الشيخ شمس الدين محمد بخيت بن حسين المطيعي المصري الحنفي المذهب..
ولد سنة 1271هـ – 1854م في بلدة المطيعة التابعة لمديرية أسيوط، ونشأ بها، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة والقرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر، وتلقى العلوم الشرعية والعربية على كبار الشيوخ في عصره، كالشيخ محمد عليش، وعبد الرحمن الشربيني، وأحمد الرفاعي، وأحمد منة الله، ومحمد الخضري المصري، وحسن الطويل، ومحمد البهوتي، وعبد الرحمن البحراوي، ومحمد الفضالي الجرواتي وغيرهم، وأخذ العلوم الفلسفية عن السيد جمال الدين القاسمي، ونال شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1297هـ، واشتغل بالتدريس في الأزهر، وحضر دروسه كثيرون، منهم الشيخ أبو الفضل السيد عبد الله الصديق الغماري وأجازه، والشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ بكلية الشريعة، والشيخ أحمد السناري.
وفي سنة 1311هـ عُين الشيخ المطيعي قاضيًا في الإسكندرية، ثم في المنيا، ثم في بورسعيد، ثم في السويس، ثم في الفيوم، ثم في أسيوط.
وفي سنة 1315هـ عين عضوًا في محكمة مصر الشرعية ثم رئيسًا للمجلس ثم مفتيًا للديار المصرية سنة 1914م، وأحيل إلى المعاش سنة 1921م، وأقام في بيته يفتي كما لو كان في دار الإفتاء.
كان شيخ عصره، عرفته مصر أستاذًا كبيرًا، وقاضيًا لبقًا فطنًا، يقضي بين الناس في مختلف ضروب الخصومات فيكبره المحكوم عليه والمحكوم له، وكان مفتيًا تجري بين الناس فتواه فيكون القول ما قال، والرأي ما رأى، وكان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي وأبسطهم لسانًا في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وجمع مكتبة كبيرة أهديت بعد وفاته للأزهر..
الملامح العامّة لشخصية الشيخ المطيعي:
- التقوى، والصلابة في الحقّ، وعفّة اليد:
إنّ نشأة الشيخ الدينية، وثقافته الأزهرية، وما صدر عنه في بعض كتبه ومحاضراته أو مواقفه، يؤكّد أنّه كان تقيًا ورعًا، يخشى الله في كلّ تصرفاته ويستشعر رقابته في كلّ أقواله وأفعاله، ولهذا كان يجهر بكلمة الحقّ دون أن يعبأ بذي سلطان أو مسؤول كبير، وما عرف عنه أنّه داهن أحدًا، أو جامل في أحكامه القضائية، مهما تكن منزلة المدّعي أو المدّعى عليه، أو علاقته بهما، وقد أدّى به تشدّده في أقضيته إلى الفصل من وظيفته، فما عبِئ بهذا ولا سعى للعودة إلى عمله بوسيلة تخدش كرامته أو تنال من عقيدته.
ويشهد للشيخ بتقواه ودفاعه المجيد عن الإسلام ما واجه به بعض المستشرقين ومن سار على دربهم من أشباه المسلمين، فقد ردّ على المستشرق الفرنسي «رينان» ما جاء عنه من افتراءات وأباطيل في كتاب «تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية”.
- مشاركاته الإيجابية في التصدّي لمشكلات عصره:
تدلّ مؤلّفات الشيخ وأبحاثه ومقالاته ومحاضراته وما قضى به وأفتى على أنّه عاش مشكلات عصره، وواقع بيئته، وأنّه لم يدّخر وسعًا من أجل تقديم الحلول الشرعية لهذه المشكلات. وهو من ثمّ يؤكّد بما قدّم؛ مسؤولية العلماء نحو الأُمّة، وهي مسؤولية جسيمة، لأنّها تتعلّق ببيان أحكام الله في أفعال عباده، والتصدّي للأباطيل التي تحاول التشكيك في صلاحية هذه الأحكام لكلّ زمان ومكان.
ولا مجال لتفصيل القول في آراء الشيخ التي عالج بها أهمّ النوازل والمستجدّات التي عرفها المجتمع الإسلامي في أواخر القرن الثالث عشر الهجري ومنتصف القرن الرابع عشر، والتي عبّرت عن شخصيته الاجتماعية تعبيرًا واضحًا، وأنّه لم يعش بأفكاره وفقهه في برج عاجي، وإنّما كان على معرفة بكلّ ما تموج به الحياة الإنسانية في زمنه من قضايا وأفكار وعادات معرفة علمية مكّنته من أن يكون في بحثه الفقهي وثيق الصلة بعصره ومقدّمًا العلاج الملائم الذي يكفل سيادة التشريع في دنيا الناس.
وإذا كان المجال لا يسمح بتفصيل القول في هذا الجانب من شخصية الشيخ المطيعي، فإنّ «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»، ولهذا أجتزئ ببعض القضايا التي تشهد له بأنّه كان في جهاده العلمي يعيش الواقع ويهتمّ به ويكتب عنه، وهذه القضايا تشمل ما يأتي:
1 ـ التكافل الاجتماعي:
لقد سألت وزارة المالية الشيخ -وهو يتولّى منصب الإفتاء- بتاريخ 25/2/1920م عن عريضة مرفوعة من امرأة فقيرة لا تملك شيئًا، وليس لها قريب ما يستطيع أن يعولها مع تقدّم السنّ وضعف البنية، وهي تطلب من الدولة نفقة شهرية باعتبارها مواطنة مصرية، فدرس الشيخ الموضوع من جوانبه الفقهية وقوّاه بالسند القانوني حين أكّد أنّ بيت المال (وزارة المالية)، يجبي الأموال من مرافق مختلفة، حدّدها بالاسم، ومنها التركات التي لا وارث لها أصلًا، أو لها وارث ويبقى شيء من التركة، وهذا النوع على المشهور من المذاهب يصرف للفقراء الذين لا أولياء لهم، ومصرفه لكلّ عاجز عن الكسب، ومتى كانت المرأة فقيرة محتاجة وليس لها عائل كان الحقّ لها أن تأخذ من مصارف الخراج الخاصّ بالأراضي الزراعية ومن ضرائب الجمارك ومن التركات التي لا وارث لها، فيجب على الحكومة أن تعطيها الكفاية من مرفقي الضرائب والتركات.
2 ـ رأيه في الشيوعية:
بعد أن نجحت الثورة الروسية سنة 1917 وقامت الشيوعية رسميًا، ظهرت عدة كتب خاصّة تشيد بمبادئها، وتعلن أنّها الحلّ النهائي لمشكلات البشرية، وأنّ العقائد الدينية ليست إلاّ أفيونًا للعامّة يسكرهم عن حقوقهم المغتصبة.
قرّر الشيخ المطيعي أنّ البلشفية تهدم الشرائع السماوية، وتجعل الناس فوضى في معاملاتهم، فهم يهدفون إلى هدم الكيان الاجتماعي، ويحرّضون الطبقات الفقيرة لتثير حربًا عوانًا على كلّ نظام اجتماعي يستند إلى قواعد الفضيلة والآداب. وإذا كان هؤلاء لا يعتقدون في شريعة من الشرائع الإلهية ولا يعتقدون دينًا سماويًا فهم كافرون.
3 ـ محاربة التبشير:
أمّا التبشير بالمسيحية بين المسلمين فله جذور قديمة ترجع إلى ما بعد هزيمة الجيوش الصليبية وطردهم من بلاد المسلمين، ولكن بعد أن خضع العالم الإسلامي كلّه تقريبًا للنفوذ الاستعماري باحتلال أرضه، وفرضت القوانين والتقاليد الغربية عليه، أخذ التبشير يخطّط لزعزعة ثقة المسلمين بدينهم، والتبشير بالنصرانية بينهم، وتعاون الاستشراق مع التبشير في سبيل ذلك. وقد لجأ التبشير إلى وسائل متعدّدة، وأصبح يمثّل خطرًا على عقيدة الأُمّة.
ولم يكن الشيخ بخيت في غفلة عن هذه الهجمة الباغية، فقد نبّه إلى ذلك الخطر، وحذّر من مغبّة التغاضي عن مقاومته، وممّا كتبه في هذا ما نشر تحت عنوان «التبشير وكيف نقاومه ونأمن غوائله”.
لم يكن الشيخ المطيعي عالمًا ضليعًا في فروع الدراسات الإسلامية بمفهومها المعاصر، وكذلك الدراسات العربية والتاريخية فحسب، وإنّما كان إلى هذا رجلًا اجتماعيًا ومجاهدًا وطنيًا، وله بصماته في مجال القضايا السياسية منذ شبابه وحتّى الأعوام الأخيرة من عمره، ولعلّ تلمذته لجمال الدين الأفغاني، وما كان يتحدّث به هذا في مجالسه عن واقع الأُمّة ووجوب العمل الجاد لإخراجها من دياجير التخلّف والتسلّط والقهر والتدخّل الأجنبي في شؤونها، كان له الأثر في اهتماماته السياسية ومشاركته في النشاط الوطني لحماية الأُمّة ممّن يكيدون لها ولا يريدون أن تعيش عزيزة كريمة مستقلّة.
وقد أطلق الزعيم الوطني سعد زغلول على الشيخ المطيعي لقب أكبر مفتي في الإسلام، وكان سعد زغلول قد قرأ وهو في باريس، الأنباء عن نشاط المجتمعين في الأزهر وما دار في اللقاء بين الشيخ ولورد ملنر فأرسل إلي حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد بخيت المطيعي هذه البرقية:
باريس في 26 يناير سنة 1920.
حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية:
أكتب إلى فضيلتكم عن ابتهاجنا العظيم بالأجوبة التي أجبتهم بها لورد ملنر في داركم العامرة، فقد أيدت الحق بالحجج الناهضة، ودحضت الباطل بالإنارات الواضحة، وكانت أحسن وقعًا، وأبلغ أثرًا من المقاطعة، ولا غر، فهي أجوبة كبر مفت في الإسلام، رضي الله عنكم، وأرضاكم وسدد خطانا وخطاكم.. آمين.” سعد زغلول.
ومن المعروف أن الشيخ محمد بخيت المطيعي كان هو من قدم اقتراح تضمين دستور 1923 النص على أن الإسلام دين الدولة، وهو النص الذي احتفظت به الدساتير المصرية المتعاقبة، كما أنه كان له دور كبير في مقاومة محاولات إلغاء الوقف الإسلامي ومقاومة التغريب الثقافي.
من مؤلفاته :
- الدرر البهية في الصيغة الكمالية.
- نظام الوقف والاستدلال عليه.
- المرهفات اليمانية في عنق من قال ببطلان الوقف على الذرية.
- حقيقة الإسلام وأصول الحكم.
- رسالة في بيان الكتب التي يعول عليها وبيان طبقات المذهب الحنفي.
- رفع الإغلاق عن مشروع الزواج والطلاق.
- حاشيته على شرح خريدة الدردير.
- إرشاد الأمة إلى أحكام أهل الذمة.
- حسن البيان في دفع ما ورد من الشبه على القرآن.
- القول الجامع في الطلاق البدعي والمتتابع .
- إزالة الاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكرتاه.
- الكلمات الحسان في الأحرف السبع وجمع القرآن.
- القول المفيد في علم التوحيد.
- أحسن القرا في صلاة الجمعة في القرى .
- الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية.
- مقدمة شفاء السقام، للسبكي.
- حل الرمز عن معمي اللغز .
- إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة.
- البدر الساطع على جمع الجوامع، في أصول الفقه.
- إرشاد العباد إلى الوقف على الأولاد.
- الكلمات الطيبات في المأثور عن الإسراء والمعراج.
- إرشاد القارىء والسامع إلى أن الطلاق إذا لم يضف إلى المرأة غير واقع.
- أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام.
- المخمسة الفردية في مدح خير البرية.
- الدراري البهية في جواز الصلاة على خير البرية.
- متناول سبيل الله مصارف الزكاة.
وفاته: توفي في شهر رجب سنة 1354 هــ 1935 م في القاهرة، ورثاء الأديب، الشاعر علي الجندي بقصيدة عصماء، كما رثاه كل من العلامة عبد الحميد بن باديس والأستاذين محمد كرد علي وأحمد حسن الزيات.. وغيرهم.
_______________________________
المصادر:
- زكي محمد مجاهد، الأعلام الشرقية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط2، 1994.
- محمد الدسوقي، محمد بخيت المطيعي، دار القلم، دمشق، ط1، 1432ه:2011م.
- د. محمد الجوادي، محمد بخيت المطيعي: المفتي الذي اشترك في دستور ١٩٢٣.