو المؤيدة لها، بتوجيه إنذارات إلى المدنيين قبل قصف منازلهم، أو الأعيان المدنية الأخرى من مستشفيات وغير ذلك، على اعتبار أن هذا يُبرِّئها مما يوجّه إليها من اتهامات بانتهاك القانون. في الواقع، لا يقدم القانون الدولي الإنساني إعفاءً من أي التزامات قانونية، بناء على توجيه إنذارات تسبق الأعمال العدائية غير القانونية. وقد وثّقت منظمة العفو الدولية عددًا كبيرًا من الحالات التي لم يتم فيها تحذير المدنيين من الجيش الإسرائيلي، أو أصدر فيها "تحذيرات غير كافية"، وأنه "في بعض الحالات، أبلغ شخصًا واحدًا عن هجوم انتهى بتدمير مبانٍ بأكملها أو شوارع مكتظة بالناس، أو أصدر أوامر "إخلاء" غير واضحة أو مُضللة. ولم تضمن القوات الإسرائيلية بأي حال من الأحوال توفير مكان آمن للمدنيين للجوء إليه. فضلًا عن مثال في إحدى الهجمات على سوق جباليا، حين غادر الناس منازلهم استجابة لأمر "الإخلاء"، ليُلاقوا حتفهم في المكان الذي فرّوا إليه.

ومع قرينة وجود حالات متكررة لمجازر جماعية، راح ضحيتها مئات المدنيين والأطفال، مثل مجزرتي مخيم جباليا، فلا يمكن تكوين قناعة بأنه قد سبقتها تحذيرات كافية، علاوة على أنّه حتى مجرد الإضرار بهذا الحجم الواسع بالأعيان المدنية - على افتراض كفاية التحذيرات - لا يُعد قانونيًا، فوفقًا للقاعدة (14)، المقنّنة في المادة (51 / 5 (ب)) من البروتوكول الإضافي الأول، "يُحظر الهجوم الذي قد يُتوقع منه أن يُسبب بصورة عارضة خسائر في أرواح المدنيين أو إصابات بينهم، أو أضرارًا بالأعيان المدنية، أو مجموعة من هذه الخسائر والأضرار، ويكون مُفرطًا في تجاوز ما يُنتظر أن يُسفر عنه من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة". وقد أشار فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة (الأونروا)، إلى أن وجود "ما يقرب من 3200 طفل قُتلوا في غزة خلال ثلاثة أسابيع فقط ... لا يمكن أن يكون هذا 'أضرارًا جانبية'".

سادسًا: مسؤولية المجتمع الدولي عن فرض احترام القانون الدولي الإنساني

استنادًا إلى القاعدة 144، المبنية على مواد في اتفاقيات جنيف الأربع كلها والبروتوكول الإضافي الأول، فعلى الدول الأطراف التعهد بأن تكفل احترام بنود الاتفاقيات، و"ألّا تُشجّع الدول انتهاكات القانون الدولي الإنساني من قبل أطراف النزاع المسلح. ويجب أن تمارس نفوذها، إلى الحد الممكن، لوقف انتهاكات القانون الدولي الإنساني". وحيث إن جرائم "الإبادة الجماعية" و"الجرائم ضد الإنسانية" و"جرائم الحرب"، كما عرّفها نظام روما، هي ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، فيبدو أن إسرائيل استطاعت أن تنجو - حتى الآن – من ملاحقاتٍ مستحقة من أكثر من جانبٍ ومدخلٍ قانونيّ. ومع تصاعد الاعتداءات وسَعة نطاقها، وتواطؤ عدد من دول الشمال العالمي معها، يبدو للمراقب أن الحديث عن قانون الحرب كقانون نائم، أو قانون لا ينطبق على الأقوياء هو حديث واقعي، ما دعا أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، للقول: إن "عقودًا من الإفلات من العقاب والظلم والمستوى غير المسبوق من الموت والدمار الناجم عن الهجوم الحالي لن تؤدي إلّّا إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار"، داعيةً إلى تسريع مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تحقيقاته الجارية في أدلّة جرائم الحرب بموجب القانون الدولي.

وقد عمد عدد من الدول إلى تجاوز الاكتفاء بالتشجيع المُحرّم قانونيًا، إلى تقديم الدعم العسكري لإسرائيل، على الرغم من انتهاكاتها، فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، أرسلت إمداداتٍ عسكرية يتم استخدامها في الحرب الدائرة، وقد طلبت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من الكونغرس الموافقة على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار لدعم إسرائيل في حربها، بينما لم تضع واشنطن شروطًا لاستخدامات مساعداتها العسكرية. فضلًا عن تعهد زعماء الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، قبل ذلك في بيان مشترك، بدعم "قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها"، مؤكدين "دعمهم الثابت والموحد لإسرائيل"، مع رفع حق النقض الفيتو من الدول المعنية في مجلس الأمن مرات عدة، لمنع القرارات الرامية إلى إيقاف العدوان.

وقد دعت مواقف عدد من الدول الأوروبية، رئيس قسم العلاقات الدولية والتنمية في جامعة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن "إس أو إيه إس" (SOAS)، جيلبرت الأشقر، إلى التصريح بأن "مسارعة الدول الأوروبية لإظهار الدعم المطلق لإسرائيل هو خطأ فادح، لأن هذه الدول التي تقول إنها ديمقراطية، وتحترم حقوق الإنسان تدعم حكومة يقودها اليمين المتطرف، وترتكب جرائم حرب". ولا يبدو أن الدول الأخرى تمارس نفوذها المنصوص عليه من أجل وقف انتهاكات القانون الإنساني الدولي.

ففي حين ترفض إسرائيل التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وتمنع سفر محققيها إلى الأراضي التي تحت سيطرتها أو الأراضي المحتلة، فقد دعت ثلاث دول فقط رسميًا إلى تدخّل المحكمة الجنائية الدولية، وهي جنوب أفريقيا وسويسرا وليختنشتاين. ولم تُمُارس تلك الدول تدابير من شأنها الضغط لمنع الانتهاكات، مثل فرض حظر شامل لتوريد الأسلحة والإمدادات العسكرية إلى إسرائيل، أو اشتراط استخدامات محددة قانونيًا لها، كما لم تمارس أي ضغوط ملموسة لإنهاء الحصار غير القانوني، ولم نشهد خطوات دبلوماسية، مثل قطع العلاقات أو استدعاء السفراء، عدا تحركات خجولة متأخرة بعد مرور أكثر من شهر على بدء الحرب والانتهاكات، كما لم نشهد أبدًا تهديدات بوقف تصدير النفط، أو غير ذلك من المعاملات التي تمنح الدول نفوذًا قد يساعد في الضغط لتعزيز الامتثال للقانون.

 

خلاصة:

إذا كان الغرض من القانون الدولي الإنساني و"قواعد الحرب" التقليل من وحشية الحرب، والموازنة ما بين تحقيق الأغراض العسكرية وحماية الأبرياء، فإن حالة الحرب على غزة تُمُثل نداءً عاجلًا للاحتكام إلى ذلك القانون. وبغض النظر عن تصنيفها حالة احتلال أم حالة حرب، فإسرائيل تبقى متورطة في انتهاكات واسعة لتلك الأطر القانونية وارتكاب جرائم ترقى إلى درجة جرائم حرب. في ظل هذا، لا يقبل القانون والواقع الميداني أي تبريرات لتلك الجرائم والانتهاكات، سواء كان حق الدفاع عن النفس أم استخدام الإنذارات للتنصل من الالتزامات القانونية، أم حتى التعلل بالأضرار الجانبية. أما عن المجتمع الدولي، فهو متورط في عدد من الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني في الحرب الدائرة، متمثلة في دعم بعض أعضائه الانتهاكات الإسرائيلية، وتقاعس بعضه الآخر عن اتخاذ التدابير اللازمة للضغط من أجل الامتثال لقواعد القانون.

ومما يجدر ذكره هنا، أن من المهم ألّا يُشترَط - كما هي الحال عادةً - اتخاذ الفلسطينيين مواقف محددة وامتثالهم لمعايير "الضحية المثالية"، كما يراها صاحب "الامتياز الغربي"، في مقابل تقديم الدعم السياسي والقانوني والأخلاقي اللازم. ومن دون ذلك، فإن اعتراضات أبناء ما يطلق عليه "الجنوب العالمي" بشأن القانون النائم لقواعد الحرب، وكونها تتحول إلى حبر على ورق وفقًا لقوة اللاعب ونفوذه، ستشكل توصيفًا دقيقًا لحقيقة الأمر.

لتحميل نسخة pdf من الدراسة

________________________

غسان الكحلوت- مني هدية، إسرائيل والقانون الدولي الإنساني: البحث عن إجابات في ظل حرب وحشية وقانونٍ مهمش، المركز العربي لأبحاث ودراسات السياسات، 26 نوفمبر 2023، https://2u.pw/ebt04Ze.

بداية أوضح أمرًا مهمًا، لست هنا اليوم لأسرد ما يقوله القانون الدولي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة وإنما ما سأقوله لا يعدو كونه رءوس أقلام كل منها موضوع بذاته يحتاج إلى محاضرات، وإنما نحن بصدد إجلاء بعض ما قد يكون غامضًا من مداخل القانون الدولي بشأن أزمة العدوان على غزة.

وعلى قدر ما كانت سعادة الإنسان بالغة بهذا التقدم التكنولوجي والمعلوماتي على قدر ما أصابته خيبة أمل من هذا الذي وجدناه على شاشات بعض الفضائيات من تشويه للحقائق من غير متخصصين يقولون بما لا يعرفون ويهرفون بما لا يفهمون، وأنا في هذا لا ألومهم، ولكني ألوم من أتى بهم.

كثر الكلام عن الأبعاد القانونية للعدوان على غزة، فهناك من قالوا إن إسرائيل بعدوانها على غزة إنما تدافع عن نفسها ضد حركات إرهابية تطلق صواريخها على المدنيين الإسرائيليين إما ترديدًا للمقولات الأمريكية، وإما قولا على غير فهم. والحقيقة القانونية هي أن مبادى الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان، وليس "دفاعًا ضد دفاع".

وإذا فرضنا جدلًا أن إسرائيل تدافع عن نفسها، فالدفاع هنا أيضا لابد أن يكون متناسبًا مع حجم العدوان، فلا يجوز أن تقول إسرائيل إن حماس قتلت خمسة عشر مدنيًا إسرائيليًا فتأتي هي وتدمر مدينة كاملة وتقتل وتجرح الآلاف، فلابد أن يكون هناك تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان.

أيضا من شروط الدفاع الشرعي أن يكون موجهًا لمصدر العدوان، فلو افترضنا جدلًا أن مطلقي الصواريخ معتدون، فهذا يعني أن توجه إسرائيل دفاعها إلى مطلقي الصواريخ وليس الشعب بمدنييه ونسائه وأطفاله.

إذا انتقلنا من هذه المقدمة وبدأنا في تحديد المعتدي والمعتدى عليه في عرف القانون الدولي سنجد ما يأتي..

إسرائيل انسحبت من قطاع غزة، وهي بذلك تزعم أنها ليست دولة احتلال، وهذا قانونا غير صحيح، فالاحتلال يعرف بأحد نوعين: إما أن تكون هناك قوات للدولة القائمة بالاحتلال بالفعل على الأرض مثلما كان الحال من قبل في قطاع غزة، أو أن تتحكم دولة الاحتلال تحكما كاملًا في الداخل والخارج من وإلى هذا الإقليم: بمعنى آخر أن تمارس هذه الدولة "حصارًا شاملًا" على الإقليم المحتل، فإسرائيل بالنسبة لنا وبعيدًا عن العواطف وبتعريف القانون الدولي دولة احتلال: لأنها تمارس حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا على قطاع غزة، وكما قال أستاذ لنا في القانون "إسرائيل تحتل قطاع غزة بالريموت كنترول".

فإسرائيل بهذا "دولة احتلال" والاحتلال بمعنييه بعد عدوانًا مستمرًا بإجماع من فقهاء القانون الدولي، وإذا كان العدوان كعدوان مبررًا لدفاع، فمن باب أولى العدوان المستمر، فإذا كنا هنا بصدد عدوان مستمر تمارسه إسرائيل على قطاع غزة، إذن فمن حق الشعب الفلسطيني في غزة وبموجب القانون الدولي الدفاع عن نفسه، ومن وسائل الدفاع: الدفاع بالسلاح. فما من منظمة دولية واحدة بدءًا بالأمم المتحدة مرورًا بكل المنظمات الإقليمية المعنية إلا وقد أقرت الحق لكل حركات التحرر والمقاومة الشعبية بحمل السلاح، كما أن هذه المنظمات منحت حركات التحرر الوطني الحق في الحصول على الدعم والتأييد من الدول الأعضاء في هذه المنظمات فالأمم المتحدة عبر جمعيتها العمومية ومجلس أمنها وبنصوص صريحة قد أوجبت على الدول الأعضاء فيها تقديم السلاح والدعم لحركات المقاومة، وأكثر من ذلك أنه في عام 1970 قال المندوب اليوغسلافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة "أن المقاومة بالإرهاب لیست إرهابًا".

أيضا هناك ما أقرته المحكمة الجنائية الدولية من أن إقامة مستوطنات على أراض محتلة تعد جريمة حرب وجريمة الحرب حسب القانون الدولي تبرر بداية ودون الحاجة إلى عدوان مستمر أو احتلال بالريموت كنترول تبرر، الدفاع الشرعي بالسلاح.

هذا هو القانون الدولي أما ما شاهدناه من تواطئ أمريكي وأوروبي، بالإضافة إلى حلف شمال الأطلسي في الحصار على قطاع غزة ومنع وصول السلاح لأصحاب الحق، فهذا ليس من القانون في شئ، وإنما نبحث له عن تفسير في مكان آخر.

وفي هذا السياق، وجب هنا أن نذكر أن القانون الدولي يلزم دولة الاحتلال بتقديم جميع الخدمات الواجبة للمدنيين على حكوماتهم الأصلية؛ أي أن دولة الاحتلال يجب عليها أن تقوم بما تقوم به الحكومة السوية فيما عدا الجانب العسكري، وإذا لم تلتزم دولة الاحتلال بهذا، وجب على المجتمع الدولي أن يقدم لهؤلاء، ما يقيم أودهم ويسيّر أمور حياتهم، وبالأحرى وجب هذا على المجاورين، وكل لبيب بالإشارة يفهم.

إذا اكتفينا من الغنيمة بالإياب وانتقلنا إلى قرار مجلس الأمن 186 سنجد أن معظم من تحدثوا عما إذا كان ملزمًا أم غير ملزم وهل ينتمي إلى الفصل السادس أم السابع، وتناسي الجميع أن القرار لا يحتوي على آليات تنفيذه. فإذا لم يكن مشتملًا  على آليات تنفيذه فلا قيمة له سواء كان منتميًا إلي الفصل السادس أو السابع.

والدليل على هذا أن إسرائيل ضربت به عُرض الحائط، ولم تلتزم به حتى من قبيل تجميل الوجه، ثم إن توقيت القرار يعد كارثة، حيث وجدنا مجلس الأمن ينتظر ما يقرب أسبوعين من اندلاع الحرب، مع أنه وبموجب القانون يكون المجلس في حالة انعقاد دائم إذا وجدت مشكلة تهدد السلم والأمن الدوليين، لكن فيما يبدو أن القائمين على مجلس الأمن لم يروا فيما يحدث في قطاع غزة ما يهدد السلم والأمن الدولين فانتظروا أسبوعين حتي اجتمعوا فوجدنا الجبل يتمخض عن فأر بهذا القرار الذي أصدره مجلس الأمن.

الحقيقة القانونية هي أن مبادئ الدفاع الشرعي في القانون الدولي المعاصر لا تكون إلا في مواجهة عدوان وليس دفاعا ضد دفاع

وهنا تبرز إشكالية أن القانون هو سلاح الضعفاء، لكن سلاح الضعفاء إذا لم يكن قويًا ومشحوذًا فلا قيمة له، وقديمًا قال فقهاء القانون الروماني "إن القوة تخلق الحق وتحميه". ونحن لم نصل معهم إلى تلك الدرجة، فالقوة هنا لم تخلق الحق لكنها بالضرورة حامية له؛ بدليل أن قضية كالعدوان على غرة على ما فيها من وضوح من عدوان على شعب أعزل لم ير فيها المجتمع الدولي خطرًا يوجب انعقاد مجلس الأمن وحينما أراد وفاق من سباته واتخذ قرارًا اتخذه على نحو مانع، فلم يجعل له آلية لتنفيذه.

إذن،  كيف نتعامل من الناحية القانونية مع ما حدث؟

 أمامنا أحد بدائل عدة:

البديل الأول: وهم الذي كثر الحديث عنه بغير علم، هو أن نذهب إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهذا غير ممكن؛ لأن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في الجرائم التي ارتكبت على أراضي الدول الأعضاء في النظام الأساسي وليست أي من الدول العربية عضوًا في النظام الأساسي فيما عدا الأردن وجزر القمر ومصر وقعت فقط لكنه لم يتم التصديق عليها، فهذا بديل برأيي غير ممكن لأن العدوان لم يقع على أراضي الأردن أو جزر القمر.

البديل الثاني: أن يكون القائمون بهذا الانتهاك والعدوان أطرافًا في النظام الأساسي للمحكمة الدولية، وإسرائيل ليست طرفًا في النظام الأساسي للمحكمة.

البديل الثالث: وهذا خاضع لتقدير مجلس الأمن، حيث إن مجلس الأمن إذا رأي أن ما يحدث في إقليم دولة ليست طرفًا في النظام الأساسي بهدد الأمن والسلم الدوليين فمن حقه هنا أن يحيل الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية لتتدارسه، كما هو الحال حاليا مع الرئيس السوداني البشير.

البديل الأخير: وفي تقديري هو الحل الأيسر والمتاح، وهو أن نلجأ مباشرة إلى محاكم الدول التي تقبل الاختصاص العالمي فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وهناك العديد من الدول التي يسمح قانونها الداخلي بالنظر في جرائم

ارتكبت خارج حدود أراضيها، بشرط أن تكون من قبيل جرائم الحرب والإبادة الجماعية وحقوق الإنسان، وهذه الدول كثيرة، منها: فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.

وهذه أسهل البدائل وإن شابها بعض صعوبة ستكون في طول الإجراءات والتكلفة المادية العالية، لكنه وفي ظل التعدد الشديد في منظمات المجتمع المدني والثروات العربية يبدو هذا ممكنا.

وما أحب أن أطمئنكم بشأنه هو أنه من الممكن ألا يري جيلنا وجيل أساتذتي هذا الحلم يتحقق لكن الجيل الحالي

يمكنه أن يرى ذلك.

ومن المفيد جدا هنا أن ندرك أن القضايا الخاصة بالانتهاكات الإنسانية "لا تسقط بالتقادم"؛ بمعني أنه ما حيينا وما حيوا سيظلون دومًا في تهديد إمكانية أن نحاصرهم بالقانون، طالما نحن غير قادرين على المحاصرة بغيره.

______________________________________

المصدر: حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 9، 2009، ص: 65- 67. يمكن تنزيل نسخة (pdf) من المقال عبر هذا الرابط: https://2u.pw/pVkaFRk.