يمثل بحثُ د. رمزي رشاد الشيخ الموسوم بـ«مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرًا للقانون المدني» جسرًا فكريًّا يجمع بين منظومتي الفقه الإسلامي والتشريع المدني، في إطار يهدف إلى إبراز الأبعاد الأصولية والمادية والتفسيرية لمبادئ الشريعة وأثرها في صناعة القاعدة القانونية المدنية. وقد اختار الباحث هذا الموضوع انطلاقًا من إدراكه لأهمية معرفة المصادر الحقيقية للقواعد القانونية، لا سيما تلك التي يلتجئ إليها القاضي حينما يخلو التشريع أو العرف من نصٍّ واضح، وبحثُه هذا يسد فجوةً بحثيةً لافتةً نجمت عن النقص في الدراسات المتخصصة في الجانبين الشرعي والمدني.
إشكالية البحث وأهميته
تنحصر الإشكالية الأساسية -بحسب الباحث- في غياب تعريف موحد ودقيق لمصطلح «مبادئ الشريعة الإسلامية» لدى القانونيين والفقهاء على حدّ سواء، بالإضافة إلى ندرة الدراسات التي تناولت هذا الجانب دراسة مستفيضة. ولقد أبرز الباحث أن الوصول إلى فهم واضح لهذا المصطلح ليس رفاهيةً نظريةً فحسب، بل ضرورةٌ عاجلةٌ في المحاكم المدنية التي تؤسس أحكامها على مواد القانون المدني وتنصّ على الرجوع إلى مصادر احتياطية عند انعدام النص التشريعي أو العرفي. ومن هذا المنطلق، يتحقق البعدُ العملي للبحث في تمكين القاضي من استخراج قاعدة قانونية متكاملة مستوحاة من مبادئ الشريعة، ترفع من مستوى العدالة وتحافظ على روح التشريع الأصلي.
الإطار النظري والاستعانة بالمصادر
اعتمد الباحث في مدخله النظري على تقسيم مصادر القانون إلى رسمية (التشريع، العرف، الدين، مبادئ الشريعة) ومادية (البيئة الاقتصادية والاجتماعية، العادات، المبادئ الأخلاقية)، مع التركيز على المصدر المنشئ للقواعد القانونية. وقد أوضح أن مبادئ الشريعة تحتل مرتبة المنظومة الاحتياطية الرسمية بعد العرف، تليها بقية المصادر الاحتياطية كالطبيعي والعدالة. ولتخطي صعوبات نقص الدراسات الوسيطة وغموض المصطلح، لجأ الباحث إلى العودة المباشرة للمؤلفات الأصولية والفقهية في أصول الفقه والفقه الإسلامي (ابن الصلاح، الشاطبي، ابن عاشور وغيرهم)، مستفيدًا من جهود التحقيق وطباعة المخطوطات القديمة وتوافرها عبر الإنترنت.
منهجية البحث وخطته التفصيلية
تَبعَ الباحث منهجًا وصفيًا-تحليليًا، انطلق في الفصل الأول من تحديد المفهوم في ضوء القراءات القضائية والدستورية والفقهية. إذ استعرض كيفية تعامل المحكمة الدستورية وقضاء النقض مع «مبادئ الشريعة الإسلامية»، ثم انتقل إلى دلالات المصطلح في الوثائق الدستورية المصرية (المادة الثانية من الدستور) والوقفات التأصيلية لدى مذاهب أهل السنة والجماعة، مع بيانه للأدلة الكلية (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) والقواعد الفقهية والأصولية (كالرسوخ والمعاملة بالمجاورة والمصالح المرسلة). وفي المبحث الثاني، عرض الباحث المفهوم الفقهيّ المتداول في كتب الأصول ومدى توافقه أو تباينه مع التعريف القانوني المختار.
أما الفصل الثاني، فخصَّصُه لدراسة دور مبادئ الشريعة الإسلامية في التشريع المدني وفق حالتين: الأولى حالةُ وجود نص تشريعي، فسلك في المطلب الأول إبرازها مصدرًا تاريخيًا ومعنويًا للنص، واستعرض في المطلب الثاني نماذجٍ توافقية تعكس انسجام التشريعات المدنية مع المبادئ الشرعية (كحُسن النية، والعدل، والمصلحة) وأخرى تعارضية تستدعي التنقيح أو الطعن (كأحكام بعض بنود الإبراءات أو النصوص المتعلقة بالملكية)، مع تقديم أمثلة فقهية وقضائية. وفي الحالة الثانية، وهي انعدامُ النص أو العرف، تناول آليات استنباط القاعدة القانونية من المبادئ الشرعية سواء عبر النقل المباشر للأحكام أو عبر الاجتهاد المقنن بضوابطه (التزام القاضي بان لا يخالف النصوص القطعية، ووجوب مراعاة المصلحة المعتبرة شرعًا)، ثم ناقش ضوابط الاستنباط في المطلب الثاني، مستفيدًا من نظرية المقاصد الشرعية وعلم أصول الفقه.
عرض بعض التطبيقات القضائية
استعرض البحث عدة أحكام صادرة عن محاكم مدنية واجهت قضايا تتعلق بعقود تمويل أو ضمان أو وصية لم تكن النصوص المدنية صريحة بشأنها، فاستدانت بقاعدة «الضرر يزال» و«الأمَانَة أمانةٌ» من مبادئ الشريعة. كمثال، قضت محكمة النقض في حكمها الصادر عام ٢٠١٨ بإلغاء شرطٍ مخالفٍ للعدالة في عقد تأمين، مستندةً إلى مبدأ التعويض الكامل عن الضرر الشرعي، وقررت المحكمة الدستورية العليا سنة ٢٠٢٠ أن لبعض المبادئ الشرعية دورًا تفسيريًا للنصوص الدستورية الخاصة بالأحوال الشخصية.
النتائج
أولى الباحث أهم النتائج التي توصل إليها، أولًا: أنّ مصطلح «مبادئ الشريعة الإسلامية» هو مصطلح قانوني فتحَّه الفقه المدني في ضوء حاجته إلى مصدرٍ احتياطي، ولم يكن مستخدمًا بذات الصيغة في النصوص الأصولية التقليدية، وإن كان المعنى العام للمبادئ الجزئية واردًا في أدبيات الفقه. ثانيًا: أكد الباحث أنّ من واجب القاضي والمشرع عدم تجاوز الأحكام القطعية الثابتة في الشريعة الإسلامية، وأن الاجتهاد فيما دون ذلك مقيد بضوابط التقييد الشرعي. ثالثًا: رصد الباحث توافقًا عامًا بين معظم الأحكام المدنية وأحكام الشريعة، بحيث لا تختلف في الغالب، لكنه لفت الانتباه إلى نصوص معدودة يتعارض فيها التشريع مع المبادئ الشرعية في الجملة، مما يتطلب مراجعة تنقيحية. رابعًا: وضّح أن مبادئ الشريعة ليست مصدرًا تشريعيًّا بالمعنى الحصري، لكنها مصدرٌ مادي يمد التشريع بالمضمون وروح المبادئ، كما تلعب دورًا تفسيريا في إزالة الإبهام عن النص. خامسًا: بيّن أن مبادئ الشريعة بوصفها المصدر الرسمي الاحتياطي تتيح للقاضي مساحةً لإعمال الاجتهاد عند خلوّ التشريع والعرف الصريحين.
التوصيات
انطلاقًا من النتائج السابقة، قدم البحث مجموعة توصيات عملية، أولها دعوة المشرع المصري (مجلسَي النواب والشيوخ) إلى مراجعة شاملة لنصوص القانون المدني تبعًا للمادة الثانية من الدستور، بما يضمن إلغاء البنود المخالفة للثوابت الشرعية، مع إبقاء ما لا يتعارض. ثانيًا، أوصى الباحث بأهمية تضمين العقود المدنية لشروط تبيّن صراحةً تقديم مبادئ الشريعة الإسلامية على أي حكم مدني غير آمرٍ، مما يثبت إرادة المتعاقدين ويجعل تطبيقها رهنًا بإرادتهم. ثالثًا، شدد على ضرورة استمرار الجهود العلمية لفقهاء الشريعة والأصوليين في شرح وتبسيط مبادئ الشريعة بلغة معاصرة مفهومة لغير المتخصصين من القضاة والمحامين والمتعاملين، ليتسنّى لهم توظيف هذه المبادئ بسهولة ودون قيود لغوية أو مفاهيمية.
لتحميل ملف الدراسة
* د. رمزي الشيخ، مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للقانون المدني، مجلة الدراسات القانونية والاقتصادية، العدد 1، المجلد 7، يونيو 2021.
** أستاذ القانون المدني المساعد، كلية الحقوق بجامعة طنطا.