خالد محمد خالد (١٩٢٠ – ١٩٩٦م)

لا يختلف اثنان على قيمة خالد محمد خالد الفكرية، بعدما أثرى المكتبة العربية والإسلامية بما يربو على خمسة وثلاثين كتابًا على مدار ستة وأربعين عامًا منذ ظهور أول كتبه “من هنا نبدأ”، ليثير بأفكاره جدلًا لم يزايله طوال رحلته الفكرية من أجل مشروعه الثقافي القائم على مراجعات فكرية لعديد من الثوابت، وعلى رأسها مفهوم الحكومة الدينية وعلاقتها بالديمقراطية.

ولد خالد محمد خالد في قرية العدوة بمحافظة الشرقية في 25 يونيو عام 1920م، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف، بعدما أتم حفظ القرآن الكريم، وحصل على العالمية من كلية الشريعة عام 1945م. عمل بعدها بالتدريس حتى عام 1954م، ثم في وزارة الثقافة حتى ترك العمل الحكومي عام 1976م، لينعم بالبُعد عن قيود الوظيفة منطلقًا في آفاق الإبداع الفكري حتى وافته المنية في 29 فبراير عام 1996م عن عمر يناهز ستة وسبعين عامًا.

لعبت النشأة الريفية للأستاذ خالد محمد خالد دورًا في تكوين شخصيته بأسسها الأخلاقية والفكرية، حيث رفض القهر على اختلاف أنواعه، بدءًا من كُتّاب القرية والدراسة بالأزهر، ومرورًا بالالتزام الوظيفي التقليدي، قانعًا برسالته التنويرية التي اتسمت بالشغف المعرفي المتباين.

بُذلت له عروض مغرية كثيرة لنيل وظائف قيادية في الدولة، سواء في رئاسة جمال عبد الناصر أم أنور السادات، فكان يعتذر عنها، ورفض عروضًا أخرى كثيرة لأسفار يسيل لها اللعاب، وآثر أن يبقى في حياته البسطة المتواضعة التي يغلب عليها الزهد والقنوع.

ومثال على ذلك أن جمال عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة كانوا قد قرأوا كتبه قبل الثورة، وتحمسوا لها لدرجة أن عبد الناصر كان يشتري منها -من جيبه الخاص- مئات النسخ ويوزعها على زملائه الضباط، ومع ذلك لما قامت الثورة لم يرد أن يستفيد منها، وكانت فرصته في ذلك عظيمة، ولكنه بدلًا من ذلك وقف ناقدًا للثورة موجهًا لها، مطالبًا حكومتها بتطبيق الديمقراطية، فكان صدور كتابه “الديمقراطية أبدًا” بعد ستة أشهر فقط من قيام الثورة في ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م.

وظلت هذه مواقف أ. خالد من الثورة ورجالها حتى توجت بموقفه الفريد في “اللجنة التحضيرية” سنة ١٩٦١م، وفيها انتقد مواقف الثورة من قضايا الحرية والديمقراطية، وعارض ما أراد عبد الناصر القيام به من إجراءات تعسفية ضد من أسموهم -حينئذ- ببقايا الإقطاع، وأعداء الشعب، فكان هو الصوت الوحيد الذي ارتفع في وجه الصمت والخوف، مدافعا عن الحق، طالبًا لهم -بدلا من العزل السياسي- “العدل” السياسي، ولما أُخذ التصويت في المجلس على من يعترض على إجراءات العزل السياسي، كانت يده هي الوحيدة التي ارتفعت في سماء القاعة التي ضمت -يومئذ- ثلاثمائة وستين عضوًا.

* من هنا نبدأ:

منذ كتابه الأول “من هنا نبدأ” -الذي صدر سنة 1950- خرج خالد محمد خالد على الناس ككاتب فذ، وصاحب فكر، ومنافح عن قضايا الأمة.. وبذا تحدد موقعه كمصلح اجتماعي وزعيم فكري تعلقت به جماهير غفيرة من الناس، وأعجبت بكتبه وأفكاره، ليس في مصر وحدها، بل وخارجها أيضًا.

وطبع “من هنا نبدأ” ست طبعات في سنتين اثنتين، وتُرجم في نفس السنة التي صدر فيها إلى الإنجليزية في أمريكا، وكتبت عنه عدة رسائل وأبحاث جامعية ومقالات في أنحاء متفرقة من أوروبا وأمريكا.

ولكن فطرة المؤلف النقية، ونيته الصادقة جعلاه -فيما بعد- يقول إنه عندما رأى حفاوة أعداء الإسلام بالكتاب أدرك أنه أخطأ فيه. وهنا يتجلى واحد من مواقفه الشجاعة التي ملأت بها حياته، إذ ظل يفكر فيما دعا إليه فيه من فصل الدين عن الدولة ويقلبه في ذهنه حتى أعلن على الملأ رجوعه عن هذا الرأي، فلم يخجل -وهو الكاتب الكبير- من أن يعلن أنه أخطأ… وراح يصحح ذلك الخطأ بكل قوته، فلم يترك وسيلة من وسائل إذاعة هذا التصحيح إلا أتاها من مقالات، أو تحقيقات صحفية أو إذاعية أو تلفزيونية… ثم لم يكتف بهذا كله، فألَّف كتابًا كاملًا أعلن فيه تصحيحه لرأيه الأول، وراح يدلل على أن الإسلام دين ودولة، بل إنه جعل شعار الكتاب هو: “الإسلام دين ودولة.. حق وقوة.. ثقافة وحضارة.. عبادة وسياسة..”.

* الدولة في الإسلام

يعد الكتاب مراجعة فكرية لموقف المؤلف من الحكومة الدينية التي وصمها بالغرائز السبع التي تنحرف بها عن الجادة باسم الدين؛ وتتلخص في الغموض المطلق، ومناصبة العقل العداء، والتآمر على المستنيرين واستعداء الناس عليهم، والغرور المقدس، والواحدية المطلقة، والجمود، والقسوة المتوحشة.

والمراجعة المعنية تجعل من إدراج “الحكومة الإسلامية” تحت مفهوم “الحكومة الدينية” غبنًا لها، لما يحمله الأخير من مدلول تاريخي يتمثّل في الكيان الكهنوتي الذي كان الدين يستغل فيه أبشع استغلال، بل ومن قبيل التحوط فإنه يرى أن “تسمية الحكومات الإسلامية المنحرفة بالحكومة الدينية، وتحميل الإسلام وزرها أمر مجاف للصواب”.

ولعل كثيرًا من الصخب الدائر حول قضايا الدستور والحاكمية لله ومبادئ الشريعة وأحكامها قد تناوله مباشرة أو ضمنًا كتاب “الدولة في الإسلام”، مما يزيد من أهمية قراءته للمهتمين بقضايا الإصلاح التشريعي والدستوري والسياسي، عساهم يلتقون على كلمة سواء.

-وأما عن كتبه السياسية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية فهي عديدة منها ثلاثة كتب في موضوع الديمقراطية وحدها، وهي: “الديمقراطية أبدًا” و”دفاع عن الديمقراطية” و”لو شهدت حوارهم لقلت”.

* “الديمقراطية أبدًا”:

وفي كتابه “الديمقراطية أبدًا”؛ ذكر في الفصل المعنون بـــ “ديمقراطية التشريع” أن الشريعة؛ سواء في صورتها أيام الرسول وخلفائه. أو في نموها الكبير خلال عصور الفقه والأئمة الأربعة، لها بالفعل شخصيتها التي تجعلها أعم من الدين، ومن ثم فمجال العقل والاجتهاد فيها مفتح المسالك والأبواب. ففي عصر الرسالة والوحي كانت جل القضايا التي يتناولها النسخ والتغيير من تلك التي تدخل في نطاق التشريع أكثر مما تدخل في نطاق العقائد. وفي عصور الاجتهاد والفقه كان عمل العقل والرأي والتفسير والتخريج محصورًا في مجال العقائد. وليس معنى هذا –بداهة- أن التشريع في الإسلام منفصل عن الدين. فالإسلام خاصة، وأكثر من الأديان كافة، ذو شخصية متكاملة بدينه وبتشريعه. إنما ذلك يعني -ونحن بصدد دراسة لديمقراطية التشريع- أن الحركة الحرة للعقل المجتهد كانت ولا تزال من مصادر التجديد والنماء لهذا التشريع مثلما هي كذلك لكل تشريع. وطبيعي أن هذه الحركة الحرة مرتبطة دائما بالمبادئ والأسس التي جعل الدين منها سياجًا لسلوك الحياة الإنسانية وقضاياها. إن الشريعة الإسلامية، وهي أكثر الشرائع السماوية شمولًا لحاجات البشر وتقنين العدل، إنما نمت وتطورت وأثرت في ظروف تؤكد وجود أكثر من طريق لتحقيق رح الشريعة وروح الدين. والمذاهب الفقهية في الإسلام خير شاهد وأصدق دليل.

وما كتبه المفكر الأستاذ خالد محمد خالد -في مقدمة الكتاب- عن الفصل المعنون ب “ديمقراطية التشريع”؛ ينم عن ثقة الكاتب بنفسه وشجاعته في الاعتراف بما رأى أنه قد جانبه الصواب فيه، وفي تصحيحه علانية، وهو أمر غير مستغرب من مثل الأستاذ خالد الذي سبق وألف كتابا كاملا يراجع فيه أفكاره السابقة، وهو كتاب “الدولة في الإسلام” -كما سبق وذكرنا- الذي فند فيه بنفسه بعض أفكاره التي كان قد انتهى إليها في كتابه “من هنا نبدأ”، فهذا كان اجتهاده سابقًا وهذا هو اجتهاده لاحقًا، ولا يفعل ذلك سوى كبار العلماء والمفكرين الذين يدركون أن النقص الحقيقي هو في بطر الحق لا في إقامته والجهر بها ولو على أنفسهم!

تقنين الشريعة يبدأ من هنا:

فضلاً عن إسهاماته السابقة فيما يتعلق بقضية التشريع في الإسلام، سواء في كتابه “”الدولة في الإسلام”، أم في كتابه “الديمقراطية أبدًا”، فإن للراحل خالد محمد خالد مقالًا ليس مشهورًا على الرغم من أهميته الكبيرة، وهو مقاله المعنون “تقنين الشريعة يبدأ من هنا”، المنشور ضمن الكتيب غير الدوري: حقوق الإنسان العربي، والذي تصدره المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في 30 من مارس 1985م، : الذي حذر فيه من محاولة تطبيق الشريعة في ظل “حكم مطلق، وديكتاتورية مستبدة غاشمة” مؤكدًا أن هذا من شأنه أن يُحمِّل الإسلام أوزار وأصار هذا النوع من الحكم “الدعي والبغي”، وتتحول الشريعة السمحة الغراء إلى “غابة”، تعج بكل ذي مخلب وناب.. كما تتحول إلى “قفاز” يستخدمه الحاكم المستبد في ارتكاب جرائمه حتى لا تظهر “بصماته الواشية”!

وكان آخر ما ألَّف خالد محمد خالد كتابه “الإسلام ينادي البشر”، وقد أراد له أن يخرج في ثلاثة أجزاء: الأول: “إلى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم”، الثاني: “إلى هذا الكتاب (القرآن)”، الثالث: “إلى هذا الدين”، ولكنه لم يتمكن إلا من كتابة الجزء الأول، ثم وافته المنية.

مؤلفاته:

١. من هنا نبدأ

٢. مواطنون.. لا رعايا

٣. الديمقراطية، أبدًا

٤. الدين للشعب

٥. هذا.. أو الطوفان

٦. لكي لا تحرثوا في البحر

٧. لله والحرية (ثلاثة أجزاء)

٨. معًا على الطريق محمد والمسيح

٩. إنه الإنسان

١٠. أفكار في القمة

١١. نحن البشر

١٢. إنسانيات محمد

١٣. الوصايا العشر

١٤. بين يدي عمر

١٥. في البدء كان الكلمة

١٦. كما تحدث القرآن

١٧. وجاء أبوبكر

١٨. مع الضمير الإنساني في مسيره ومصيره

١٩. كما تحدث الرسول

٢٠. أزمة الحرية في عالمنا

٢١. رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

٢٢. في رحاب علي

٢٣. وداعًا عثمان

٢٤. أبناء الرسول في كربلاء

٢٥. معجزة الإسلام عمر بن عبد العزيز

٢٦. عشرة أيام في حياة الرسول

٢٧. والموعد الله

٢٨. خلفاء الرسول

٢٩. الدولة في الإسلام

٣٠. دفاع عن الديمقراطية

٣١. قصتي مع الحياة

٣٢. لو شهدت حوارهم لقلت

٣٣. الإسلام ينادي البشر (الجزء الأول: هذا الرسول)

٣٤. إلى كلمة سواء

٣٥. قصتي مع التصوف

٣٦. أحاديث قلم

٣٧. لقاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفاته: كان – رحمة الله – قد مرض مرضًا طويلًا، واشتد عليه في سنواته الأخيرة، ومع ذلك كان دائم القول: “لا راحة للمؤمن من دون لقاء الله” ولم تكن فكرة الموت تزعجه، بل كان كما المنتظر له علي شوق، وقد استعد له وأوصي بما يريد.. وكان من وصيته أن يصلي عليه في جامع الأزهر، معهده العلمي ومرتع صباه وشبابه، وأن يُدفن بقريته “العدوة” بجوار الآباء والأجداد والإخوان والأهل.. وجاءته الوفاة وهو في المستشفى يوم الخميس، ليلة الجمعة ٩ شوال سنة ١٤١٦هـ الموافق ٢٩ فبراير سنة ١٩٩٦ م- عن عمر يناهز الستة والسبعين عامًا.

___________________

المراجع:

  1. خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، التعريف بالمؤلف، المكتبة الشاملة، متاح عبر الرابط التالي: .
  2. “ديمقراطية التشريع” للمفكر خالد محمد خالد، حورات الشريعة والقانون، متاح عبر الرابط التالي: http://hewarat.org/?p=3689.
  3. خالد محمد خالد، موقع رشف قاعدة بيانات الكتب العربية، متاح عبر الرابط التالي: .
  4. حسن الساعدي، خالد محمد خالد و«الدولة في الإسلام»، دورية فكر وقضايا عامة، العدد 719، متاح عبر الرابط التالي:.
Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.