قُدمت هذه الدراسة إلى كلية الشريعة والقانون- قسم الدراسات العليا، الجامعة الإسلامية العليا بإسلام آباد في باكستان، للحصول على درجة الدكتوراه في الشريعة والقانون، عام 2001م/ 2002م، تحت إشراف كل من الأستاذ الدكتور سيد عواد علي عواد "رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة والقانون"، والدكتور عمران نيازي "الأستاذ المشارك بكلية الشريعة والقانون".
ويعد موضوع هذه الدراسة من الموضوعات المهمة والمتجددة باستمرار، وقدم الباحث لدراسته على هذا النحو:
فإن المتأمل في واقع المسلمين المعاصر، تتنابه مشاعر استغراب ودهشة وذلك بسبب ما آلت إليه أحوالهم، حيث أضحوا عالة على غيرهم من الأمم في كل شيء حتى في قانونهم، وذلك على الرغم من أنهم يمتلكون شريعة فيها من النظريات والمبادئ القانونية السامية، ما يستحق الإعجاب بين الأمم والشعوب.
فالشريعة الإسلامية تعتبر نظامًا فريدًا في تصوراتها وأهدافها وغاياتها، تنظم حياة الأفراد والجماعات، وتبين الحقوق والواجبات، فهي نظام حاكم، وقانون ملزم ومشروع حضاري عبر العصور والأزمان.
والدعوة إلى تقنين أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، دعوة تتفق مع مقاصد الشريعة الداعية إلى التيسير ورفع الحرج، وجلب المصالح ودرء المفاسد، كما أنها دعوة توافق التفكير الفقهي، والتوجه الرسمي والشعبي، ففيها استشراف لمستقبل القانون الإسلامي، وتقديم له بصورة حضارية تتناسب مع متطلبات العصر.
وتعتبر قضية التقنين من القضايا الهامة والمستجدة، وذلك بالنظر إلى أثرها وفاعليتها في الحياة العملية، ودورها في المساهمة إيجابيًا في إيجاد حلول مناسبة وأحكام عادلة للخصومات والمنازعات، فهي السبيل إلى إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي وقضائي، وذلك من خلال إيجاد قوانين إسلامية عادلة، تتفق مع مبادئ وتقاليد وقيم الشعوب المسلمة، فتقيم العدل والمساواة، وتحمي الحقوق والحريات، وتنشر الأمن والاستقرار.
وقد قررت بعد الاستعانة بالله تعالى تناول موضوع تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، لما يحتاجه هذا الموضوع من دراسة علمية متعمقة تربط حاضر الأمة القانوني بماضيها الحضاري الخالد، ذلك أن الدعوة إلى التقنين الإسلامي جاءت متجددة ومستجيبة للتجديد في حركة الفقه المعاصرة، فدراسة موضوع التقنين والوقوف على تجاربه، والاستفادة من هذه التجارب أمر في غاية الأهمية، فالبحوث والقضايا التي تعرض للدراسة، لابد وأن تكون مرتبطة بالحياة والعصر الذي نحياه، مع أهمية دراسة التراث في سبيل تنمية التجديد في الفقه الإسلامي، والإسهام في بناء مستقبل فقهي متفاعل مع الأوضاع الحاضرة.
ولقد تعرضت حركة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية إلى انتقاد، بل وذهب البعض إلى عدم شرعيتها على ما سيأتي بيانه - مما يظهر أن القضية ليست محل تسليم مطلق، وهذا ما يجعل قضية التقنين جديرة بالدراسة والتقويم، فالإيمان بالنقد العلمي النزيه المترفع عن الأغراض والمصالح الذاتية، حينما يكون النقد وسيلة للإصلاح، هو ما يدعونا إلى استشراف مستقبل التقنينات الإسلامية، في سبيل إيجاد قاعدة من الفهم الصحيح والإدراك للمصالح الراجحة، ومن هنا فإنه ينبغي علينا أن نفهم أن في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، تتحقق المصلحة الكبرى التي نتطلع إليها ألا وهي تحكيم شريعة الله في الأرض
وبالاعتماد على المعطيات السابقة، فقد رأيت تناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة، آملاً التوصل إلى بناء نظرية إسلامية صادقة للتقنين، ليكون التطبيق العملي مبنيًا على أساس علمي رصين. وقد ذهبت في سبيل التوصل إلى نظرية متكاملة في هذا الموضوع إلى دراسة الموضوع من ناحية فقهية قانونية، نظريًا وتطبيقيًا، واخترت لدراسة الجانب التطبيقي أهم الجرائم التعزيرية في التقنين المصري والباكستاني، ولا أدعي السبق في طرح هذا الموضوع، فقد سبق وأن ناقش بعض العلماء بعض جوانبه، وأذكر منهم الشيخ أبو زهرة، والشيخ على الخفيف، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد زكي عبد البر، والدكتور عبد الرحمن القاسم، والدكتور القرضاوي.. وغيرهم. وتفاوتت دراساتهم، فتناول البعض الجانب الفقهي في الموضوع، بينما تناول آخرون الجانب التطبيقي، مهتمين بدراسة التجارب وحصرها، ولكن هذه الدراسات -من وجهة نظري المتواضعة مختصرة- لا تشكل نظرية متكاملة التقنين، تعطي تصورًا شاملاً للموضوع.
وقد قصدت بمحاولتي المتواضعة، بناء نظرية متكاملة للتقنين نظريًا وعمليًا، أجمع فيها الجهود السابقة، وأضع أفكارًا وتصورات جديدة في كثير من القضايا المطروحة، محاولاً بكل تواضع بناء تصور مقبول أقرب إلى الصواب، مساهمة في ميدان التجديد الفقهي، ودراسة تطبيقية لأهم تجربتين في العصر الحاضر، وهما: تجربة مصر، وتجربة باكستان، آملاً أن تحقق هذه الدراسة هدفها، وتكون دافعًا للحكومات الإسلامية كي تحذوا نفس الحذو، وتقتدي بهذه التجارب وتستفيد منها، كي تكون شريعة الله هي الحاكمة في الأرض.
أهمية الموضوع:
- ضرورة إيجاد نظرية متكاملة شاملة لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية بأسلوب عصري، وطريقة منهجية صحيحة، بناءً على دراسة علمية تأصيلية لهذا الموضوع.
- تعتبر قضية تقنين أحكام الشرعية الإسلامية من القضايا الهامة في هذا العصر، والتي كانت موضع جدل ونقاش، خاصة بعد أن ظهر كثير من التوجهات الرسمية والشعبية يدعو إلى العودة إلى الشريعة الإسلامية، وصياغة القوانين بالاعتماد عليها.
- ضرورة بيان الرأي الفقهي في هذه القضية المستجدة.
- بيان قدرة الشريعة الإسلامية على الاستجابة لمتطلبات العصر، وبناء قانون تستمد أحكامه من الشريعة الغراء.
- تجربتا مصر وباكستان في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، لم تأخذ قدرهما وحقهما من الدراسة والتوضيح، فتأتي هذه الدراسة العلمية لإبراز التجربتين، وبيان ما تستحقانه من التقدير والإعجاب.
أسباب اختيار الموضوع:
- قضية تقنين أحكام الشريعة الإسلامية من القضايا الهامة، خاصة في ظل التطورات القانونية المعاصرة، إذ لم يعد مقبولاً، بقاء الشريعة الإسلامية بأحكامها العاملة دون تقنين عصري يفي بمتطلبات هذا العصر.
- بیان قدرة الشريعة الإسلامية على التفاعل مع تطورات العصور وتغيرات الأماكن، وصلاحيتها لبناء صرح قانوني يتميز بالعدالة والإحسان.
- ومما جعلني أكتب في هذا الموضوع، رغبتي في أن أكون من الدعاة إلى تطبيق شريعة الله في الأرض، وإقامة الحق والعدل، على أساس قانون إسلامي تستمد أحكامه من الشريعة الغراء.
- ضرورة الرد على منكري ضرورة وأهمية تقنين الشريعة الإسلامية بأسلوب علمي مقنع، يظهر من خلاله ضعف إنكارهم، أملاً إقناعهم بضرورة التقنين وأهميته في هذا العصر.
- الرغبة في الاستفادة من التجارب العملية في التقنين عبر التاريخ الإسلامي، وذلك في سبيل الوصول إلى أفضل التصورات لبناء نظرية صحيحة لتحقيق الهدف والغاية من التقنين، وبإقامة الحكم على أساسها واقعًا عمليًا.
واختتمت الدراسة بعدد من النتائج المهمة، منها:
- واجب تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، تقع مهمته على الحاكم المسلم في كل زمان ومكان، فهو من يملك إصدار الأوامر بذلك، ثم إن هذا الواجب يمتد إلى الأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي، للعمل سويًا على إنجاح هذا المشروع الهام، فهو مشروع الأمة بأكملها.
- ارتبطت حركة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، بعوامل سياسية واقتصادية، ودينية وفكرية، إذ إن أثر تلك الظروف واضح على التقنين، وجودًا وعدمًا، مدًا وجزرًا.
- تبين لي من خلال دراسة موضوع تقنين أحكام الشريعة الإسلامية أن هناك فروعا كثيرة بحاجة إلى صياغتها على شكل تقنينات إسلامية، من قبل الجهات المختصة، وأهم هذه الفروع ما يتعلق منها بالجانب الاقتصادي، فمعاملات البنوك أشد ما تكون حاجة إلى تقنين تستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية.
- تدريس تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، كمادة علمية، ضرورة علمية خاصة في كليات الشريعة والقانون، ويجب أن تكون هذه المادة أساسية، يباشر تدريسها عمليا بالسرعة الممكنة.
- العلاقة بين تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وتطبيقها علاقة وثيقة، وكل جهد يبذل في سبيل تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، إنما هو جهد يخدم الغاية العليا لكل مسلم في رؤية الشريعة تطبق عمليا في الحياة الواقعية وإذا كان تطبيق الشريعة واجبا، فإن تقنينها يأخذ نفس الحكم، فالوسائل تأخذ حكم المقاصد حلا وحرمة. فالتقنين والتطبيق صنوان متلازمان فالشريعة تحيا بالتطبيق، والتطبيق لابد له من التقنين، والنجاح فيهما يعني العزة والقوة والكرامة للأمة جميعها.
- تجربة مصر وباكستان في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، دليل حي، وبرهان ساطع على قدرة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لمسايرة القوانيـــن فـــي العصر الحاضر، فهما تجربتان ناجحتان تستحقان التقدير والاحترام والإعجاب ويا حبذا لو حذت حذوهما باقي الدول الإسلامية.
- تقنينات الشريعة في مصر، بحاجة إلى أن تكون أكثر وضوحًا في التعبير عن وجهها الإسلامي، وذلك من خلال ضرورة اشتمال المواد المقننة على تلك الصبغة، وإرفاق مذكرة تفسيرية خاصة فيما يتعلق بالأحكام التعزيرية. وهذه التقنينات في حاجة إلى نقلة من مرحلة الإعداد والمقترحات إلى مرحلة التنفيذ.
- التقنينات الإسلامية في باكستان منذ عام ۱۹۷۹م وحتى هذا العصر تقنينات هامة، إلا أنه يؤخذ عليها أنها تسيير في خطى بطيئة، كما أنها بحاجة إلى إعادة صياغة على أساس الوحدة الموضوعية.
- ضرورة إنشاء معهد عالمي يعنى بالعمل على إعداد دراسات ومشروعات لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف المجالات، بدعم وتمويل سياسي ومادي مشترك من الدول الإسلامية.
- وأخيرًا، وجدت أن هناك موضوعات كثيرة، يمكن إعداد بحوث فقهية متخصصة فيها، وهذه الموضوعات هي ما تناولتها في الفصل الأخير من هذا البحث. فأنصح الزملاء الراغبين في كتابة موضوعات علمية تناول هذه الموضوعات.
تقسيمات الدراسة:
قُسمت هذه الدراسة إلى مقدمة، وباب تمهيدي وثلاثة أبواب رئيسة، وخاتمة، أما الباب التمهيدي، ففيه تعريفات ومقدمات هامة تتعلق بموضوع البحث، وتقع في أربعة فصول، وهي:
الفصل الأول: في تعريف التقنين وبيان أهميته.
الفصل الثاني: في بيان معنى الشريعة الإسلامية، وخصائصها وأقسامها وصلاحيتها للتقنين.
الفصل الثالث: في تعريف الفقه الإسلامي، وبيان أقسامه، وقابليتها للتقنين.
الفصل الرابع: في تعريف القانون الوضعي، وبيان أقسامه، وبيان أهم الفروق بينه وبين الشريعة الإسلامية.
أما الباب الأول: فقد بين فيه تاريخ التقنين ومنهجيته ومشروعيته وآثاره على الفقه الإسلامي، وذلك في ستة فصول:
الفصل الأول: عرض لتاريخ التقنين في العهود الإسلامية المختلفة وتطورات التقنين عبر العصور المختلفة.
الفصل الثاني: وفيه بيان المشروعية التقنين، وذلك من خلال عرض رأي القائلين بمشروعيته وأدلتهم، وكذلك رأي القائلين بعدم مشروعيته وأدلتهم، ومن ثم مناقشة هذه الأدلة، وبيان الرأي الراجح.
الفصل الثالث: في بيان عيوب التقنين ومزاياه، وفيه ذكر عيوب التقنين ومناقشة هذه العيوب، ومن ثم بيان مزايا التقنين وفوائده.
الفصل الرابع: في بيان مصادر التقنين الإسلامي وأصوله وهي مصادر التشريع الإسلامي، وذلك في سبيل معرفة صلاحيتها كمصادر للتقنين الإسلامي.
الفصل الخامس: في بيان منهجية ومراحل التقنين، ومن خلاله يتم بيان منهجية التقنين بوجه عام، ومنهجية مصر وباكستان بوجه خاص، ثم المقارنة بينهما، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمراحل واجراءات التقنين.
الفصل السادس: فيه عرض لأثار حركة التقنين على الفقه الإسلامي، حيث يظهر لنا أن الحركة التقنين أصداء هامة على الفقه الإسلامي.
أما الباب الثاني: فقد تناول فيه الحديث عن الشريعة الإسلامية بين التقنين والتطبيق العقبات والموانع، حيث بين أدلة وجوب تطبيق الشريعة، والعقبات والموانع التي تواجه تقنين وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في بيان وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والآثار المترتبة على عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والعلاقة بين تقنين أحكام الشريعة وتطبيقها.
الفصل الثاني: اتهام الشريعة الإسلامية بالجمود وعدم التطور والملاءمة للعصر، وبالتالي عدم صلاحيتها للتقنين والتطبيق، فقد تناول هذه الشبهة بالمناقشة والرد، معتمدًا على أدلة نقلية وعقلية.
الفصل الثالث: تناول فيه بيان شبهة القائلين بعنف وقسوة العقوبات في الشريعة الإسلامية، حيث اتخذها المعارضون لتقنين الشريعة وتطبيقها ذريعة للوقوف في وجه هذا المشروع، فقام الباحث بممناقشة هذه الشبهة والرد عليها.
الفصل الرابع: وفيه بيان دعوى الفصل بين الدين والدولة، حيث اعتبر المعارضون لتقنين الشريعة وتطبيقها، أن الدعوة لتقنين أحكام الشريعة وتطبيقها دعوة سياسية، فقام بمناقشة هذه الدعوى والرد عليها ردًا علميًا.
الفصل الخامس: وفيه بيان لدعوى وجود أقليات غير مسلمة، في المجتمع الإسلامي، وبالتالي فإن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وتطبيقها يتعارض مع حقوق هذه الأقليات، وهذه الدعوى بينت زيفها من خلال الرد عليها.
أما الباب الثالث: فقد تناول فيه موضوع تقنين العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية، وتناول فيه المشروع المقترح لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مصر، والقانون الباكستاني، وذلك في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: فيه بيان للأحكام العامة لقانون العقوبات، كالجريمة وأركانها وأنواعها، وأنواع العقوبات، وتنفيذ العقوبة وسقوطها.
الفصل الثاني: وفيه بيان لأحكام تمهيدية هامة تتعلق بالتعزير في الشريعة الإسلامية، فبين معنى التعزير ومشروعيته وأغراضه وأسبابه، وأنواع العقوبات التعزيرية، وإمكانية اجتماع التعزيز مع العقوبات الأخرى، والفرق بين التعزير وغيره من العقوبات، وحدود حرية القاضي والإمام وسلطتهما في التعزير، وأسباب سقوط العقوبة التعزيرية، وأخيرًا صلاحية أحكام التعزير للتقنين.
الفصل الثالث: وهو تطبيق للتقنين، حيث تناول فيه أهم الأحكام الخاصة بالجرائم التعزيرية في مشروع مصر لتقنين أحكام الشريعة والتقنين الباكستاني.
رابط مباشر لتحميل الدراسة