يتكون كتاب "أخبار القضاة" لوكيع، محمد بن خلف بن حيان* من ثلاثة أجزاء؛ صححه وعلق عليه وخرّج أحاديثه: عبد العزيز مصطفى المراغي**؛ حيث صدرت الطبعة الأولى من الجزء الأول عن مطبعة الاستقامة بالقاهرة عام 1947م، وصدرت الطبعة الأولى من الجزء الثاني عن مطبعة السعادة بالقاهرة عام 1947م، وصدرت الطبعة الأولى من الجزء الثالث عن مطبعة الاستقامة بالقاهرة عام 1950م.
ويتناول الكتاب -في أجزائه الثلاثة- أخبار القضاة في جميع الأمصار الإسلامية في القرون الثلاثة التي سبقت وفاته؛ أي من صدر الإسلام إلى نهاية العصر العباسي الذهبي.
وجاء في تقديم المراغي للكتاب ما يلي:
فها هو ذا كتاب أخبار القضاة لوكيع، يعرض للناس لأول مرة بعد أن بقي محجبًا في بطون الغيب، واحتجزته خزائن الكتب، أحقابًا طوالاً لا يحصيها عد، وكان أول عهدي به حديثًا عنه من صديقي الكريم الشيخ على حسن عبد القادر كان مشوقًا، وكان حافزًا لي على قراءته، واستجلاء ما خفي من خباياه، فما كدت أمتع النظر به حتى وجدته كنزًا، من الخير أن تيسر للناس سبل الانتفاع به.
وقد راعني منه أنه ليس بالكتاب الذي يحمل المعاني التي يشير إليها عنوانه فحسب فهو ليس بمجموعة لأحكام القضاة الذين وصل إلى المؤلف علمهم، وانتهى إليه خبرهم، وإنما هو كتاب أدب ولغة، وكتاب تاريخ وقصص، وهو صورة للحياة السياسية التي مثل الكتاب عصرها، وهو تبيان للأوضاع والأحداث التي كانت تعج بها الدولة الإسلامية في عصورها الأولى؛ فهو مورد للمؤرخ والباحث، كما هو مورد للفقيه والقاضي، في عبارة طبيعة وبيان رائع، وهو حافل بتراجم كثير من القضاة ورجال الحديث الذين يعز وجود ترجمة شافية لهم في غير هذا الكتاب.
وفي الكتاب معنى امتاز به عن كثير من الكتب التي عرضت لموضوع تاريخ القضاة وأخبارهم مثل الكندي ومن لف لفه؛ ذلك أن أولئك كتبوا تاريخ القضاة في أمصار خاصة، كان كل وكدهم العناية بها مع شيء من الاختصار، وفى شيء غير قليل من الجفاف ونقص الطلاوة في التعبير؛ أما وكيع مؤلف كتابنا الذي نقدمه اليوم، فقد أربى عليهم في هذا الباب؛ فقد كتب أخبار القضاة في جميع الأمصار الإسلامية في ثلاثة القرون التي سبقت وفاته؛ أي من صدر الإسلام إلى نهاية العصر العباسي الذهبي حسبما عرف من أخبار وصلت إليه، أو وقعت تحت بصره، لم يخص قطرًا دون آخر، ولا مصرًا دون غيره؛ كتب ذلك في نقد وفى تحليل، يعطيك فكرة عن عقل الرجل ونظرته للحوادث، وفى بيان فياض ولغة رائعة؛ ووكيع أديب وراوية، وحسبك أنه شيخ من شيوخ أبي الفرج الأصفهاني، وحلقة من إسناده، ونظرة إلى أجزاء كتاب الأغاني تعطيك فكرة عن رواية الأصفهاني عن وكيع، وبذلك أتيح لوكيع ما لم يتح لغيره من موهبة في هذه الناحية.
وشيء آخر وراء هذا؛ ذلك أن هذا الكتاب من أقدم الكتب التي وصلت إلينا، والتي عرضت لأخبار القضاة؛ فهو بهذا الاعتبار مصدر قيم جليل الأثر والمقدار، وهو حكم في كثير من الاختلافات التي شجرت في شتى أنواع الحوادث والقضايا التي يحفل بها التاريخ الإسلامي، ويحفل بها فقهه وقضاؤه في شتى أبواب التشريع في العصر الأول، وهو -كما نعلم- العصر الذي يتطلع إليه الباحثون عندما تعرض لهم مسألة لا يعرفون لها إصدارًا ولا إيرادًا في كتب الفقه المتأخرة، أو عندما يريدون حل مشكلة تعرض لهم على وجه لا يجدون فيه طلبتهم، أو يبلغون أملهم في كتب الفقه المدونة في العصور المتأخرة، بعد استقرار المذاهب، وبعد أن ساد سلطانها على أفكار الدارسين للفقه الإسلامي إلى حد جعل الخروج عن حظيرتها قيد شعرة موجبًا لغير قليل من النقد والتجريح.
ووكيع كان قاضيًا، خبير بأساليب القضاة ومناحي أقضيتهم، ومناهج تفكيرهم، وطرائق حلهم لما استعصى من القضايا المتعددة الشعب، المشتبكة الأطراف، والتي تحتاج إلى دقة ولباقة من القاضي يستطيع عن طريقها أن يعطي كل ذي حق حقه، من غير أن يحول دونه لدد الخصومة من مدع، أو مراوغة من مدعي عليه، ودون أن يحول دون قضائه بالحق تأثير من ذى سلطان، أو رهبة من ذى ولاية.
وأخبار القضاة لوكيع -كغيره من الكتب المؤلفة على هذا الغرار- نوع مما يسمى في عصرنا الحديث مجموعة رسمية بذكر فيها كثير من القضايا المختارة لطرافتها، أو لدقة المبادئ التي بنيت عليها الأحكام.
والفقه الإسلامي قد تأثر كثيرًا بأحكام القضاة، وكثير من نصوصه قد بني على آرائهم، بل إن القضاء في الإسلام كان له أثر بارز في تحديد الآراء الفقهية؛ فالقضاء -كما يعلم الدارسون للفقه الإسلامي- يرفع الخلاف في المجتهدات، وبضع حدًا للنزاع الفقهي في المسألة، بل إن له آثارًا أجل من هذا كما يُعلم من الرجوع لآراء فقهاء الحنفية في كتاب الفضاء ما لا نرى داعيًا للإطالة بذكره.
وإليك عبارة ذكرها شهاب الدين القرافي -في كتاب الأحكام- قال:
السؤال السادس عشر: ما الفرق بين حكم الحاكم في المجمع عليه فإنه لا ينقض، وبين حكمه في المختلف فيه فإنه لا ينقض أيضًا، والإجماع في المسألتين؟ فهل المانع واحد أو مختلف؟ فإن كان الإجماع فهو واحد وإن كان ثمت مانع آخر فما هو؟
جوابه:- إن الإجماع مانع فيهما واختص حكمه في مسائل الخلاف بمانع آخر، وتقريره:- أن الله تعالى جعل للحكام أن يحكموا في مسائل الاجتهاد، بأحد القولين؛ فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك حكمًا من الله تعالى في تلك الواقعة، وإخبار الحاكم بأنه حكم فيها كنص من الله ورد خاص بتلك الواقعة معارض لدليل المخالف لما حكم به الحاكم في تلك الواقعة، مثاله ما قاله مالك: والدليل عندي على أن القائل لامرأة : إن زوجتك فأنت طالق ثلاثًا، فإذا زوجها طلقت ثلاثًا، ولا يصح له عليها عقد إلا بعد زوج، واتفق أن ذلك القائل تزوجها، وأقام معها على مذهب الشافعي، وطلقها واحدة وبانت منه بانقضاء العدة، ثم عقد عليها فرفع ذلك العقد لحاكم شافعي فحكم بصحته، صار هذا من قبل صاحب الشرع في خصوص هذا الرجل الحالف دون غيره من الحالفين الذين لم يتصل بهم حكم حاكم؛ لأن الله قرره بالإجماع، وما قرره بالإجماع فقد دل دليل قطعي من قبل صاحب الشرع عليه الخ العبارة التي ذكرت في الأحكام.
وفقهاء المسلمين كانوا حراصًا على جمع قضايا الفقهاء خصوصًا قضايا الخلفاء الراشدين، ومن أخذ عنهم من التابعين، ففي ذلك ضمان لقضاياهم من أن تحيد عن المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام، وحرص على نشرها في أرجاء الدولة الإسلامية علماء المسلمين خصوصًا أن آراء القضاة لم تكن مقصورة على ما يسمى على التحديد قضايا، بل كانت تصرفاتهم تتناول شيئًا كثيرًا مما يدخل في عصرنا اليوم في النظام الإداري، بل كانت في بعض الأحايين تتعداه إلى الأمور العسكرية فقد وكل المأمون إلى قاضيه يحيى بن أكثم قيادة عسكره، وكذلك فعل عبدالرحمن الناصر مع قاضيه المنذر بن سعيد، وقد وضع توبة بن النمر قاضي مصر في زمن هشام بن عبد الملك يده على الأحباس وقد كانت في يد أهلها وأوصيائهم فقال: ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظًا لها من الضياع، وكثيرًا ما كانت شئون من السلطة التنفيذية بيد القضاة، كأعمال الشرط، أو دار الضرب والسكة إلى غير ذلك مما يعرفه الدارسون للنظم الإسلامية في العصور الأولى من تاريخ الإسلام.
وكثيرًا ما كان القضاة بحاج بعضهم بعضًا، حتى في الآراء الفقهية بما عرف عن السلف الصالح من قضاء وآراء في الدعاوى، أو في الشئون التي كان يقوم بها القاضي وفقًا لما سوغ له في منشور توليته، وقد كان ذلك المنشور دائمًا فيصلاً في تحديد اختصاص القاضي حتى لا يجور على سلطة أمير البلد أو الإقليم.
تلك هي بعض الميزات الظاهرة التي تتمتع بها هذه المجموعات الرسمية القضائية، وهي مرعى خصيب لمن رام دراسة تطور الفقه الإسلامي وقضايا القضاة المسلمين عصرًا أثر عصر وجيلاً بعد جيل، ليعرف العوامل التي أثرت على الفقه الإسلامي وأثرت على قضاته، ومدى هذا التأثير، ويعرف تلك الحرية الواسعة والاستقلال الكامل، والنزاهة المطلقة التي تحلى بها قضاة المسلمين في العصور التي نعرف عن تاريخها السياسي ما نعرف، ونعرف مقدار تعرض قضاة المسلمين وفقهائهم لأنواع من الأذى، وألوان من العبث تنوء بظهر القوى الحول، وقد روى ابن السبكي في الطبقات في ترجمة محمد بن المظفر الحموي:-أنه امتنع عن القضاء فما زالوا به حتى تقلده، وشرط أن لا يأخذ رزقًا، ولا يقبل شفاعة، ولا يغير ملبوسه، فأجيب إلى ذلك، ولكن فقهاءنا وقضاتنا -احتسابًا لما عند الله- لم تلن قناتهم لهذا العنت وذلك الأذى، وساروا في قضائهم صابرين لم يراعوا فيهما يصدرون ويوردون إلا وجه الله عز وجل، مهما كان وراء ذلك من تبعات وأثقال، وكثيرًا ما أجبر الولاة والحكام -مع ما هم عليه من جبروت- على النزول على أحكام القضاة والخضوع لتصرفاتهم.
تلك هي أهم العوامل التي دفعت بالعلماء الأولين إلى تتبع أخبار القضاة، وتدوينها في مجموعات مستقلة، تروى أخبارهم والمهم من قضاياهم، وقد سمعنا عن كثير من الكتب التي عرضت لهذا الموضوع: - مثل كتاب أخبار قضاة دمشق للذهبي، والروض البسام فيمن ولى قضاء الشام لأحمد اللبودي، وأخبار قضاة بغداد لا بن الساعي البغدادي، وأخبار قضاة البصرة لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأخبار قضاة قرطبة لخلف بن عبد الملك، وأخبار القضاة الشعراء لابن الشجري البغدادي، إلى غير ذلك من الكتب التي تعالج أخبار القضاة في أمصار خاصة، ولكنها جميعًا دون "أخبار القضاة لوكيع" في معالجته لأخبار القضاة - وقد عرض كما قلنا لأخبار القضاة في جميع الأمصار، وهذا ما حبب إليَّ نشر الكتاب خدمة لناحية من نواحي التشريع الإسلامي وقضاياه، وقد كنت حريصًا على نشره من زمن بعد ما استنسخته من مصورة الجامعة المصرية المنقولة عن النسخة الوحيدة الموجودة في الأستانة -كما وصل إلى علمي- ولكن الأحداث العالمية وما جرت في أذيالها من تعويق لكل عمل علمي نافع مثمر حالت دون ما كنت أرجو.
وها أنا ذا اليوم أقدمه للناس راجيًا أن يغفر لي القارئ الباحث ما عساه يحس به من نقص خضعت فيه لظروف عدة لا قبل لي بدفعها، ولم يكن ليتيسر لي معالجة آثارها، وأهمها أن لم يكن بين يدي حين نقل الكتاب إلا نسخة الجامعة، وكثيرًا ما قاسيت متاعب في تصحيح نقل، أو إصلاح لفظ، وكثيرًا ما راجعت عشرات من الكتب لتصحيح فرع فقهى، أو إيضاح رواية أدبية، أو بيت من الشعر.
وقد خضعت في كثير من المواضع للأمر الواقع، بعد ما ضاقت عليَّ السبل، فأبقيت بعض الألفاظ كما هي -وقد لا يتبين معناها- حرصًا على الأمانة العلمية، خصوصًا والهم منصرف إلى نشر الكتاب لينتفع به الباحثون في الشريعة الإسلامية، وأكبر الظن أن لن يحول دون انتفاعهم شيء من تحريف أو تصحيف.
رابط مباشر لتحميل الجزء الأول
رابط مباشر لتحميل الجزء الثاني
رابط مباشر لتحميل الجزء الثالث
* هو محمد بن خلف بن حيان بن صدقة الضبي القاضي، أبو بكر، الملقب بوكيع (توفي عام 306ه/918م): قاض، باحث، عالم بالتاريخ والبلدان، ولي القضاء بالأهواز، وتوفي ببغداد، له مصنفات، منها (أخبار القضاة وتواريخهم - ط) ثلاث مجلدات، يعرف بطبقات القضاة، و(الطريق) ويقال له (النواحي) في أخبار البلدان ومسالك الطرق، و(الشريف) على نمط (المعارف) لابن قتيبة، و(الأنواء) و(عدد آي القرآن والاختلاف فيه) و(الرمي والنضال) و(المكاييل والموازين).
** هو الشيخ العلَّامة عبد العزيز بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم القاضي المراغي، ولد ببلدة المراغة من أعمال مديريَّة جرجا بصعيد مصر سنة (1318هـ/ 1901م) من أسرة عريقة في خدمة العلم والقضاء، توارثت القضاء خلفًا عن سلف، وبسبب هذا تُلقب بأسرة القاضي. كان عضوًا بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وله العديد من المؤلفات والتحقيقات والمقالات، فمن المؤلفات: "طرق استيفاء الحقوق في الشريعة الإسلاميَّة" (وهو البحث الذي نال به عضوية هيئة كبار العلماء عام 1949م)، ومن المقالات: "تطور التشريع الإسلامي"، و"التشريع الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين".