لم أقرأ حياة مالك وأخباره مرة إلا وجدتني متخشعًا باكيًا للتأثر من مواقفه في الذب عن السنة وحماية الشريعة، ومجاهرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو حالي أيضًا كلما قرأت أخبار رجال مذهبه الكرام الأفذاذ الذين نهجوا نهجـه في الصدع بالحق واقامة العدل ومقاومة الجور والطغيان والبدع والأهواء، إلى ما تحلوا به من الزهد ومواصلة الذكر والفكر والعبادة. إنّ قراءة أخبار مالك ورجال مذهبه تطهر النفس، وتزكي القلب، وتفتح الذهن، وتنمي المعرفة، وتعطي القدوة الحسنة لمن أراد أن ينهج منهج الصالحين، ويسلك مسالك العارفين. وإني لأحمد الله على أن تم اختيار المغاربة لهذا المذهب الذي يجمع بين المحافظة على السنة - والتفتح على طرق المصـلحة، والحث علـى النضال في سبيل نشر الدين وحمايته من الأهواء المهوية والبدع المغرية. ولم يـتم ذلك دون جد واجتهاد ونضال في سبيل تحقيق اختيارهم، فقد وقفت في سبيلهم عقبات الاختلافات المذهبية والاضطرابات السياسية التي هي في الواقع امتداد لما كان قد حدث في الشرق من تعدد النزاعات على إثر خلاف علي ومعاوية رضي الله عنهما، وتوالى التهافت على الحكم طيلة أمد الدولتين العظيمتين الأموية والعباسية، وهذا المجهود الذي بذله المغاربة إلى أن حققوا غرضهم في توحيد المغرب من الوجهة القانونية والقضائية على المذهب المالكي، وعلى العقيدة الأشعرية خلال ذلك، هو الذي يبرز لنا الروح النضالية التي قام بها المالكية في المغرب امتدادًا لما قام به إخوانهم في المشرق، وسيرًا على منوال إمام المـذهب وزعيمه مالك بن أنس رحمه الله.
ولد مالك سنة 93ه على الصحيح بالمدينة المنورة لعائلة تنتمي إلى قبيلة يمنية هي (ذو أصبح) وأمه كذلك يمنية من أزد، وولد في بيت كان يهتم بعلم الحديث والأثر، إذ كان جده مالك بن أبي عامر من العلماء التابعين وأخيارهم، وكان والده كذلك من أهل العلم والنضال وله أثر كبير في توجه مالك لدراسة الحديث، وكان أخوه النضر من طلاب العلم والحديث الملازمين لكبار الشيوخ.
وإذن فمالك عربي من أسرة عربية، ولد ونشأ في المدينة المنورة وفي بيت يُعنى بالحديث والسنة واستطلاع الأخبار من الرسول "صلى الله عليه وسلم" ومن الصحابة والتابعين، يتقصى المروي عنهم والمعروف من فتاواهم وأحكامهم، والمدينة في ذلك الوقت منبع النور ووعاء العلم، مجمع الحكمة ومعهد الساعة ومدرسة القرآن والحديث والاستيقاظ والاجتهاد، ورثت تعاليم الرسول "صلى الله عليه وسلم" وهديه وسنة أبي بكر وعمر ونهج عثمان وعلي.
وبقيت المدينة على هذه الحالة في عهد التابعين وتابعيهم ينمو علمها بكثرة علمائها ورجالها، واستمرت كذلك حتى في العصر الأموي والعباسي إذا اختلف الناس عن شيء رجعوا إليها لمعرفة الحق، وإذا أرادوا الشورى رجعوا إلى رجالها.
وفي جو هذه المدينة القدوة نشأ مالك وترعرع فحفظ القرآن ووعى الحديث وأخذ على مجالس العلماء، فبدأ بربيعة تبعًا لنصيحة أمه التي قالت له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم أدبه قبل علمه"، ولا شك أنه لازم غيره من العلماء الذين يروي عنهم في كتابه الموطأ، ولكنه آثر أن يلازم على الخصوص رجلاً كان له أثر كبير في توجيهه وتربيته، وأعنى به ابن هرمز المعروف بتحريه في الإجابة وتثبته في الرواية وشدته في مقاومة البدع والأهواء، ويظهر أنّ مالكًا أُعجب بهذا الرجل وقرر أن يتخذه مثاله المتحدي، فلازمه سنين عديدة اختلف الرواية في عدها بين السبع والثلاثين سنة.
وليس يعنينا هنا أن نفصّل حياة مالك ودراسته وتدريسه من بعد، ولكن الذي يهمنا هو أنه عني بالبحث عن النِّحل التي ظهرت في عصره، وعن الوجوه التي يمكن أن تتبع في سبيل الرد على أهل البدع والأهواء، عنايته بمعرفة الاختلافات الفقهية ومنازع المجتهدين في استخراجها وأسبابها، وطريقة الاختيار الممكنة ووسائل الترجيح والمصادر التي يجب على المجتهد أن يعتمد عليها، ولا شك أنّ لابن هرمز فضلاً كبيرًا في تعريفه بكل ذلك، وفي طبعه بطابعه القوي على الجدل المحتمل لعواقب ما ينتج عن صراحته ونضاله.
ملأ مالك حقيبته بالعلم والمعرفة، وتزوّد بالتربية الصالحة من أسرته وأساتذته، وتصدى للتدريس والإفتاء بعد أن أذن له في ذلك كبار شيوخه، فبدأ يدرّس في المسجد، ثم قرر ملازمة البيت واستقبال الطلبة والسائلين من كل حدب وصوب، وكان إذا خرج للحديث تطيّب ولبس أحسن ثيابه، وإذا خرج للمسائل لم يتكلف ذلك، وفي كلتا الحالتين كان مجلسه مجلس وقار وهيبة يحضره الناس وكأنما على رؤوسهم الطير، وكان ربما يسأل عن مسائل كثيرة فيجيب عن بعضها ويقول لا أدري في الباقي، ويقول: من قال لا أدري علمه الله ما لم يكن يدري، كما كان يقول: من ترك قول لا أدرى أصيبت مقاتله أو ما هذا معناه.
وكان يرفض الجواب عن المسائل التي لم تقع بعد، فما كان يقبل الفروض ويقول: إنّ الإنسان إذا سُئل عما وقع أُعين عليه.
وُلد مالك زمن عبد الملك بن مران، وتوفي عمر بن عبد العزيز ولمالك ثمانية أعوام، وأعقبه خلفاء متعددون حادوا عن منهج الخلافة الرشيدة وحلّ حكم الفرد محل الشورى، فعاد العلويون للانتفاض والخوارج للظهور. وكان مالك سنيًا في عقيدته يعتقد أنّ الخلافة في قريش ما أقاموا الدين، ثم هي في كل الأحوال مسألة مصلحية لا دخل للإيمان في أمرها، وكان يقدر عليًا قدره كابن عم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأحد المبشرين بالجنة والسابقين للإسلام، ولكنه لم يكن يعترف له بدرجة أبي بكر وعمر، لأنه ليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه، فهو بذلك أبعد عن أن يميل للتشيّع أو يحمله استنكار البدع والظلم الواقع من الحكومة الشرعية على أن يثور عليها أو يؤيد القائمين عليها، وإذا لم يكن شيعيًا فأحرى أن لا يكون خارجيًا يحكم بكفر عصاة المؤمنين واستباحة دمائهم، أو أعطى لنفسه حق النيل من علي وأنصاره. وفي هذا الجو المتعادل، وفي روح الفقيه الواسع المعرفة والمدقق في إدراك جزئيات المسائل وتطبيقها يجب أن نضع مالكًا ومواقفه النضالية، فهو يقف أمام وجهات متعددة، يعطي عليًا مقامه ويعترف بخلافته لبيعة الحرمين له، ويقاوم الذين يتجاوزون الحد الشرعي إلى القول بأنّ الخلافة حق موروث لآل البيت وصية متسلسلة من أب لابن، ينازعهم في ذلك بالدليل والبرهان، كما أنه يقاوم الخوارج الذين يتطرفون في استنكار التحكيم إلى حد تكفير علي وصحبه أو تكفير الحكام المسلمين والذين لم يثوروا عليهم لمعصيتهم، وفي الوقت نفسه يعترف بخروج الخلفاء والحكام في عصره عن نهج الراشدين من الخلفاء، ولا يتأخر عن مواجهتهم بالنصح والإرشاد والدخول عليهم من أجل ذلك ومصارحتهم بالحكم الشرعي في كل مسالة عارضة لو كانت تعارض أهواءهم أو تعرض بها إلى الأذية والامتحان.
ولا يظهر لي أنّ مالكًا لم يكن يقول بالخروج على الحكام وإن كانوا ظالمين، ولكن الأقرب لما يقتضيه سلوكه من عدم تأييد القائمين على الدولة العباسية، وعدم دعوته كذلك لمناصرتها هو أنه كان يرى في الحكم القائم ما هو أفضل وأسلم من دعوة أولئك القائمين باسم التشيّع أو الخروج، وهل كان موقف مالك سيبقى على هذا الشكل لو كان الذين قاموا على الخلافة أناسًا سنيين، يدعون إلى العودة للخلافة الراشدة، وجعل الأمر شورى بين المسلمين على النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز ومن سبقه من الأئمة الأربعة الكرام - أم سيتحول إلى تأييد مطلق لهؤلاء الثائرين أو الإفتاء على الأقل بوجوب مساندتهم؟ الذي نعتقده أنه لا شك سيتجه إلى المنحى الثاني الذي قلناه، يدل لذلك ما نُقل من جوابه عن مسألة قتال الخارجين على الخليفة أيجوز قتالهم؟ فقال مالك: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز فنعم، فقال السائل: فإن لم يكن الخليفة مثل عمر؟ فقال دعهم لينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما. وكثيرًا ما كنت أسمع من شيوخي في القرويين ومنهم والدي أنّ مالكًا كان يقول: لا تشتكوا من الفتن فإنها حصاد رؤوس الشياطين. فمالك إذن لا يبيح القتال مع الخليفة ضد الخارجين عليه إلا إذا كان سلوكه موافقًا لما كان عليه عمر بن عبد العزيز، وهو إغراق في الشرط ربما لا يوافق مالكًا عليه الكثير من الناس لأنّ مثل عمر بن عبد العزيز لا يتأتى في كل حين. ولكنه مع ذلك يدل على حرص مالك على أن يكون الحكم شورى، وتصريحه بهذه الفتوى في وقت استتب فيه الأمر للعباسيين مثال من صراحته ونضاليته في سبيل المشروعية الإسلامية.
ومما يشهد لرأينا ما أصاب مالكًا من محنة زمن أبي جعفر المنصور سنة 146هـ على الصحيح، فقد ضُرب إمام الأئمة بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفاه، والصحيح أنّ ذلك كان بسبب الحديث الذي أبى مالك أن يمسك عن التحديث به في وقت خروج محمد بن عبد الله بالمدينة، والحديث هو قوله "صلى الله عليه وسلم": "ليس على مستكره طلاق"، وقد سُئل مالك عن طلاق المكره فقال: لا يلزم واستدل له بهذا الحديث، فامتُحن وطِيف به في الأسواق وهو يقول: من عرفني فقد عرفني فأنا مالك بن أنس، طلاق المكره لا يلزم، وقد وصل هذا الحديث إلى الثائرين فاستعملوه في الدعوة لثورتهم على اعتبار أنّ بيعة المنصور كانت بالإكراه على أيمان البيعة، وهي أنّ العباسيين كانوا يلزمون الناس بالحلف بأيمان الطلاق والعتاق في المبايعة إن خرجوا عن طاعتهم، فالإفتاء بأنّ تلك الأيمان لا يلزم معها طلاق ولا عتق لما فيها من الإكراه يزيل عقبة كبرى في سبيل الخروج على أبي جعفر وعلى الدولة. وقد فهم المسؤولون من فتوى الإمام هذه الغاية، وتدل رواية ابن جرير الطبري على أنّ مالكًا لم يقتصر على رواية الحديث فقط أو على الإفتاء بأنّ الأيمان المكره عليها لا يلزم فحسب؛ ولكنه أفتى صراحة بأنّ بيعتهم لأبي جعفر كانت بالإكراه، كما أفتى بجواز بيعتهم لمحمد بن عبد الله بن حسن، ونقل القاضي عياض في المدارك عن الدراوردي قال: لما أُّحضر مالك لضربه في البيعة التي أفتى بها، وكنت أقرب الخلق منه سمعته يقول كلما ضرب سوطًا: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون، حتى فرغ من ضربه، وذُكر عنه أنه أفتى الناس عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي المسمى المهدي بأنّ بيعة أبي جعفر لا تلزم لأنها على إكراه، قال الليث: إني لأرجو أن يرفع الله مالكًا بكل سوط درجة في الجنة([1]).
ولكن هل يعني هذا أنّ مالكًا كان يؤيد محمد بن عبد الله في خروجه؟ أبدًا، فالواقع أنّ مالكًا سُئل فأفتى بما يعلم أنه الحق، والحق الذي أفتى به هو أنّ بيعة الإكراه لا تلتزم، وأنّ الناس بذلك في حِل أن يبايعوا محمد بن عبد الله أو غيره. فمالك هنا يناضل في سبيل إقرار المشروعية وعدم استمرار الخلفاء في العمل بأيمان البيعة، وهو لم يُمتحن إلا بعد أن كان محمد بن عبد الله قد انتهى أمره وقُتل.
على أنّ بعض الرواة يروي أنّ محنة مالك كانت بسبب مخالفته لما يقال عن ابن عباس من إفتائه بجواز نكاح المتعة، ومع أنّ هذه الرواية ضعيفة فهي تؤكد تشبث مالك بالحق وإفتائه بما أجمع عليه المسلمون من بعد، وما يعتقد أنّ ابن عباس بريء من القول به، وقد أكّد الفقهاء رجوعه عنه، وقد قبل أن يعذب في سبيل الله ولو خالف رأيًا لأولى الأمر فيه هوى أو يرون فيه مساسًا بواحد من كبار أسلافهم. وثمة رواية أخرى تجعل سبب محنة مالك هي فتواه بما يجعل عليًا في منزلة دون أبي بكر وعمر وعثمان، فقد سأله علوي من خير الناس بعد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال مالك: ثم عمر، قال: ثم من؟ قال: الخليفة المقتول ظلمًا عثمان ثم قال من؟ قال هنا وقف الناس. وفي بعض الروايات أن مالكًا قال: ليس من طلب الأمر كمن لم يطلبه. وقد غضب العلويون عليه بسبب ذلك واستعملوا من السعايات ما أدى إلى ضربه وخلع كتفه.
وهي رواية تبين مع ضعفها صراحة مالك ونضاله في سبيل الحق، وهو في الواقع إنما يريد أن يثبت أنّ عليًا وإن كان خليفة راشدًا فهو دون عثمان الشهيد، كما يريد أن يحد من غلواء العلويين والشيعة، وحاشاه أن يكون قصد تفضيل أحد بعد الخلفاء الثلاثة على علي كرم الله وجهه.
وهنا ينبغي أن نناقش الشيخ أبا زهرة في نقطتين:
الأولى في كون الإمام مالك كان ذا ميل أموي، لأنه جعل عليًا كرم الله وجهه في درجة بعد عثمان؟
وهذا غير صحيح، فإنّ مالكًا من أشد الناس محبة لآل البيت، وهو يعتقد قطعًا أنّ الخلافة آلت لعلي بصفة شرعية لأنه حصل على بيعة رجال الحرمين الشريفين، وقد نقل القاضي عياض في المدارك عن ابن نافع: "كان مالك يرى أنّ أهل الحرمين إذا ما بايعوا لزمت البيعة أهل الإسلام"، والمعروف في المذهب أنّ بيعة الأقطار كلها لا تكفي إذا لم يبايع أهل الحرمين، ولكن المعروف في المذهب وهو المروي عن مالك أيضًا أنه تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، وأنّ المتغلب إذا استقر له الأمر وقام بحفظ بيضة الإسلام والمسلمين كان حكمه شرعيًا، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ملازمة مالك الطاعة في زمن الأمويين والعباسيين، وهذا لا يعني أنّ مالكًا يرى من حق معاوية أن يفعل ما فعله من الثورة على علي، فذلك ما لا يمكن بحال أن يكون رأيًا لمالك رحمه الله.
والنقطة الثانية: هي زعم الشيخ أبي زهرة توافق مذهب مالك مع رأي الحسن البصري في عدم جواز الخروج على الأئمة الظالمين، فإذا كان الحسن البصري ينصح بالعودة إلى العمل الصالح وأنّ ظلم الرعية عقاب لها من الله، ولذلك فعليها أن تلوم نفسها لا أن تشتكي ممن ظلمها؛ فإنه ينقل عن مالك شيء من هذا وليس في كلامه ما يدل عليه، وأنّ فتواه بجواز مبايعة محمد بن عبد الله يدل على غير ذلك، كما أنّ إجابته لمن سأله عن القتال مع الخلفاء ضد الخارجين عليهم بأنه يقاتل مع مثل عمر بن عبد العزيز وإلا فلا؛ يدل على عدم تأييد الخلفاء الظالمين، ولم يجب عن حكم التأييد للخارجين لأنه لم يكن محط السؤال، ولأنه يحتاج إلى تفصيل كبير في زيادة على أن من أدب المفتي أن لا يزيد على ما سئل عنه.
وقد روى مالك الحديث الصحيح: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، وهذا الحديث يبين الدستور الذي سار عليه مالك، فهو يسمع وبطيع في المنشط والمكره، ويتقبل الأثرة عليه ولا ينازع الأمر أهله ويقول بالحق حيث ما كان. وهذا الحديث لا يدل على أنه لا يجوز الخروج على الحكام إذا كانوا من أهل الفسق والجور والظلم، كما أن مالكًا لم يكن يقول بذلك، لأن ولاة الجور والظلم والفسق ليسوا من أهل الأمر المذكورين في قوله عليه السلام وأن لا ننازع الأمر أهله، وقد قال ابن عبد البر اختلف في أهله، فقيل أهل العدل والاحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله، أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله، ألا ترى قوله تعالى ﴿ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، وهذا هو رأي مالك، ألا أن المذاهب الفقهية تطورت بعد هذا القول بأنه لا يجوز القيام به من أجل الظلم والفسق والجور وإنما يجوز من أجل الكفر مستدلين بما في رواية البخاري إلا أن تروا كفرًا بواحًا. والقضية في نظري لا يحكم فيها حكمًا مسمطًا بل ينبغي أن تراعى فيها الظروف والاعتبارات. فالصبر لارتكاب أخف الضررين أمر معروف في الدين، وإنما أردت أن أنبه إلى أن مالكًا لم يكن من الدين يثبطون عزائم الناس في مواجهة الظالمين والجائرين وقد سبق لنا أن نقلنا فتواه بعدم مقاتلة الخارجين مع الخليفة إلا أن يكون مثل عمر بن عبد العزيز، ولم يشترط هذا الشرط في الجهاد في صف الخلفاء إذا كانوا يقتلون أعداء الإسلام - فقد جاء في المدونة أنه قال لا بأس أن يجاهد الروم مع هؤلاء الولاة: قال ابن قاسم وكان بلغني عنه لما كان زمن مرعش وصنعت الروم ما صنعت قال لا بأس بجهادهم. قال ابن القاسم وأما أنا فقد أدركته يقول لا بأس بجهادهم قلت يا أبا عبد الله أنهم يفعلون ويفعلون فقال لا بأس على الجيوش وما يفعل الناس، وقال ما أرى به بأسًا، ويقول لو ترك هذا لكان ضررًا على أهل الإسلام، ويذكر مرعش وما فعل بهم وجرأة الروم على أهل الإسلام وغاراتهم على أهل الإسلام([2]) هل كان يمكن لمالك أن يفتي بغير هذا؟ ولكن موقف ابن قاسم من حكام وقته وتذكيره مالكًا بأفعالهم... يدل على أن مالكًا لم يكن يفتي بتأييدهم ولكن إزاء معضلة هجوم الكفار على المسلمين لا يبقى مجال لعدم مساعدتهم في دفع الأعداء وقد شرح الله صدرهم لذلك.
ومن مواقف مالك العظيمة التي تدل على تمسكه بمحبة آل البيت واحترامه الكامل للصحابة ما رواه القاضي عياض في المدارك عن الإمام أنه قال: لما دخلت على أبي جعفر وقد عهد إلي أن آتيه في الموسم قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته، أنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم أخالك أمانًا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، ولقد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على فتب، وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه ولا بد أن أبلغ به من العقوبة أضعاف ما نالك منه، فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله ص وقرابته منك قال فعفا الله عنك ووصلك، والذي حظى بسماح مالك هو الذي تولى عذابه وهو والي المدينة جعفر بن سليمان ومسامحته مع قرار الملك أن يعاقبه دليل على خلق العفو الموجود في مالك وعلى محبته لآل البيت. ومما رواه القاضي في المدارك في محنة مالك قال الفروي والعمري وأحدهما يزيد على الآخر: لما ضرب مالك رحمه الله تعالى ونيل منه حمل مغشيًا عليه فدخل الناس عليه فأفاق فقال: أسهدكم أني جعلت ضاربي في حل، فعدناه في اليوم الثاني فإذا به قد تماثل فقلنا له ما سمعناه منه وقلنا له قد نال منك، فقال تخوفت أن أموت أمس فألقى النبي ص فاستحيى منه أن يدخل بعض آله النار بسببي([3]).
وأما احترامه للصحابة فهو في عدم إباحة المفاضلة فيما بينهم إلا ما كان من الخلفاء الثلاثة الأولين، وكان رضي الله تقوم قومته كلما سمع أن السياسيين في عصره يسبون أصحاب رسول اله حتى قال إذا ساد في مدينة سب أصحاب الرسول وجب الخروج منها، وقال: لا تنبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق وبسب السلف، وقد سأله هارون الرشيد هل لمن يسب أصحاب رسول الله تعالى في الفيء حق قال لا ولا كرامة، قال من أين قلت ذلك؟ قال: قال الله تعالى ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ فمن عابهم فهو كافر، واستدل لذلك أيضًا بأن الله تعالى قد قسم الفيء إلى ثلاثة أصناف، فقال: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"، "(والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم)" وقال: والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فمن عدى هؤلاء فلا حق له([4])، وهو يعني أنّ القسم الثالث يدعو بالمغفرة للسابقين بالإيمان تلك صفته، فمن شتم الصحابة الذين هم أسبق الناس لإيمان وإسلام فهو ليس ممن أعطى حق الفيء، لأن الصفة قيد في الموصوف.
وكان مالك يدخل على الملوك ويستجيب لهم إذا طلبوه، وقد قيل له حسبما في المدارك نراك تدخل على السلاطين وهم يظلمون ويجورون: قال يرحمك الله وأين المتكلم بالحق؟ وقال مالك حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأنّ العالم إنما يدخل على السلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل، ثم نقل القاضي عن عتيق بن يعقوب: كان مالك إذا دخل على الوالي وعظه وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يومًا على هارون الرشيد يحثه على مصالح المسلمين فقال له: لد بلغني أنّ عمر بن الخطاب كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرماد النار تحت القدر يخرج الدخان من لحيته، وقد رضي الناس منكم بدون هذا. ودخل عليه مرة وبين يديه شطرنج منصوب وهو ينظر فيه فوقف مالك ولم يجلس وقال أحق هذا بأمير المؤمنين؟ قال لا. قال فما بعد الحق إلا الضلال؟ فرفع هارون رجله وقال لا ينصب بين يدي بعد. وقال لبعض الولاة يومًا افتقد أمور الرعية فإنك مسؤول عنهم فإن عمر بن الخطاب قال: والذي نفسي بيده لو يهلك حمل بشاطئ الفرات ضياعًا لظننت أنّ الله يسألني عنه يوم القيامة. وقال الحنيني سمعت مالكًا يحلف بالله ما دخلت على أحد منهم، يعني السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبي حتى أقول له الحق([5]).
قال يحيى بن بكير حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أنّ عليه عتق رقبة، وسأل مالكًا فقال: صيام ثلاثة أيام، فقال لم أأنا معدم؟ وقال الله فمن لم يجد، فأقمتني مقام المعدم، قال: نعم يا أمير المؤمنين كل ما في يديك ليس لك فعليك صيام ثلاثة أيام.
وهذه ليست إلا نماذج مما يرويه الرواة ويتحدث به المترجمون لمالك تنبئ عما وراءها مما كان عليه هذا الإمام من الصراحة والاستماتة في سبيل نصرة الحق.
أما فيما يخص مقاومة التيارات المنحرفة التي كانت كثيرة في عصره فقد كان لا يفتأ يعلم الناس ما فيها من خطأ وضلال ويرشدهم إلى السنة الصحيحة التي لا عرج فيها ولا أمت، ولم يكن مع ذلك يحب مجادلة أهل الأهواء وإنما يصارحهم بالحقيقة ويقيم لهم الدليل، فإن أصروا على موقفهم تركهم أو خرج عن مجلسهم، كما أنه لم يكن يحب أن يُشيع الأقوال والجدال فيها، فإذا سأله متعلم عن ذلك اختلى به وحدثه وأجابه عن كل ما يسأل وعن الشُبه التي يعرضها الخصوم، وهو بذلك لا يريد أن ينقل الجدل في العقيدة إلى عامة الشعب لئلا يفسد عليه إيمانه وطمأنينته، ولأنّ ذلك قد يؤدي إلى فتن ضارة بالمجتمع الإسلامي، وقد كان ينهى عن الجدال في الدين ويقول: "الجدال في الدين ليس بشيء"، كما يقول: "المراء والجدال في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد"، "إن الجدال يغشى القلوب ويورث الضغن"، ولقد روى القاضي في المدارك أنّ مالكًا كان يروي كثيرًا قول عمر بن عبد العزيز : "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها اتباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، وليس لأحد بعدُ تبديلها ولا النظر في شيء خلفها، من اهتدى بها فهو مهدي، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا".
وسأله رجل من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ (قال الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا رفضي ولا قدري).
وفي المدارك عن سفيان بن عيينة أنّ رجلاً سأل مالكًا فقال: "الرحمان على العرش استوى" فسكت مالك مليًا حتى علاه الرحضاء "العرق الشديد"، وما رأينا مالكًا وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثم سُرى عنه فقال: الاستواء منه معلوم والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالاً، فناداه الرجل يا أبا عبد الله والله الذي لا اله إلا هو لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحدًا وُفق لما وفقت له".
وقال مالك في أهل القدر: "ما رأيت أحدًا من القدر إلا أهل سخافة وطيش وضعة"، وكان يروى عن عمر بن عبد العزيز لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطايا، وما أبين هذه الآية حجة على أهل القدر وما أشدها عليهم "، ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين([6]).
وفي المدارك: سئل مالك عن أهل القدر أيكف عن كلامهم؟ قال: نعم إذا كان عرفا بما هو عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويخبرهم بخلافهم، ولا يتواضع في القول، ولا يصلي عليهم، ولا يشهد جنائزهم، ولا أرى أن يناكحوا. قال الله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾، ولا يصلي خلفهم، ولا يحمل عنهم الحديث، وإن وافيتموهم في ثغر فأخرجوهم منه.
وفي المدارك أيضًا فيما يخص موقف مالك من المرجئة قال معن: انصرف مالك يومًا إلى المسجد وهو متكئ على يدي فلحقه رجل يقال له أبو الجويرة يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئًا أعلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي، فقال: احذر أن أشهد عليك، قال: والله ما أريد إلا الحق اسمع فإن كان صوابًا فقل إنه صواب أو فتكلم، قال فإن غلبتني: قال اتبعني، قال فإن غلبتك، قال أتبعك، قال: فإذا جاء رجل فكلمناه فغلبنا، قال اتبعناه، فقال له مالك: يا أبا عبد الله بعث الله محمدًا بدين واحد وأراك تنتقل، وقال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقل([7]).
ووقف مالك من القائلين بخلق القرآن موقف المقاوم المناضل فقال: القرآن كلام الله وكلام الله من الله وليس من الله شيء مخلوق، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذي يقف أشد منه يستتاب وإلا ضربت عنقه. وفي رواية ابن نافع يستتاب ويجلد ويحبس، وفي رواية بشر بن بكير التنسي: يقتل ولا تقبل توبته، وجاءه رجل فقال له: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق، فقال: زنديق فاقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله ليس هو كلامي إنما هو كلام سمعته، قال ما سمعته أنا إلا منك.
وجاءه رجل من أهل المغرب فقال: إنّ الأهواء كثُرت قبلنا فجعلت على نفسي أن آتيك إن أنا رأيتك آخذ بما تأمرني به، فوصف له مالك شرائع الإسلام؛ الصلاة والزكاة والحج والصوم، ثم قال: خذ بها ولا تخاصم أحدًا.
وسئل مالك عن المعتزلة: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا([8])، ولكنه كان يناضلهم ويرد عليهم في القول بخلق القرآن والمنزلة بين المنزلتين، وكون العبد يخلق أفعاله، وغيرها من المسائل التي ينكرها أهل السنة، ومع ذلك جاءه مرة معتزلي يسأله، فقال: انتظر، فلما خرج الناس اختلى به وأجابه عن كل مسألة سألها مبينًا وجه الغلط في الرأي الاعتزالي.
الإشراك والله واحد غير منقسم، كذلك فهموا. وقد نقل ابن النديم في الفهرست النبذة التالية عن ابن كلاب قال: هو من بأبية الحشوية وهو عبد الله بن محمد بن كلاب القطان وله مع عباد بن سليمان المعتزلي مناظرات، وكان يقول إنّ كلام الله هو الله، وكان عباد يقول: إنه نصراني بهذا القول قال أبو العباس البغوي دخلنا على فينون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب، فقال رحم الله عبد الله كان بجنبي فجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة، وعني أخذ هذا القول ولو عاش لنصرنا المسلمين، قال البغوي: وسأله محمد بن إسحاق الطالقاني فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما تقوله أهل السنة من المسلمين في القرآن (الفهرست ص. 255/256) وذكر صاحب الفهرست أن له (كتاب الرد على المعتزلة) ومعناه أنّ فينون النصراني لم يرد أن يتخلى المسلمون عن القول بأنّ القرآن غير مخلوق لأن النصارى يقيسون على ذلك القول بعدم خلق المسيح ويحتجون به على المسلمين، قال ألبير نصار في كتابه أهم الفرق الإسلامية: (فلكي تنقد الإسلام كدين جديد صرحت المعتزلة بقوة أن القرآن حادث مخلوق وليس أزليًا، وقدمت البراهين العقلية على قولها هذا) (أهم الفرق الإسلامية ص 54). ويظهر أنّ المعتزلة أقنعوا المأمون بأنّ القول بخلق القرآن ضرورة لحماية العقيدة الإسلامية ودفع لشبهة مسيحية كبرى، وقد جاء في جذوة المقتبس للحميدي ص 101) أنه كانت تعقد في بغداد مجالس بين المسلمين والنصارى في الجدل الديني استمرت إلى القرن الرابع. ويؤيد هذا ما نقله أسد رستم في كتاب الروم (ج 1. ص 348) من أنّ أبا قرة رفض القول ببعثة محمد "صلى الله عليه وسلم" رسولاً وجادل فكرة الخلق المستمر ونصيب الله في أعمال المخلوقات، واعتبرها أقوالاً يجر إليها الدخول في الإسلام. ومما قاله أبو قرة أنه إذا قيل بخلق المسيح لزم أن يكون الله قد بقي زمنًا بدون (كلمة وروح)، وبالتالي لزم أن يكون القرآن الذي هو كلمة الله مخلوقًا. قال النبال في كتابه الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي تعليقًا على قول أبي قرة: والذي يظهر من هذا النص أنّ المأمون - ومعه المعتزلة - قد حمل الناس على القول بخلق القرآن حتى لا يتغلب النصارى عليهم بألوهية المسيح التي أنكرها المسلمون (الحقيقة التاريخية. ص 50) وقد أرسل المأمون منشورات للعمال باستدعاء القضاة والأعيان وامتحانهم بخلق القرآن. ومما جاء في الكتاب الثاني إلى إسحاق بن إبراهيم: (وضاهوا - يعني المسلمين الذين يقولون هذه الروح النضالية هي التي جعلت من مالك إمام الأئمة والقدوة الصالحة للعديد من الرجال، وإذا كان الحسن البصري رضي الله عنه قد اتسم بأخلاق سامية وتصوف روحاني قائم على الزهد والعبادة وترك الاشتغال بالسياسة؛ فإن مالكًا رحمه الله تحلى بأخلاق القرآن كذلك، ولكن تصرفه كان قائمًا على أساس البذل والتضحية في سبيل الصدع بالحق ونصرة الدين ومقاومة كل ضلال وانحلال، غير مبال بما يلحقه في ذلك من أذى أو يصيبه من محنة، فأسس بذلك مدرسة عالية في الفقه، سنية في الاعتقاد، صوفية في السلوك. فلا غرابة أن نرى من تلامذته ومريديه في المشرق والمغرب علماء أفذاذ تصوفوا على نهجه ودافعوا عن السنة من بعده، وناهيك عن أن يكون من الآخذين عنه أمثال أبي عبد الله الشافعي وسفيان بن سعيد الثوري والليث بن سعد ومحمد بن الحسن، وغيرهم كثير عد منهم القاضي في المدارك جملة وافرة.
لقد ورث هؤلاء الأبناء الروحيون عن مالك إلى جانب العلم والفهم الخلقَ الحسن والابتعاد عن مخالطة الظالمين، والعدل فيما ولوه من الأحكام، والنضال في وجه كل منجبر أو منحرف عن الطريق، وبذلك تغلبت السنة في كثير من بلاد الإسلام على البدعة وعلى آراء الفرق المختلفة، وناهيك بما بذلوا في مقاومة القول بخلق القرآن وغيره من مظاهر الاعتزال، ولولا تضحيتهم وتضحية أمثالهم كالإمام أحمد بن حنبل ما انتصرت السنة ولضاع العلم الحقيقي من بين المسلمين.
وإذا كان الوقت لا يسمح لنا أن نتحدث عن الكثيرين من هؤلاء الرجال، فيكفينا أن نذكر منهم نماذج تنم عما وراءها، لنثبت أن تراث مالك في النضال ظل صفة أتباعه ومريديه، وسيبقى كذلك ما دامت الدنيا.
عبد الله بن المبارك:
لو لم يكن من أتباع مالك في المشرق إلا هذا الرجل المجاهد العظيم عبد الله ابن المبارك لكفاه، وإن الإنسان ليفتخر أن كان من جنس فيه مثل ذلك البطل، قال ابن مهدي في حقه ما رأيت أنصح للأمة من ابن المبارك، وكان يحج عامًا ويغزو عامًا لا يمر بمدينة إلا قال لمشيختها من أهل العلم والاقلال ليخرج معي من أراد الحج تكفيهم مؤونتهم ويفعل مثل ذلك إذا أغزى.
وفي المدارك عن أبي عمرو الصدفي قال قدم الرشيد الثغر فجاء الفزازي وخرج أبو سليمان إلى ابن المبارك فقالا له قدم هارون وهو يريد لقاءك والسلام عليك، فقال: إذن أكلمه بلساني كله، فقال أحدهما للآخر: قم بنا لعله يجيء منه ما يكرهه الآخر بسببنا.
كان ابن المبارك شاعرًا كبيرًا وزاهدًا مجاهدًا، وكان لا يرى صحبة الملوك وإن كان لا يتأخر عن المصارحة بالحق وتوجيه النصح إليهم، كما أنه كان يرى ضرورة نصب الخلافة وفي ذلك يقول.
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
ولكنه مع ذلك يقول:
أرى أناسًا بأدنى الدين قد قنعوا ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وروى عنه ابن القيم:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ووهبانها
وجماع رأيه قوله:
كل عيش قد أراه نكدًا غير ركن الرمح في ظل الفرس
وقيام في ليال وله دجى حارسًا للناس في أقصى الحـرس
وله قصائد كثيرة في التثبت والجهاد([9]).
وما أحوج هذا الرجل إلى دراسة خاصة في كتاب تبين فضله وجهاده وآراءه وتحلل شعره وحكمه وروحه النضالية.
أبو مسهر الغساني:
ومن أصحاب مالك الأفذاذ في العلم والنضال أبو عمر المقرئ، أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي أحد رواة الموطأ، وممن خرج عنهم البخاري وهو الذي قال في أحاديث بقية: وكن منها على تقية فإنها غير نقية.
روى القاضي في المدارك عن موسى بن الحسن، سمعت أبا مسهر وقد وجه به المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد فأحضر له إسحاق جماعة ليقر بكتاب المحنة الذي كتبه المأمون في خلق القرآن ونفي الرؤية وعذاب القبر، وأن الميزان ليس بكفتين، وأن الجنة والنار غير مخلوقتين، فلما قرئ الكتاب على أبي مسهر قال أنا منكر لجميع ما في كتبكم هذه. أبعد مجالسة مالك والثوري ومشايخ أهل العلم؟ إذن لا أكفر بالله بعد إحدى وتسعين، لا أقول القرآن مخلوق ولا أنكر عذاب القبر ولا الموازين أنها كفتان ولا أنّ الله يُرى في القيامة، ولا أنّ الله تعالى على عرشه وعلمه قد أحاط بكل شيء علمًا، نزل بذلك القرآن وجاءت به الأخبار التي نقلها أهل العلم، فإن كانوا متهمين في القرآن فهم الذين بلغوا القرآن والسنة عن رسول اللهe.
فجرّ رجله وطُرح في أضيق المحابس فما أقام إلا يسيرًا حتى توفي رحمه الله تعالى، وكان ذلك سنة ثمانية عشرة ومائتين.
عبد الرحمان بن القاسم:
وهو صاحب المدونة عبد الرحمان بن القاسم بن خالد بن أجنادة أصله من فلسطين من مدينة الرملة، وسكن مصر، من كبار المجتهدين داخل المذهب المالكي وكبار الزاهدين والمناضلين، وصفه مالك بالفقه، وكان كثير العبادة قوي النضال للشهوات. حكى يحيى بن عمر عن بعضهم قال: شهدت العيد مع عبد الرحمان بن القاسم فلما انصرفنا دخل ابن القاسم فصلى ثم سجد فطول حتى خفت أن يفوتني الغذاء مع أهلي، فدنوت منه فسمعته يقول: إلهي انقلب عبادك إلى ما أعدوه لهذا اليوم، وانقلب عبد الرحمن إليك يرجو مغفرتك في هذا اليوم العظيم فإن كنت فعلت فبخ بخ وإن كنت لم تفعل فيا ويلي ويا حسرتي، قال فجعلت على ثوبه علامة ثم سرت إلى أهلي فتغذيت معهم ووطئت وقمت ثم جئت المسجد فوجدته على هيئته كما تركته.
وكان ابن القاسم لا يقبل جوائز السلطان، وكان عليه دين إلا أنه كان له من العروض ما يفي به، وكان يقول: ليس في قرب الولاة والدنو منهم خير، وجهاده في سبيل العلم ونشر فقه مالك وتوضيح أصوله أشهر من أن يعرف.
ذلك مثال من نضال أصحاب مالك في المشرق في نشر العلم والتمسك بالدين والبعد عن الحكام مع أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وسننظر أثر هذه القدوة في المغاربة الذين اقتبسوا من فيض مالك ومذهبه وتربوا على غرار رجاله وأتباعه.
دخول المذهب المالكي للمغرب العربي
لم يكن المسلمون في الشمال الأفريقي والأندلس طيلة عصر الولاة بحاجة لأكثر من معرفة القرآن والسنة والاقتداء بالحواريين من الصحابة والتابعين الذين بلغوا لهم الدين غضًا طريًا.
وقد دخل عدد كبير من الصحابة المغرب في مقدمتهم عبد الله بن عباس وهو معروف بالعلم وبالتفسير وبالسنة، ومعلومة مواقفه من الفرق التي بدأت تنجم في عصره، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو أيضًا ما هو في الكتاب والسنة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، وقد ولاه عثمان غزو أفريقية ثم إمارتها عام 27هـ، وعبد الله بن أنس الجهني الفضاعي، وعبد الرحمان بن أبي بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، والمسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، وزياد بن الحارث الصدائي، وسلمة بن عون ابن الأكوع، وبلال بن الحارث المزني وحمزة بن عمر، والأسلمي، والمقداد بن عمر البرهاني الفضاعي، وكعب بن عمر الأنصاري، وأبو زمعة عبيد الله ابن آدم البلوى وجرهد بن خويلد الأسلمي، وفضالة بن عبد الله الأنصاري الأوسي، ورويفع بن ثابت، ومعاوية بن خديج وعقبة بن نافع الفهري، وعقبة بن عامر الجهني، وآخرون.
وقد زعم بعض كتاب المناقب المغاربة أن سبعة من قبائل رجراجة رحلوا إلى النبي e واجتمعوا به فهم من الصحابة، ولم يثبت ذلك من الوجهة التاريخية، كما أن التأويل الذي حاول أن يعطيه ميشو بيلير لهذه الدعوى مجرد تخمين لا يخلو من سوء نية.
ودخل مع هؤلاء الصحابة عدد من التابعين ثم بعث عمر بن عبد العزيز عشرة من الفقهاء لتعليم المغاربة أحكام الدين وتعاليم الإسلام، ولا شك أنّ هؤلاء الصحابة والتابعين ومن دخل في صفهم من مسلمي المغرب كانوا على النهج الذي سلكه السلف الصالح في الاعتقاد السني والتحلي بفضائل الإسلام والاستعداد للجهاد ونشر دعوة الإسلام في بقية المغاربة، فما كان الجدل العقائدي يأخذ من وقتهم، ولا كانت العقيدة عندهم إلا ما أُخذ من القرآن أو روى من السنة.
وبعد هذا الجيل نشأ جيل آخر انعكست عليه آثار الأحداث التي وقعت في المشرق وُجدت عليه نزعة الميل لإحدى الفرق القائمة في أراضي المنبع الإسلامي، فأخذ مطلع المائة الثانية من الهجرة يرى المناقشة في مسألة الكسب والجبر والاختيار والحسن والقبح والإمامة، وغير ذلك من المسائل التي تحدث عنها الخوارج والشيعة والمعتزلة، كانت هذه الجدليات تعرض عليهم مقرونة باسم رجال من العراق، ولذلك أطلق المغاربة على المتكلمين والخائضين في مواطن الجدل العراقيين، بينما كانت أخبار السنة والمحافظة ترد عليهم دائمًا من المدينة المنورة وعلمائها، وتدريجيًا أصبح اسم المالكية علمًا على أنصار السنة.
ظهر في المغاربة القائلون بالإرجاء والمعتزلة، وبعدما تبنت الدولة العباسية مذهب الاعتزال أيام المعتصم والواثق أخذ الأغالبة في إفريقية ينفذون أمر الدولة بإرغام الناس على القول بخلق القرآن، فامتحن أهل القيروان بخلق القرآن، وعزم محمد بن الأغلب على قتل محمد بن سعيد، فما زال أهل القيروان على اعتقاد أهل السنة([10]).
ويذكر لنا المؤرخون من بين الثورات والمؤامرات الكثيرة التي تجرد عبد الرحمن للقضاء عليها بيد حازمة أخبار فتنة قام بها بربر الأندلس، يقودهم معلم صبيان يسمى شقيًا جمع بين الحماس الديني والشعبذة وزعم أنه ينسب إلى علي وفاطمة، فكأنه ردد في جوانب إسبانيا صدى الخلاف الكبير الذي صدع الإسلام من أول الأمر صدعًا عميقًا، وهو الخلاف حول الخلافة، فقد تحزب نفر كبير من المسلمين لأبناء فاطمة بنت الرسول e فنشأت عن ذلك طائفة الشيعة السياسية الدينية([11]).
مع هذه المزاعم المختلفة ظهرت نضالية الفقهاء في المغرب والأندلس كما سنرى نماذج قليلة من ذلك، وكان المغاربة والأندلسيون أول الأمر أوزاعية على مذهب الإمام الأوزاعي الذي هو من مدرسة الحديث، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمام مالك.
دخل المذهب المالكي للمغرب والأندلس في آن واحد مع المذهب الحنفي إبان حكم الأغالبة واستمر المذهبان في المغرب حتى عصر العبيديين، ولكن كان الظهور دائمًا للمذهب المالكي بالرغم من أن الأغالبة لم يكونوا يولون القضاء في الغالب إلا الأحناف، وعلى الرغم من أنّ أسد بن الفرات كان يعلم المذهبين معًا، ومع تشجيع الأغالبة للماعبين فقد كانوا مع الفقهاء في صد تيار آراء أهل الفرق القائمة في المشرق ومقومتها.
وبنفس الدور قامت دولة الأدارسة في المغرب (عام 172هـ) فقد وطدت عماد الإسلام السني في قبائل أوربة ولمتونة وجدالة، ومسوفة، كما عمل مولاي إدريس الأكبر على نشر الإسلام السني، وبقي عمله طابع الدولة الادريسية طيلة قرنين تأسست في زمنها مدينة فاس لتصبح منارًا للسنة والفقه، عاملة على تحقيق دعوة بانيها إدريس الثاني بأن تكون دار علم ودين إلى يوم القيامة.
يقول الأستاذ يحيى هويدى: كان لقيام دولة الأدارسة أكبر الأثر في توحيد المغرب الأقصى سهوله ومراعيه، وكان لها الفضل في نشر اللغة العربية بين قبائل لمتونة وجدالة ومسوفة وحمل الإسلام واللغة العربية إلى ديار الملثمين والواحات وبلاد السوس الأقصى، وكانوا يتمتعون باحترام المغاربة لأنهم هاشميون من نسل الرسولe.
وبفضل الأدارسة وبفضل تحالف قبيلة لمتونة التي نشأوا بين ربوعها مع قبائل جدالة ومسوفة في جنوب المغرب الأقصى، استقر الإسلام في أرض الملثمين، كما أشرنا إلى ذلك، وانتهى الأمر بأن توحد الملثمون بقيادة الزعيم اللمثوني تيولوتان بن تيكلان (ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 181-182). الذي أسلم وحسُن إسلامه، ثم أصبح الجو مهيأ لأن ينتزع جدالة زعامة صنهاجة من لمتونه عندما أخذ الضعف يدب في دولة الأدارسة، ولقرب مضارب جدالة من بلاد السودان الإفريقي، لأنّ جدالة كانت أغنى قبائل صنهاجة لاشتغالها بتجارة الملح والتبر والرقيق (العبر، ج 6، ص 182).
وقدر لجدالة أن تتبنى الحركة الدينية التي انتهت بقيام دولة المرابطين على يد يحيى بن إبراهيم ثم عبد الله بن ياسين، وكانت دولة المرابطين أول دولة بربرية قامت في الشمال الإفريقي عام 447 لتدعيم الإسلام السني، ويعد قيامها مرحلة هامة من مراحل انتشار الإسلام السني المالكي لا في جنوب المغرب الأقصى فقط، حيث بدأ ظهورها بل في الشمال الإفريقي كله عندما سيطرت عليه في جميع أطرافه على يد يوسف بن تاشفين([12]).
كان أول من أدخل المذهب المالكي إلى الأندلس والمغرب شبطون ابن عبد الله أو الغازي بن قيس، الذي يؤكد ابن القاطية أنه أدخل الموطأ إلى الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل، أو على يد نفر من الفقهاء وهو الأقرب للاحتمال([13]).
استمع المغاربة والأندلسيون إلى خبر مالك بن أنس والدور الذي يقوم به في النضال من أجل نصرة السنة، فأخذوا يرتحلون للحج والزيارة وللتجارة في المشرق ويعرجون على مالك للأخذ عنه، ويعودون معبأين من عنده بكثير من العلم وأكثر من الاستعداد للنضال في نشر الإسلام والذب عن السنة.
ولقد أكثر الباحثون في التعرض للأسباب التي جعلت المذهب المالكي ينتشر بسرعة في المغرب والأندلس، وحاول ابن خلدون أن ينسب ذلك إلى وحدة الاتصال بالبداوة في المغرب والمدينة، وهو تعليل لا يثبت أمام البحث لأن أيًا من الأراضي العربية التي اختارت المذهب المالكي كمصر والمغرب والأندلس لا تعتبر أقل تحضرًا من الأراضي العربية التي اختارت مذهب أبي حنيفة أو غيره، ولأنّ المدينة لم تكن من البداوة بالصفة التي يحاول ابن خلدون أن يظهرها عليه([14]). والذي يبدو لي أنّ انتصار المذهب المالكي في المغرب يرجع إلى الأسباب الآتية:
- قرب مذهب مالك للسنة، والمغاربة حديثو عهد بالدخول للإسلام والاتصال بالمعلمين الأولين الذين أرسلهم إليهم عمر بن عبد العزيز.
- روح النضالية الموجودة في الإمام مالك والمتفقة مع روح الكفاح الذي هو من أعظم أوصاف البربر.
- تقارب المذهب المالكي مع مذهب الأوزاعي واشتراكهما في مدرسة السنة، والبعد عن الإفراط في القياس. وقد سبق للمغاربة والأندلسيين أن أخذوا يتمذهبون بمذهب الإمام الأوزاعي.
- مكانة الإمام مالك في المشرق وكون كبار العلماء والأمراء يأتون إليه للأخذ عنه وحضور حلقته في الموطأ كالمهدي وابنه الرشيد وولديه الأمين والمأمون.
- اشتهار الحنفية بأنهم أتباع السلطان وتردد أئمتهم على الخلفاء العباسيين.
- اتخاذ الدولة الأغلبية المذهب الحنفي مذهبًا رسميًا واحتكار الحنفية مدة غير قليلة ولايات القضاء وغيرها من الولايات الشرعية.
- اضطرار الدولة الأغلبية لتبني مذهب الاعتزال حين تبنته الدولة العباسية، وامتحانها الفقهاء المالكية، ومشايعة الحنفية لولاتها فيما كانت ترتكبه من امتحان لكبار العلماء، الأمر الذي خلق حول المالكية صوفية نضال في سبيل السنة ومقاومة الاعتزال والقول بخلق القرآن الذي عرف عن مالك وصحبه نضالًا قويًا في رده وتبين أنه كفر وضلال.
- احترام مالك لآل البيت وإفتاؤه بأن بيعة العباسيين كانت على الإكراه واجازته مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالمهدى، الأمر الذي لا شك جلب له عطف الأدارسة الذين وإن كانوا فواطم هاشميين فقد ظلوا سنيين ناشرين للإسلام السني في ربوع المغرب، مع معاداتهم للعباسيين واستقلالهم عنهم. ولا شك أن فتوى مالك تسوغ للمولى إدريس أن يعلن نفسه خليفة للمسلمين في المغرب أولاً، لأن الجميع حسب فتوى مالك في حل من بيعة العباسيين، إذ يجرى على المولى إدريس ما جرى على حمد بن عبد الله بن الحسن.
- ف مالك بالاتصال بالإمام جعفر وبالزيدية فلا غرابة أن يعرف ذلك الأدارسة ويجعلهم يعطفون على مالك الذي يتفق في كثير من الأصول مع الزيدية.
- جرى الإمام هشام بن عبد الرحمن على اختيار قضاته والموظفين الدينيين في دولته من الفقهاء المالكية حتى انتشر المذهب في الأندلس، ولا شك أن التأثرات التي وقعت للأدارسة كلها صالحة لأن تطبق على عبد الرحمن الداخل وخلفائه، فلا غرابة أن نراهم يعطفون على مالك ومذهبه.
- إن العرب الوافدين على المغرب كان قسم منهم يمنيين، وقد استطاعوا أن ينشروا في أوساط البربر انتماء هؤلاء العرب اليمن بالنسب أو بالولاء، وربما أن مالكًا يمني فلا غرابة أن نرى التعاطف قويًا بين المغاربة ومالك رحمه الله.
- محبة المغاربة للمدينة المنورة المتأتية لهم من محبة الرسولe، ومن كونها إحدى الحرمين الشريفين ومدفن الرسول، تلك المحبة التي جعلتهم لا يتصورون أن يكون ثم نبع للإسلام لا يصدر من المدينة - وهي قضية نفسية لا شك أن لها في نفوس أجدادنا رحمهم الله الأثر الكبير.
- امتاز فقهاء المالكية الأولين بروح المثالية والنضال المستمر في مقاومة البدع والحرص على تطبيق أحكام الشريعة وعدم الخوف في الله من لوم لائم أو إذاية حاكم، ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لرجال المذاهب الأخرى.
كل هذه الأسباب وغيرها عملت على انتصار المذهب المالكي في المغرب والأندلس، وقد ظل المالكية في إفريقية يرون في أصحاب أبي حنيفة أنهم عملاء السلطان لا فقهاء الدين، فلم يقصروا في مواجهتهم بالنقد والتنقيص من أمرهم في نظر العامة، وقد أدرك الرشيد قوة المالكية في الشعب فأوصى عامله ابن الأغلب أن يعين قاضيه من فقهاء مالك، وقد سمى الخليفة بنفسه هذا القاضي الأول فلم يكن إلا عبد الله بن غانم تلميذ مالك وأحد أعيان المالكية بالقيروان، وقد اشترط ابن غانم لقبوله القضاء أن لا يتقيد في أحكامه بما كان عليه القضاة السابقون، وأن يسير في أقضيته على التسوية بين جميع الرعية، وقد تحمل الوالي مكرهًا سلوك ابن غانم الذي كان مثالاً في النزاهة والصدع بالحق، ولما توفي خلفه بهلول ثم سحنون فسارا في نفس المهيع، وبذلك أعطى فقهاء المالكية للناس مثالاً لم يعرفوه في غيرهم وصاروا ينظرون إليهم على أنهم صالحون يُقتدى بهم ويُنسج على منوالهم. وهكذا أصبح نضالهم ضدًا على المبتدعة وحتى على الحنفية المؤيدين للسلطان الذي يجاهر في تبني الاعتزال محورًا يلتف حوله الشعب المكافح في تأييدهم مقاومًا إلحاح الحكومة متحملًا محنتها، حتى كان من احتضر منهم يوصي بأن يُكتب على قبره فلان بن فلان، كان يشهد أن لا اله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
ومن أشد علماء ذلك الوقت على المبتدعة أسد بن الفرات الذي ضرب سليمان العراقي بالنعل في المسجد لإنكاره رؤية الله في الآخرة، وقال: والله لو أدخلت الجنة فحجبت عن رؤيته لشككت فيه، ولأنا أسر برؤية ربي منى بالجنة". ومن أخباره أنّ أصحابه كانوا يقرأون عليه في تفسير المسيب ابن شريك إلى أن قرأ القارئ "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة"، وكان سليمان بن حفص جالسًا بين يديه فقال لأسد يا أبا عبد الله من الانتظار، وكان إلى جانب أسد نعل غليظ فأخذ رأس سليمان بتلابيبه وأخذ بيده الأخرى نعله، وقال: (أي والله يا زنديق، لتقولنها أو لأبيض بها عينيك) فقال نعم ننظره([15]).
ومن أخبار أبي محمد عبد الله بن أبي حسان اليحصبي: قال له سليمان بن خلاد أرأيت هذا الذي يقول الناس في أبي بكر وعلي؟ يريد التفضيل بينهما. فرفع يده فضربني للصدر ضربة واحدة أوجعتني، ثم قال: ليس هذا دين قريش ولا دين العرب، هذا دين أهل (قم) ثم قال: والله ما يخفى علينا نحن من يستحق الولاية بعد والينا من يستحق القضاء بعد قاضينا، فكيف يخفى على أصحاب محمد "صلى الله عليه وسلم" من يستحق الأمر بعد نبيهم"([16]).
وعندما أخذت دعوة العبيديين تتقوى في المغرب تأخر المالكية أولاً عن مقاومتهم لما كان بينهم وبين الأغالبة من صراع، ولكن سرعان ما تكشف وجه العبيديين على حقيقته فقام المالكية في القيروان وفي المغرب بنضال قوي ضد الشيعة الإسماعليين، وبينما كان التشيّع يفرض نفسه بقوة الحكم والسيف كان علماء المالكية يعتمدون على الشعب في تأييد السنة ونصرها، وقد لاقى المغاربة من العبيديين إذاية كبيرة، فقد قتلوا المؤذن الذي أبى أن يقول في آذانه حي على خير العمل بعد أن قطع لسانه، وسُملت عيناه وطيف به في الأسواق، وسجن أبو جعفر أحمد بن نصر الهواري البربري المفتي المالكي، وقتل كذلك أبو القاسم محمد بن خالد القيسي الطرزى قتله عبيد الله الشيعي لتمسكه بالسنة.
وقد منع عبيد الله المالكية من الإفتاء والتدريس وحمل الناس على العمل ليلاً والنوم نهارًا في شهر رمضان، وفرض سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة الكرام، وفي أول جمعة وقع سب الصحابة بمسجد عقبة، خرج عالم مالكي تاركًا المسجد وتبعه المصلون وأصبح الناس يعتبرون حضور صلاة الجمعة وراء إمام عبيدي كفرًا، وقد قاطع جميع علماء المالكية الشيعة ورفضوا مسالمتهم والحديث إليهم، فاشتد غضب الحاكمين وأخذوا يصلبون كل من لا يوافقهم على آرائهم، ولكن ذلك لم يزد الشعب إلا إيمانًا وثباتًا وكان العلماء يغذون حماس الشعب بما يرونه من كرامات حصلت لهؤلاء الشهداء الأبرار.
وقد قام عبد الرحمن الناصر في الأندلس امتثالاً لأمر الفقهاء بمناجزة الشيعة الذين سادوا المغرب وصقلية، ووضع حدًا لما كان يحلم به الفاطميون من تأسيس دولة عالمية باطنية تخضع الناس كلهم للإمام المستتر أو المهدى.
وقد أدى بغض الأفارقة للعبديين أنهم ساندوا أبا يزيد الخارجي، وأفتى المالكية بوجوب الجهاد تحت رايته اعتقادًا منهم أنّ الخوارج (الصفرية) وإن كانوا من الفرق فإنّ قيامهم بمقاتلة الفاطميين وهم كفار في رأيهم جدير بأن يجعلهم يؤيدونهم من باب عدو العدو صديق، وذلك ما دفع عبد الرحمان الناصر إلى تأييد أبي يزيد، ولكن هذا الثائر الخارجي لم يستطع أن يحقق أمل المالكية فقد انتصرت الدولة الفاطمية عليه.
وبمجرد ما انتقل العبيديون لمصر عمل فقهاء المالكية في إفريقية ما عمله الأدارسة في المغرب، أي إعلان استقلال بلادهم عن مركز الخلافة العبيدية، وبفضلهم اقتنع المعز الصنهاجي بإعلان استقلاله. ويقول الدكتور أحمد بكير محمود في مقدمته لطبعة المدارك أنّ ذلك ما جعل الدولة مالكية صرفة، وانتقم أصحابها من بقية من كان يُتهم بالتشيع للباطنية، وقُتل كل سنى باطني. حاول العبيديون أول أمرهم بالمشرق أن يغضوا طرفهم عن أتباع مالك وتركوهم وشأنهم أول الأمر، إلى أن جاء الحاكم بأمره فتتبع المالكية وقتل منهم قاضيين ودخلوا في أزمة جديدة مع بني عبيد، حتى جاء الطرطوشي الذي لاقى منهم مضايقات أول أمره ثم أفرج عنه، فعمل بجد على إحياء المذهب ثانية، وبمجيء السلاجقة كان انتصار المذاهب السنية بالمشرق عامًا على الباطنية، ولم يسجل مقاومة للبدع مثلما سُجل للمذهب المالكي مع الخوارج والشيعة الباطنية والمعتزلة، اللهم إلا ما قام به بعض الحنابلة في محنة القول بخلق القرآن، وما كابده شيخ الإسلام ابن تيمية في مقاومة البدع الطرقية في عصره([17]).
وفد على المغرب في عهد الأغالبة دعاة الأشعرية فوجدوا من المالكية تقبلاً حسنًا وأخذت عناصر الوحدة التشريعية، في الوقت الذي كان يمهد تصوف الفقهاء لبلورة وحدة صوفية سنية على طريقة الجنيد، بعد أن رحل أبو عمران الفاسي للمشرق وأخذ عن الإمام الباقلاني ورجع ينشر تلك العقيدة - بينما كان دراس بن إسماعيل عالم فاس الكبير والإمام الأصيلي يقومان بنفس الدور في الأندلس والمغرب.
ولم يكن نضال المالكية مقصورًا على مقاومة الفرق والدعوة للجهاد؛ بل كان كذلك متجهًا لمقاومة انحراف الملوك والرؤساء وكل الآراء الجديدة التي تحاول تأييد مذاهب أخرى ولو عن طريق الاجتهاد أو اختيار مذهب غير المذهب المالكي، فالحرص على وحدة التوحيد والفقه تطرف إلى حد أصبح يراه بعض المتحررين إغراقًا غير محمود، وقد بين مؤلف تاريخ الفكر الأندلسي الأثر الحاسم الذي كان لمذهب مالك على تطور الثقافية في الأندلس بسبب اتساع مدى انتشاره المستمر وما اتصف به من عداء لكل تجديد، مما آثار الفتن والقلاقل وما فتنة النصارى في قرطبة ووقعة الحفرة في طليطلة وهيج الربض المروع الذي اضطر الحكم بن هشام الأول المعروف بالربضي (180/796-206/821) إلى القضاء عليه بإغراقه في الدماء، ما هذه كلها إلا نتائج لتشدد فقهاء المالكية وعنادهم، فلم يكن الحكم هذا زنديقًا ولا خارجًا على الدين ولكن الفقهاء سخطوا عليه إذ لم يعجبهم خلقه وكان يغلب عليه الاستهتار والخفة - ولم يرضهم إقباله على الصيد والنبيذ - وأنكروا منه أنه لم يطلق يدهم في الأمور كما كانوا يشتهون، وكان الحكم شاعرًا وكذلك كان غريب بن عبد الله رأس ثوار طليطلة يقول الشعر، ورغم ذلك كله فإنّ أثر الحكم في تطور الثقافة العربية الأندلسية لا يعدل أثر خليفته عبد الرحمن الثاني الأوسط (206- 238/852)([18]).
ومهما يكن من الحكم على بعض الجزئيات من تصرف المالكية في نضالهم، فإنّ مواقفهم دائمًا كانت ترمي إلى تأييد وجهة النظر السنية على أساس الأصل المالكي.
وكل ما لخصناه من آثار النضال يدل على رغبة في استقلال مغربي عن الحكم المستند إلى خلافة ذات مركز خارج المغرب، وقد حقق المالكية ذلك بفضل الأدارسة في المغرب والأمويين في الأندلس والصنهاجيين في تونس، فتم بذلك الاستقلال في هذه الأقطار المحافظة على وحدة العقيدة والقضاء، ولم تبق إلا الوحدة السياسية التي تجمع بين أقطار المغرب والأندلس في دولة سنية واحدة، وذلك ما جاء الملثمون المرابطون لينجزوه بقيادة علماء المالكية وأتباعهم.
ويجمع المؤرخون على أنّ دولة المرابطين قامت بفضل يحيى بن إبراهيم اللمثوني الذي ارتحل سنة 427 إلي الحج وزيارة المشرق، وعرّج في عودته على القيروان، حيث لقى الشيخ أبا عمران الفاسي وطلب منه أن يبعث معه فقيهًا يعلم أهل بلاده القرآن والسنة، فكتب أبو عمران إلى فقيه من المصامدة في بلد نفيس اسمه وجاج بن زولو اللمطي، بقوله: ابعث مع حامله من يفقه أهل بلده في الدين، فانتدب وجاج لذلك من تلامذته عبد الله بن ياسين ليعلم الملثمين الفقه والدين، ولما انتشر نفوذ عبد الله بن ياسين بالصحراء استولى على بلاد المصامدة وقاتل مبتدعة برغواطة وقضى على بدعتهم ودعوة متنبنيهم.
وأتم عمله أبو بكر بن عمر، ثم استبد بالأمر يوسف بن تاشفين مختط مدينة مراكش وموحد البلاد إلى آخر ما هو مدون معروف من تاريخ هذه الدولة المغربية العظيمة موحدة المغرب والأندلس.
قامت هذه الدولة لتحقيق الهدف الشعبي الكبير وهو إقامة وحدة سياسية على أساس إسلام الكتاب والسنة، فكانت العقيدة سلبية تكره الجدل والبحث في علم الكلام مكتفية بالبراهين القرآنية في تثبيت العقيدة، مالكية في الفقه والقضاء لا تقبل خلافًا ولا جدلاً، وكانت السلطة في الدولة لفقهاء المالكية لا يصدر الخليفة أمرًا إلا بعد مشورتهم وموافقتهم.
ولقد حاول بعض المؤرخين قدماء ومحدثين وبعض المستشرقين مثل دوزی الذي كان كثير الإعجاب بملوك الطوائف أن يقللوا من أهمية دولة المرابطين، نظرًا لمسايرتها للفقهاء وعدم تقبلها الاختلافات العقائدية والمذهبية، مع أنها دولة عظيمة الأهمية بفضل إنقاذها للأندلس وتوحيدها للمغرب الكبير، وإبلاغها الإسلام إلى مالي والسنغال وما جاورهما. وماذا كان يجب أن ينتهي إليه الصراع بين الفرق والمذاهب والثورات المختلفة والانفصال الجزئي عن الخلافة، غير ما انتهت إليه الثورة المرابطية العظيمة في توحيدها وسنيتها واختيارها الفقه المالكي والعقيدة السنية تبعًا لإرادة الشعب في المغرب والأندلس وشوقه إلى الكفاح ومقاومة الصليبية الزاحفة؟
لم تلبث الدولة المرابطية إلا زمنًا غير كاف لأداء مهمتها في إقرار السلفية وتوطيد دعائم الوحدة المذهبية حتى أخذ الضعف يدب في جوانبها فانحسرت، لتحل محلها الدولة الموحدية بقيادة المهدي ابن تومرت.
لقد كان للتصوف الأخلاقي المنبثق من دعوة الغزالي في المشرق والذي نادى به ممزوجًا بالفلسفة اليونانية ابن قسي المرتلى، تسنده طائفة من المريدين أنشأها ابن العريف الأثر الأكبر في نجاح دعوة ابن تومرت، الذي تبنى فكرة الغزالي في ثلب الفقهاء ووسمهم بما هم في نظري براء منه، كما تبنى الجدل الأشعري ضدًا على روح السلفية السائدة التي اعتبرها تجسيمًا من المرابطين على أساس أنهم لا يرون التأويل، مع أنّ المرابطين كانوا أيضًا أشاعرة، وإنما لم يكونوا يرغبون في اتباع الجدل الذي أصبح يميز علم الكلام لا سيما بالنسبة إلى عوام المسلمين - إلا أنه أرضى مغرقة المتصوفة بدعوى المهدوية.
إنّ الادعاءات التي كان يروجها ابن تومرت لمقاومة المرابطين تشتمل على كثير من الافتراءات غير المخلصة، ولكنها مع ذلك نجحت في إحلال الاستبداد المهدوي المعصوم محل الشورى المرابطية التي كان يختص بها حقًا الفقهاء، كما نجحت في إحلال الجدل الكلامي محل الطمأنينة السلفية. ومع ذلك فإنّ الدولة الموحدية اعتمدت أولاً المذهب المالكي في الشريعة، إذا نحن نظرنا إلى موطأ المهدي الذي كان يرى أعمالها في العقيدة والشريعة وليست غير موطأ مالك بن أنس في الجملة.
نعم إنّ المالكية لقوا محنة كبيرة أيام الموحدين حيث أخذ الفقه الظاهري يسود ويعمل به الكثيرون على أساس الرجوع إلى فقه السنة، في حين يرفض الرأي والقياس والإجماع لأنه كما يقول ابن تومرت لا منزلة بين العلم والجهل ولا ثالث بين من يعلم ولا يعلم. وقد قضى ابن تومرت على تدخل العقل مطلقًا في الفقه وقال إنّ العقل ليس له في الشرع مجال. وعكس المنطق فإنه أباح تدخل العقل في التوحيد.
لقد انتهى الموحدون إلى معارضة المذهب المالكي الصريحة، وأُحرقت كتب المالكية علنًا، ويحدثنا المراكشي أنّ علم الفروع انقطع في أيام أبي يوسف يعقوب وخافه الفقهاء، وكان أمرَ بإحراق الكتب المذهبية بعد أن يُجرد ما فيها من حديث رسول اللهe والآيات القرآنية. وكان قصده من ذلك محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن، وهذا المقصد كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب هذا.
ومع كل هذه القساوة والشدة فقد قاوم المالكية قيام الدولة الموحدية أولاً، إلا فئة من المتصوفة الذين تأثروا لإحراق المرابطين الأحياء، واستمروا في دراسة الفقه سرًا وأحيانًا علنًا.
ولقد قاد القاضي عياض ثورة أهل سبتة على الموحدين بعد أن بايعوهم ومكنوهم من المدينة، وركب عياض البحر إلى ابن غانية بالبيعة وطلب منه واليًا فأرسل معه الصحراوي كما يحدثنا بذلك ابن أبي زرع في القرطاس، فدخل الصحراوي سبتة واليًا وخرج عبد المؤمن إليهم فاستنجد السكان بالصحراوي فأتاهم فبايعوه، واجتمعوا عليه وقاتلوا عبد المؤمن وهزموه، ثم كانت له الكرة عليهم وهرب الصحراوي ثم أرسل يطلب الأمان من عبد المؤمن فأمنه وبايعه وحسنت طاعته، فلما رأى ذلك أهل سبتة أُسقط في أيديهم فكتبوا بيعتهم وأظهر عبد المؤمن العفو عنهم وأمر القاضي عياضًا أن يسكن مراكش، واحتال عبد المؤمن على قتل عياض بعد أن أثار عليه الضوضاء فاتهموه باليهودية لأنه كان يختلي عشية الجمعة ونهار السبت بنفسه، فزعموا أنه يسبت مع أنه كان يقضي عطلته في تأليف كتاب الشفا، وقد قتل خنقًا في الحمام في يوم الجمعة 7 جمادى الآخرة عام 544، ثم بعد 40 سنة من موته دُفن بباب أيلان داخل السور في مراكش.
ويكفي أن ننظر إلى ما كتبه أبو بكر بن العربي الذي على الرغم من تتلمذه للغزالي لم يخرج عن المذهب المالكي، وكتب فصولاً قيمة في الرد على الشيعة، وفصولاً مماثلة في الرد على المذهب الظاهري، وقد قيل إنّ الموحدين سموه أيضًا. وإذا كانت الدولة الموحدية قد واصلت المقاومة الصليبية المسيحية وحافظت على وحدة المغرب السياسية؛ فإنها بتعصبها هذا أوجدت نزعات جديدة يُخيل للبعض أنها إتاحة فرصة لانبثاق الفكر وما هي في الواقع إلا هدم واجهة نضالية مهمة، فلا غرابة أن نرى سرعة الضعف الذي لحق الدولة الموحدية وعودة المغرب إلى الانقسام الذي لم يجبر بعدُ، وإلى انحسار الإسلام عن الأندلس.
إن المغرب والأندلس وجد أنفسهما الحقيقة في الفلسفة المرابطية القائمة على الإيمان الفطري بالله وترك الجدل فيه، وتوجيه الوجهة للناحية الفقهية وما تحيط به من اجتماعيات وما يشوبها من تصوف لا إغراق فيه ولا استسلام.
لقد ضاعت ثمرة الجهود المالكية في التوحيد السياسي والمذهبي وإن لم يضع المذهب المالكي ولا التوحيد الأشعري، وكان العلماء بالمرصاد للذب عن العقيدة والشريعة المالكية، وفي عهد المرينيين رجعت المياه لمجاريها وبدأ المالكية نهضتهم العلمية الجديدة ولكن الوحدة السياسية انفرط عقدها، وبقى من تراث الموحدين ذلك الاتجاه الصوفي الذي أفاد نوعًا ما في المساهمة في مقاومة الزحف الصليبي على المغرب، ولكنه لم يستطع أن يعيد للبلاد حيويتها وحماسها الذي يوحد كيانها ويذهب بها خارج الحدود الوطنية لنشر السنة والدفاع عن بيضة الإسلام. وهذا لا يعني أننا ننقص من قيمة الدولة الموحدية وأثرها في تثبيت دعائم الإسلام والعروبة في أنحاء المغرب العربي والعهد الحضاري الذي جددته في بلادنا.
ومع كل ما جرى فإنّ نضالية العلماء المالكيين ظلت متجلية في الرد على كل مبتدع أو منحرف تحدثه نفسه بالخروج عن طريق السنة، سواء كان ذلك باسم التصوف أو باسم التجديد الديني، وإذا كان يؤدي أحيانًا في عصر الانحطاط إلى نوع من الجمود فقد حافظ على كل حال على كيان العلوم الشرعية ومباحثها الأصلية، وما تتضمنه من تعاليم سامية.
وكان بودنا لو سمح الوقت أن نذكر نماذج من هؤلاء العلماء المناضلين من عبد الله بن غانم والبهلول وسحنون إلى عياض وابن الحاج وابن العربي المعافري، والشاطبي والعقباني فاليوسي ومحمد الفاسي وعبد السلام جسوس، حتى القاضي الدندة ومحمد جنون وعلال بن عبد الله الفاسي وغيرهم كثير، ولكننا نجتزئ بذلك العرض المجمل الذي ذكرناه محيلين السادة المستمعين إلى مراجعة المدارك للقاضي عياض الذي يعتبر تصنيفه من وسائل الرد الواضحة على الموحدين في تنقيص المالكية ومذهبهم، وكذلك طبقات ابن فرحون وتكملة بابا السوداني والعديد من كتب الطبقات والرجال الأندلسيين والأفارقة.
أيها السادة الأفاضل:
إنّ إحياء ذكرى إمام الأئمة إمام دار الهجرة تظل دون معنى إذا لم تبعث في نفوسنا الادكار بما كان عليه السلف الصالح من التحلي بالفضائل والتشبث بأهداب العقيدة والشريعة والذب عنها، وإذا لم نعد على أنفسنا باللوم على ما قصرنا في ذات الحق، وما فرطنا في جانب العلم والدين، ويحق للعلماء المسلمين على الخصوص أن يعتبروا بما كان عليه العلماء في الصدر الأول ولاسيما المالكية الذين تعرفنا لبعض ما قاموا به من جهد في سبيل مقاومة الجهل والضلال، ليواصلوا الدعوة إلى بعث إسلامي صحيح متشبثين بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ المجتمع الإسلامي اليوم أشد ما يكون حاجة إلى التوعية والإرشاد عساه يهتدي إلى البعد عن تحريف الظالمين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وإنّ الفقه الإسلامي الذي أنجب مثل هؤلاء الأبطال المناضلين، والذي انبجست ينابيعه من الكتاب والسنة بفضل ما بذله هؤلاء العباقرة من جهد في سبيل الاستنباط والاستخراج لجدير بأن يوليه المسؤولون كامل العناية للمحافظة عليه وحمايته حتى يؤدي رسالته في هذا العصر كما أداها في الماضي.
وإنه لمؤلم جدًا أن نرى دراسة فقهنا ضعيفة هزيلة لا من جهة الكم ولا من جهة الكيف، ففي جامعة القرويين المجيدة لا يدرس إلا جزء من أحكام الشريعة وبكيفية تكاد أن تكون مجملة، فإذا استثنينا أحكام الأسرة أو الإجارة أو الجهاد أو الأحكام السلطانية تلك الأبواب التي تركت حتى في المعاملة والفرائض؛ نجد بقية الأبواب كلها منبوذة سواء ما يتعلق بالدماء أو بالإجارة أو الجهاد أو الأحكام السلطانية، تلك الأبواب التي تركت حتى في كلية الشريعة لتحل محلها القوانين المدنية، والأمر أشد من ذلك في جامعة محمد الخامس حيث لا يُدرس أيضًا إلا الزواج والطلاق والفرائض من الأحوال الشخصية وقسم من النظرية العامة للفقه الإسلامي والعقود والالتزامات، وما ذلك إلا لضعف التوجيه الذي تسير عليه جامعاتنا ومعاهدنا، ولأننا ورثنا عن الاستعمار قوانين مدونة لا تتفق في معظمها مع روح الشريعة الإسلامية وهي التي أصبحت مرجع أحكامنا ودراستنا وتفقهنا.
إنّ هؤلاء الأئمة الذين ورثوا علم مالك ممن أشرنا إليهم، وإنّ مالكًا نفسه ليوجهون إلينا نداءهم الحار لنفكر في العودة إلى تراثنا الحقيقي، إلى العقيدة والشريعة غضتين طريتين فإنه لا نجاة لنا مما نحن فيه إلا بالتوبة من تقصيرنا والإنابة إلى الحنيفية السمحة، وإنا لنرجو الله سبحانه أن يوفقنا لذلك ويرشد أولياء الأمر فينا إلى إنقاذ وطننا من هذه الجاهلية الجديدة، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير والسلام.
لتحميل ملف الدراسة
____________________________________________________
الهوامش:
(1) عياض. المدارك. ج 1، ص 230. ط بيروت.
(2) انظر مالك للشيخ أبي زهرة ص 197.
(3) عياض، المدارك، جـ1، ص 229.
(4) عياض، المدارك، جـ1، ص175، ط بيروت.
(5) عياض، المدارك، جـ ا، ص 207 وما بعدها، ط. بيروت.
(6) الشيخ أبو زهرة. مالك، نقلاً عن الانتقاء، ص 34.
(7) المدارك، ص 171.
(8) هذه الكلمة يرددها كثيرًا علماء القرويين نسبة للإمام مالك وكثيرًا ما سمعتها من شيوخنا رحمهم الله، وقد نسبها له الشيخ الطيب ابن كيران في شرحه لتوحيد ابن عاشر آخـــر النصف الأول منه.
وهي جدير بذهن مالك الثاقب وعبقريته النادرة، وبيانها أن المعتزلة حينما قالوا بخلق القرآن إنما فروا من الإشراك لأنه إذا قلنا أن كلام الله قديم فمعناه أنه من صفاته تعالى ولكن لصفات تدل على بأن القرآن غير مخلوق - به قول النصارى في ادعائهم في عيسى ابن مريم أنه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله عز وجل من يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، وتأويل ذلك أنا خلقناه إلى أن قال: وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق.
وهذا ما قصد اليه مالك أن المعتزلة فروا من القول بقدم عيسى وخافوا على المسلمين أن يقعوا في ذلك لأنه في نظرهم بما يسهل عليهم قبول القول بقـدم القرآن، وهذا من تأثير المجادلين المسيحيين فيهم وفي المأمون، مع أنها شبهة لا تقوى أمام البحث، لأن كلمة الله قديمة والمسيح إنسان فهو محدث لا محالة وكذلك حروف القرآن والمصحف محدثان، أما الكلمة القرآنية فهي قديمة لأنها من أمر الله، ولهذا يكره مالك الجدل في الدين.
ومع هذا ينبغي التذكير أن ابن النديم كان معتزليًا، وقد اتهمه ابن تيمية فيما نقله عن ابن كلاب. وأطنب الأستاذ النشار في كتابه نشأ الفكر الإسلامي في (الجزء الأول ص 292) في بيان بطلان تلك التهمة ولكن يبقى المنشور الثاني الذي وجهه المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يثبت السر الذي جعل المأمون يرغم الناس على القول بخلق القرآن أعنى تخوفه من التأثر بالمسيحية، والله أعلم.
(9) المدارك.
(10) الدباغ، معالم الإيمان، ج1، ص22.
(11) انخيل جنثالث باللشيا - تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ص 3.
(12) هويدى، تاريخ فلسفة الإسلام، ص 149 - 150.
(13) تاريخ الفكر الأندلسي، ص 3.
(14) انظر الشيخ أبا زهرة، ص 431 وما بعدها من كتاب مالك، فقد كفانا مناقشة ابن خلدون.
(15) رياض النفوس، ص 182.
(16) نفس المصدر، ص 202.
(17) مقدمة مطبعة بيروت للمدارك، ج1، ص 14.
(18) تاريخ الفكر الأندلسي، ص4. الترجمة العربية.