الربيع العربي أو الموجة الرابعة للديمقراطية: هل أخطأ هنتنجتون في فهم علاقة الإسلام والمسلمين بالديمقراطية؟*

By أ. د. أحمد علي سالم** تموز/يوليو 13, 2025 272 0

قبل عقدين من الزمان كتب عالم السياسة الأمريكي الراحل صمويل هنتنجتون دراسته الشهيرة عن الموجة الثالثة للديمقراطية، ثم نشرها كفصل في كتاب، ثم أفاض في شرح أطروحته في كتاب مستقل[1]. وتدور الأطروحة حول رؤية التحولات الديمقراطية التي حدثت بين عامي 1974 و1990، وشملت ما لا يقل عن ثلاثين دولة، كجزء من ثورة ديمقراطية عالمية مستمرة وآخذة في التوسع، وليست مجرد توسع محدود للديمقراطية يشمل في معظمه تلك الدول التي سبق لها أن عاشت تجربة ديمقراطية في الماضي.

ووفقًا لهنتنجتون، فإن الموجة الأولى الطويلة للتحول الديمقراطي بدأت في عشرينات القرن التاسع عشر مع توسيع حق الاقتراع ليشمل نسبة كبيرة من الذكور في الولايات المتحدة. واستمرت تلك الموجة طوال معظم القرن التاسع عشر وحتى عام 1926، وكانت محصلتها نحو 29 دولة ديمقراطية. وكان وصول موسيليني للسلطة في إيطاليا عام 1922 بداية الموجة الأولى للردة عن الديمقراطية، والتي قلصت عدد الدول الديمقراطية في العالم إلى 12 دولة فقط بحلول عام 1942. وبانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية انطلقت الموجة الثانية للتحول الديمقراطي، والتي بلغت ذروتها عام 1962 حين كانت 36 دولة تحكم ديمقراطيًا. ثم شهدت الفترة الواقعة بين عامي 1960 و1975 الموجة الثانية للردة عن الديمقراطية، والتي قلصت عدد الدول الديمقراطية في العالم إلى 30 دولة فقط. لكن بحلول عام 1990 تضاعف ذلك العدد نتيجة الموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت عام 1974.

ورأى هنتنجتون أن التحول الديمقراطي قد يطول البلاد العربية والإسلامية، وقد يدعمه ظهور عبد الناصر جديد على غرار جفرسون، يبشر بقومية عربية ذات محتوى ديمقراطي، لكنه عاد واعترف بأنه لا يتبادر إلى الذهن اسم أي قائد عربي أو زعيم إسلامي معروف بدفاعه عن الديمقراطية ودعمه لها وهو ما يزال في السلطة. فهل كان الدين –أو الإسلام تحديدًا– كقوة سياسية هو السبب في ذلك؟ أم يعود السبب لممارسات المسلمين أنفسهم؟ أحاول في هذا المقال الإجابة عن هذه التساؤلات من وجهة نظر هنتنجتون أولًا، ثم بالنظر إلى الربيع العربي الذي بدأ منذ يناير 2011 ولاتزال تأثيراته مستمرة في البلاد العربية.

 

الدين والتحول الديمقراطي

لم ير هنتنجتون تعارضًا ضروريًا بين الديمقراطية والدين كقوة سياسية، بل رأى ارتباطًا تاريخيًا قويًا بين الديمقراطية والمسيحية الغربية، بروتستانتية كانت أم كاثوليكية. فمع بداية سبعينات القرن الماضي كانت معظم الدول البروتستانتية قد تحولت فعلًا إلى الديمقراطية. أما الموجة الثالثة للديمقراطية فكانت كاثوليكية بامتياز. فقد بدأت تلك الموجة بالبرتغال وإسبانيا، ثم اكتسحت ست دول في أمريكا الجنوبية، وثلاث دول في أمريكا الوسطى، ثم وصلت الفليبين، قبل أن تعود لأمريكا اللاتينية، وتحديدًا المكسيك وتشيلي، ثم طالت دولتين كاثوليكيتين في أوروبا الشرقية هما بولندا والمجر. وهكذا غلبت الكاثوليكية على ثلاثة أرباع الدول التي تحولت إلى الديمقراطية (أو الليبرالية كما في حالة المكسيك) بين عامي 1974 و1989. وبحلول عام 1990 كان زخم التحول الديمقراطي في البلاد الكاثوليكية قد بلغ مداه، ولم تعد الكاثوليكية قادرة على الدفع نحو مزيد من التحول الديمقراطي إلا في إفريقيا جنوب الصحراء بالدرجة الأولى. وباتت الكرة في ملعب الكنائس الأرثوذكسية لكي تؤثر بقوة باتجاه الديمقراطية في جنوب أوروبا ودول الاتحاد السوفيتي السابق.

أما الإسلام فكان دين أغلبية سكان السودان ونصف سكان نيجيريا، وهما أول دولتين عادتا للحكم التسلطي بعد تحولهما إلى الديمقراطية خلال موجتها الثالثة كما يرى هنتنجتون. كما كان الإسلام الدين الرئيسي في عدة دول عادت للحكم التسلطي بعد تحولها إلى الديمقراطية خلال موجتها الثانية، مثل أندونيسيا وباكستان وتركيا ونيجيريا. ورأى هنتنجتون أن أحد سيناريوهات الردة عن الموجة الديمقراطية الثالثة هو وصول الحركات الأصولية الدينية إلى السلطة خاصة في العالم الإسلامي، مثلما تسيطر في إيران. فالدول الإسلامية الممتدة من المغرب إلى إندونيسيا، باستثناء تركيا وربما باكستان، مثلت بالنسبة له إحدى الفئات الجيوثقافية الأربعة التي كانت تنتمي إليها الدول غير الديمقراطية عام 1990، وهي دول كانت تربو على المائة وتواجه عقبات سياسية وثقافية واقتصادية تعوق التحول الديمقراطي فيها.

 

هل الإسلام عقبة ثقافية أمام التحول الديمقراطي؟

يختلف هنتنجتون مع جورج كينان وغيره ممن أكد على أن الثقافة الغربية هي وحدها التي توفر القاعدة المناسبة لتطور المؤسسات الديمقراطية، وأن الديمقراطية لا تتلاءم مع المجتمعات غير الغربية. ولا شك أن هذا الرأي يتجاهل حالات ديمقراطية ناجحة لم تبن على الثقافة الغربية مثل الهند، وهي دولة متعددة الثقافات والديانات واللغات.

لكن هنتنجتون مال إلى وجود ثقافات غير غربية بعينها تعادي الديمقراطية. وبينما أكد على التناقض بين الديمقراطية والكنفوشية، فإنه لم ير تناقضًا واضحًا بين الديمقراطية والإسلام. فمن جهة، تتفق بعض القيم الإسلامية كالمساواة والعمل التطوعي مع القيم الديمقراطية. ومن جهة أخرى، يرفض الإسلام – كما يراه هنتنجتون – الفصل بين الجماعتين الدينية والسياسية، فلا يوازن بين قيصر والله، بل يربط بين المشاركة السياسية والانتماء الديني. ويشترط ما يسميه (الإسلام الأصولي) أن يكون حكام الدول المسلمة مسلمين، وأن تكون الشريعة هي القانون الأساسي، وأن يكون لعلماء الدين كلمة حاسمة في صناعة كافة السياسات الحكومية، أو على الأقل في مراجعتها والتصديق عليها. وهذه العقائد والممارسات تتناقض مع أبجديات الديمقراطية كما يراها هنتنجتون.

ومن الناحية العملية، فإن الدولة الإسلامية الوحيدة التي استمر فيها نظام ديمقراطي لفترة من الزمن هي تركيا، حيث رفض زعيمها أتاتورك المفاهيم الإسلامية عن المجتمع والسياسة، وأقام نظامًا قوميًا علمانيًا حداثيًا على الطريقة الغربية. أما باكستان، فلم تعمر أي من محاولاتها لتحقيق الديمقراطية فترة طويلة. والدولة العربية الوحيدة التي استمر فيها شكل من أشكال الديمقراطية هي لبنان، لكن ديمقراطيتها بلغت حد الأوليجاركية الطائفية، ثم انهارت بمجرد أن أصبح المسلمون أغلبية السكان وبدأوا في المطالبة بحقوقهم. أما على صعيد المعارضة السياسية، فظلت الحركات الداعية إلى الديمقراطية ضعيفة نسبيًا، بينما اصطبغت المعارضة الأقوى بالطابع الأصولي الإسلامي. فكانت الحركات الإسلامية الأصولية هي أكثر المستفيدين انتخابيًا من حالات الانفتاح النسبي في النظم التسلطية. وخلاصة القول في رأي هنتنجتون إنه سواء كان الإسلام والديمقراطية متطابقين نظريًا أم لا، فإن الممارسة تشير إلى أنهما نادرًا ما يجتمعان.

ورغم خطورة العقبات الثقافية أمام التحول الديمقراطي، شكك هنتنجتون في قدرة تلك العقبات على منع ذلك التحول لثلاثة أسباب. أولًا لم تتوقف مناقشات مشابهة في الماضي حين زعم بعض المفكرين أن الكاثوليكية كانت عقبة أمام الديمقراطية. وثانيًا، إن التعاليم الثقافية الكبرى مثل الإسلام هي أبنية فكرية مركبة. ففي أية ثقافة كبرى عناصر متطابقة مع الديمقراطية وأخرى غير متطابقة معها، والواجب هو البحث عن عناصر الإسلام التي تتطابق مع الديمقراطية، وكيفية إبطال عمل العناصر غير الديمقراطية فيه، والظروف التي تساعد على تحقيق ذلك. وثالثًا، تتميز الثقافات الكبرى بتغير مستمر، فهي ليست راكدة. وبينما تحافظ الثقافة السائدة في المجتمع على عناصر استمراريتها، فإنها قد تختلف جذريًا من جيل لآخر.

 

رؤية بديلة

استخدم هنتنجتون معيارًا شكليًا لإطلاق اسم "الموجة" على عمليات التحول الديمقراطي في فترات زمنية مختلفة. هذا المعيار هو عدد النظم المتحولة إلى الديمقراطية. وهذا المعيار يبرر إطلاق وصف الموجة على حالات التحول من التسلطية باتجاه الديمقراطية في بلاد الربيع العربي. فخلال أقل من عام واحد انزاحت أربعة نظم تسلطية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبدأ يجل محلها تدرجيًا نظم تقوم على الإرادة الشعبية. ويبدو أن هذه الموجة مرشحة للتواصل على الأقل في دولة عربية واحدة هي سوريا، فضلًا عن آثارها الملموسة في دول عربية أخرى لم تتغير نظمها وإنما تغيرت سياساتها نحو مزيد من الاستجابة للمطالب الشعبية المتطلعة نحو الديمقراطية. ومن هذه الدول المغرب والأردن والبحرين، وربما الجزائر والسودان وموريتانيا.

لكن هذا المعيار الشكلي لا يعكس مدى عمق التحول. فمن المشكوك فيه مثلًا أن تكون للدول التي تحولت إلى الديمقراطية خلال الموجة الثانية (أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أوائل ستينات القرن الماضي) أية علاقة بجوهر الديمقراطية، ليس فقط بدليل سرعة تحولها إلى نقيض الديمقراطية، أي التسلطية، بل أيضًا لأن نظمها "الديمقراطية" كانت من جملة ما ورثته عن مستعمريها. فسرعان ما تخلت هذه الدول حديثة الاستقلال –بل والنشأة أحيانًا– عن تلك النظم كراهية في الاستعمار، وتأكيدًا على قيمها الثقافية التقليدية، وتماشيًا مع المرحلة التاريخية التي كانت تمر بها. فضلًا عن أن ممارسة الديمقراطية في تلك البلاد غالبًا ما شابها كثير من الشوائب.

غير أن أخطر ما يهمنا في رؤية هنتنجتون هو تلك الصورة المشوهة للعلاقة بين الديمقراطية والإسلام فكرًا وممارسة، فهي رؤية يشوبها القصور لأنها مبنية على مفاهيم غير دقيقة لكل من الديمقراطية والإسلام، وقراءة غير منصفة لعلاقة كل منهما بالممارسة السياسية في البلاد الإسلامية. وتكشف الثورات العربية في العامين الأخيرين مدى تشوه هذه الرؤية، وتمهد الطريق لرؤية بديلة للديمقراطية والإسلام والممارسات السياسية في البلاد الإسلامية. وهذا المقال هو لبنة في بناء تلك الرؤية البديلة.

 

أولًا: ماهية الديمقراطية

هل الديمقراطية نظام حكم أم قيمة سياسية واجتماعية أم منهج حياة أم أنها كل ذلك أم أنها غير ذلك؟ وهل الديمقراطية الغربية صالحة للتطبيق مطلقًا بغض النظر عن الزمان والمكان والأشخاص والأحداث؟

يصعب تجاهل حقيقة أن مفهوم الديمقراطية نشأ وتطور ونضج في البيئة الحضارية الغربية قبل انتقاله إلى بيئات حضارية أخرى. وقد احتاج غرس الديمقراطية في بيئتها الحاضنة وتغيير القيم الاجتماعية بما يتناسب مع الديمقراطية إلى وقت طويل وتأثير تراكمي مطرد، حتى أصبحت الديمقراطية في تلك البيئة منهجًا للحياة يلقى الخارج عنه عقابًا اجتماعيًا أكثر منه سياسيًا. فباتت الديمقراطية قيمة عليا في مؤسسات المجتمع والدولة، سواء داخل الأسرة أو في المدرسة والجامعة والشركة والمصنع والنقابة والنادي ومن ثم الحكومات المحلية والقومية.

غير أن الموقف في المجتمعات التي تلقت مفهوم الديمقراطية من الخارج جد مختلف. فمن جهة، ظل هذا المفهوم غامضًا وملتبسًا ردحًا من الزمن. وزاد من غموضه والتباسه تلك الممارسات غير الديمقراطية لنظم ظلت تزعم أنها ديمقراطية، مما أثمر إدراكًا مشوهًا لهذا المفهوم عند بعض الناس، فتحددت مواقفهم من الديمقراطية بما يتناسب مع هذا الادراك. ومن جهة أخرى تمسك الليبراليون من دعاة الديمقراطية في العالم الإسلامي بنقل مفهومها الغربي حرفيًا، وهو نمط في النقل عن الغرب تكرر كثيرًا في البلاد الإسلامية منذ نحو قرنين من الزمان، وأعاق الاستفادة من بعض ما أنتجته الحضارة الغربية.

إن وصف نظام بالديمقراطية يجب ألا يتوقف على احتذائه بالنموذج الديمقراطي الغربي، بل على التزامه بالمعايير والإجراءات التي تعتبر ضرورية للديمقراطية، وهي التحاكم إلى الشعب وفق آلية الانتخابات النزيهة، والمنافسة الحرة المتكافئة، والمشاركة المفتوحة أمام جميع القوى السياسية في المجتمع في جو من الحرية والمساواة.

وكما أن العقل البشري –على حد قول هنتنجتون– قادر على ابتكار أشكال جديدة من النظم التسلطية، فإنه كذلك قادر على ابتكار أشكال جديدة للنظم الديمقراطية لا تتطابق بالضرورة مع نموذجها الغربي. إن الزعم بأن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا وفقًا للنموذج الغربي يعني أن التغريب الثقافي شرط ضروري لها. وهذا الزعم لن يكون فقط منفرًا من الديمقراطية بالنسبة للشعوب التي تعتز بقيمها الحضارية، ومن بينها الشعوب الإسلامية التي استعصت حتى الآن على التغريب، بل إنه أيضًا انتهاك لحق الشعوب غير الغربية في ممارسة خصوصياتها الحضارية.

إن الارتقاء بالديمقراطية إلى مرتبة القيم العليا يجعلها في مصاف قيم الحرية والعدالة والمساواة التي يمكن لأي مجتمع أن يطبقها وفقًا لبيئته وظروفه وثقافته. أما إثقال الديمقراطية بكثير من المضامين والمؤشرات فيعني مزيدًا من الصعوبة والتعسف والتأجيل في تطبيقها في كثير من دول العالم. إن تطبيق الديمقراطية في البلاد التي لم ينشأ فيها هذا المفهوم يحتاج إلى مواءمة، وإن تكييف الديمقراطية مع خصوصيات تلك الدول والمجتمعات أنسب وأيسر من تكييف تلك الدول والمجتمعات مع المفهوم الغربي للديمقراطية.

 

ثانيًا: الإسلام والمسلمون والديمقراطية

تساءل هنتنجتون عن مدى العداء الكامن والظاهر بين القيم والعقائد الإسلامية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى. كما تساءل إن كان الإسلام قد أعاق في الماضي وسيعيق في المستقبل التحول الديمقراطي في البلاد الإسلامية. فهو يقيم الإسلام بمدى اقترابه من المفهوم الغربي للديمقراطية أو ابتعاده عنه. ولأن هذا التقييم مبني على النموذج المعرفي الغربي، فإنه لا يؤدي فقط إلى سوء الفهم بل يمهد الطريق لرفض الآخر ومن ثم صدام الحضارات، وهي أطروحة أفرد لها هنتنجتون كتابًا آخر، وارتبطت باسمه بعد ذلك.

وقد ذكر هنتنجتون بعض أوجه الاتفاق بين الإسلام والديمقراطية، ونضيف إليها هنا التعددية في النموذج الإسلامي. فمع الاتفاق على أصول الدين –وهي تمثل النظام العام في المجتمع– يتعامل الفكر الإسلامي الوسطي مع التنوع في المجتمع بإيجابية، ويحترم ذلك التنوع، ويتيح صيغًا للتعبير عن ذلك التنوع، ويقبل ما يترتب عليه من خلاف، ويقدم آليات تحول دون تحول الخلاف إلى صراع يهدد تماسك المجتمع.

ويبدو أن هنتنجتون لم ينتبه إلى هذا التنوع داخل المجتمعات الإسلامية، فأهمل دراسة مواقف الاتجاهات السياسية الإسلامية من الديمقراطية، واكتفى بالنظر في الموقف الفكري للإسلام منها. ويمكن تعريف هذه الاتجاهات بأنها تلك التي تتخذ الإسلام مرجعية أساسية لها. وقد ساهمت عدة عوامل في تحديد مواقفها من قضية الديمقراطية، ومن هذه العوامل القيم الإسلامية التي تشدد على الشورى، وكذلك الواقع القائم في كل دولة، ومدى اعتراف الحكومات والقوى الدولية بتلك الاتجاهات السياسية الإسلامية.

وفي الواقع فإننا أمام اتجاهات وليس توجهًا واحدًا، تتفاوت في تسويغ رفض الديمقراطية أو التحفظ عليها أو قبولها قبولًا مشروطًا أو مطلقًا. فيجب التمييز بين مواقف الاتجاهات الإسلامية المتنوعة من الديمقراطية من أجل تجنب التعميم الخاطئ. فمن هذه الاتجاهات من يقبل الديمقراطية ولا يعتبرها مناقضة للإسلام، بل يعدها مرادفًا لفكرة الشورى. وهناك من يقبلها متحفظًا على بعض عناصرها أو ما يتصور أنه من مكوناتها. وفي المقابل نجد من بين الاتجاهات الإسلامية من يرفض الأساس الفلسفي للديمقراطية وينقدها وفق تصور يظنه ثابتًا وكامنًا في الفكرة الديمقراطية. فهناك مثلًا من يرفض الديمقراطية لارتباطها بفكرة العلمانية سيئة السمعة لدى كل الاتجاهات الإسلامية. ومن تلك الاتجاهات من يرى أن الشورى في الإسلام فكرة بديلة عن الديمقراطية. ومنها من يرفض الديمقراطية لاختلافه مع نماذجها التطبيقية لاسيما في الغرب، مثل الحزبية أو التمثيل النيابي أو الدعاية الانتخابية أو المعارضة. وهناك من يخلط بين الديمقراطية وبعض الممارسات المرتبطة بمفهوم الحرية في الغرب كالإباحية مثلًا. وهناك من يقدم شرعية النظام السياسي على ممارساته سواء كانت ديمقراطية أو غير ذلك. وهناك من يرفض الديمقراطية لأنها وصلت إلينا من الغرب المعادي لنا. وهناك من يرفض الديمقراطية لأنها الشعار الذي رفعته بعض الحكومات المستبدة في البلاد الإسلامية، حيث مارست بعض تلك الحكومات "ديمقراطية الخطوة خطوة" أو "ديمقراطية الاستثناءات" التي تستبعد "القوى المهددة للديمقراطية" من الحياة السياسية. فإحدى المشكلات الرئيسية التي واجهت القوى الإسلامية هي العبث بالديمقراطية من جانب الحكومات. فإذا كانت هناك ديمقراطية بأي معنى مقبول، لكان لزامًا التعامل مع القوى الإسلامية. فلا يمكن تصور العلاقة بين القوى الإسلامية وأي نظام "ديمقراطي" إذا كانت ديمقراطيته تبدأ بنفي تلك القوى الإسلامية واستبعادها.

وقد أخطأ هنتنجتون في تقييم العلاقة بين الإسلام والديمقراطية من خلال النظر في ممارسات نظم الحكم في البلاد العربية والإسلامية في وقت كانت معظم تلك النظم لا تمثل القيم السياسية والثقافية في الإسلام، ولا تمثل القيم السياسية والثقافية للديمقراطية. وغاية الأمر أنها تشهر سلاح الخصوصية الثقافية الإسلامية (فضلًا عن الظروف السياسية والاقتصادية) في وجه دعاة الديمقراطية، وترفع شعار حماية الديمقراطية (فضلًا عن الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية) في وجه الاتجاهات الإسلامية. إن تقييم العلاقة بين الإسلام والديمقراطية من خلال ممارسات تلك النظم –كما فعل هنتنجتون– هو تقييم جائر.

 

ثالثًا: من الموجة الثالثة إلى الموجة الرابعة للديمقراطية

عندما تفجرت الثورات الشعبية في أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينات القرن الماضي لم يكن أمامها نموذج سياسي ناجح تقتلع به الشيوعية من دولها ومجتمعاتها سوى النموذج الديمقراطي الغربي. وفي مناخ ما بعد نهاية الحرب الباردة أصبح التحول الديمقراطي أحد الشعارات الكبرى التي رفعها "النظام العالمي الجديد"، تمامًا كحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة. فلم يكن مستغربًا أن تركب بعض الأنظمة التسلطية الموجة لا لتصل إلى "بر الديمقراطية" بل لتصل إلى "بر الأمان". فالتظاهر بالتحول نحو الديمقراطية كان يحميها من غضب الداخل أو الخارج أو كليهما معًا إلى حين أن تتوقف أو تهدأ موجة المد الديمقراطي، ثم تعود تلك الأنظمة إلى ممارساتها التسلطية في شكل جديد أكثر ملاءمة للموقف العالمي. وللأسف كانت بلادنا العربية هي أوضح مثال على ذلك.

فبعد أن شهدت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تطورًا ملحوظًا باتجاه الديمقراطية في البلاد العربية نتيجة عوامل داخلية بالأساس، توقف هذا التطور، ثم ما لبث أن تراجع باتجاه أوضاع كان بعضها أسوأ من تلك التي سبقت بداية التحولات الديمقراطية. ولعب العامل الخارجي دورًا معوقًا للتطور الديمقراطي في البلاد العربية. فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – وهما أهم الفاعلين الدوليين الداعمين للتحول الديمقراطي من وجهة نظر هنتنجتون – استمرا في دعم بعض أشد النظم قمعًا في العالم كالنظامين المصري والتونسي، وتقديم المساعدات الاقتصادية السخية لها، والتغاضي عن تراجعها عن التحول الديمقراطي، بل والتصالح مع نظم ظلت معادية للديمقراطية مثل النظام الليبي. فالعبرة فقط بما يخدم المصلحة بمعناها الضيق والمادي والآني. لذا كانت ثورات الشعوب العربية مفاجأة لتلك القوى تمامًا كما كانت مفاجأة للأنظمة الحليفة لها في البلاد العربية.

ولعل ضعف العامل الخارجي في الثورات العربية هو خير لها. فتأثير العامل الخارجي لا يعني فقط انتهاك حق الشعوب في اختيار نظام الحكم الأمثل لها، وهذا من أبجديات الديمقراطية، بل يفسر أيضًا بعض حالات الردة عن الديمقراطية. فالشعوب قد تثور ضد أي نظام يفرض عليها من الخارج، حتى لو كان ديمقراطيًا.

 

 

* مقال نُشر في مجلة الديمقراطية، العدد 49، يناير 2013، ص 106-111.

**  أستاذ زائر وباحث أول، فسم الدراسات السياسية والدولية، جامعة رودس، جنوب أفريقيا.

[1] Huntington, Samuel P., 1993, The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century (Norman, OK: The University of Oklahoma Press); 1993, “Democracy’s Third Wave,” in: Larry Diamond and Mare F. Plattner (eds.), The Global Resurgence of Democracy (Baltimore, MA: The Johns Hopkins University Press).

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الإثنين, 14 تموز/يوليو 2025 10:34

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.