هذا العدد الخاص من دورية «نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية» بعنوان "المذاهب الفقهية؛ جذور النشأة المبكرة- بحوث منتخبة من أعمال الندوتين العلميتين الأولى والثانية ضمن سلسلة ندوات (المعارف الإسلامية: رؤية سياقية متعددة)" ثمرة تعاون أكاديمي بين مركز نماء للبحوث والدراسات وجامعة مونستر الألمانية، يربط بين مؤسسات عربية وأوروبية لتعميق دراسة التاريخ المبكر للفكر الفقهي الإسلامي.
يعتمد هذا الإصدار مقاربة تحليلية نقدية تتجاوز القراءة السلبية للتاريخ، من خلال دراسات تركز على البنى المنهجية والاجتهادية الداخلية التي أسست للمذاهب الفقهية في نشأتها، بالإضافة إلى استكشاف الأبعاد السياسية والاجتماعية المحيطة التي أثرت على تطورها.
تُثرِي بحوث هذا العدد المكتبةَ العربية الإسلامية بتنوع منهجي يجمع بين التاريخيّ والتحليليّ والنقديّ، ويغطي مدارس فقهية متعددة تُظهر طيف الاجتهاد الإسلامي في مراحله الأولى. كما تسعى الدراسات إلى استقصاء العوامل العلمية والاجتماعية والسياسية التي صاغت معالم كل مذهب، مما يعزز الحوار الأكاديمي المتخصص حول تطور الأفكار الفقهية ومنهجية الاجتهاد.
تولّت لجنة تنسيقية مكوّنة من الدكتور عبد الرحمن زعتري والدكتور محمد الريوش والدكتورة فاطمة خليل مهمة الإشراف على التنظيم العلمي والإداري لهذا العدد، فسهّلت التواصل بين الباحثين وضمنت جودة الأبحاث وتنسيق فعاليات الندوتين.
يمثّل هذا الإصدار نموذجًا للتعاون العلمي الدولي ويُسهم في تقديم فهم معمق لتشكّل المذاهب الفقهية الإسلامية في مراحلها المبكرة. ندعو الباحثين والمهتمين للمشاركة في الفعاليات القادمة ضمن برنامج «المعارف الإسلامية»، لتعميق البحث وإثراء المعرفة الإنسانية بتاريخ الفكر الإسلامي وتطوّره.
البحوث المنشورة في العدد
الاتجاهات المنهجية في المذهب المالكي
يقدم الدكتور سلمان الصمدي بحثًا مهمًا بعنوان "ابن القاسم وخصومه: نشأة الاتجاهات المنهجية داخل المذهب المالكي". يروم هذا البحث إعطاء صورة واضحة لأبرز الاتجاهات المنهجية التي ظهرت في المذهب المالكي في الفترة المبكرة، والإضاءة على عوامل نشأتها واختياراتها المنهجية ومظاهر تفاعلها وتدافعها لإثبات الوجود وما اكتنف ذلك من مظاهر الخصومة والعصبية. يستثمر البحث مصادر تاريخ المذهب المتنوعة، وفي مقدمتها نص من أقدم النصوص التي أشارت إلى هذا التنوع بشكل واضح، وهو كتاب "التسمية والحكايات لنظراء مالك وأصحابه وأصحاب أصحابه" للفقيه والمؤرخ الأندلسي أبي العباس الوليد بن بكر السرقسطي العمري (ت 392هـ). يُعد هذا الرصد ذا أهمية قصوى على مستوى التأريخ للدرس المالكي وتفسير قضاياه وظواهره اللاحقة ونقد كثير من التصورات العالقة به. خلص البحث إلى الوقوف بوضوح على الجذور الأولى التي أسهمت في تشكل منهج المدرسة المالكية العراقية والمدرسة المالكية المغربية بفروعها، وإلى رؤية أوضح عن تشكل مفهوم المذهب، والذي كان سابقًا عما يعتقده معظم الدارسين من تأخره إلى فترات لاحقة.
تطور مقاصد الشريعة في المدرسة الخراسانية
يسلط الدكتور حمزة مشوقة الضوء على موضوع "نشأة مقاصد الشريعة عند المدرسة الخراسانية الشافعية". تهدف هذه الدراسة إلى دراسة الأسباب التي أدت إلى نشأة مقاصد الشريعة عند المدرسة الخراسانية الشافعية، وقد تم تقسيمها إلى مقدمة وتمهيد ومبحثين يتناولان التعريف بالمدرسة الخراسانية الشافعية والبيئة العلمية التي نشأت فيها والمنهج العلمي للمدرسة الخراسانية. تجيب الدراسة عن عدة تساؤلات مهمة، منها: ما الأسباب التي أدت إلى نشأة مقاصد الشريعة عند المدرسة الخراسانية الشافعية؟ وهل أثرت البيئة العلمية التي احتوت المدرسة الخراسانية الشافعية في نشأة مقاصد الشريعة؟ وهل كان للمنهج العلمي الذي تميزت به المدرسة الخراسانية الشافعية أثر في تأسيس مقاصد الشريعة؟ خلصت الدراسة إلى وجود عدد من المسببات منها: البيئة العلمية للمدرسة الخراسانية، والمنهج العلمي عند المدرسة، وأصول مذهب الإمام الشافعي الذي أخذ بالمصلحة المعتبرة في أصول الشرع؛ ولذلك اهتم علماء المذهب باستقراء الكليات الشرعية التي بُنيت عليها الأحكام الجزئية.
نقد الرؤى الحداثية لنشأة الفقه
يقدم الدكتور محمد عبيدة مراجعة نقدية لتفسير جورج طرابيشي لنشأة الفقه والسنة من خلال تحليل بعض النقاشات الفقهية المبكرة. تُعد كتابات جورج طرابيشي من الكتابات الحداثية العربية البارزة، وهو في تفسيره لنشأة الفقه ينطلق من أساس ماركسي، حيث يربط ظهور السنة بالتقاء مصالح الطبقة الحاكمة بسبب حركة الفتوحات ورغبتها في إدارة المجتمعات المفتوحة برغبة الطبقات المثقفة المنحدرة من الشعوب المفتوحة (الموالي). يهدف هذا البحث إلى تقديم نقد لهذا التصور في ضوء بعض مبادئ السوسيولوجيا التأويلية، وإبراز ضعف مقاربة طرابيشي التي تهمل أدوار الفاعلين الاجتماعيين وتركز على العوامل السياسية والإيديولوجية والطبقية في تحليل الظواهر الاجتماعية وتفسيرها. توصل البحث إلى أن تفسير طرابيشي لنشأة الفقه الإسلامي قد أغفل دور الصحابة، كما عجز عن تفسير الجهد الذي بذله المحدثون في جمع السنة ونقدها.
الفقه الجعفري وظروف التكوين
يتناول الدكتور حيدر حب الله موضوع "الفقه الإمامي الجعفري وظروف النشأة في القرن الثاني الهجري". يهدف هذا البحث إلى دراسة ظروف تكون ما يُعرف اليوم بالمدرسة الفقهية الإمامية أو المذهب الجعفري أو فقه أهل البيت بالمصطلح الإمامي للكلمة، ويركز على اللحظة الزمنية لولادة الفقه الإمامي (الجعفري). يسعى البحث للإجابة عن تساؤلات مهمة مثل: لماذا تكون هذا الفقه مع الإمامين الباقرين وليس قبلهما ولا بعدهما؟ وما ظروف الانفصال عن فقه الجمهور؟ وما ظاهرة الالتباس في مرحلة التكون، أو لماذا ولد هذا الفقه ملتبسًا بعض الشيء؟ بالإضافة إلى بحث علاقة الفقه الجعفري وموقفه من مدرستي الحديث والرأي، وأتباعه الأوائل بين النص والاجتهاد. خلص البحث إلى أنه لا يمكن فصل نشوء الفقه الجعفري عن ظهور الفقهاء والقضاة الأوائل، ثم نشوء المدارس الفقهية بعدهم، فقد خط هذا الفقه تاريخيًا مسيرة مدارس الفقه الإسلامي، فولد على شكل توجيهات وأفكار فقهية حملها نخبة من تلامذة الأئمة، ثم تحول بالتدريج إلى مدرسة متكاملة بمرور الوقت.
الفقه الزيدي في العصر الكلاسيكي
يقدم الدكتور محمد الحسيني بحثًا بعنوان "الفقه الزيدي وأصوله في العصر الكلاسيكي: ملاحظات تمهيدية". قدم البحث فيما سماه الباحث "ملاحظات تمهيدية" صورة لملامح الفقه الزيدي وأصوله، أسهمت في موضعته في سياقه من المعارف الإسلامية في الحقبة قيد البحث؛ إذ أجاب عن الأسئلة الرئيسة المتعلقة بهذين العلمين. سلك الباحث لبناء عرضه التاريخي مسلك الوصف والاستقراء والتحليل باستنطاق المصادر الزيدية وإظهار ما تفصح عنه بنحو مباشر وغير مباشر. تكون البحث من مقدمة وثمانية عناوين، ثلاثة منها رئيسة وخمسة فرعية، تناولت مرحلة النصوص المؤسسة ونشوء المدارس الفقهية في الحقبة التكوينية المتأخرة، ومرحلة النصوص المؤسسة الثانية وتطور العلاقات مع الآخر. خلص البحث إلى أن الفقه الزيدي وأصوله قد مرا، لعوامل تاريخية وسياسية وثقافية وجغرافية، بعدة أدوار تنوع المشهد فيها تبعًا لذلك، أفرزت العديد من مدونات الفقهاء والأصوليين في مجالي الفقه وأصول الفقه.
نقد منهج المستشرقين في دراسة الفقه المبكر
يُسهم الدكتور مروان الحبشي بدراسة نقدية لمنهج هارالد موتسكي في إثبات صحة الرواية الفقهية للمذهب المكي المبكر. يهدف هذا البحث إلى تغطية فترة مبكرة في تاريخ تطور المدرسة الفقهية المكية أغفل المستشرق الألماني هارالد موتسكي التطرق إليها في عمله الموسوم بـ "بدايات الفقه الإسلامي وتطوره في مكة حتى منتصف القرن الهجري الثاني/الميلادي الثامن". يعود البحث إلى الفترة التي نشط فيها مؤسس المدرسة عبد الله بن عباس ودراسة مجهوداته التي ساهمت في قيام المدرسة المكية. وقد تطرق البحث لعرض أسباب اختيار موتسكي مصنف عبد الرزاق نصًا لتطبيق منهجه، دراسة السند والمتن معًا عليه، وبيان المعايير التي استند عليها في الوصول إلى نتيجة أن روايتي ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعن عمرو بن دينار صحيحتان. توصل البحث إلى أن تغطية فترة ابن عباس تضع الباحث أمام البدايات الفعلية الأولى للمدرسة الفقهية المكية وكيف تشكل النقاش الفقهي آنذاك.
الفكر الفقهي للماوردي
يقدم الدكتور محمد المعلم من جامعة جورج تاون دراسة معمقة بعنوان "الفكر الفقهي للماوردي (ت 450هـ/1058م) في الإسلام الكلاسيكي: نظام متكامل وتفاعلي للاجتهاد والتقليد". تسعى هذه الدراسة إلى إعادة النظر في رواية الانحدار التي تصور نشوء المدارس القانونية كعامل أساسي في تراجع الفقه، خصوصًا في القرن الرابع/العاشر وما بعده، حيث هيمنت ثقافة التقليد (اتباع السلطة القانونية) على الاجتهاد (التفكير القانوني المستقل). تحلل الدراسة العلاقة بين مفاهيم الاجتهاد والتقليد وإجراءاتهما في مؤلفات الماوردي، الفقيه الشافعي البارز، مع التركيز على عمله "الحاوي الكبير". بدلًا من تقديم الاجتهاد والتقليد كمراحل تاريخية متعارضة أو متعاقبة. تؤكد الدراسة أن الفكر الفقهي للماوردي يدمج هذين الإجراءين كأدوات تكاملية تلبي متطلبات منهجية واجتماعية وسياسية متميزة. تُعاين الدراسة معاني الاجتهاد والتقليد ووظائفهما كما وردت في مؤلفات الماوردي، مبرزة كيف أسهم التقليد في تحقيق الاستقرار خلال فترات التشرذم السياسي، بينما عزز الاجتهاد استقلال القضاء وتحدى التأويلات الباطنية. إن هذا الدمج بين الاجتهاد والتقليد كعناصر مستدامة ومتفاعلة ضمن الفقه الإسلامي يفند التأويلات التي تضع الماوردي ضمن سردية الانحدار التبسيطية.
لتحميل عدد المجلة
* صدر هذا العدد الخاص من دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية في المجلد التاسع، العدد الثاني، المقرر صدوره في يونيو 2025. تحمل المجلة الرقم الدولي المعياري للنشر الإلكتروني (ISSN: 2785-9746) والرقم الدولي للنشر الورقي (ISSN: 2785-9738). تأسست المجلة عام 2016 وتصدر عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وهي مجلة علمية محكمة تنشر الأبحاث بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وقد أفدنا من تقديم العدد ومن ملخصات الأبحاث في إعداد هذا التقرير.