المبررات الشرعيّة والقانونية لِمَنع استئجار الرحم*

By د. عشير جيلالي** آذار/مارس 09, 2025 349 0

مقدمة:

يعتبر العِرض أحد الضروريات الخمس التي أحاطتها الشرائع السماوية عامة والشريعة الإسلامية على وجه الخصوص بجملة من الأحكام، الغرض منها حمايته من كل ما يُخِل به في واقع الأفراد والمجتمعات، ومنها كان الاهتمام بالنسب الشرعي الذي هو صمام أمانٍ للأسرة واستقرارها، وعنوانٌ لحمايتها وحفظها، وهو نتيجة الزواج الشرعي الصحيح القائم بين طرفين - الرجل والمرأة - يربطهما ركن الرضا، وتجمعهما المودة والرحمة.

إن الاكتشافات والتجارب العلمية الحديثة، جعلت مسؤولية المرء عن جهازه التناسلي تتسع يومًا بعد يومٍ متجاوزة دائرة الوطء الحلال، وعدم الوقوع في الفاحشة، وأصبح الرّجل مسؤولاً عن قطرة المنيّ التي تخرج منه، وكذلك المرأة عن البويضة التي تخرج منها، أين يوضعان؟ وما مصيرهما، وهل التسامح وحُسن النّية أمر يرضاه الشرع الحنيف لمن يذهب إلى مختبر التحاليل، ثم يخرج دون معرفة مصير ذلك؟

وعليه فإنّ قطرة المني أصبح لها دور خطير، مع ضُعف الوازع الديني لدى الناس، وصدق رسول الله عندما استعاذ منها قائلاً: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ سَمعِي، ومِن شَرِّ لِسَانِي وَمِن شَرِّ قَلبِي، وَمِن شَرِّ مَنِيّ»[i] وظاهر النص النبوي يُفسّر شرّ المني بالوطء المحرم، إلا أن الشرّ متحقق أيضًا بالاستعمال المحرم[ii]. وعليه فإن كل عنصر ثالث دخيل على العقد فهو تجاوز على هذا الحق، وعملية استئجار الرحم ما هي إلا صورة جديدة من صور اختلاط الأنساب، وتجاوزٌ على أحكام العِدّة والحضانة، وتزعزع في نظام الميراث، واضطراب في سياسة القضاء، وبهذه الآثار المترتبة على العملية فلن يبقى مجال للشك بمنعها على الرغم من وجود من تبنّى إباحتها.

إشكالية البحث: إذا كان استئجار الرحم عبارة عن عملية طبية حديثة عادية، فما هي المبررات الشرعية والقانونية لمنعه، وما هي الآثار المترتبة عليه.

 

المطلب الأول: تصور القضية وتحرير محل النزاع

اتفق المعاصرون من أهل الفقه، الذين بنوا أحكامهم وفق النصوص الشرعية ومقاصدها، ووفق التقارير الطبية التي صدرت عن أطباء ثقات، على أن التلقيح الاصطناعي بشِقّيه: الداخلي والخارجي، جائز إذا كان بماء الزوج وبويضة الزوجة، ضمن شروط وضوابط معينة، ومن هؤلاء د. محمود شلتوت والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، ود. علي الصوا، د. صالح فوزان وآخرين، وكانت آرائهم صادرةً من انعقاد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، واللجنة الطبية الفقهية الدائمة في الأردن[iii].

وفي هذا الصدد يقول د. يوسف القرضاوي: «إذا كان الإسلام قد حمى الأنساب بتحريم الزنا وتحريم التبنّي، فإنه يُحرّم التلقيح الصناعي، إذا كان التلقيح بغير نُطفة الزوج، بل يكون في هذه الحالة، كما يقول د. شلتوت: جريمة منكرة، وإثما عظيمًا، يلتقي مع الزنا»[iv].

وفي هذا إشارة بطريق المفهوم إلى جوازه إذا كان بنطفة الزوج، على نحو ما ذهب إليه العلماء المعاصرون.

صورة القضية: هي أن يتفق الزّوجان على استئجار رحم امرأة أخرى لتحضن نطفة الزّوج وبويضة الزّوجة، وتتولّى هذه المرأة الحمل والوضع، ثم تُقدّم الطفل بعد ولادته لأبويه لقاء أجر معلوم[v].

وتتم هذه العملية من خلال شفط البويضة من الزوجة بمنوي من الزوج يلتحم بها، ليكونا بعد ذلك بويضة تشرع في الانقسام إلى عدد من الخلايا، ثم إيداع هذه الكتلة من الخلايا (أي الجنين الباكر) رحم امرأة أخرى بعد إعداده هرمونيًا، فيكمل الجنين نماءه في رحم هذه المرأة المضيفة حتى تلِدَه، وتسلّمه لوالديه اللذين منهما تكون.


 

المطلب الثاني: الأسباب الداعية إلى هذه العملية

إنّ مثل هذه العمليات التي يلجأ الأطباء إليها، حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسببٍ في رحمها، ولكنّ مبيضها سليم منتج، أي عدم ملاءمة رحم الزوجة على الإخصاب، كانسداد قناة فالوب، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفّها، فتتطوّع امرأة أخرى بالحمل عنها[vi].

 

المطلب الثالث: آراء الفقهاء في القضية

لا شكّ أنّ مثل هذه المسائل المستجدة يتعذر الوفاق فيها، كون مجال الاجتهاد فيها واسع، وآراء الفقهاء تختلف لاختلاف مشاربهم ومناهجهم، ولكن الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن هذا الاجتهاد ليس مبناهُ التشهي والقول في دين الله تعالى بغیر دليل، فله ضوابطه وقواعده، لاسيما إذا نظرنا إليها من جهة مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذه القضية كان النظر فيها باعتبار مآلاتِ الأفعال من جهة، ومن جهة أخرى إلى تحقق وقوع المضار والمفاسد، والقاعدة الفقهية المقررة أنّ درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لأن في درء المفاسد هو جلب للمصالح في نفس الوقت.

الفرع الأول: أدلة المانعين

حكم المانعون لهذه القضية من العملية بالتحريم، وقد أفتى به المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، وكذلك اللجنة الدائمة الطبية الفقهية بالأردن[vii].

يقول الدكتور عبد المنعم عبد العال: «طالما اشترك الزوجان، الرجل بمنيه والمرأة ببويضتها وحدهما دون أي شريك ثالث، اشتركا في عملية الإخصاب فهو حلال أيًا كانت الطريقة المستخدمة. أما إذا اشترك بشر آخر سواء كان رجلاً بمنيّه، أو امرأة ببويضتها أو رحمها، فهو حرام حرمة بينة، يصبح الجنين المولود كولد الزنا تمامًا»[viii].

وكما يظهر، أن هذه العملية فيها شبهة الزّنا وإن لم يتحقق معناه من حيث اختلاط الأنساب، ولا صورته من حيث الإيلاج في الفرج المحرم، وبالتالي فإن هذا التعاقد بين الزوجين والأجنبية باطل شرعًا، لأنه إيجار على منفعةٍ محرمة.

قال ابن رشد الحفيد المالكي: « فَمِمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى إِبْطَالٍ إِجَارَتِهِ كُلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ لِشَيْءٍ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ، كَذَلِكَ كُلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً»[ix].

وعلى هذا الأساس، فالعملية محرّمة لا ترتاح إليها الشريعة الإسلامية، والتعاقد عليها يُعد عقدًا فاسدًا، وأما ترتب أثاره بعد الفسخ، فسيأتي الكلام عليه لاحقًا، فالعملية ابتداء وأصالة محرمة، ومما يؤكد هذا أنه يعضدها جملة من القواعد الفقهية[x]، منها: أن الأصل في الفروج والأبضاع التحريم، وكذلك إذا تعارض التحريم والحظر مع الإباحة، فالحرمة مقدمة عند جمهور الفقهاء، لتمام إفضاء الحُرمة إلى مقصودها، لأنه يكفي فيها مجرد الترك.

 

الفرع الثاني: ذكر شُبَه المخالفين ومناقشتها

إن ما سماه الطبيب العام الدكتور حسان حتحوت (شتل الجنين) فهي قضيّة في غاية الغرابة والإثارة، وإطلاقُه بهذا اللفظ وبغيره (كالرحم المستعار) فيه إيهام وتلبيس على السامع أنها قضية كغيرها من قضايا التلقيح الاصطناعي، فليس فيها خلط للأنساب، لأنّ البويضة ملقحة بماء الزوج نفسه.

لقد حصر الدكتور حتحوت الصورة المسؤولة عنها في امرأة ذات مبيض سليم، ولكن لا رحم لها، وهي تتوق للأولاد، راغبة في الإنجاب، كأنه بهذا يثير الشفقة عليها، ويستدرّ العطف من أجلها.

الجواب عليه: يقول الدكتور القرضاوي: ولكن من هذا الباب إذا فُتح، ما الذي يمنع أن تدخله كل ذات مال من ربّات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، وأن يظل قوامها كالغُصن لا يغيّر خصرها وصدرها الحمل، والوضع، والإرضاع، فما أيسر عليها أن تستأجر مضيفة تحمل لها، وتلد عنها، وتُرضع بدلها، وتسلّم لها بعد ذلك ولدًا طاهرًا، تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق.

قالوا: لنوفّر للمرأة من الولد، لفقدها الرّحم الصالح للحمل، ما تشتاق إليه من الأطفال، عن طريق أخرى صالحة للحمل.

الجواب عليه: يجيب دائمًا الدكتور القرضاوي: «نود أن نقول هنا: إنّ الشريعة تقرّر قاعدتين مهمتين، تكمّل إحداهما الأخرى:

الأولى: أنّ الضرر يزال بقدر الإمكان.

الثانية: أنّ الضرر لا يزال بالضّرر[xi].

ونحن إذا أسقطنا القاعدتين على الواقعة التي معنا، نجد أنّنا نُزيل ضرر امرأة هي محرومة من الحمل بضرر امرأة أخرى[xii] هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها، فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.

إن على العلم أن يتواضع، ولا يحسب أن بإمكانه أن يحل كل مشكلات البشر، فإنها لا تنتهي ولن تنتهي، ولو فرض أنه حل مشكلة المرأة التي ليس لها رحم صالح، فكيف يحل مشكلة التي ليس لها مبيض صالح»[xiii].

قالوا: هل هذه الطريقة الوحيدة في نظر العلم لإزالة ضرر المرأة المحرومة من الإنجاب لعدم الرحم؟.

الجواب عليه: يقول د. القرضاوي: «إن العلم الحديث نفسه بإمكانياته وتطلعاته - فيما حدثني بعض الإخوة الثقات المشتغلين بالعلوم والمطلعين على أحدث تطوراتها وتوقعاتها - يفتح أمامنا باب الأمل لوسيلة أخرى أسلم وأفضل من الطريقة المطروحة.

هذه الوسيلة هي زرع الرّحم نفسه في المرأة التي عدمته، تتمة لما بدأ به العلم ونجح فيه من زرع الكلية، والقرنية وغيرها، بل زرع القلب ذاته في تجارب معروفة ومنشورة.

وإذا كان مبيض الأنثى يُفرز في كل شهر بويضة صالحة - بعد التلقيح - يتكوّن منها طفل، فما يمنع المرأة الثرية، أو زوجة الثَّري أن تُنجب في كل شهر طفلاً، مادام الإنجاب لا يُكلّفها حملاً ولا يُجشمها ولادة!!

ومعنى هذا، أن المرأة الغنيّة تستطيع أن تكون أمّا لاثني عشر ولدًا في كل سنة، مادامت الأمومة هينة ليّنة لا تكلف أكثر من إنتاج بويضة، والبركة في الحاضنات أو المضيفات الفقيرات، اللاتي يقمن بدور الأمومة ومتاعبها لقاء دريهمات معدودة، ويستطيع الرّجل الثَّري أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوّج من النساء مثنى وثلاث ورباع»[xiv].

 

المطلب الرابع: الآثار المترتبة على هذه القضية

إنّ الفقه الإسلامي يعرّفنا على الأم في الرّضاع، وأحكام الإخوة في الرّضاعة، فالآن أدركنا أن للمرء بأمّه صلتان، صلة تكوين ووراثة أصلها المبيض، وصلة حمل وحضانة أصلها الرّحم، وحتى الآن كانت صِلة الرّحم تطلق مجازًا على الجميع، ولكن ماذا إذا تشعبت الأمور، فكان التكوين من المرأة والحضانة في أخرى، وأين تقف صلة الرحم من بنوّة المبيض؟.. وما حقوق هذه الحاضنة؟ وماذا يترتب على ذلك من أحكام؟

الفرع الأول: إفساد معنى الأمومة

أوّل هذه الآثار والنتائج وأبرزها أنه يُفسد معنى الأمومة، كما فطرها الله تعالى، وكما عرفها الناس، هذا المعنى الذي ليس في الحياة أجمل وأنبل منه، فالأم الحقيقية في التصور المعروف للسؤال هي صاحبة البويضة الملقحة التي منها يتكوّن الجنين، وهي التي ينتسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تُناط بها أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة، والبرّ، والنفقة، والميراث وغيرها، ودور هذه الأم في صِلتها بالطفل، أنها أنتجت يومًا ما، بويضة أفرزتها بغير اختيارها وبغير مُكابدة ولا مشقّة عانتها في إفرازها.

أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها، وغذّته من دم قلبها أشهرًا طوالاً، حتى أصبح بُضعةً منها، وجزءً من كيانها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، وأوجاع الوحم، وآلام الوضع، ومتاعب النفاس، فهذه مجرد مضيفة أو حاضنة تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتأخذ مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكوّن لديها من مشاعر، كأنها مجرد أنبوب من الأنابيب التي تحدثوا عنها بُرهة من الزمان، لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس[xv].

 

الفرع الثاني: حقيقة الأمومة

ولنا أن نتساءل هنا عن ماهية الأمومة التي عظمتها كتب السّماء، ونوّه بها الحكماء والعلماء، وتَغنىّ بها الأدباء والشعراء، وناطت بها الشرائع أحكامًا وحقوقًا عديدة، الأمومة التي هي أرقى عواطف البشر وأخلدها وأبقاها.

وهل تتكون هذه الأمومة الشريفة من مجرد بويضة أفرزها مبيض أنثى، ولقّحها حيوان منوي من رجل.

إنّ الذي يُثبته الدِّين والعلم والواقع، أنّ هذه الأمومة إِنَّما تتكوّن مقوماتها، وتستكمل خصائصها من شيء آخر - بعد إنتاج البويضة حاملة عوامل الوراثة - إنّه المعاناة والمعايشة للحمل أو الجنين، تِسعة أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة البدنيّ كله، تغيّرًا يقلب نظام حياتها رأسًا على عقب، ويَحرمها لذّة الطعام والشراب، والرّاحة، والهدوء. إنه الوحَم والغثَيان، والوَهن طوال مدة الحمل. وهو التّوتر والقَلق، والوجع والتَّأَوَّه، والطَّلَقُ عند الولادة، وهو الضّعف والتّعب والهبوط بعد الولادة، إنّ هذه الصّحبة الطويلة - المؤلمة المحببة - للجنين بالجسم والنّفس والأعصاب والمشاعر، هي التي تولّد الأمومة، وتفجّر نبعها السخي الفياض بالعطف والحب[xvi].

هذا هو جوهر الأمومة، بذلٌ وعطاءٌ، وصبرٌ واحتمالٌ، ومكابدةٌ ومعاناةٌ، ولولا هذه المكابدة والمعاناة، ما كان للأمومة فضلها وامتيازها، وما كان ثَمّة معنى لاعتبار حق الأم أوكَد من حق الأب.

إنّ أعباء العمل، ومتاعب الوضع، هي التي جعلت للأمومة فضلاً أي فضل، وحقًا أي حق، وهي التي نوّه بها القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

فلقد جاء في قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[xvii] وقال أيضًا: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[xviii] ومعنى: أي جهدًا على جهد، ومشقة على مشقة.

وهذه المعاناة التي تتحمّل الأم آلامها وأوصابَها راضية قريرة العين، هي السّر وراء تأكيد القرآن الكريم على حق الأم ومكانتها، وهي السّر كذلك وراء تكرار الرّسول الوصيّة بها، وتأكيد الأمر ببرها، وتحريم عقوقها، وجعل الجنّة تحت أقدامها.

من مثل: «إِنَّ اللهَ يُوصِيكُم بِأُمَّهَاتِكُم، ثُمَّ يُوصِيكُم بِأُمَّهَاتِكُم، ثُمَّ يُوصِيكُم بِأُمَّهَاتِكُم، ثُمَّ يُوصِيكُم بِآبَائِكُم، ثُمَّ يُوصِيكُم بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ»[xix].

وفي الحديث المشهور في إجابة من سأل: مَن أَحقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ.. ثُمَّ أُمُّكَ.. ثُمَّ أُمُّكَ... ثُمَّ أَبُوكَ»[xx].

 

الفرع الثالث: أحقية الأم بالحضانة

عن عبد الله بن عمر أنّ امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثدي له سقاء، وإنّ أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني، فقال: «أنَتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لمَ تُنكِحِي»[xxi].

هكذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدّمها على الأب، وجعلها أحق بطفلها منه، فما تقول هذه الأم المستحدثة إذا اختلفت مع زوجها في حضانة الولد، وبأي منطق تستحقه وتقدّم على أبيه، ولم يكن بطنها له وعاء، ولا ثديها له سقاء؟

إن قالت أنها صاحبة البويضة التي منها خلق، فالأب كذلك صاحب الحيوان المنوي الذي لولاه ما صلحت البويضة لشيء، بل لعله هو العنصر الإيجابي النشيط المحرك في هذه العملية، حتى إنّ القرآن نسب تكوين الإنسان إليه في قوله تعالى: [xxii] ﴿خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ﴾[xxiii]، فالماء الدافق هو ماء الرجل.

وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[xxiv].

ومن الناحية القانونية فقد نصت المادة 62 من قانون الأسرة الجزائري على أن «الحضانة هي رعاية الولد وتعليمه والقيام بتربيته على دين أبيه والسهر على حمايته وحفظه صحة وخلقًا، ويشترط في الحاضن أن يكون أهلاً للقيام بذلك».

ويستنتج من هذا التعريف أن المشرع قد استنبط من خلال أحكامه ما جاء به الفقه الإسلامي بحيث ينبغي على من تسند له الحضانة أن يقوم بكل ما هو منصوص عليه في هذه المادة، ومن ثم يشترط في الحاضن الشروط التالية:

  • أن يكون أهلاً لممارسة الحضانة، وهو ما نصت عليه م62/2 قا. أ: والمقصود بهذه العبارة أن يكون الشخص بالغًا عاقلاً أي بلغ سن الرشد 19 سنة ومتمتعًا بكل قواه العقلية، غير أن هذا الشرط يمكن أن نستغني عنه إذا كانت المترشحة للحضانة هي الأم وقد كانت قد سبق لها أن تزوجت بناء على إذن قضائي، فإذا كانت المرأة المستأجرة للحمل غير متزوجة ولا حصلت على إذن قضائي فما هو وضعها القانوني بعد ذلك.
  • أن يكون قادرًا على تحمل التكاليف الجسدية والنفسية المتعلقة بالحضانة، أي تكون له القدرة المادية والجسمانية من أجل ضمان الطفل صحة وخلقا ومن ثم لا يجوز للشخص فاقد البصر أن تسند له الحضانة، كذلك الشخص العاجز عن المشي، فلو أصيبت المرأة المستأجرة للحمل (صاحبة الرحم) بفقد البصر أو العجز عن القيام أعباء الحضانة فهل تلزم بذلك أم لا؟ أم أن أمرها يعود للسلطة التقديرية للقاضي حيث هو الذي يقدر عما إذا كان المترشح لها غير عاجز على ممارستها.
  • أن يكون أمينًا: أي أمين في تصرفاته نحو المحضون فلا حضانة للمرأة الفاسدة، أما بالنسبة للمرأة العاملة وخاصة إن كانت الأم، فلا تسند لها الحضانة إذا كانت غائبة طيلة اليوم عن البيت فهي في هذه الحالة لا تمارس الحضانة بنفسها، هذا كله يرجع إلى سلطة القاضي والمعيار الأول والأخير بالنسبة إليه وهو مصلحة المحضون فقط، فكيف الحال بالنسبة للمرأة المستأجرة.

ومن الآثار القانونية لهذه القضية أيضًا ترتيب أصحاب الحق في الحضانة، فقد نص المشرع في المادة 64 قا.أ على أن: "الأم أولى بحضانة ولدها ثم أمها ثم الخالة ثم الأب ثم أم الأب ثم الأقربون درجة مع مراعاة مصلحة المحضون في كل ذلك، وعلى القاضي عندما يحكم بإسناد الحضانة أن يحكم بحق الزيارة"، غير أن التعديل الذي أدخله المشرع على هذه المادة مراعيًا في ذلك التطور الاجتماعي الجزائري أصبح الترتيب على النحو التالي: الأم، الأب، الجدة لأم، الجدة لأب، الخالة، العمة ثم الأقربون درجة مع مراعاة مصلحة المحضون في ذلك.

وما نص عليه المشرع في هذه المادة هو أنه ينبغي على القاضي أن يحكم بحق الزيارة عند حكمه بإسناد الحضانة ويكون المشرع في هذا النص قد خرج عن المبادئ القانونية المستقرة، بحيث قد ألزم القاضي أن يحكم بحق الزيارة حتى ولو لم يطالبه بذلك أحد المتقاضين، ففي حال النزاع، أيهما أولى بالحضانة هل هي صاحبة البويضة أم صاحبة الرحم، وإذا كان الأمر كذلك فإننا مضطرين وضع ترتیب آخر كالتالي: الأم (صاحبة البويضة)، الأم (صاحبة الرحم) - وأيهما يُقدّم -، الأب، الجدة لأم،... إلخ.

 

الفرع الرابع: نسبة المولود

إن خير وصف يعبّر عن الأم، وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو (الوالدة) وسمّي الأب (الوالد) مُشاكلة للأم، وسُمِّيَا معًا (الوالدين) على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، وإنما ولدت امرأته.

وعلى هذا الأساس سمي ابن المرأة (ولدًا) لها، لأنها ولدته، ولدًا لأبيه كذلك، لأنها ولدته له[xxv].

إلا أن الذي يعكّر صفو هذا المفهوم النبيل، هو مدى نسبة المولود بهذه الطريقة في حال وقوعها.

في حال ما إذا كانت العملية تتمّ في رحم الزوجة الثانية، فيُنسب المولود إلى أبيه، صاحب الحيوان المنوي، لأنّ الولد ناشئ من فراش الزوجية، لقوله: «الوَلَدُ للفِرَاشِ َولِلعَاهِرِ الْحَجْرُ»[xxvi] إلا إذا قامت أدلة قطعية تدل على أن الولد ليس له، وإلا فإنا نحكم بالظاهر وهو الولادة[xxvii].

أما إذا كانت التي حملت اللقيحة امرأة أجنبية عن صاحب الحيوان المنوي، فإنه يُنظر، فإن كانت ذات زوج، فإن المولود يُنسب لزوجها، لأنه صاحب الفراش، وله أن ينفيه عنه باللعان.

وأما إذا كانت غير ذات زوج، فإن مولودها لا ينسب إلى أب، وإنما يأخذ حكم ابن الزنا، وينسب الولد حينئذ إلى أمه لأنه لا يوجد فراش صحيح ينسب الولد إليه.

وأما ما يتعلق بنسب المولود بالنسبة للأم، هل هي صاحبة البويضة أم صاحبة الرحم التي حملت وولدت؟.

ولذلك ظهر اتجاه من بعض فقهاء العصر[xxviii] إلى القول بأن نسب المولود بالنسبة للأم، هو لصاحب الرحم التي حملت وولدت.

وذلك للأدلة التالية:

  • قوله تعالى في تخطئة المظاهرين: ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾[xxix].

وجه الدلالة: الآية الكريمة نصت على أن الأم هي التي تلد، وقد أكّد هذا المعنى الصريح بالحصر، فلا أم نسبًا بحكم القرآن إلا التي تلد[xxx].

وإذا كانت بهذا المعنى، فكيف نسمي الأم التي لا تحمل ولا تلد (أما) أم(والدة)، وكيف تتمتّع بمزايا الأمومة دون أن تحمل أعبائها؟[xxxi].

  • قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[xxxii].

وجه الدلالة: أنّ الله تبارك وتعالى نسب المولود للوالدات بقوله: (هــــ) وأعطى الوالدات حقّ الرّضاعة من ولدهن ثم إن الله تعالى أطلق على الأم اسم الوالدة، وليس حاضنة، بقوله تعالى: والوالدة، اسم فاعل بمعنى التي تَلِد، فمن تَلِد هي التي منع الله تعالى أن يضُرّها أحدٌ بمولودِها، أما صاحبة البويضة فإنها لم تَلِد، وبالتالي لا تسمى والدة، فهي إذن ليست أما نسبيّة للمولود[xxxiii].

 

الخاتمة

إنّ هذا الموضوع شديد الحساسية من الناحية الشرعية، وذو أبعاد كثيرةٍ، له نتائج خطيرة وانعكاسات سلبية على حياة الأسرة والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في مختلف صوره وطرائقه، كما أن له ارتباطات متشعبة في النظر الشرعي بأحكامٍ من أبوابٍ شتى فيما يتعلق بالحِلِ والحُرمة، وقواعد الاضطرار والحاجة، وقواعد النّسب والشبهة، وفراش الزوجية، وبأحكام العدّة والحضانة والميراث، ثم بأحكام العقوبات والجزاءات المترتبة عليه، سواء في الشريعة الإسلامية أو في المنظومة القانونية.

وبعد عرضنا لهذه القضية المستجدّة في وقتنا الحاضر، والتي تُعد من أهم القضايا المطروحة للنّقاش بين فقهاء العصر الحديث، نجد أن أدلة المانعين لهذه القضية قويّة وواضحة، كون مفاسدها أعظم من مصالحها، ومن المعلوم في قواعد مقاصد الشريعة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، بل إن درء المفاسد في حد ذاته هو جلب للمصالح، فإذا منعنا هذه العملية وأغلقنا باب الدخول إليها سوف نجلب مصالح كثيرة، أهمها حفظ الأنساب من الاختلاط، واستقرار الأسرة وحمايتها.

وعلى هذا النحو اعتمد المشرع الجزائري في قانون الأسرة في المادة 45 مكرر[xxxiv]، بعد أن تعرّض إلى جواز لجوء الزوجين إلى التلقيح الاصطناعي، نفى اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي باستعمال الأم البديلة، والتي نعني بها استئجار الرحم.

 

لتحميل ملف الدراسة

________________________

*  مجلة "صوت القانون"، العدد الثاني: أكتوبر 2014/ ردمد 9938 – 2352.

** أستاذ محاضر كلية العلوم الإسلامية جامعة الجزائر.

[i] سنن الترمذي. تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون. دار إحياء التراث العربي، بيروت (5/524) برقم 3492 وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذه الوجه". سنن أبي داود. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. دار الفكر (2/92) برقم 1551، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/277) برقم 1292.

[ii] المسؤولية الجسدية في الإسلام، عبد الله إبراهيم موسی، دار ابن حزم، بيروت. طبعة. 1995م. ص127.

[iii] الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء، د. محمد خالد منصور، دار النفائس، بيروت. طبعة. 1419هـ / 1999م ص83-84.

[iv] الحلال والحرام، د. يوسف القرضاوي، ص209.

[v] المسؤولية الجسدية، ص 135-136.

[vi] الأحكام الطبية، ص 100؛ المسؤولية الجسدية، ص 135.

[vii] الأحكام الطبية، ص 101-102.

[viii] نظرات إسلامية، محمد عبد المنعم عبد العال، ص79.

[ix] بداية المجتهد، لابن رشد. مكتبة مصطفى البابي، مصر، الطبعة الرابعة: 1395هـ/ 1975م. (2/220).

[x] الأشباه والنظائر، السيوطي، ص61.

[xi] المرجع السابق، السيوطي، ص86.

[xii] الذي يبدو لي أن الضرر الكبير يتمثل في آلام الولادة المؤدية في بعض الأحيان إلى الموت، فكيف يعقل أن تنقل موت امرأة إلى امرأة أخرى؟

[xiii] فتاوی معاصرة، ص196.

[xiv] المرجع السابق، ص197.

[xv] المرجع السابق، ص 192.

[xvi] المرجع السابق، ص193.

[xvii] سورة الأحقاف: الآية 15.

[xviii] سورة لقمان الآية 14.

[xix] سنن ابن ماجة. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر، بيروت. (2/1207) برقم 3661 والحاكم في المستدرك. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة الأولى: 1411 / 1990 (4/167) برقم 7246، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/390) برقم 1924.

[xx] صحيح مسلم. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي، بيروت (6/80) برقم 2548.

[xxi] رواه البيهقي في السنن الكبرى. تحقيق: محمد عبد القادر عطا. مكتبة دار الباز، مكة المكرمة: 1414 / 1994 (8/4) وأبو داود (2/283) برقم 2276، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/430) برقم 1991.

[xxii] فتاوی معاصرة، ص196.

[xxiii] سورة الطارق: الآية 7.

[xxiv] سورة القيامة: الآية 39.

[xxv] فتاوی معاصرة، ص194.

[xxvi] رواه البخاري في الصحيح (3/191) برقم 6749. ومسلم (2/1081) برقم 1458.

[xxvii] الأحكام الطبية، ص103.

[xxviii] منهم الشيخ بدر المتولي عبد الباسط، ود. زكريا البري، والشيخ علي الطنطاوي، وخالف هذا القول طائفة من فقهاء العصر، منهم: الشيخ الزرقا، ود. محمد نعيم ياسين، ود. يوسف القرضاوي.

[xxix] سور المجادلة: الآية 2.

[xxx] الجامع الأحكام القرآن، القرطبي (8/279).

[xxxi] فتاوى المعاصرة، ص195.

[xxxii] سورة البقرة: الآية 233.

[xxxiii] الجامع لأحكام القرآن (3/161).

[xxxiv] قانون الأسرة الجزائري، دار بلقيس للنشر، دار البيضاء، الجزائر. طبعة ديسمبر 2012.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الأحد, 09 آذار/مارس 2025 09:18

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.