العلامة لامبير

By د. مصطفى القللي بك آذار/مارس 31, 2025 477 0

مات العالم الجليل إدوار لامبير*، فلم تحس بالخسارة فرنسا وحدها، بل جزع لموته عالم القانون بأجمعه، وبكاه العارفون لفضله والمعجبون به، وما أكثرهم في سائر الأمم، وفى مقدمتهم رجال القانون في مصر - فالراحل الكريم له منزلة عزيزة، خاصة في نفوس المصريين من رجال القانون.

وأن الإنسان ليعجب للأثر البالغ الذي تركه الأستاذ لامبير في مصر، رغم قصر الفترة التي أقامها فيها أول ما جاء إليها، فقد قضى فيها سنة ١٩٠٧ الدراسية ناظرًا لمدرسة الحقوق الخديوية، ثم عاد إلى فرنسا مؤثرًا الاعتزاز بكرامته وحريته على التمشي مع ما كان يريده المستشار الإنجليزي وقتئذ من حد في حرية التفكير وتفتير في التزود من العلوم، ولكن هذه الفترة القصيرة كانت نسمة منعشة هبت من شخصيته العظيمة، فأذكت نفوس الطلاب، ونبهت أذهانهم إلى الاغتراف من مناهل العلم الصحيح، فما أن عاد إلى ليون حتى سافر على إثره عدد كبير من خيرة الشباب المتوثب، ليدرسوا القانون في كنفه، وتحت إشرافه، فتلقاهم بصدر الأب البر العطوف، وأخذ يحوطهم بعنايته هم ومن تابعهم من بعدهم، ويجزل لهم من نصحه وإرشاده، وينمي في نفوسهم حب العلم والحرية في التفكير، وهكذا ساهم بنصيب وافر في تنشئة طائفة كانت من جنود الطليعة في نهضتنا الحديثة العلمية والسياسية.

ولقد ظل يحن للعودة إلى مصر، كما يتمنى زيارته لها تلامذته العديدون، ويد السياسة تحول غير سافرة دون ذلك، وإن يكن قد تمكن من المرور بها في خفاء ذات مرة. وأخيرًا تحققت الأمنية، فدعته كلية الحقوق أستاذًا زائرًا.

وكان الأستاذ لامبير سَبَّاقًا إلى دراسة الأفكار والأنظمة الجديدة وتمحيصها، فلما نُشر تشريع السوفيت أسرع وانكب على دراسته وترجم قانون السوفيت وصدره بمقدمة أبان فيها ما تضمنه من جديد وغريب.

ولما بلغ الستين من عمره رأى علماء القانون في مختلف بلاد العالم تكريمه لجهاده العلمي الطويل فأصدروا مجموعة متنوعة (Mèlange) من عدة مجلدات، في مختلف المشاكل القانونية الكبرى في العصر الحديث، فكلها قد مستها نفحة من فضله وكان لها نصيب من قلمه.

لقد مضى لامبير من عالم الأحياء، ولكن كتب له الخلود في عالم القانون. لقد كان أستاذًا آمن برسالته، فأخذ يربي لنشرها تلامذة من حوله، يحوطهم بعطفه، ويفيض عليهم من علمه، ويعمل لدعوته في إيمان وصدق بلسانه وقلمه، وسيظل اسمه عنوانًا للعالم الجليل، المدرك لإنسانيته، المخلص لفكرته، وسيخلد في سجل العاملين للإخاء بين بني الإنسان.

 

* إدوارد لامبير (1866-1947م) هو أحد أعلام القانون الفرنسي ورائد من رواد القانون المقارن، عمل أستاذًا بمدرسه الحقوق بمصر، وعندما أقيل –بتدبير بريطاني- عاد إلى فرنسا عام 1907م، وأنشأ قسم القانون المقارن بجامعة ليون، ويُذكر أن لامبير كان من بين المهتمين بدراسة الفقه الإسلامي ومقارنته بالقانون الوضعي، وكان شديد الإعجاب بالشريعة الإسلامية، وتتلمذ عليه الكثير من فقهاء القانون في مصر، وكان على رأسهم الفقيه عبد الرزاق السنهوري ود. محمود فتحي، حيث أشرف لامبير على رسالتهيما للدكتوراة، وفي عام 1938م تم تكليفه برئاسة لجنة عُهد إليها بالإشراف على توحيد القانون المدني المصري المطبق في المحاكم الأهلية والمختلطة، ويُذكر أن اللجنة كانت تضم في عضويتها أساتذة وقضاة مصريين وفرنسيين من أبرزهم السنهوري باشا.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الإثنين, 31 آذار/مارس 2025 21:34

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.