صدرت الطبعة الأولى من كتاب "التخلف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" لمؤلفه الدكتور مصطفى حجازي[*]، في عام 2001م، وصدرت الطبعة التاسعة -التي ينشرها موقعنا- عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء بالمغرب عام 2005م.
وهذا الكتاب يكاد يكون غير مسبوق في موضوعه، وصاحبه لم يرضخ لما أحاط به من اجتهادات تعزو التخلف إلى عدم الرضا بالخضوع لواقع فرضه المتغلبون والمتسلطون على إنسان العالم الثالث المتخلف، وخاصة في العالم العربي، كما أنه لم يحمل نصوص الشريعة مسؤولية ذلك التخلف الذي يحيط بهذا الإنسان، بل تعمق في التحليل النفسي والاجتماعي لإنسان العالم الثالث وفَقِه واقعه المتخلف الذي انعكس على سيكولوجية هذا الإنسان وقَهَرهُ ورسخ تخلفه، ليسهم المؤلف بطريقته في حوارات الشريعة والقانون عبر تخصصه المهني والعلمي، وليضيء الطريق للمشاركين في تلك الحوارات نحو الاهتمام بالبعد الإنساني، ومد البصر إلى أهمية أن تشتمل تلك الحوارات على ما يسهم في انتشال هذا الإنسان (المتخلف) من هاوية القهر التي انغرس فيها حتى القاع، وفي تحقيق التنمية الإنسانية التي تتحقق بها في الوقت ذاته مقاصد الشريعة الإسلامية، والتي تستهدف دوما تحقيق مصالح الإنسان في الدارين!
لقد تركزت تلك الحوارات حول العلاقة بين الشريعة والقانون -في معظمها- حول مدى صلاحية الحدود الشرعية (العقابية) للتطبيق في عالمنا المعاصر، وحول حجاب المرأة ومدى قبول الشريعة لخروجها إلى العمل، وحول مدى شرعية وجود البنوك وربوية معاملاتها، وغفلت عن حال الإنسان العربي (والمسلم) في هذا العالم، وتجاهلت أنه بات مقهورًا مهدورًا، وأن الأولى هو النظر في رفع هذا القهر والهدر عنه بدلا من التفكير في كيفية توقيع العقاب عليه وحبس المرأة عن الخروج من بيتها أو جرها إلى الانفلات والسفور وهدم هذا البيت (أي تفكيك الأسرة)، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، وكذلك الكتاب الذي يليه للمؤلف نفسه "الإنسان المهدور" والذي يعد استكمالًا له وتطويرًا، فهما يساعدان الفقيه -الشرعي والقانوني- على فقه واقع الإنسان الذي يتساجلون حوله، وهو أساس الإصلاح ومحله، وتحريره وانتشاله من التخلف أولى من السجال حول مسائل تعد هامشية بالنظر إلى ما يمس نفسه وكيانه من إصر وأسر يمنعانه من النهوض والإبداع.
ومما جاء في مقدمة المؤلف لهذا الكتاب:
أصبحت الكتابات حول التخلف من أوائل الخمسينات غزيرة، نظرًا لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثًا، في ما يطلق عليه اسم العالم الثالث، والمشكلات والقضايا التي طرحتها مهمات النهوض الاجتماعي فيها. اتخذت هذه الدراسات وجهات متعددة، ولكنها تركزت أساسًا حول الاقتصاد والصناعة، والعناية بالسكان (صحة، تعليم، تغذية، إعمار، إلخ ...) فنشأ عن ذلك علم اقتصاد وعلم اجتماع التخلف. ولكن الإنسان المتخلف لم يعط الاهتمام نفسه الذي وجّه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. صحيح أن هذا الإنسان هو وليد البنية الاجتماعية المتخلفة، ولكنه ليس مجرد أمر مادي قابل للتغيير تلقائيًا.
يعاش التخلف على المستوى الإنساني كنمط وجود مميز، له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية. والإنسان المتخلف، منذ أن ينشأ تبعًا لبنية اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها، بمقاومة تغييرها، نظرًا لارتباطها ببنيته النفسية. العلاقة إذًا جدلية بين السبب والمسبب (البنية والنمط الإنساني الذي ينتج عنها) مما يحتم علينا الاهتمام بهما كليهما عند بحث حالة أحد المجتمعات المتخلفة، بغية وضع الخطط التنموية.
ولقد أوقع تجاهل هذه الحقيقة دارسي التخلف وعلماء التنمية، ومن ورائهم القادة السياسيين الذين يقررون عمليات التغيير الاجتماعي، في مآزق أدت إلى هدر الكثير من الجهد والوقت والإمكانات المادية، بشكل اتخذ طابع التبذير الذي لا يمكن للمجتمع المتخلف، ذي الأعباء الثقال، أن يسمح لنفسه به. انطلق هؤلاء جميعًا في مشاريع تنموية طنانة، ذات بريق ووجاهة، قائمة على دراسات ومخططات جزئية، لم تتجاوز السطح معظم الأحيان، كي تنفذ إلى دينامية البنية المتخلفة من ناحية، أو إلى التكوين النفسي والذهني للإنسان المتخلف الذي أريد تطويره من ناحية ثانية. وضعت خطط مستوردة عن نماذج طبقت ونجحت في بلدان صناعية، ولكن مسيرة هذه الخطط تخط بعيدًا، فلقد أخفقت التجارب المستوردة، والمشاريع الملصقة من الخارج، كما فشلت المشاريع ذات الطابع الدعائي الاستعراضي في تحريك بنية المجتمع ككل، وفي الارتقاء بإنسان ذلك المجتمع.
ذلك لأن إنسان هذه المجتمعات لم يُنظر إليه باعتباره عنصرًا أساسيًا ومحوريًا في أي خطة تنموية. التنمية، مهما كان، ميدانها، تمس تغير الإنسان ونظرته إلى الأمور في المقام الأول. لابد إذن من وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح، وأخذ خصائص الفئة السكانية التي يراد تطوير نمط حياتها بعين الاعتبار، ولابد بالتالي من دراسة هذه الخصائص ومعرفة بنيتها وديناميتها، وهو ما ندر الاهتمام به إلى الآن. فعلم النفس لم يحتل بعد مكانته المفروضة في هذا المضمار، ومع أنه يملك مفاتيح مهمة لمعرفة الإنسان، والقوى التي تحركه داخليًا وعقلانيًا، والمقاومات التي يظهرها إذا مس توازنه، وكل تنمية لا بد لها إذا كانت فعالة، من المساس بهذا التوازن لإحلال آخر أكثر تطورًا ومرونة مكانه. لا بد من شمول النظرة من خلال الاهتمام بالبعد الذاتي "الإنساني" إضافة إلى البعد الموضوعي "الاجتماعي الاقتصادي"، ومن خلال فهم العلاقة الجدلية بينهما، إذا أردنا السير على طريق يحالفها الحظ في إيصالنا إلى الهدف.
ومن هذا المنظور تنبع أهمية محاولتنا لدراسة نفسية الإنسان المتخلف. فإذا توقفنا ونظرنا مليًا، نجد أن ظواهر حياة هذا الإنسان التي تبدو مشتتة تذهب في كل اتجاه، وأن تصرفاته ونظرته ومواقفه واستجاباته التي يبدو عليها التفكك، هي في الحقيقة كل متماسك، له بنيته الخاصة وديناميته المتطورة. فحياة الإنسان المتخلف تنتظم في وحدة قابلة للفهم جدليًا، وحدة لها تاريخها ومسيرتها رغم ما يبدو عليها من سكون ظاهري، يسبغه تحكم التقليد وما يفرضه من جمود في المجتمع.
يتلخص وجود الإنسان المتخلف، في نظرنا، في وضعية مأزقية، يحاول في سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهتها، ومحاولة السيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه. هذه الوضعية المأزقية أساسًا وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة التي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، والممسكون بزمام السلطة في مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ. ولذلك فإن سيكولوجية التخلف من الناحية الإنسانية تبدو لنا على أنها، أساسًا، سيكولوجية الإنسان المقهور. تنبث علاقات القهر والتسلط من ناحية، ورد الفعل عليها من رضوخ أو تمرد من ناحية ثانية، في كل ثنايا وجود الإنسان المتخلف تكوين الإنسان المتخلف النفسي، وتركيبه الذهني، وحياته اللاواعية، محكومة كلها بالاعتباط والقهر وما يولدانه من قلق جذري، وانعدام الشعور بالأمن والإحساس بالعجز أمام المصير. ولا يقف الإنسان المقهور مكتوف اليدين إزاء هذه الوضعية عسيرة الاحتمال، نظرًا لكونها تزلزل التوازن الوجودي، بل يحاول أن يجابهها بأساليب دفاعية جديدة، متعارضة جدليًا أو متكاملة في تعارضها. تطغى في كل مرحلة من تاريخه نماذج سائدة منها، تتغير تبعًا لتغير ظروفه. والكثير من معتقدات الإنسان المتخلف وانتماءاته وممارساته، تبدو في النهاية كمحاولات داعية للسيطرة على وضعيته المأزقية وإيجاد حلول معينة لها. هذه الحلول تتخذ أشكالًا فاترة أو نشطة، تشدّه إلى الوراء أو تدفع به إلى الأمام، تميل به إلى الاستكانة والانسحاب، أو تدفعه إلى المجابهة والتصدي، ولكنها دومًا تشكل نماذج من الاستجابات الممكنة، في ظروف تاريخية وعلائقية محددة لما يحيط بحياته من ضغوط.
التكوين النفسي والتكوين الذهني للإنسان المتخلف، بديناميته الخاصة، وحركته التاريخية، والأساليب المتنوعة التي يجابه بها مأزقه الوجودي، يشكلان قسمي هذا البحث. ففي القسم الأول ترسم الملامح النفسية الأساسية للإنسان المقهور. أما في القسم الثاني فنستعرض أهم الأساليب الدفاعية التي يجابه بها وضعيته في تفاعلها وتناقضها وتغيرها. ويتضح من هذين القسمين أن حياة الإنسان المتخلف وممارساته وتطلعاته، هي أبعد ما يكون عن العشوائية والتشتت اللذين يبدو أنهما يميزانها ظاهريًا.
رغم أن الحديث يدور حول الإنسان المتخلف بشكل عام، إلا أن المادة مستقاة أساسًا من واقع الإنسان اللبناني خاصة، والعربي عامة. بالطبع لا ينطبق كل ما سيقال على كل لبناني أو كل عربي، فهناك بالضرورة خصائص نوعية في كل حالة، تجعل سيادة نماذج معينة من التكوين النفسي ومن الأساليب الدفاعية أمرًا محتومًا. إلا أن الخصوصية هذه لا تمنع محاولات النظر في إمكانية التعميم، انطلاقًا من مقارنة مختلف وضعيات الإنسان المتخلف في مختلف البلدان خارج العالم العربي.
إن انفجار العنف في "لبنان" والأشكال التي اتخذها، وما يحيط به من ظروف، وما تحركه من قوى وعوامل، تعتبر في نظرنا فرصة كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمع المتخلف من عنف، وما يصطرع فيها من مآزق وتناقضات، وهي بالتالي تبين لنا ما يتعرض له الإنسان في ذلك العالم من قهر واعتباط، وما يحل بقيمته الإنسانية من هدر. وإذا اتخذ العنف وما يدفعه من قهر وهدر لكيان الإنسان في الحالة الراهنة، طابعًا صريحًا صارخًا ومأساويًا، فإنه هو نفسه، في رأينا، فاعل في بنى المجتمعات المتخلفة على تعدّدها، ومحرك لها، ومحدد لأنماط العلاقات والاستجابات فيها، إنما بأشكال مقنّعة وغير مباشرة، وراء حالة من السكون الظاهري. ذلك هو، على الأقل، افتراضنا الأساسي الذي دفعنا إلى الحديث عن سيكولوجية الإنسان المقهور باعتباره النتاج الرئيسي للتخلف الاجتماعي.
تقوم هذه المحاولة منهجيًا على الملاحظة والتحليل النفسي والاجتماعي للظواهر المعاشة. وهي تدخل في إطار علم النفس الاجتماعي العيادي، الذي يدرس الظواهر النفس اجتماعية بالطريقة العيادية. وقد يطرح، كونها لا تستند إلى أبحاث ميدانية أو تجريبية محدّدة بدقة، بعض ظلال من الشك حول درجة اليقين التي تتمتع به نتائجها. ذلك صحيح ولا شك. على أن الغاية من هذه المحاولة ليست الوصول إلى نتائج نهائية، فهذه تحتاج إلى أبحاث طويلة النفس، تكفي لملء حياة فريق كبير من العلماء. إن ما نهدف إليه، هو كتابة نوع من المدخل إلى علم نفس التخلف، وإسهامه الغني جدًا بالنتائج التي تكمل الدراسات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة. قيمة هذه المحاولة الأساسية، في نظرنا، هي طرح منهجية نفسية لدراسة الإنسان المتخلف، بمختلف خصائصه الوجودية. هذه المنهجية تبين، بلا شك، أن هذا الوجود متماسك في ظواهره على تنوعها وتشتتها، وهو ينتظم في بنية دينامية، هي وضعية الإنسان المقهور.
هذه المحاولة بما يعتورها من ثغرات، تطمح إلى فتح الطريق أمام أبحاث نفسية ميدانية، تحاول فهم الإنسان المتخلف بنوعيته وخصوصية وضعه، وبشكل حي وواقعي، لتكون مرتكزات علم نفس التخلف. بذلك وحده يمكننا أن نضع أخيرًا حدًا لإلباس هذا الإنسان القوالب النظرية، والتفسيرات الموضوعية لإنسان العالم الصناعي، والتي أدت إلى تعميمات متسرعة كانت نتيجتها أنها حادت عن غرضها المعرفي، نظرًا لما تحمله من خطر إخفاء وطمس الواقع الحقيقي. تكون هذه المحاولة قد حققت غايتها، إذا تمكنت معطياتها من اتخاذ طابع الافتراضات العملية، التي تطلق أبحاثًا ميدانية تتمتع بالدقة والعمق الكافيين، لفهم واقع إنساننا العربي. هذا الفهم العلمي، وحده، يمكننا من وضع خطط تنمية وتطوير فعالة، ويجعل مسيرتنا واضحة المعالم وطريقنا إلى أهدافنا في الارتقاء مضمونة.
محتويات الكتاب:
قسم المؤلف كتابه إلى قسمين، وذلك على النحو التالي:
القسم الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف
تمهيد
الفصل الأول: تحديد وتعريف.
الفصل الثاني: الخصائص النفسية للتخلف.
الفصل الثالث: العقلية المتخفة.
الفصل الرابع: الحياة اللاواعية.
القسم الثاني: الأساليب الدفاعية
الفصل الخامس: الانكفاء على الذات.
الفصل السادس: التماهي بالمتسلط.
الفصل السابع: السيطرة الخرافية على المصير.
الفصل الثامن: العنف.
الفصل التاسع: وضعية المرأة.
رابط مباشر لتحميل الكتاب
[*] الدكتور مصطفى حجازي (1936م - 14 أكتوبر 2024م) هو عالم نفس وأستاذ جامعي ومفكر لبناني، له العديد من المؤلفات، منها:
- سيكولوجية الإنسان المهدور- علم النفس والعولمة.
- إطلاق طاقات الحياة- قراءات في علم النفس الإيجابي.
- ثقافة الطفل العربي بين التغريب.
- الأسرة وصحتها النفسية.