بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب جامع بين قضايا الفن، وقضايا اللغة، وقضايا الدين، وقضايا القانون؛ جامع بينها كلها في إطار البحث عن الحق في حرية التفكير وحرية التعبير. وهاتان الحريتان هما في الحقيقة وجهان لحق واحد: هو حق الإنسان في أن يستقل عن سواه فيما يعتقده، ويتداول فيه مع نفسه، ويعرضه على الناس فيقبلون منه ما شاؤوا ويردون منه ما أرادوا، دون أن ينالوا من صاحب الرأي أو الاعتقاد أو الفكر نيلا يؤذيه، أو يرميه بما هو منه براء.
وبغير أن يضمن المجتمع ـ الأدبي والسياسي معًا ـ هاتين الحريتين يستحيل أن تتقدم أمة أو تتطور أوضاع شعب، أو تخطو إلى الأمام دولة، ذات نظام، يحكم فيها القانون بين الناس بالعدل، ويقضي فيها القضاء بين الخصوم بمقتضى الإنصاف.
وصاحب هذا الكتاب، الصديق العزيز الأستاذ الدكتور أحمد السيد عوضين هو أحد فرسان ميادين الأدب والفكر والقانون في مصر. فهو قانوني بارع ومحام تصعب مجاراته في الخصومة القضائية، وأديب شاعر مبدع تقرؤه فلا تملك أن تترك ما أبدعت يراعته حتى تنتهي منه.
وقد كان من حسن صنيع الأقدار لي أنني عرفته معرفة حقيقية في مجالات اهتمامه الأدبية والقانونية جميعًا، وعملت له حسابًا خاصًا كلما كنا خصومًا أمام القضاء(!) واستمتعت بشعره وروايته استمتاعًا موحيًا مؤثرًا كلما قرأت له شعرًا أو نثرًا أو رواية.
وقد تأخرت في تقديم هذه الكلمة الموجزة التي أراد -متفضلاً- أن يجعلها بين يدي كتابه لأنني لم أستطع أن أكتب حرفًا فيها قبل أن أقرأ الكتاب كاملا من أول (كلمة) حتى (فصل الخطاب)!
وتقسيم الكتاب تقسيمًا علميًا جعل قراءته ميسرة، وتتبع المسائل فيه كأنه انتقال من فنٍ من فنون القول إلى فن آخر، لا يستطيع المتذوق لهما أن يقطع بأي الفنين كانت متعته أكبر أو أعمق(!)
والواقع أن الكتاب تأريخ من خلال قضية (أولا حارتنا) لمسيرة أدبية ودينية وقانونية تمتد من سنة 1959 حتى سنة 2009، مرورًا ـ بوجه خاص ـ بسنة 1994 التي ارتكبت فيها الجريمة البشعة: جريمة الشروع في قتل نجيب محفوظ. وقد أحاط الكاتب بكل ما نشر في مصر عن أولاد حارتنا وصاحبها الأديب الكبير نجيب محفوظ، ومن أمتع ما يقف القارئ عليه فيه ما نقله الدكتور عوضين عن الكاتب الكبير محمد جلال كشك، رحمه الله، وما نقله عن الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد الله أستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة الفيوم.
وسواء اتفق القارئ مع الذين دافعوا عن حق نجيب محفوظ في التعبير الأدبي الرمزي عن رؤيته ورأيه في مصر بعد ثورة 1952 أم اختلف، فإن الذي لا شك فيه ـ عندي ـ أن تكفير نجيب محفوظ، فضلاً عن تكفير الرواية (!) أمر لا يجوز شرعًا. فالقاعدة المقررة في الإسلام أنه إذا كان في الأمر تسعة وتسعون وجها تحمل على الكفر، ووجه واحد يحمل على الإيمان فالواجب تغليب الوجه الواحد على التسعة والتسعين والأخرى.
وإذا كان الإنسان عرضة للكفر والإيمان، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن العمل الأدبي ليس كذلك، وهو لا يوصف بكفر ولا إيمان.
وهذه هي المحصلة التي يخرج بها القارئ من عشرات الآراء التي أوردها المؤلف وناقشها في هذا الكتاب.
إنني أشعر بسعادة حقيقية أن أتاح لي أخي الجليل الدكتور أحمد السيد عوضين قراءة كتابه قبل أن يكون متاحًا للقراء كافة، وأن خصني بكتابة هذه الكلمة المتواضعة تقديمًا له. غير أن سعادتي الأكبر تأتي من مساهمة ـ مهما تكن صغيرة ـ في إنصاف رمز من رموز الأدب العربي الحديث ستظل مكانته في عالم العرب محفوظة مهما توالت السنين، وسيبقى أثر ما قدمه للغة العرب وثقافتهم وفنهم ماثلا جيلا بعد جيل.
وليذكر القراء أن العمل الصالح، الذي يتصل ثوابه لفاعله ولا ينقطع، ليس مقتصرًا على العمل المادي وحده وإنما يشمل كذلك العمل المعنوي الفكري والعلمي والثقافي والأدبي جميعًا.
رحم الله الأديب الكبير نجيب محفوظ، وكتب للأخ الكريم الدكتور أحمد السيد عوضين جزاء ما أنفق من وقت وجهد في صنع هذا الكتاب الجميل، وهدى الناس جميعًا إلى فضيلة التروي في الحكم والإنصاف فيه.
والحمد لله رب العالمين
لتحميل الكتاب
________________
* صدر كتاب "محاكمة أولاد حارتنا" عن دار المعارف (القاهرة- مصر) عام 2014م، ومؤلفه هو د. أحمد السيد عوضين الذي كان محاميًا عن الأديب الكبير نجيب محفوظ.