صدرت هذه النسخة من الكتاب عن مؤسسة هنداوي عام 2024م، ويسعى هذا الكتاب -حسبما أوضحت مؤلفته- إلى بناء نموذج إرشادي إسلامي يكون شاهدًا أمثل لمنهجية علمية إسلامية تؤطر مناهج البحث لدى الباحثين المسلمين المعاصرين في أي ميدان من ميادين البحث العلمي، وترسِّخ العقلانية العلمية في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
ويتخذ الكتاب من علمي الكلام وأصول الفقه مثالين يطبق عليهما النموذج الإرشادي؛ إذ يمكن من خلال النموذج الإرشادي تجديد علم الكلام ليصبح تنضيدًا لعقائد الكتاب المنزل الدافعة إلى قراءة الطبيعة والبحث العلمي، بدلًا من اقتصاره على التفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي.
كما تري المؤلفة أنه يمكِن تجديد علم أصول الفقه ليصبح أحد أُسس النهضة العقلية والحضارية واليقظة الفلسفية في حداثتنا العربية الإسلامية، لكونه علمًا منهجيًّا بامتياز يجتمع فيه دورا الوحي والعقل. ومن خلال تجديد علمي الكلام وأصول الفقه يتمكن المفكر المسلم من إنجاز قراءة كل من الوحي والطبيعة.
وهو بذلك يهدف إلى الاشتباك مع أطلقت عليه د. مني أبو الفضل بــــ"العُقدة المنهجية"، بتنسيق وترتيب آليات المنهج العلمي من أجل تفعيلها في إطارِ ما يُعرف في أدبيات فلسفة العلوم بالنموذج القياسي الإرشادي أو البراديم الإسلامي، ليبدو كفيلًا بتوطين الظاهرة العلمية في بيئتنا وملبيا لاحتياجاتها، عاكسًا لحضارتنا بنموذجها المعرفي ورؤيتها للعالم.
وبشكل عام؛ يأتي هذا الكتاب ضمن الجهود الفكرية والأكاديمية لمؤلفته الأستاذة الدكتورة يُمنى طريف الخولي في فلسفة العلوم ومناهج البحث وتاريخ العلم ومناهج العلوم، وعلم الكلام والعلوم الإنسانية فلسفة ومنهجا، وذلك ضمن إطار نظري عام يندرج فيه الاجتهاد الأكاديمي للمؤلفة، وهو إطار مباحث فلسفة العلوم وتاريخها ومناهجها من جهة ومباحث نظرية المعرفة والإبستمولوجيا والمنطق من جهة أخرى، وهذا الإطار النظري العام؛ مُنْتَقِدُ للنزعتين الوضعية والوضعية المنطقية اللتين ثمنتا النظر في المعرفة العلمية من داخلها، مقتصرين على تعيين معايير علمية المعرفة في شروط داخلية لهذه المعرفة إن من حيث آلياتها المنهجية أو قواعدها المنطقية، صورية كانت هذه الآليات والقواعد أم تجريبية.
وأ. د. يمنى طريف الخولي: أستاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث، والرئيس الأسبق لقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة. ساهمت في إثراء الحركة الفكرية العربية بجهدها المتميز لنشر الثقافة العلمية ومنطق التفكير العلمي، وتفعيلِهما وتوطينهما في حضارتنا، من خلال كُتبها التي تتجاوز خمسة وعشرين كتابًا تأليفًا وترجمة، وأبحاثِها بالعربية والإنجليزية في دوريات علمية مُحكمة، محلية وإقليمية ودولية، فضلًا عن عشرات المقالات والدراسات، والمحاضرات التي ألقتها في جامعات ومراكز أبحاث شتى، من أقصى الشرق في كيوتو إلى أقصى الغرب في هاواي، وصولًا إلى قلب أفريقيا، ومرورًا بغالبية الدول العربية.
ومما جاء في مقدمتها للكتاب:
"توطين العلم وتبيئة البحث العلمي في حضارتنا هدف الأهداف الذي لا يختلف عليه اثنان. لدينا علماء مجتهدون ومبدعون لدينا جامعات ذات ريادة وعراقة وموقع ما في التصنيفات العالمية، لدينا مؤسسات علمية تنجز، لكن الجهود العلمية مشتتة، ما زلنا في مرحلة النقل والاستهلاك المشتق من الهلاك. لم تحقق بعد الذات الحضارية في عالم العلم وتطبيقاته التقانية مثلما فعلت أمم أخرى على رأسها اليابان، ولحقت بها أو سبقتها الصين، وانضم آخرون من ثقافات لم تساهم مثلنا في الحداثة ولكنها تمكنت من الاستيعاب والإسهام في التقدم العلمي المتوالي دوما. ويغدو المبتغى الذي ينبغي أن تتكاتف من أجله الجهود الفلسفية والعقلية والفكرية والعقائدية هو تفعيل عوامل يمكن أن تؤدي إلى مرحلة الإبداع والإضافة وإثبات الذات الحضارية في أمضى الفعاليات الإنسانية وأعلاها قيمة وقامة العلم والبحث العلمي. لا سبيل إلى هذا المبتغى من دون توطين العلم في حضارتنا استنطاق عناصر في بيئتنا الثقافية تجعلها قوة دافعة في هذا الصدد. وسوف نرى تفصيلا كيف تعلمنا فلسفة العلوم -ويبدأ هذا الكتاب من حيث انتهت تطوراتها الراهنة- أن العلم لا ينفصل عن إطار حضاري أنجبه وأطلقه وفعله البحث العلمي المنتج المبدع -ونشدد المنتج المبدع لا مجرد التلقي والتعلم والمزاولة- ليس مجرد ممارسة المنهج العلمي بإجرائياته التجريبية والعقلية والرياضية، بل لا بد قبلا من قوة فعالة متجذرة ومتوطنة في بنية الثقافة تنطلق دافعة وموجهة وراء المنهج ثمة منهجية شاملة لأبعاد العلم كظاهرة حضارية وفعالية إنسانية خلاقة. إن المنهجية إطار أرحب شامل للممارسة العلمية، يحمل المشترك الإنساني العام - وهو المنهج وآلياته والإجرائيات البحثية والحصائل المعرفية، بمعية الأصول والتوجهات والقيم والأهداف ... التي تحمل بدورها الخصوصيات ومعالم التعدد الثقافي وثراء الواقع الإنساني - يجعلها تتكاتف جميعها لدفع الطاقة التقدمية للعلم من زوايا متعددة ومتكاملة.
إن التمييز بين مستويين هما المنهج والمنهجية بمثابة اقتحام ما أسمته منى أبو الفضل «العقدة المنهجية التي هي الوجه الآخر للوثبة الحضارية». أبانت د. منى كيف أن العقدة المنهجية هي القدرة على التمييز بين عمليتين أو مستويين في التنظير لبناء أدوات التخصص العلمي ومجاله، وهما بناء المفاهيم ثم بناء الإطار المرجعي الذي تنتظم فيه هذه المفاهيم، مؤكدة أن الاختلاف بينهما ليس اختلاف درجة ولكنه اختلاف نوع. يروم هذا الكتاب اقتحام العقدة المنهجية، بتنضيد آليات المنهج العلمي من أجل تفعيلها في إطار ما يُعرف في أدبيات فلسفة العلوم بالنموذج القياسي الإرشادي أو البراديم، وهو هنا نموذج إسلامي، ليبدو كفيلا بتوطين الظاهرة العلمية في بيئتنا وملبيا لاحتياجاتها، عاكسا لحضارتنا بنموذجها المعرفي ورؤيتها للعالم، بمخزونها العقائدي ونسيجها الشعوري ومنظومتها القيمية ومنظورها الأنطولوجي: فيكون تجسيرا للهوة بين الواقع الراهن والواقع المأمول .... بين الماضي والمستقبل .... بين الأصالة والمعاصرة .... يتدفق في ثقافتنا نهرا صانعا توطين العلم وخصوبته ونماءه، مستغلا طاقة الأبعاد العقائدية المتولدة في النفوس والجياشة في الصدور استغلالا رشيدا ... من أجل منح النشاط العلمي والمعرفي في حضارتنا وقودًا يزيده حمية وحماسًا يدفعانه إلى توهج وتألق. ننشد النموذج الإرشادي العلمي الإسلامي نهرًا يتدفق في حضارتنا، رافداه هما العلم ومنهجه وحصائله الحداثية والمعاصرة من ناحية، ومن الناحية الأخرى عناصر هويتنا الحضارية ومرتكزات خصوصيتنا الثقافية وقيمها ودوافعها المعرفية وبدلا من أن تتجه مؤشرات العناية بالمنطلقات الإسلامية صوب الماضي، إن سلبا بالبحث عن مبررات للتردي والتخلف في الماضي لتحمله المسئولية، وإن إيجابيا بالبحث عن عوامل مضيئة في الماضي لتعود القهقرى لياذًا به، فإن المنهجية الإسلامية كقوة توليدية تتجه مؤشراتها صوب المستقبل. ولعلها تنطلق مما يمكن أن يُسمى بفقه الواقع الذي يعمل على استنباط معالم فعالية عقلية مواتية للمتطلبات الراهنة ومستوعبة للأصول الحضارية من أجل توظيفها لتحقيق تدافع حضاري لأمة طال تعثرها، مما يفرض فحص وتقويم المفاهيم الراهنة وتخريج مفاهيم مغيبة مجدية، واستنباط ما يلزم استنباطه من مفاهيم مستجدة، على الإجمال اقتحام العقدة المنهجية.
اقتحام العقدة المنهجية هم ملازم لم يفارقني منذ أكثر من عشرين عاما، وفي العام ١٩٩٥م صدر كتابي الطبيعيات في علم الكلام من الماضي إلى المستقبل. علم الكلام هو علم أصول الدين وعلم التوحيد، علم العقائد .... علم النظر العقلي في الوحي المنزل، أوضح هذا الكتاب أن علم الكلام القديم خلق مفهوم العالم العلامة على وجود الخالق، وطرح مبحث الطبيعيات بثقة، وكيف يمكن أن تغدو مهمة علم الكلام الجديد هي تنضيد عقائد الكتاب المنزل الدافعة إلى قراءة كتاب الطبيعة، إلى البحث العلمي. ثقافتنا تكاملية، تقرأ الكتابين مقابل الحضارة الغربية التفاضلية التي تقوم على قراءة كتاب واحد. ويمثل "نحو منهجية علمية إسلامية" الانتقال إلى الخطوة التالية الأبعد نحو المنهجية أو كيفية قراءة كتاب الطبيعة في ثقافتنا. إنه مواصلة المسير من علم أصول الدين إلى علم أصول الفقه، ليتكامل الأصولان في توطين الظاهرة العلمية وتبيئة البحث العلمي المنطلق نحو المستقبل، تأصيلا لنموذج إرشادي مستقبلي. أصول الدين، باشتباكه مع العقائد والتصورات، يتصل بالطبيعة وتصورات حلبة عالم العلم بأنطولوجيا العلم، مقابل اشتباك علم أصول الفقه بالمنهجية .... بميثودولوجيا العلم بتكامل الأنطولوجيا والميثودولوجيا يستقر وضع الإبستمولوجيا أي نظرية المعرفة العلمية، في النموذج المعرفي الإسلامي.
علم أصول الفقه علم منهجي بامتياز، وعن طريق بذل الجهد اللازم لتصورنة هذا العلم، وتخليصه من المحتويات العينية والتطبيقيات المتغيرة والحواشي والزوائد .... أمكن استخراج جذوع منهجية متينة تمثل جسرا لاقتحام العقدة المنهجية، من حيث إن المنهجية الخلاقة لا تكون إلا قوة متجذرة في بنية الثقافة ونموذجها المعرفي، كروح للمعرفة والعصر وللثقافة، وتلك هي المهمة الجليلة التي اضطلع بها فلاسفة المنهج في الحضارة الغربية إبان القرن السابع عشر، فكانت بيئة مواتية لانطلاق عملاق العلم الحديث، خصوصا فرنسيس بيكون الذي اقترن اسمه بحركة العلم الحديث، وتعد نظريته المنهجية درسا لا بد أن يردده كل مهتم بأمر المنهج العلمي على الرغم من الشقة الواسعة بينها وبين نظرية المنهج العلمي التجريبي المعاصرة. يقوم الأصوليون في ثقافتنا بدور مشابه في التأصيل المنهجية علم ومنهجية حضارة معا. إنه تأصيل لا يتأتى أبدا عن طريق نقل أو ترديد أو استيراد الدرس البيكوني ليظل العلم غربيا غريبا مغتربا لا توطين للحركة العلمية ولا تأصيل لها في ثقافتنا إلا إذا كان لدينا أصول للمنهجية العلمية كامنة في خصوصيتنا الثقافية، لنقوم بتطويرها في طريقنا الاستيعاب الآليات المنهجية المعاصرة، في إطار نموذج علمي إرشادي إسلامي متجه صوب المستقبل.
اقتحام العقدة المنهجية، انطلاق روح المنهج العلمي من جذور في علم أصول الفقه، قضاء على غربة العلم ... تحقيقا للذات الحضارية في العالم المعرفي .... تأكيدا للأصالة بعثا وشحنا للخصوصية الثقافية ... ذلكم هو الحلم العظيم الذي استبد بمجامع الشيخ مصطفى عبد الرازق، أول رئيس عربي لقسم الفلسفة في الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وهي الجامعة الأم افتتح طريقا ما لتحقيقه، سلكه نفر من تلاميذه في مقدمتهم علي سامي النشار. ثم انقلبت القضية إلى نقيضها، وتوارى هذا الحلم في الظلال، حين أقبل عملاق الفلسفة العلمية زكي نجيب محمود، بتكرسه وتبتله من أجل المعاصرة. يصدق السريرة ومضاء العزيمة آمن باحتياجنا -في النصف الأول من القرن العشرين وأواسطه- إلى جرعات من الوضعية المنطقية من أجل توجيه أنظارنا إلى الواقع بدقة وصرامة المنهج العلمي، وكبح استرسالنا في الإنشائيات والخطابيات، وبثقل الإنجاز الرصين لزكي نجيب محمود، ثم التنويري لفؤاد زكريا القاطع كالسيف الواضح كالنهار، وجهود آخرين استقر في روعنا أن المنهجية العلمية هي المعاصرة التي نستوردها بقضها وقضيضها من الغرب، وتأتي الصفحات المقبلة، التي تتلاقى فيها خطوط متقاربة ومتقابلة ومتقاطعة ومتوازية، بمثابة المركب الجدلي من القضية ونقيضها، يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى نموذج إرشادي علمي إسلامي نسترشد في الطريق الطويل المرهق المفضي إليه بدروس جدلية من حسن حنفي الفيلسوف الأكبر في تجديد التراث وتأصيل المعاصرة .... مواصلين لطريق محمد عبده وأمين الخولي ورعيل من الإصلاحيين والتجديديين .... ومستفيدين من جهود شتى من قبيل المشروع الدافق للمنهجية الإسلامية الذي أطلقه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا منذ العام ۱۹۷۷م، والمنجزات الرصينة لـ"مركز الدراسات المعرفية" المسكون بهاجس المنهاج والمنهجية كرسالة وأمانة ووديعة ومهمة لابد في إنجازها من الاجتهاد ... إنه التلاقي مع كل مهموم بالمنهجية عموما، وبتوطين المنهجية العلمية خصوصا ... وبالله قصد السبيل.
محتويات الكتاب:
١- ما قبل المنهج وما حوله: مقدماتٌ راسمة.
٢- العلم والمنهج.
٣- التأصيل المنهجي: علم أصول الفقه … معاصرًا.
٤- النموذج الإرشادي الإسلامي نحو المستقبل.
الخاتمة.
رابط تحميل ملف الكتاب