الديمقراطية ونظام ثورة 23 يوليو (1952-1970)

By المستشار طارق البشري كانون1/ديسمبر 20, 2024 2708 0

 

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب لمؤلفه المستشار طارق البشري* عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت- لبنان في عام 1987م، ثم أعادت دار الشروق طبعه عام 1991م. والكتاب يرصد فترة تاريخية مهمة في تاريخ مصر لا تزال انعكاساتها قائمة حتى هذه اللحظة، ويعتبر بمثابة تكملة لكتاب المستشار طارق البشري الأشهر "الحركة السياسية في مصر 1945 إلى 1952".

وفي الحقيقة إن أهم ما يميز هذا الكتاب أن مؤلفه كتبه بروح القاضي المتجرد الذي لا ينساق وراء العاطفة في تحليلاته واستنتاجاته، ولا يتحيز لطرف ضد طرف آخر، بل يبحث عن الحق، ويبرز الإيجابيات ولا يكتم السلبيات، مما جعل الكتاب من أبرز المؤلفات المنصفة حول ثورة يوليو، وذلك على عكس معظم ما كُتب عن التجربة الناصرية بصفة عامة، والتي تحكمت فيها النظرة العاطفية والمآرب السياسية بعيدًا عن النظرة التحليلية الواقعية.  

وكعادته درس المستشار طارق البشري –رحمه الله- فترة الحكم الناصري في مصر في إطار السياق السياسي والثقافي والاجتماعي التي  أحاطت بثورة 23 يوليو، حيث تطرق للأوضاع السابقة على 23 يوليو مركزًا على الحياة الحزبية خلال تلك الفترة، فتحدث عن الحزب الوطني، ودوره في الفترة (1909م- 1910م)؛ حيث خرجت مظاهرات الحزب تحتج على تقييد حرية الصحافة وتطالب بالدستور، فصار الحزب الوطني يقود الحركة الوطنية في المطالبة بالديمقراطية عكس حزب الأمة القريب نسبيًا من الإنجليز، ثم جاء تأييد كل من هذين الحزبين لسعد زغلول في انتخابات الجمعية التشريعية في عام 1913م، وفي أول انتخابات جرت في يناير 1924م ظهر أن الوفد مكتسح منافسيه اكتساحًا في تبوء المكان الدستوري للأمة في البرلمان.

وأوضح المؤلف أنه منذ بدء العمل بدستور 1923 في عام 1924م حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، شهدت مصر تقلبات سياسية كبيرة، حيث تتابع على حكم مصر 38 وزارة، تولى منها حزب الوفد الحكم ست مرات عقب انتخابات لمجلس النواب فاز فيها بأغلبية كاسحة أو كبيرة (1924، 1928، 1930، 1936، 1942، 1950). وخلص المؤلف إلى أن المطالع للتاريخ المصري في هذه الفترة لا يتردد في الجزم بأن المسألة الوطنية كانت الشغل الشاغل للمصريين في ممارستهم الديمقراطية أو مطالبتهم بها أو دفاعهم عنها، ثم توالت الأحداث وجاءت تجربة الحكم العرفي مع إعلان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939م، واستمرت حتى 1945م ثم أعيدت مع حرب فلسطين في مايو 1948م، وظلت حتى 1950، ثم أعيدت مع حريق القاهرة في يناير 1952م.

وتحدث الكتاب عن بداية تنظيم الضباط الأحرار؛ حيث تكونت في أوائل الأربعينات المجموعة الأولى للضباط التي تشكل منها فيما بعد تنظيم الضباط الأحرار، وتحدث الكتاب خلال الفترة التي تناولها بالدراسة عن ملامح النظام السياسي خلال تلك الفترة، وكذلك نظام الحكم.

وتحدث الكتاب كذلك عن أزمة النظام بعد نجاح ثورة 23 يوليو واستقرار الحكم، والذي اتسم  بالشمولية، وذلك بعد أن قام النظام بحل جميع الأحزاب والحركات السياسية، ثم أحكم سيطرته على السلطات الثلاث في الدولة (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية)، وجاءت هذه الهيمنة من خلال تعيين رجاله -سواء من ضباط الجيش أم من المدنيين- في الجهاز الإداري للدولة من أجل إحكام السيطرة على السلطة التنفيذية، كما قام بإحكام السيطرة على السلطة التشريعية، وأصبحت تصدر معظم التشريعات من جانب النظام، ولم تسلم السلطة القضائية من إحكام تلك السيطرة، حيث أصبح النظام يقوم بتعيين القضاة وعزلهم عن طريق وزير العدل، فضلاً عن إنشاء العديد من المحاكم الاستثنائية التي خُصصت لمحاكمة رموز المعارضة السياسية للنظام، وكذلك الرموز السياسية في العصر السابق بشكل عام، ممن أطلق عليهم حينذاك "أعداء الثورة".

وفي نهاية الدراسة لخص المستشار البشري وعقب على بعض النقاط، التي استنتجها من خلال كتابه، ويمكن إجمال هذه النقاط على النحو الآتي:

فبالنسبة للجيش، يُقال أنه كمؤسسة سيطر على الحكم خلال الفترة الناصرية، وإن كان هذا من سلبيات النظام وقتها، وأتصور أن المسألة يتعين ألا توضع بهذا الشكل المطلق، وقد سبقت الإشارة في بدايات الفصل الثاني إلى أن الناظر في حركة التاريخ المصري الحديث، يلحظ أربع انعطافات تاريخية كبرى، ثلاث منها قام بها الجيش أو شارك فيها، وهي حركة: "محمد علي"، وحركة "عرابي"، وحركة ٢٣ يوليو، وإن واحدة فقط قام بها المدنيون ۱۹۱۹م، ونلحظ أن الجيش المصري عندما شبت هذه الثورة على الخصوص، كان ثلاثة أرباعه مغيب في السودان منذ ۱۸۹۸م، فقيام حركة من الجيش أو مشاركته في حركة ثورية ليس أمرًا غير عادي، ومن الخطأ أن تعتبره أمرًا شاذًا، وتجربة (محمد علي)، وهي تجربة نهوض سياسي واقتصادي، بدأت بالجيش وبنيت على أساس ترابط وثيق بين المؤسستين العسكرية والمدنية.

إنما وجه الخطأ في هذا الأمر هو الكيفية التي تم بها هذا الاشتراك من الناحية التنظيمية، إذ قامت على أساس من شبه استقلال تنظيمي للمؤسسة العسكرية عن السلطة السياسية، مما أفاد تفككاً في بناء الدولة وانحدارًا في كفاية الجيش نفسه، وثمة أخطاء كثيرة أُشير إليها من قبل بما لا داعي لتكرارها هنا.

وبالنسبة لقضية التنظيم الشعبي للعهد الناصري، فثمة نقد يوجه إليه بطبيعة الحال من حيث النظام الأساسي للدولة الذي أنكر تمامًا فكرة التعدد التنظيمي، ولكن يُضاف إلى ذلك أن هذا التنظيم الذي بنته دولة ٢٣ يوليو لم يكن تنظيمًا شعبيًا في الواقع، رغم كل المحاولات، ورغم السياسة الشعبية التي كان ينتهجها "عبد الناصر" في مجالي قضية الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي، ولم يكن التنظيم ذا قرار سياسي مستقل إنما كان ملحقًا وتابعًا لأجهزة الدولة، وإن معضلة النظام الناصري في هذا المجال قامت إن جهاز الإدارة هو ما استوعب الوظائف السياسية في الدولة أولاً، ثم استوعبت أجهزة الأمن وحدها هذه الوظائف، مع قيام التعارض والتصارع بين بعضها البعض، وقام هذا سبب آخر لتفكك النظام.

ومن جهة أخرى فإن نزعة التغريب أو التوجه للغرب واستعارة أنماطه الفكرية والاجتماعية قد زادت خاصة في الستينات، وأتصور أن: عبد الناصر، وبعض من كانوا حوله لم يكونوا يؤيدون المدى الذي بلغه هذا التوجه، وأنهم كانوا يتشوقون حتى سنة ١٩٦٤ على الأقل إلى نوع من الصياغات التي لا تكون تابعة أو مأخوذة عن الغرب، ولكن ساعد في ازدياد هذا التوجه التغريبي ما يمكن تسميته بالصفوة الحاكمة عمومًا في مصر وخاصة المهنيين، إذ غلب عليهم المنزع الغربي في مجالاتهم التخصصية وفي مجالات التثقيف والتوجيه المعنوي العام، وأن صراع "عبد الناصر" مع الإخوان المسلمين منذ الخمسينات، قد أدى إلى غياب العنصر الاسلامي في السياسة والتوجه الفكري على مدى خمسة عشر عامًا، أي غيابه عن التأثير في البيئة الفكرية والسياسية المصرية، وغياب مقاومته لموجة التغريب، والعنصر الثالث لازدياد هذه الموجة هو سيادة النمط الذي شاع في أرض الشام ولبنان على وجه الخصوص في الستينات بالنسبة للفكر القومي العربي، وهو فكر قومي يقوم على أساس استبعاد العنصر الديني تمامًا.

وكملاحظة عامة فإنه يظهر للقارئ من أول فصول هذه الدراسة أن كاتبها ينطلق من مسلمة لديه، وهي أن قضية الديمقراطية في التاريخ المصري الحديث كانت موجهة دائمًا إلى خدمة الحركة الوطنية وقضية الاستقلال، ولم يكن الدفاع عن الديمقراطية لدى الرأي العام المصري منفصلاً عن قضية الدفاع عن الوطن، ويبدو لي أن المقاومة الديمقراطية لثورة ٢٣ يوليو قد انحسرت لدى الرأي العام عندما فقدت أهم أساس تقوم عليه، وقد حدث ذلك عندما ثبت يقينًا ١٩٥٦م بتأميم القناة ومقاومة العدوان الثلاثي، وما كان يصاحب ذلك من مقاومة للأحلاف العسكرية، عندما ثبت يقينًا من كل ذلك مدى ثبات نظام ۲۳ يوليو في دفاعه عن استقلال الوطن، هذا المطلب نفسه مطلب الديمقراطية بدأت تتفتق عنه المقاومة من جديد بصورة شعبية تمثلت في حركات مظاهرات الطلبة وغيرهم بعد هزيمة ١٩٦٧م، بعد أن تبين أن هياكل نظام ٢٣ يوليو لم تكن قادرة على المحافظة على الاستقلال ومشروع النهضة المطروح.

وفي النهاية فإن الناصرية في التاريخ هي مجمل السياسات العينية الملموسة التي مورست خلال مرحلة تاريخية معينة، سواء من حيث المضامين السياسية والاجتماعية التي أنتجتها أو من حيث الهياكل والأبنية التنظيمية التي قامت عليها، وهذه تجربة تاريخية انضمت إلى تاريخ الشعب المصري ضمن حركاته الكبيرة في العصر الحديث التي نجدها في ثورة ۱۹ وثورة "عرابي" وتجربة "محمد علي"، وكل ذلك بتجاربها المتعددة والمستفادة من النجاح والهزيمة معًا تشكل ينابيع لم تنضب بعد، تمد وعي المصريين بالخبرات والدروس في سعيهم لبناء مشروع نهضتهم المستقبلية، شريطة أن تحيا التجربة فينا دروسًا وخبرات، لا أن نحيا نحن فيها خصومًا وأنصارًا، وأحداث الماضي جرت وانتهت لن تنبعث بالتأييد ولن تموت بالخصومة، إنما هي تنبعث وتحيا بالإدراك وباستخلاص الدلالة وبالتعلم، وهنا يكون للإنجاز ما للتعثر من فائدة، إذا أحسن استخلاص الدلالات منهما معًا، وأمكن استخلاص الدروس.

 

محتويات الكتاب:

الفصل الأول: الأوضاع السابقة على 23 يوليو

الفصل الثاني: تشكل ملامح حركة الضباط الأحرار

الفصل الثالث: ملامح النظام السياسي

الفصل الرابع: نظام الحكم

الفصل الخامس: أزمة النظام

الفصل السادس: خاتمة وتعقيب

 

 

 رابط مباشر لتحميل الكتاب

 


* المستشار طارق عبد الفتاح سليم البشري (1 نوفمبر 1933م - 26 فبراير 2021م): مفكر ومؤرخ وفقيه وأحد أبرز القانونين المصريين المعاصرين، شغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة المصري ورئيسًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع عدة سنوات، وترك ذخيرة من الفتاوى والآراء الاستشارية التي تميزت بالعمق والتحليل والتأصيل القانوني الرصين، كما تميزت بإحكام الصياغة القانونية، وما زالت تلك الفتاوى حتى الآن تمثل مرجعًا لكل من الإدارة والقضاة والمشتغلين بالقانون بشكل عام، كما ترك مؤلفات مرجعية في الفكر والفقه والقضاء والتاريخ المعاصر.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الأحد, 22 كانون1/ديسمبر 2024 12:53

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.