في حديث عابر مع أحد الأصدقاء من الشباب المؤمن الواعي، وهو شاب طلعة يحب أن يزداد علمًا كل يوم، وأن يتفهم وأن يسأل عما لا يعلم، وأن يعلم عن دليل، وأن يناقش ليفهم، ونحن زمرة من الأصدقاء في بيته منذ ثلاث ليال نودعه ليلة سفره إلى الحج، ولم يترك السؤال والبحث والنقاش في شؤون من الشريعة وأحكامها .. استطرد إلى الحديث عن صاحب له زميل في الوظيفة من رواد الحقيقة المتطلعين إلى المعرفة، مولع بالجدل صعب الانقياد، فيه شيء من العناد، ولكنه ليس من الذين يحبون الجدل للجدل، بل يريد أن يعرف الحقيقة وأن يقع عليها.
في غمرة تلك الأحاديث ونحن مع صديقنا في وداع الحجة إلى موطن حجة الوداع، عندما وصل به الحديث إلى صاحبه هذا الزميل في الوظيفة، ووصفه بما ذكرنا قال لنا: إنه على جدله الذي يجاوز به أحيانًا حدود الاعتدال قد سمعت منه بالأمس جملة عبر بها عن ملاحظة من ملاحظاته ملكت علي إعجابي كله، وحضرت في ذهني فنزلت منه في مستقر ومستودع وأصبحت عندي إحدى ذخائر الفكر التي أختزنها.
قلنا فما هي تلك الجملة الحكيمة التي نزلت من إعجابك هذه المنزلة الرفيعة؟ أشركنا معك فيها يا رعاك الله، وهذا ثمنها نقدمه إليك سلفًا، دعوات صالحات نرفعها إلى رب البيت المعمور الذي أنت إليه قاصد، أن يكتبك في المقبولين الأبرار، ويجعل حجك مثمرًا لديه، وفي نفسك ثمرته التي شرع لأجلها، ويجعل متعتك الروحية فيه أعظم مما تؤمل.
تهللت أسارير صديقنا لهذه الدعوات، وانبرى يتابع حديثه ويروي لنا تلك الجملة التي سمعها من صاحبه الجدل.
فقال:
قال لي صاحبي هذا الذي حدثتكم عنه: إن من أعجب ما هو جدير بالملاحظة والاعتبار من غرائب الواقع في حياة الإنسان أن كل جزء في جسمه من الأجزاء التي لا تفهم ولا تعقل، يعمل بانتظام وإتقان دون خطأ، فالمعدة مثلاً لا تخطئ في عملها وإفرازها وسائر نواحي وظائفها، ومثل ذلك الأمعاء، والكبد، والغدد المختلفة، والكلى والعروق، والأعصاب بمختلف شعبها ومناطق نفوذها، إلى غير ذلك من آلاف أو ملايين الأجهزة وأجزائها وجزيئاتها في أداء وظائفها الحيوية التي تقوم بها حياة الانسان، والتي تحير عقول علماء الطب والتشريح وعلم الغريزة (الفيزيولوجيا)، وإن كان كثير من هذه الأجهزة والأجزاء قد يعجز، وقد يصاب بآفة مرضية فيختل عمله أو يقصر فيه، فهذا ليس بخطأ في عمله، فالمهم أنه لا يخطئ أبدًا، وإن كان قد يعجز أو يمرض أو يصاب بآفة.
أما العقل وهو الجانب المدرك، أو مجموع القوى المدركة في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان، ويمثل الفكر والذكاء وقدرة الابتكار التي لا حدود لها، والتدبير والتخطيط للمقاصد المستقبلة، والحيلة البارعة للتغلب على جميع العقبات والصعوبات التي تواجهها حياة الإنسان، إلى غير ذلك من المواهب التي تضافرت على تزويد الإنسان بالعلم في كل مجال وميدان بكل ما في كلمة العلم من معنى وما تشمله من آفاق وأعماق، هذا العقل الذي هو الجانب المدرك الواعي، أو هو أداة الفهم والتعقل والبصيرة لا يعمل دون خطأ، وخطؤه أكثر من صوابه!! أليس ذلك مثار عجب، ومدار اعتبار؟
قال صديقي الذي كنا في زيارته: فأنا لا أزال أتدبر هذه الجملة من صاحبي هذا، فقد نزلت في قرارة نفسي، وأصبحت لدي في جملة الملاحظات الهامة التي اكتسبتها في حياتي.
قلت له: حقًا إنها ملاحظة قيمة، وقد وجدت بها أنا أيضًا ضالتي المنشودة، كما وجد الحكيم اليوناني أرخميدس ضالته عندما لاحظ، وهو في حوض الحمام أن وزن الأجسام وهي في الماء ينقص عن وزنها وهي خارجه، فصاح وجدتها وجدتها (Eureka Eureka) واستنبط القانون الطبيعي في نسبة نقصان الوزن في هذه الحال، ذلك القانون الذي استخدم بعد ذلك في مجالات علمية وصناعية ذات شأن كبير.
ذلك أنني تعهدت لمجلة الوعي الإسلامي بكتابة كلمة للعدد الممتاز منها، وقد قرب موعد تسليم الكلمة، وأنا لا أزال محتارًا في اختيار موضوع مناسب جديد. فقد وجدته الآن، ملاحظة صاحبك جزاه الله تعالى خيرًا.
قال صديقي: فما هو الموضوع الصالح الذي وجدته في ملاحظة صاحبي هذه؟ قلت إنه حجة الشريعة على العقل، هذا الموضوع الخطير في ميزان الإيمان، حيث يقوم به الدليل على أن العقل مهما سما شأنه، وعظمت قدرته على المعرفة والاكتشاف والفهم، فإن صاحبه الإنسان هو في حاجة دائمة مع عقله هذا إلى النور السماوي الذي يهدي إلى الصواب وينير له سبيل الرشاد، ويجنبه كثيرًا من الوقوع في المآزق، والتردي في الهاويات. أفتدري أيها الأخ لماذا كان كل جزء غير ذي فهم في الإنسان يعمل بانتظام دون خطأ، وكان العقل الذي هو الفهم والإدراك يخطئ أكثر مما يصيب؟ قال: لماذا كان ذلك؟ قلت: إليك التعليل والبيان.
إن كل جهاز من أجهزة جسم الإنسان أو جسم أي حيوان، وكل جزء أو غدة أو خلية حية من خلاياه إنما يعمل بحكم الغريزة، وإنما يعمل عملاً نمطيًا رتيبًا في وقت ثابت أو عند منبه معين، وإنما يعمل عمله هذا في طريق معبدة ووسيلة وظرف مهيأين، ففي هذه الشرائط يقوم الجزء الحي بعمله النمطي بحكم الغريزة فيصبح عمله ووظيفته أشبه بانحدار الماء الذي صب في طريق محصورة منحدرة، فالماء في هذه الحال لا يخطئ في الانحدار، ولا في سلوك المجرى الذي يراد انحداره فيه حتى يصل إلى مقره بحكم الجاذبية الأرضية فيحجز فيه ويستقر.
فالمعدة إذا نزلها الطعام قامت بعملها فيه بانتظام من الحركة والإفراز، وكذلك إذا رأت عين الجائع طعامًا شهيًا أو شم رائحته، أو ذكر اسمه له كان ذلك منبهًا عصبيًا يشبه نزول الطعام إلى المعدة، فتبدأ أيضًا بالإفراز اللازم، وهذا منها عمل نمطي رتيب في ظروف وشرائط متماثلة، فكلما توافرت وتكررت هذه الشرائط والظروف نبهت المعدة فعاودت عملها نفسه، وكررت قيامها بوظيفتها ذاتها بصورة لا تختلف عما عملته في مرة سابقة وعما ستعمله في مرة لاحقة، وهذا ما نعنيه بنمطية العمل.
ومثل ذلك يقال في الكلية أو الكبد أو العين ... الخ بل في الكريات الحمراء أو البيضاء، وكل خلية من خلايا الجسم الحي، مما هو معروف في علم الغريزة (الفيزيولوجيا).
وإذا رأيت فارقًا في التمثيل لهذا النوع من العمل الوظيفي الغريزي النمطي بين عمل أجزاء الجسم الحي وانحدار الماء في المجرى المحصور المنحدر من حيث إن الماء مادة غير حية، فينحدر كما يسقط الحجر بحكم قانون الجاذبية في اتجاه معين نحو مركز الأرض إذا قطع الخيط الذي يحمله في حين أن الجزء العامل في الجسم الحي هو جزء حي يعمل عن إحساس وتنبه هو مظنة للخطأ، ولكنه لا يخطئ فإني عندئذ أنقلك إلى مثال آخر أقرب إلى مطلوبك وأوضح، مثال العامل الواقف أمام آلة واحدة في معمل كبير عظيم فيه آلات كثيرة لكل واحدة منها وظيفة، وأمامها عامل يقدم لها المادة أو القطعة التي تعمل فيها، فلا أشبه لك الجزء الحي العامل في الجسم بالآلة التي تعمل في هذا المعمل، بل أشبهه لك بالعامل الواقف أمامها، ووظيفته كلما وصلت إليه القطعة محمولة على حاملة آلية أن يتناولها ويقدمها إلى الآلة التي أمامه لتعمل فيها عملها وتدفعها إلى حاملة آلية أخرى بجانبها فتحملها إلى عامل آخر، وهكذا، ولا بد أن تكون قد رأيت طريقة صناعة الأجزاء في المعامل، فهذا الشخص العامل، الواقف أمام الآلة ليتلقى القطعة القادمة إليه، ويقدمها إلى الآلة التي أمامه هو إنسان حي كامل مفكر فاهم واع، ولكنه في عمله هذا النمطي الرتيب بتقديم القطعة إلى الآلة كلما وصلت إليه قد أصبح أشبه بالآلة يقوم بهذا العمل الواحد بصورة تلقائية عفوية تعتمد على الإحساس الغريزي دون إعمال الفكر وتجميع المعلومات واستنباط النتائج منها، وهو في عمله هذا لا يخطئ أو قلما يخطئ كما لا يخطئ العضو أو الجزء من الأجهزة العاملة في جسم الإنسان الحي.
وكلما خرجت المهمة في العمل عن النطاق الضيق المحصور والنمطية الرتيبة، فاتسع النطاق، وتنوعت الوظيفة، وأصبحت عرضة لمواجهات جديدة ومفاجآت، فإنها عندئذ تحتاج إلى تفكير وتدبير ومعالجات مختلفة باختلاف نوعية الطوارئ وما يصحبها من ملابسات معقدة، فتجعل المهمة معقدة وتستوجب من الفكر عملاً يعتمد على التشخيص والتمحيص والتحليل والتركيب، فإن الخطأ عندئذ يتسع مجاله فيقوى احتماله، ويكثر وقوعه.
ولنأخذ مثالاً على ذلك عمل الطبيب الذي عليه تشخيص الداء ووصف الدواء النوعي له، فإنه كثيرًا ما يواجه في المرضى بمرض واحد، لدى كل مريض حالة جديدة تحتاج إلى ترتيب مختلف، فإنه إن لم يختلف عليه المرض فقد اختلف المريض، وما يحمله مع المرض الرئيسي من ملابسات ومضاعفات وحساسية المريض واختلاف درجة المرض وحدته أو أزمانه، مما يستدعي ترتيبًا وتدبيرًا خاصًا بهذا المريض دون آخر، فإن العلاج النوعي الواحد قد يفيد مريضًا ولكنه يؤذي مريضًا آخر بالمرض نفسه، ومن ثم يكثر خطأ الطبيب، لأنه يجب أن يكشف حالة غامضة مبهمة، وأن يعرف الطريق الصحيح الموصل في وسط متاهة مظلمة. وهذا بخلاف الصيدلي، فإنه قلما يخطئ في تقديم العلاج أو تركيبه وفقًا لوصفة الطبيب.
بعد هذا أيها الأخ أصل بك إلى الناحية المقصودة، كثرة خطأ العقل، وسببها وعلاجها.
نعم إن العقل كما لاحظ صاحبك وقال، هو ذلك الجزء المدرك في تكوين الإنسان، هو الجانب المختص بالفهم والفكر ومعرفة الحقائق والوعي في السلوك، هو ذلك المصباح الكهربائي العظيم القوة البعيد المدى في الإنارة، ينير للإنسان ما حوله فيستطيع بذلك أن يبصر وأن يتبصر، ولكن مهمة العقل ليست نمطية رتيبة كعمل جزء من جهاز في جسم الإنسان أو خلية من خلاياه، إن مهمة العقل متنوعة معقدة، بل هي أكثر ما في الحياة تنوعًا وأشدها تعقدًا. إنها أصعب بملايين المرات من مهمة الطبيب الصعبة في تشخيص الأمراض الباطنة ومعالجتها في كل مريض.
إن العقل لكي لا يخطئ يجب أن يستطيع معرفة كل ما يحيط به من الأشياء المادية والاعتبارات المعنوية في كل ما هو حاضر أو غائب، قريب منه أو بعيد عنه وأن يعرف الملابسات التي تتصل بكل شيء من ذلك، ويبقى بعد كل هذه المعرفة لو استطاعها عرضة للخطأ بما يطرأ من تحولات ومفاجآت على الأوضاع والحالات في الظروف والأشياء التي تغير منها ما كان يعهده ويبني عليه، وأنى لعقل الإنسان كل هذه المعارف وهو إنما يعيش في متاهات، في وسط مجاهل من هذا الكون العظيم الرهيب وموجوداته ونواميسه، ومهما ملك الإنسان وعقله الجبار من معارف وبصائر، فإنه لن يبلغ علمه وبصيرته أكثر مما يصل إليه نظر واقف على ساحل البحر المحيط الهادي مثلاً بالنسبة إلى ما وراء الحدود التي يقف عندها امتداد بصره، وما في أعماق ذلك المحيط، وغيره من البحار الكبرى، وما في أجواز الفضاء وأغوار الكون كله، مما يقف عقل الإنسان تجاهه وتجاه ما يسمع عن بعضه في موقف حقارة وصغار، كحقارة الترابة الواحدة بالنسبة إلى الكرة الأرضية كلها، ولاسيما إذا تصورنا مدى ما يعنيه قول العلماء اليوم أن بين الكرة الأرضية وبعض النجوم التي تراها أعيننا مسافة مائة سنة ضوئية أو أكثر (وأنت تعلم معنى السنة الضوئية في تقدير مسافات الفضاء الكوني)[**].
فما مبلغ علم الإنسان وقدرة عقله بالنسبة إلى ما في الحياة البشرية ونواميس الكون من حقائق وخفايا وملابسات وتعقيدات، بالنسبة إلى الفرد وإلى الجماعة وإلى الحاضر والمستقبل إذا أراد أن يعرف كيف يبني حياته وسلوكه في طريق قويمة حكيمة رشيدة بين أمواج هذا الخضم العظيم الهائل؟
صدق الله العظيم بقوله في قرآنه الكريم ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥).
فعقل الإنسان في هذه المتاهة الهائلة والمجاهل المذهلة أشبه ما يكون بالطفل الصغير الذي كان يحبو فقويت رجلاه بعض الشيء فنهض يمشي وفرح بما وصل إليه من قدرة، وهو لا يعرف شيئًا عما يعرض له من مزالق ونواتئ يتعثر بها، ولا يعرف ضعف ساقيه وعدم مرونته، فهو تارة تخونه قدرته فيهوي على شيء يؤذيه، وتارة يصطدم فيشج ويقع، وتارة يتعثر بذيله، إنه يقع ويقوم ويصل إلى الجدار مرة ويسقط دونه أخرى، وهكذا. ولكن الفرق بين عقل الإنسان وبين الطفل الذي بدأ يتعلم المشي هو أن الطفل سوف يتغلب على صعوبة المشي، بما يزداد من قوة ومن خبرة ومن مرونة، فيستطيع بعد مدة أن يمشي فلا يقع وأن يركض ويقفز. أما عقل الإنسان فيبقى ما بقيت الحياة طفلاً يترعرع في بداية تعلم المشي، يقع ويقوم ويتعثر وينزلق في مجالات سلوكه في مسالك الحياة، مهما بلغ من علم ومعرفة، ومهما انكشف له من آفاق، لأن مدى علمه لا يعد شيئًا يذكر بالنسبة إلى مدى جهله بما وراءه وأمامه من أمور مغلقة ومخاطر محجبة.
ذلك أن وظيفة العقل البشري هي أعظم شيء تنوعًا وتعقدًا، فهي ليست مهمة بسيطة نمطية في مجال محدود ممهد معبد يستطيع أداءها غريزيًا بصورة آلية، إن وظيفته كوظيفة الطبيب المكلف بتشخيص داء باطن مستخف في الجسم بين مئات العلل التي لها أعراض مشابهة وعليه وصف الدواء الصحيح، وهذا تشبيه تصغير وتقريب، فمهمة العقل البشري في الواقع أعظم تعقيدًا من مهمة هذا الطبيب بما لا يمكن معه قياس.
إن مهمته هي اختيار السلوك الصحيح المستقيم الموصل إلى أحسن النتائج في حياة الأفراد والجماعات، والمتنكب للمزالق المتوقي من العثرات والهاويات المغطاة بالأعشاب الغشاشة كمزارع الألغام في أرض العدو، بل إن التشبيه الأدق الأقرب لمهمة العقل البشري، وموقفه بين مصاعبها التي لا تغلب، هو أنه كشخص ملقى في مفازات ومتاهات غير متناهية الأبعاد، وهي مليئة بالحيوانات المفترسة، والحشرات القتالة، والمزالق المردية، وتغمره فيها ظلمة حالكة دائمة لا تنجلي، ومعه مصباح يضيء له ما حوله إلى مسافة أمتار محدودة، وعليه أن يسلك طريقًا آمنة إلى رزقه وقوام حياته، يصل فيها إلى مطلوبه ويتوقى المخاطر المهلكة.
ذلك لأن مدى العلم الذي يمكن أن يبلغه الإنسان بعقله بالنسبة إلى ما في الكون الشاسع الزاخر بالعجائب والمتاهات والمجاهل هو أقل كثيرًا كثيرًا من مدی نور هذا المصباح في هذه المفازات المظلمة، هذا إذا اقتصرنا في التصوير والتشبيه على مدى كل من أفق العلم وآفاق الجهل بما في الكون من حقائق وواقع، وأسقطنا من الحساب ما يحول بين العقل والتقدير الصحيح وحسن الاختيار من شهوات الإنسان وعوامله النفسية والمغريات التي تجذبه وتطغى على علمه وعقله، والمطامع المتسلطة على العقول والنفوس البشرية، وحب الأثرة والحظوظ، مما يدعو الإنسان إلى إيثار اللذائذ على الواجبات المتعبة، وما ينشأ عن كل ذلك من تغشية على الأبصار والبصائر، ودفع للأفراد والجماعات إلى أرض الألغام المكسوة بالأعشاب الغشاشة بدلاً من طريق الأمان.
ففي هذا الواقع من طريق الإنسان ووعورتها وظلمتها ومن مهمة عقله ذلك المصباح المنير المحدود المدى، كان لا بد لهذا الإنسان من قائد ودليل بصير خبير إلى جانب المصباح الذي بيده، وإلا كان أمام مفاجآت حتمية من المخاطر وضلال الطريق، إن هذا القائد هو الشريعة الإلهية (والشريعة في أصل اللغة هي الطريق)، وإن الدليل هو أحكامها وتوجيهاتها وأوامرها ونواهيها. إنها ترسم له طريق الهدى البعيد المدى الذي يجهله ولا يعلم منه إلا القليل، بمقدار ما يمتد إليه نور مصباحه القاصر من أمتار، يرسم له هذه الطريق الأقوم الأسلم خالق الكون العالم بخوافيه وبكل ما فيه من مسالك ومهالك، والخبير بما ركبه هو في الإنسان من طبائع وغرائز ودوافع خير ونوازع شر، وما حف طريقه من مخاوف ومخاطر.
فخالق الكون أعلم بما فيه، جعل للإنسان شريعته تعبيدًا لطريق العقل. نعم إن الإنسان لا يستغني عن هذا المصباح مع الشريعة، ولكنه لا ينبغي له أن يغتر بمسافة النور القصيرة التي يبلغها ضوء هذا المصباح، فيظن في نفسه القدرة على الاستقلال عن الشريعة والانفصال عن الطريق الذي خططه له خالقه ومهده كي يجنبه المفاجآت الخطرة والمهالك.
بل عليه أن يتلمس بمصباحه المتواضع معالم هذه الطريق في حدود الشريعة الإلهية، لأن خالقه أدرى بما يصلحه وبما يفسده، لأنه أدرى بما يحيط به من مجاهل لا يستطيع هو معرفة ما فيها من آفات، فما حسنته له الشريعة بنصوصها الثابتة فهو حسن، ولو لم يستطع عقله إدراك حسنه، وما قبحته له فهو قبيح خطر وخيم العواقب على الفرد أو على الجماعة عاجلاً أو آجلاً.
هذه حجة الشريعة على العقل، تقوم على أساس هذا الواقع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فليس للإنسان المؤمن أن يناقش الشريعة بعقله القاصر مناقشة الند للند، فيقول: ما قبله عقلي قبلته، وما لم يقبله رفضته!! فما هو عقله؟ وما مدى الثقة به؟!
إنما عليه أن يتفحص بعقله أوامر الشريعة ونصوصها، ويناقشها مناقشة المتفهم المطيع المستسلم الذي يريد أن يعرف ماذا يريد الشارع ليعرف كيف يطيع، هذا هو شأن العالم البصير وما سواه فشأن الجاهل المغرور.
نعم إن هذه الحجة تقنع المؤمن. أما الملحد المادي الذي لا يؤمن بالخالق ورسالاته الهادية بل يجحد الحقائق ويكابر في المحسوس مغرورًا بعقله القاصر، فذلك لا ينفع معه الاحتجاج، بل يجب التأسيس معه أولاً، والبدء بمناقشته من مبدأ آخر.
[*] مقال مستل من كتاب "علماء وأعلام كتبوا في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية"، ج1، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، الإصدار الرابع عشر، 1432هــــ/ 2011م، ط1، ص515-523. والمقال نُشر لأول مرة في العدد (25)، محرم (1387هـ) / أبريل (1967م).
[**] سرعة الشعاع الضوئي يقدرها علماء الفيزياء بأكثر من ثلثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، ومسافة السنة الضوئية هي المسافة التي يحتاج الشعاع الضوئي إلى أن يستمر سائرًا بهذه السرعة مدة سنة كاملة حتى يقطعها!