هذه المعجزة الغربية قامت من الأساس على دماء وأقوات الشعوب الأخرى!
قال له صاحبه وهو يحاوره:
مازلت أذكر وأنا أناقش رسالتي للدكتوراة كيف احمرت آذان اثنين من أعضاء لجنة المناقشة وهما يرفضان أن أصف بالبربرية غزو الفرنجة الصليبيين للقدس وذبحهم سبعين ألفا فيها. «إنه كلام غير علمي» كذلك قالا، وقلت: قبل أن أجيب، أود أن أسأل ماذا تسمون أنتم في كتبكم العلمية بل والمدرسية أيضا فتح الهانز المغول وزعيمهم أثيلا لأوروبا؟ والزحف الجرماني على الامبراطورية الرومانية؟ وبماذا تنعتون أحيانا، وفي كتب الصغار، دخول العرب إلى إسبانيا؟ ومعركة بواتييه (بلاط الشهداء)؟
من هذه المصادر تعلمت الكلمة، أنتم في الغرب تعودتم زمنًا طويلًا أن تكتبوا التاريخ وحدكم وأن يقرأ الآخرون.. بعد الآن سوف يكتب الآخرون بدورهم التاريخ، ومن وجهات نظرهم أيضًا وعليكم أن تقرأوا وجهكم في المرآة لما تروه بعد وسوف يحمل الآخرون هذه المرآة، عفن الماضي كله سوف يوضع ذات يوم قريب في سلالكم بدل الزهور...
وقال لصاحبه: هب هذا الذي تقول كان حقًا من الحق، ولكن التاريخ إنما يكتبه الأقوياء، ويكتبه المنتصرون، وستظل الحضارة الغربية تغطي حتى جرائمها بهذا الذي منحته للإنسان من الأبعاد الفكرية والكونية.
وقال له صاحبه: ولكن الثمن الذي دفع للوصول إلى هذه الأبعاد كان رهيبًا. هل تعرف فداحة هذا الثمن؟ ولقد دفعه العالم كله.. كله عدا أوروبا نفسها! أن الصورة الأخرى لهذه الحضارة الغربية لما تكتب بعد.
الوجه الآخر لهذه الميدالية الماسية لم يفتضح..
التماعها الذي يخطف الأبصار لما يسمح بعد برؤية نزيف الدم والأشلاء على الجانب الآخر...
وقال لصاحبه: الآن أمنت أن للمأسوف على نبالته "دون كيشوت" سلالة ما تزال تعيش وتحارب طواحين الهواء. أتريد أن أنسى آلاء هذه الحضارة وما قدمت للإنسان لأنظر في مشاكل التاريخ؟ هل تستطيع أن تشد عيوني إلى الماضي وأخطاء الماضي فلا أرى وصول الإنسان إلى القمر؟
وقال له صاحبه: ما أردت أن أقول إلا أن لهذه الحقيقة وجها آخر مظلمًا، كالوجه الآخر للقمر.... وإننا شركاء أصيلون في بناء هذه الحضارة الغربية لا من خلال التراث فحسب، ولكن من خلال جهودنا نحن أيضًا، نصيبنا فيها دفعناه من شراييننا. ويجب أن نعي هذه الحقيقة الوعي الكامل، ألا نمل تكرارها. ألا تكون الألف باء لأولادنا أيضًا. لا يهمني تاريخ هذه الحضارة بحد ذاتها، ولكن تاريخهًا معنا وتاريخنا معها، تاريخ العلاقات الوحشية التي أقامتها مع الشعوب المستضعفة والتي أقامت بها (المعجزة الغربية الحاضرة) ...
أأحدثك حديث هذه «المعجزة» وذلك الثمن؟
مرحلة الإبادة
أنها ملحمة تمت على ثلاث مراحل. وكل مرحلة منها كانت كارثة انسانية، جاءت أولًا مرحلة الإبادة الجماعية والرقيق الأسود والتوسع الأخطبوطي، ثم كانت مرحلة النهب العالمي، وأخيرًا جاءت المرحلة الاخيرة التي نعيش: مرحلة تنمية التخلف!
۱ - مرحلة الإبادة والرقيق: بدأت الملحمة أول ما بدأت بأداتين أخذتهما أوروبا الغربية عن العرب: البوصلة والبارود، البوصلة صارت أساس السفينة الضخمة المتعددة الأشرعة وفتحت الباب للقوة البحرية والانتقال إلى البعيد، والبارود صار أداة القتل عن بُعد... بامتياز، ثم وضع كولومبوس لا شرعته التي أبحرت في بحر الظلمات، وللأشرعة الغربية التي جاءت بعده قانون العمل: الزحف إلى الغرب لتطويق الشرق ونهبه! والشرق كان الغنى والذهب، كان العراقة وكان (الآخر) المحسود!
وما يزال الانتقال إلى البعيد والقتل عن بُعد ونهب الآخر هي «أهداف» هذا الغرب إلى اليوم: وفي سبيلها دمرت ثلاث قارات. أربعة قرون ظل يدمرها ثم يدمر. فأما الأولى فمسح عن وجهها كل من عليها من البشر عريهم الأحمر المسلح بالقوس والنشاب كان يجريه التقي الدموي لذوي العيون الزرق والبشرة البيضاء حملة البنادق والكتاب المقدس في الأخرى... وأما القارة الثانية فاستعبد كل من عليها من البشر. أنهم مجرد زنوج! هل لهم من روح؟ ذلك موضع شك. إذن فهم لا يستحقون أكثر من أن يكونوا قوافل من العبيد!! وأما القارة الثالثة فبشر بكثرة الدود وتكالب الدود... لا يصلحون لغير الاستغلال والموت فليكونوا للاستغلال والموت!
وهكذا ذبح الغرب أربعين مليون إنسان في الأولى، واسترق مائة مليون عبد من الثانية، وامتص دماء خمسمائة مليون في الثالثة...
في القارة الأولى: أمريكا - نزل الأوروبي مفترسًا، كل جشع الدنيا في عينيه. السكان الأولون الذين أطلق عليهم الأوروبي اسم الهنود الحمر استقبلوه على أنه «الإله الأبيض». لكنهم سرعان ما أدركوا أنه شيطان النار وأنه التنين المفترس ذو الرؤوس السبعة!
كانت أمريكا قبل كولومبوس دنيا كاملة من الحضارات: أنظمة للحكم وطبقات اجتماعية وملوك وجيوش وقلاع وأسوار وطرق وقصور ذهبية الأبواب ومدن تفتن الأعين، وفنون تغالب الخيال في النحت والرسم، وكتابة وحساب وهندسة ومعارف فلكية دقيقة وطب وعلاج، وحرف وزراعة تتسلق السفوح وشبكات محيرة من أقنية الري. ومصوغات أسطورية الجمال وتعدين للذهب والفضة والنحاس وتاريخ من العلاقات الإنسانية ومن الحروب والإمبراطوريات ومراسم الاحتفال وطقوس الدين والكهنوت... الهندي الذي تقدمه لنا أفلام (الكاوبوي) والزحف نحو الغرب، عينًا وحشية حمراء وقسمات نحاسية متقلصة بالحقد وسكينًا غادرة تشق الخيمة البدائية، هذا الهندي هو كذبة الإعلام الأمريكي أنه لم يكن موجودًا إلا على الأطراف البعيدة لتلك الحضارات. الأرض الأمريكية من الشمال حتى أقصى الجنوب كانت تتوزعها حضارات الأزتيك ذات المدن الخرافية في المكسيك، والمايا في كولومبيا، والتانيو في جزر الأنتيل، ومملكة الإنكا، ربة الشموس الذهبية في البيرو، والتوبيناما في البرازيل، والفواراني في الباراغواي، والأروكانيين في شيلي.. ولكل حضارة طريق.
عندما حل كولومبوس
وفجأة في القرن السادس عشر وقعت الكارثة بعد أن أطل عليها كولومبوس.. انطفأت هذه الحضارات كلها، الواحدة إثر الأخرى بضربات شيطانية ماحقة. اختنقت بدماء أصحابها وذهبهم. جنون الذهب الذي أصاب الغزاة افترس الجنس الهندي وأباد حتى ظلال البيوت.. كورتيز، دي كاسادا، بيسار واز يفيدو، کارفاخال ماردجيال الأندزو «عدو الجنس البشري» كما كان يحب أن يدعي... هي أسماء من الجحيم ستظل إلى الأبد مجاورة لاسم جنكيز خان! كتاب (تدمير الهنود) الذي صار يعرف باسم القصة السوداء حكى فيه صاحبه (لاس كاساس) بعض جرائمهم المرعبة، وقد ترجم إلى مختلف اللغات ولكن... دون أي صدى.
وذلت الفلول الباقية من الهنود، انحلت أعمدتهم الفقرية أمام البارود الجبار والسنابك. ثم جاء الغزاة إلى القارة الجديدة بالجدري وبالأمراض الزهرية أيضًا فحصدت الهنود بالألوف. وسكن الأسى الأبدي قسمات أحفادهم المبعثرين حتى اليوم ... بعد قرن وبعض القرن كان الهندي يكاد ينقرض في قارته الكبرى. وورث الأوروبي الأرض وما عليها.
من أجل استغلال هذه الأرض وقعت القارة الثانية: أفريقيا في الكارثة. تسلطت الأساطيل الأوروبية على الشواطئ الافريقية تصطاد منها الزنوج، ليكونوا آلات الحرث والتعدين والخدمات في أمريكا... بدورها، لم تكن أفريقيا التي صاروا يدعونها بالسوداء، بلد الطبل المبحوح في الغابة والوجه الملطخ، بالأصباغ والتشنج الهستيري حول الرماح، والليل يتلوى كأنه الثعابين العطشى. الزنجي وحش الغابة البدائي كذبة أخرى من أكاذيب الغرب. أفريقيا القرن السادس والسابع عشر كانت بلدًا للحضارة الإسلامية والممالك الواسعة والثقافة والانتاج... بعد إمبراطورية غانة الشاسعة التي كانت تقوم على قاعدة من الذهب هناك، جاءت إمبراطورية الماندنغو الإسلامية في مالي. عاصمتها تمبكتو، كانت تزدحم بالعلماء والمساجد والمواكب والقصور والثروات والذهب والنحاس، وفي أراضيها القطن والزراعات وعلى طرقاتها القوافل. وجاءت كذلك إمبراطورية سنغاي، الدولة النيجيرية بملوكها وبجيشها المنظم وشبكات الري الزراعي والفنون المتقدمة والصيد ونظم الحرب والسلم والمجتمع ...
وفعلت الأساطيل الأوروبية بهذه البنى الحضارية فعل الزلازل. لم تسلبها قواها الحية فقط، لم تأكل كالأغوال أبناءها فترمي تسعة أعشارهم في البحر موتى وترمي الباقي للسياط وراء البحر، ولكنها أيضًا خلخلت بناها الاجتماعية حتى الأعماق وأصابتها بالركود التكنولوجي وشوهت نظامها الإنتاجي، ودمرت العلاقات الاقتصادية فيها. وحولتها من الإنتاج إلى اصطياد البشر بعضهم لبعض وإلى القتال الوحشي.... بينما صارت النخاسة، بالمقابل، تجارة أوروبية كبرى من أربح التجارات، لها الأساطيل القوية والشركات الضخمة، ولها الصيادون والأسواق، ومرافئ التصدير في ليفربول وبوردو ولشبونة... ونزفت القارة الأفريقية، نزفت حتى الموت.
الذهب الأمريكي - الأفريقي والدم الهندي الزنجي كانا نهري الطاقة المجانية والخرافية الغرب الأوروبي ولم يسمحا فقط ببناء قوته البحرية والاقتصادية الضخمة، ولكنهما سمحا له أيضًا بأن يمد علاقات الأخطبوط إلى شواطئ آسيا كلها، وأن يقيم عليها بالقوة نقاط الدخول ومراكز الاتصال والامتصاص.. وحين انتهت هذه المرحلة، بعد حوالي القرنين، كانت أوروبا سيدة البحار والنظام التجاري في العالم كله.
مرحلة النهب العالمي
2- وجاءت بعد ذلك مرحلة النهب العالمي. إنهم يسمونها مرحلة الاستعمار من قبيل تسمية الأضداد. هل نحن في حاجة لأن نصوغ أهجية جديدة في فضح الاستعمار بعد كل الذي عرفته الشعوب من آلائه الجهنمية؟ كان التنين الغربي قد بلغ من القوة الدرجة التي لم يعد في العالم من قوة تقف في وجهه، وقد تزايد جشعه -في الوقت نفسه- أضعاف ما تزايدت قوته، لم تعد من ثروة تشبعه، وبينما كان ينشر على موائده الأوروبية أفكار التقدم والحرية والأخوة والمساواة، كان نظام التحرك الاستعماري يتوطد ويتوطد معه نظام النهب العالمي.
ثالوث المبشّر - الجندي - التاجر، كان أداة التحرك. يدخل المبشر ليتعرف إلى الأرض ويلحق به الجندي ليدمر كل مقاومة، ثم يصل التاجر (ممثلا بالشركات الكبرى) لتبدأ عملية «ضخ» الخيرات إلى أوروبا. تكرر ذلك في كل مكان، في الصين كما في موزمبيق وغانا، وفي شواطئ الشام كما في الجزائر والخليج.
وتوطد نظام النهب بإقامة الاقتصاد الخادم، الاقتصاد الذي يقدم فقط المادة الخام للمصانع الغربية على حساب الانتاج الغذائي ويستغل الأيدي العاملة المحلية بالسُخرة والسياط بدل نقلها عبيدًا إلى ما وراء البحر... إن ١١٤ كم من السكة الحديدية المتجهة من برازافيل إلى النقطة السوداء احتاجت كي تتم إلى ۱۷ ألف جثة!! أما باقي الدماء فتكفلت السوق الاستهلاكية المفروضة فرضًا على أهل البلاد بامتصاصها. وهل ننسى حرب الأفيون في الصين؟ أو الاستهلاك الإجباري للنبيذ في الهند الصينية؟
وهكذا بينما كان الإنتاج الاستعماري من الزيت أو الفستق أو القطن أو الذهب والماس يباع أحيانًا بعشرة أضعاف سعر الشراء أو بعشرات الأضعاف، وبينما كان انتاج الفستق مثلًا (لمصلحة شركات الزيت) يكتسح السنغال ليبلغ 85% من انتاج البلاد وكانت الكروم والخمور (رغم إسلام الجزائر) تصبح موردها الأول، والقطن في الهند ومصر يدير مصانع مانشستر... كان أهل البلاد يستوردون الطعام أو يتساقطون على دروب الجوع.
وبينما كانت الحرف اليدوية تموت، واقتصاد الغذاء يدمر، كان شيء أخطر من هذا وذاك يتم على المستوى الثقافي هو تدمير الهوية الحضارية لهذه الشعوب. هو "التغريب"، إلغاء اللغة القومية واحلال الاستعمارية محلها، واستغلال الجهل الديني والازدراء بالحضارة المحلية وقيمها، ونقلها... إلى المتاحف الأوروبية، طرفًا ودلائل تخلف.
وقبل ذلك كله أو فوق ذلك كله كان توجيه التربية من أجل التخلف. التعليم كان هدفه تخريج الحد الأدنى من المدجنين ليكونوا الجهاز المحلي للمصالح الاستعمارية... بعد أربعة قرون من الاستعمار الأفريقي الآسيوي ظلت نسبة الأمية في القارتين تزيد على 86%. دخلت فرنسا إلى مدغشقر في القرن السادس عشر وفيها 140 ألف طفل في التعليم، وخرجت منها سنة 1950 وفيها 104 آلاف! في أفريقية الغربية الفرنسية التي تضم ١٥ مليونًا من السكان لم يكن عدد الطلاب سنة 1938 يجاوز سبعين ألفًا أي نصفًا في المائة من السكان، في نيجيريا وكينيا كانت نفقات التربية سنة 1935 تبلغ 4و3% فقط من الميزانية العامة. وقد خرجت البرتغال من موزمبيق بعد ٤٠٠ سنة من الاحتلال وليس فيها طبيب موزمبيقي واحد!!
خلال ذلك كانت الأساطيل الغربية المتزايدة القوة والعدد، تسوق كالأقنية الجهنمية دماء القارات الثلاث وخياراتها إلى أوروبا لتزيد في قواها التكنولوجية والحربية وتمنحها التفوق الساحق، ومع تكون البنى الرأسمالية الضخمة كان الفائض الحضاري المجاني يتراكم في الغرب في حلقة شيطانية لا تنتهي: فتزايد القوة الغربية كان يؤدي إلى تزايد الاستغلال وتزايد الاستغلال يؤدي إلى المزيد من الافقار والتخلف في المستعمرات. ومزيد من الإفقار يعود فيؤدي إلى تزايد القوة الغربية من جديد.
بهذا الفائض الحضاري المجاني والمتزايد تكونت مجموعة من التنانين الرأسمالية الوحشية، هي عناوين القوى المحركة الأوروبية. أسماء باركليس، روتشيلد يتسييه، والماس، لوبيدز.. إنما تجمعت ثرواتها الأسطورية من أصحاب الجلود السوداء والسمراء والصفراء. الأوروبيون الذين نزلوا أمريكا الشمالية مارسوا النهب نفسه ضد الأخلاط البشرية التي نزلت أمريكا الجنوبية، وانضموا إلى الغرب المفترس، بينما انضم الجنوبيون مرغمين إلى العالم الثالث... بترولهم، نحاسهم، قصديرهم، فضتهم، نتراتهم... هي التي حکمت - كما حكمت علينا- بالتخلف...
أخيرًا: تنمية التخلف
٣- وأخيرًا جاءت المرحلة الثالثة، مرحلة تنمية التخلف، هذه المرحلة هي الواقع الذي نعيش اليوم. وهل يحتاج هذا الواقع الى النبش؟ إلى البحث في الملفات؟ الحلقة الشيطانية التي حسب الكثيرون أنها كفت عن الدوران في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومع بزوغ الاستقلالات، تدور اليوم بأقسى عنفها. تطحن العلاقات الانسانية بقيادة التنين الأمريكي - ومن خلال الكارتلات العالمية المتعددة الجنسية. القوى التكنولوجية والنووية التي تفجرت بين أيدي الغرب تستخدم اليوم بكامل طاقاتها لا لتطويق العالم الثالث ونهبه فقط ولكن لتنمية التخلف فيه. بلى، لتنمية التخلف. وللتحكم في الشعوب عن طريق تكويناتها الضعيفة وعن طريق الرغيف...
الرغيف هو الرغيف هو الصاروخ المدمر في الغد.
لا أريد أن أذكر هنا بحوار الطرشان بين الشمال والجنوب، وحكاية الدول المتقدمة والنامية وزيادة فقر الفقراء وغنى الاغنياء.. الحكاية معروفة لكن بعض الملامح والأرقام قد تفجر مأساتها:
كل قوى الدنيا أثيرت ضد العرب حين ارتفعت أسعار البترول سنة ١٩٧٤، استكثر الغرب أن يزداد الدخل القومي لبعض دول العالم الثالث. ومع ذلك فإن الدخل البترولي العربي كله لا يساوي الإنتاج القومي لإيطاليا وحدها. وثلاثة أرباع عائداته إنما تعود مرة أخرى إلى المؤسسات الغربية، إما لتسديد الاستهلاك وإما ودائع أبدية.. الله أعلم بمصيرها.
ودعونا من البترول ومن كارتلاتة المفضوحة ولنأخذ في بعض الملامح الأخرى:
- شركة Exxon هي أقوى من أي بلد في العالم الثالث: (عدا الهند والمكسيك والبرازيل) إن ميزانيتها كانت سنة ١٩٧٤ تبلغ ٤٤ مليار دولار وهي اليوم ضعف هذا الرقم.
- شركة جنرال موتورز ميزانيتها كانت ۳۲ مليار دولار قبل سبع سنوات وهي اليوم ٥٨ مليارا.
- شركة نستلة، أرقام ميزانيتها تزيد على الإنتاج القومي لمعظم دول أفريقيا، إنها في السنة الماضية قرابة ١١ مليار دولار.
مقابل ذلك يعود إلى منتجي الموز 6٪ من أثمان بيعه وإلى منتجي الشاي 10% وإلى منتجي الكاكاو 13% والى منتجي القهوة 4% وإلى منتجي البترول 11%.
حتى المنظمات الدولية تتحالف مع القوى الغربية ضد إنسان العالم الثالث:
- صندوق النقد الدولي يضم ۱۲۳ عضوا، ويسيطر ۲۳ بلدا صناعيا على 66% من أصواته.
- البنك الدولي يضم 141 عضوا ويتحكم 22 بلدًا - صناعيًا بـ 66.2% من أصواته. ومع أن ثلثي سكان العالم الثالث ريفيون فإن هذا البنك لم يدفع في السبعينات سوى 15% من قروضه للزراعة!
ويتحدثون عن معونات الدول المتقدمة للدول المتخلفة... إن ۷۳٪ من المعونات التي قدمت للعالم الثالث في السبعينات كانت تعود إلى أصحابها في سنة دفعها نفسها..
النهب المزمن القديم لا يستمر فقط ولكنه يزداد، وتضاف إليه الآن عمليات أخرى من التدمير لهذا العالم المنكوب:
- امتصاص خيراته البشرية الناشئة لئلا تتكون منها قاعدة تنموية قوية.
- الربط بعجلة الاستهلاك ليكون أكثر تأثرًا بتهديد الجوع.
- إثارة جميع عوامل التمزق الاجتماعي والديني واللغوي والسياسي والاقتصادي في المجتمعات النامية لتكون أضعف من أن تَستغل خيراتها أو ترفض الخنوع.
إنها التنمية للبلاد النامية ولكن على الطريقة الغربية، تنمية التخلف.
هذا ما قال له صاحبه وهو يحاوره..
هل كان هذا الحديث حقا بينه وبين صاحبه؟ أم كان من الحديث الأليم مع الذات حول البشاعة البشرية؟ أم نظرة تحد إلى الشمس من خلال النظارة السوداء؟ أم مجرد دعوة لإقامة التاريخ على قدميه والنظر إلى الحقيقة من الجانبين؟
لست أدري!
رابط تحميل المقال
_________________
* مقال منشور بمجلة العربي، العدد 277، 1 ديسمبر 1981، ص17-21، https://bit.ly/3znqkit.
** د. شاكر مصطفى (1921 - 31 مارس 1997م) باحث ومؤرّخ ومحقق ومترجم سوري، لقبه النقاد والباحثون بأديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء، درس التاريخ في مصر، ثم شغل عدة مناصب تعليمية وسياسية، منها وزير الإعلام في سوريا. قضى سنوات في السلك الدبلوماسي قبل أن يتفرغ للتدريس في جامعة الكويت. له إسهامات كبيرة في دراسة التاريخ العربي والإسلامي، وكان يجمع بين الأدب والتاريخ في كتاباته. من أبرز أعماله كتاب "التاريخ العربي والمؤرخون".