على عكس ما هو شائع، تأرجحت الفتيا والتشريع وسلطان القضاء والأحكام في الحضارة العربية الإسلامية بين الانفصال والاستقلال عن بقية السلط [السلطات]، وبين الخضوع والتبعية لأولي الأمر والمتنفذين، خلفاء ومتآمرين(1) وسواء بالمشرق أم بالمغرب وقع الانتباه منذ عهد مبكر، ليس فقط إلى أهمية توحيد الشرائع والأحكام في تثبيت المركزية السياسية وهيكلة خطط الحكم(2)، بل وكذا إلى ضرورة تحديد اختصاصات السلط والتدقيق في المرجعيات وضبط ميكانيزمات العمل التشريعي سواء على مستوى استنباط القوانين أم بخصوص تأطير مختلف مراحل التنفيذ. وبالأندلس، يقدم عصر الخلافة الحقل الأمثل لمعاينة الاتجاه نحو استقلال القضاء والفصل بين السلط في شكل مثير للانتباه يدعو إلى مراجعة ما تكرس لحد الآن بهذا الخصوص.
ويبدو أن التأصيل التاريخي للثروة النوازلية الهائلة التي تحتضنها المكتبة المغربية الأندلسية كفيل بالكشف عن دور التطورات العميقة التي مست خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة مختلف أوجه الحياة، في الدفع بالخطط التشريعية إلى مستويات أرقى، وحث الفكر الفقهي على تحقيق أعلى درجات الاجتهاد.
ولعل في ضبط عينة من المسائل الشائكة، وتتبع شبكة الفقهاء المفتين الذين تجردوا لفك رموزها، ما يفصح عن قدراتهم الفذة على استيعاب الأثر في تاريخيته، وكذا عن تجردهم في أكثر من مناسبة لاستصدار أحكام مستجدة، وإن اقتضى الأمر مخالفة قواعد المذهب المالكي المعتمدة(3).
والجدير بالملاحظة أن المفتين والفقهاء المشاورين قد بلغوا في إطار خطتي الشورى(4) والفتيا(5) الغاية في استنباط الشرائع واستصدار الأحكام المواكبة، ليـــــس فقط للتطورات الهائلة التي اكتسحت مختلف المجالات في الاقتصاد والعمران(6)، بل وكذلك لأدق تفاصيل الحياة اليومية(7)، وبالمثل فسرعان ما غدا القضاء من "أعظم الخطط عند الخاصة والعامة"(8)، واشتهرت لدى الجميع بكونها "فظيعة المقام هائلة الموقف مخوفة المطلع"(9). تجلى ذلك بوضوح من خلال تصاعد نفوذ قــــاضي الجماعة الذي سرعان ما أصبح "أعظم الولاة خطرًا بعد الإمام"(10)، إلى درجة أن "السلطان لو توجب عليه حكم حضر بين يدي القاضي"(11)، وليس أدل على صحة هذا المنحى من شيوع القول بأن خلفاء بني أمية كانوا "يكبرون من يولونه القضاء ويختارون للخطة أهليها ويوفونهم حقوقهم فيها، فكانت للقضاء فيها المنزلة العالية والرتبة السامية، مع كون الخلفـاء منقادين لأحكامهم، واقفين لدى نقضهم وإبرامهم"(12)، وبقدر ما يفصح أبو الوليد الباجي عن هذه الحقيقة، بقدر ما يكشف عن جذور التراجع والانكسار الذي أصاب السلطة القضائية ابتداء مــن عصـر الطوائف، إذ قال في عبارة دالة بأن "على الملك أن يشرف منزلة القاضي ويقـــــوي سلطانه وينفذ حكمه في نفسه وولده وأهله وفي جميع أهل مملكته كما فعلت الخلفاء والأئمة والسلف الصالح لأن سلطانه من سلطانهم"(13).
ولتمكين السلطة القضائية من تأطير جميع الميادين والحضور بفعالية في مختلف أوجه الحياة، أقدم الخليفة عبد الرحمن الناصر على فصل ولاية السوق(14) عن أحكام الشرطة(15). كما استقلت المظالم في يد محمد بن طلمس "فكان أول من ارتزق بهذه الخطة"(16)، وحددت لصاحب المدينة مجالات نفوذه(17)، وتهيكلت خطة الرد(18) المتحكمة "فيما استرابه الحكام وردوه عن أنفسهم"(19). هكذا أصبح "الحكــام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خطط.. وتلخيصها القضاء والشرطة والمظالم والرد والمدينة والسوق"(20)، ومن الملاحظ أن مجموع هذه الخطط ما فتئت تتعرض بعدئذ لمزيد من الهيكلة والتفريع، في ظل المجهود التنظيمي الجبار الذي أفلحت الخلافة الأموية في جعله يشارف مستويات غير معهودة(21)، ليس فقط في الماضي العربي الإسلامي، بل وكذلك - على ما يبدو - في التجارب الحضارية للأمم السالفة. فبصرف النظر عن انتظام القضاء في خطط متعددة بالحاضرة قرطبة وفي الكور(22) والأقاليم، والتمايز بين المستويات إذ كان "أجلها قضاء الجماعة"(23)، فمن المعلوم أن الخلافة الأموية سرعان ما أقدمت على تقسيم خطة الشرطة إلى عليا ووسطى وصغرى(24)، وبالمثل فمن خطة المظالم تفرعت أخرى مختصة "للنظر في مطالب الناس وحوائجهم وتنجيز التوقيعات لهم"(25). ناهيك عما يند عن الحصر من المهام الجزئية الملحقة بخدمة كل خطة على حدة حتى تتمكن من القيام بدورها على أكمل وجه.
وتفاديًا لما قد يحدث من تداخل في الاختصاصات، لم يذخر الفقهاء المفتون وسعًا في ضبط الحدود الفاصلة بين الخطط عند أدق مكامن التماس فيما بينها. ولا تعوز القرائن الدالة على ذلك، نذكر منها على سبيل المثال استفتاء ابن سهل أحد فقهاء عصره "عن صاحب السوق وهل يجوز له أن يحكم في عيوب الدور وشبهها وأن يخاطب حكام البلد، فقال ليس له ذلك"(26). ومن المعلوم أن هذه المهام من اختصاص المحاكم التي تستند على خبرة "عرفاء البنيان"(27) و"القسام الذين يعرفون قيمة الدور"(28) والعدول(29) من "الشهود العارفين بأمور البنيان وعيوب الديار وعقود الجدارات"(30)، الملحقين بخدمة القضاء. مع ذلك فثمة مجالات في هذا القطاع يمكن لصاحب السوق أن يتدخل فيها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة"(31). وفي نفس السياق ذكر ابن الحاج(32) أن صاحب الشرطة وصاحب السوق وصاحب الرد "لا يحكمون في ثلاثة أشياء: في الوصايا والأيتام والأحباس".
ومن المعلوم أن إصدار الحكم بالإعدام موقوف على قاضي الجماعـة و"لا يحكم حكام الكور في حد القتل"(33) المشروط بعدد من التفاصيل المسطرية، بـل وأحيانًا باستشارة أعلى سلطة سياسية ممثلة في الخليفة أمير المؤمنين، اعتبــارًا لجلالة الأمر.
وفي الميدان العقاري بلغت الدقة في ضبط وضعية الممتلكات بواسطة العقود الموثقة وأشكال "الحيازة"(34) المشهود عليها لدى "الحكام والعدول"(35)، والمؤطرة ضمن عدد من الخطط المختصة، مثل "خطة الضياع"(36) والمواريث وولاية الأحباس"(37)، أن لم يعد هناك من مجال أمام الغصب والتزوير. وغدت سلطة الأحكام فوق الجميع، بمن فيهم كبار المتنفذين وأفراد الأسرة الأموية الحاكمة، بل وحتى الخلفاء أنفسهم. ونتوفر على فيض من القرائن الدالة على ذلك، نذكر منها إقدام قاضي الجماعة على إنصاف امرأة قرطبية من حثالة العامة، بإصدار الحكم ضد خال ولي العهد الحكم المستنصر - على جبروته وطغيانه – إذ ذكرت "أنه غصبها حقًا لها في ضيعة"(38). وعلى إثر تجرؤ الوزير ابن السليم على اقتطاع جزء من "المحجة وضمه إلى جنته بمنية المغيرة"(39)، تصدت سلطة الأحكام لتجاوزاته وللتشهير به دفاعًا عن الملك العام. ولم تكن الخلافة الأموية لترغم صغار الملاكين - على ضعفهم - على الانقياد لقوانين المصادرة لأجل المصلحة العامة. فعندما تجرد المنصور بن أبي عامر لبناء القنطرة على الوادي الكبير و"كانت هناك قطعة أرض لشيخ من العامة، ولم يكن للقنطرة عدول عنها فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها"(40)، فما كان على الشيخ إلا أن رماهم بالغرض الأقصى عنده. وبالمثل، فلما عزم المنصور على توسيع المسجد بقرطبة تفانى في إرضاء أصحاب المستغلات التي شملها الهدم "بإنصافهم في الثمن أو بمعاوضة"(41). وتزخر المصادر الأندلسية بما يند عن الحصر من الحالات المماثلة(42).
وفي نص بالغ الدلالة لعبد الله بن عبد الواحد الفهري(43) ما يكشف، ليس فقط عن درجة الاستقلال التي بلغها القضاء بأندلس الخلافة، بل وكذلك عن قدرة الإفتاء والتشريع على الوقوف في وجه سلطان السيف والقلم، وإرغام أعلى سلطة سياسية ممثلة في الخليفة عبد الرحمن على الانصياع لمقتضيات الأحكام، إذ ذكر "أن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر، فتشكى إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلته منزهه وتأذيه برؤيتهم أو أن تطلعه من علاليه، فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمـة الحبس فقال له: تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة، فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلاً فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر وتوبيخهم، فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده". إن في محتويات هذا النص ما يدعو إلى مراجعة ما تكرس لحد الآن بخصوص مسألة الفصل بين السلطات، وطبيعة النظام السياسي في الإسلام، وموقع الحضارة العربية الإسلامية على هذا المستوى في سياق التاريخ الإنساني، ولعل فيما تناقله المؤرخون(44) من أخبار قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي مع الخليفة عبد الرحمن الناصر "في إنكاره عليه الإسراف في البناء"، والتشهير به في خطب الجمعة والإفراط في تقريعه على مسامع العامة، دون أن يتجرأ على عزله أو النيل من إقدامه(45)، ما يؤكد ذات الحقيقة.
من الطبيعي في ظل هذا الوضع أن يزداد الحرص في أوساط الوزراء والولاة ولدى غيرهم من المتنفذين وأرباب الخطط على الانضباط للأحكام والإمساك عن التجرؤ والاستطالة، ولا غرو فلقد اضطر الحكم المستنصر إلى إنفاذ أحد الوزراء باستعجال إلى واليه على إشبيلية "لمحنة ما تشكاه أهلها من حيفه عليهم ليقفه مع المتظلمين"(46) أمام نظر القاضي. وبالمثل، لم يتردد عن إرسال مبعوثه إلى "كورة جيان لامتحان ما رفع به أهلها على العارض عبد الرحمن بن جهور عاملهم(47)، إنصافًا لهم وإعلاء لسلطة الأحكام. ينسحب نفس الشيء على أخص خواص الدولة، ففي عهد الحجابة العامرية وقف على المنصور "رجل من العامة يومًا بمجلسه فناداه: يا ناصر الحق، إن لي مظلمة على ذلك الوصيف الذي على رأسك ... وقد دعوته إلى المحاكم فلم يأت"(48)، فما كان عليه إلا أن نهر الوصيف، على مكانته ضمن الحاشية السلطانية، مضطرًا إياه إلى المثول أمام العدالة بالقول: إنزل صاغرًا وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك". ويقدم المقري(49) تفاصيل قصة مماثلة بطلها فصاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه، ناله حكم قاضي الجماعة بالسجن وقد "قدر أن سبيله في الخدمة يحميه من العقوبة ... وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله، فقطع عليه المنصور وقال: يا محمد إنه القاضي وهو في عدله، ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع منه، عد إلى محبسك أو اعترف بالحق فهو الذي يطلقك، فانكسر الحاجم".
ولا تعوز الدلائل الكاشفة عن دأب القضاة على التصريح بالممتلكات عند توليهم الأحكام، تسهيلاً لمهام المحاسبة المالية ودرءًا لمخاطر الاتهام باستغلال النفوذ. مصداق ذلك ما خاطب به محمد بن يبقى بن زرب جموع الحاضرين المقبلين على تهنئته بتولي قضاء الجماعة وقد "كشف عن مال عظيم صامت في صندوق له، وقال: يا أصحابنا قد عرفتم ما نحن به من تولي القضاء قديمًا من سوء الظنة وأخشى أن أطلق الناس على عرضي، وهذا حاصلي وفيه من العين كذا وفي مخازني ما بقي بقيمته وحظي من التجارة ما علمتم، فإن فشي من مالي ما يناسب هذا فلا لوم، وإن تباعد عن ذلك فقد وجب مقتي"(50).
وتحتفظ نوازل ابن سهل(51) بالنص الكامل لإحدى أبرز المحاكمات السياسية في عصر الخلافة، ويتعلق الأمر بصك اتهام أبي الخير، رأس المعارضة الشيعية بالأندلس في زمن الحكم المستنصر، بما يكشف عن الحرص الشديد على الالتزام بالقوانين والمساطر المعتمدة، مع توفير كامل شروط المحاكمة العادلة، وإن كــان وفق منظور أهل السنة. ولا تعوز القرائن عن دأب القضاة على التريث فيما استرابوه من القضايا "حتى تظهر ... الحقيقة أو يصل المتخاصمان إلى التصالح والتراضي"(52)، ناهيك عما تواتر عن جنوحهم إلى الرفق واللين، وتحاشيهم إقامة الحدود والاحتساب فيما يتعلق بعدد من المخالفات الشرعية ذات الطبيعة الشخصية مما لا يمس الغير. وإمعانا في طلب العدالة، لم تدخر المحاكم وسعًا في ضمان حقوق الدفاع للجميع، وتقديم النصح للمتخاصمين، وتنصيب من يتكلم ويترافع عن الضعفاء وذوي الفاقة ممن يعجز عن التوكيل(53).
ما كان للقضاء والتشريع أن يصل إلى ما وصل إليه من السطوة والنفوذ، وأن يتبلور كسلطة مستقلة وممسكة بلجام أهل السيف والقلم، لولا قوة الرأي العام الضاغطة(54)، وتعاظم دور الفئات الدنيا من العوام والسوقة. وهو ما عبر عنه أحـد المؤرخين(55) في نص بالغ الدلالة والوضوح إذ قال متحدثًا عن الأحكام: إن "إنكار التهاون بتعطيلها وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم وهذا كثير في أخبارهم، وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكل يوم". من ثم الحرص الشديد لدى الخلفاء وأولي الأمر على إسناد القضاء لمن اشتهرت عدالته وعظمت مكانته لدى العامة وتحاشيهم التدخل في سير الأحكام والتطاول على اختصاصات القضاة، وبالمقابل الإسراع في عزل من تطاولت ألسنتهم عليه ولهجت بذم سيرته أو نالته شبهة في أحكامه(56)، بحيث لا نبالغ إذا اعتبرنا العامة خلال عصر الخلافة بمثابة الدعامة الأساسية لاستقلال القضاء ورسوخ سلطة الشرائع والأحكام. ولعل في هذا ما يفسر إقبال المهان وأهل الحرف على طلب "علم ما يلزمهم من شرائع الإسلام"(57) واستقصاء خبايا الأحكام، والتحلق في مجالس الفقهاء(58)، والحرص على السؤال فيما استجد من النوازل المرتبطة بمجالات عملهم، في ظل شيوع منقطع النظير للعلم والمعرفة في أوساطهم(59).
وبانهيار نظام الخلافة وقيام الطوائف، دب الوهن في مجموع الخطط المرتبطة بالقضاء والفتيا، واختل سلطان الشرائع والأحكام، وانفتح باب الاستطالة والتجبر أمام السيف والقلم، كاشفًا بذلك ليس فقط عن جذور أعمق تحول في النظام القضائي والتشريعي، بل وكذلك عن إحدى أبرز الحلقات الفاصلة في تاريخ النظام السياسي بالغرب الإسلامي. ولعل في استمرار عجلة التردي بعدئذ، ورسوخ منحى التراجع طوال القرون اللاحقة، ما كرس النظرة التجزيئية السائدة للموضوع في تصورات المدارس التاريخية المعاصرة، وساهم في تغييب الوجه المشرق الذي تألق لفترة ليخبو في سياق تطور معكوس للصيرورة التاريخية.
ويؤرخ أبو مروان بن حيان(60) لبداية الانكسار بولاية يحيى بن وافد اللخمي قضاء الجماعة بقرطبة، على رأس المائة الخامسة للهجرة، باعتباره "آخر كملاء القضاة بالأندلس". على غراره، نعت ابن الحصار الذي ولي نفس المنصب بعدئذ في خلافة هشام المعتد، بكونه خاتم "كملة القضاة بالأندلس، على علاته"(61)، لينتهي عصر التألق حسب بعض التقويمات بولاية ابن الصفار المتوفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة باعتباره "خاتمة القضاة بقرطبة"(62).
وليس أدل على عمق الرجة التي أصابت سلطة الأحكام، من إقدام سليمان المستعين - الذي نصبه الجند البربري خليفة في مواجهة ثورات العوام – على تعطيل "خطة القضاء بقرطبة طول ولايته زاعمًا أنه لم يرتض لها أحدًا"(63). ولـــــم يكن ملوك الطوائف بعده أقل جرأة. فبخصوص الإمارة الجهورية، ذكر ابن حيان(64): "أن الأحكام قد تعطلت بعد استعفاء ابن ذكوان وطالت المدة" في عهد أبي الحزم بن جهور. كما توقف خلفه بعدئذ "عن تعيين قاض مدة طويلة"(65). ويبدو أن انحسار سريان الأحكام كان أكثر وقعًا في الكور والأقاليم، التي ما فتئت تسقط تباعد في قبضة الجند وقواد الحصون، ممن لا يتورع عن تجميد الشرائع وتحكيم السيف والغلبة. وليس أدل على ذلك، من تزايد عدد المواقع والمدن التي "فيها أمير وليس فيها قاض"(66) يحكم بين الناس. نخص منها بالذكر "بياسة (التي) لا حكم فيها تثبت عنده الحقوق"(67). وحتى إن وجد الحكام في بعضها، فهم لا يتورعون عن التنصل من المسؤوليات في ظل سطوة المتآمرين. مصداق ذلك، ما تواتر "عن قضاة الكور كغبرة وجيان وباغة ووادي آش وأشباهها، يغيبون عنها أو يمرضون أو يشتغلون فيستنيبون من يحكم بين الناس بغير إذن من ولاهم قضاء القواعد"(68). من الطبيعي في ظل هذا الوضع أن تزداد جرأة أولي الأمر على حرمة القضاء والأحكام.
ودأبًا على تقليص سلطات قضاء الجماعة، وهتك اختصاصات قضاة القواعد تعددت حالات التدخل من طرف المتآمرين لصرف النظر في بعض القضايا عن حاكم الجهة "إلى قاضي مصر آخر بعيد منه"(69). ويقدم ابن سهل(70) نصًا بالغ الدلالة عن هيمنة السلطان على مختلف دواليب العمل التشريعي، وإحكام قبضته على مجال التوثيق، إذ قال متحدثًا عن أحدهم ممن "ينتمي إلى الفقه توسل إلى بعض خدمة السلطان راغبًا في أن تقصر عقد الوثائق عليه خاصة فأجابه السلطان إلى ذلك، وعهد إلى من ببلده ألا يعقد وثيقة إلا هذا المتفقه". ولعل في انقطاع عدد من الرسوم القضائية واختفاء خطط بأكملها، بما في ذلك خطة الرد الشهيرة(71) - على أهميتها - ما يفصح عن درجة التفكك وعمق الشرخ الذي أصاب مجموع هياكل النظام. ولا غرو، فقد بلغ الأمر بصاحب قرطبة إلى حد تجميد قضاء الجماعة، "وصرف النظر في الأحكام إلى وزيره أبي الحسن بن يحيى"(72)، مسجلاً بذلك سابقة خطيرة، تنم عن درجة تطاول الخطط الإدارية على اختصاصات القضاء. وبالمثل، فإمعانا في إذلال القضاة وإفراغ سلطتي الفتيا والأحكـام مــن مضامينهما، لم يتورع صاحب طليطلة عن امتحان أكابر فقهاء بلده المفتيـــن والمشاورين "فاستدعاهم مع قاضيهم ابن زيد بن الحشا القرطبي ... وثقفوا ستتهم وسخط على القاضي فعزل وحوسب جرى بيده"(73). وفي نص دال، يلخص شيخ المؤرخين أبو مروان بن حيان(74) مآل القضاء والفتيا إلى الانكماش، في اتجاه الخضوع والتبعية لأولي الأمر والمتنفذين بالقول: "فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذيادا على الجماعة وحوشًا إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صروف عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، قد أصبحوا بين أكل من حلوائهم خائض في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم أخذ بالتقية في صدقهم وأولئك هم الأقلون".
ولترسيخ هذا المنحى، دأب ملوك الطوائف والمتحكمون في النواحي على إسناد القضاء لمن قل علمه ومال إلى حب الدنيا وضعف عن نصرة الحق. وتقدم المصادر الأندلسية فيضًا من المعلومات عمن نال هذه الخطة "ولم يكن في نصاب القضاء و ... آثر الخمول للدعة والفلاحة عن الدراسة"(75) وعمن أسندت له "أحكام الشرطة والسوق ولم يكن عنده كبير علم وإنما كانت أثرة آثره بها"(76) الأمير. ولا تعوز المعلومات عن عدد ممن ولي قضاء الكور "ولم يكن عندهم كبير علم"(77). وفي عبارة بليغة وصف أحد وزراء المعتضد بن عباد مآل نظام الطوائف في اتجاه أحكام قبضة الأمراء على مجمل السلط بقوله: "ووجدت الناس أخبر تقلة، من أمير لا أسميه ووزير أقحمت الواو فيه وكاتب أمي وقاض جبلي"(78).
ونتوفر على فيض من المعلومات عن عدد من ضعاف النفوس ممن تولى الأحكام واشتهر بإطلاق "يده على الأوقاف وأكل أموال اليتامى والضعاف"(79) والسطو على "أرض بيت مال المسلمين"(80)، حتى غدت "الخيانة في الأمناء والرشوة في الحكام"(81) من مظاهر العصر البارزة مشرقًا ومغربًا. ومن المعلوم أن "من استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الناس الأكابر"(82). وفي عبارة لاذعة، تهجم ابن حزم على المشتغلين "في أحكام المكوس والقبالات والمخاطبة عن فساق الملوك بما يرضيهم ويسخط الله عز وجل"(83). على غراره، لم يتمالك أحد كبار فقهاء المالكية ممن اشتهر بالورع والتقوى عن التشهير بهذا الصنف، مؤثرًا التخلي عن تدريس الفقه، إذ قال: في عبارة عميقة الدلالات: "صرنا بتعليمنا لهم كبائع السلاح من اللصوص"(84).
وعلى غرار العقد والتوثيق الذي غدا مرتعًا خصبًا لأصناف من التدليس ولما يند عن الحصر من أشكال الاحتيال والتزوير(85)، لم تسلم خطة الفتيا من الانغماس في سلك التبعية والخضوع لأولي الأمر، والانحلال في مستنقع المحاباة للسلطان. وهو ما كشف عنه ابن حزم(86) في عبارة غنية عن التعليق بالقول: "وشهدنا نحن قومًا فساقًا حملوا اسم هذا التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أن بعضهم وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا ... يفتي بالهوى للصديق فتيًا وعلى العدو فتيًـا ضدها ولا يستحيي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه". وهو ما أكده أبو الوليد الباجي بقوله: "فإني لما رأيت ما ابتلي به الفقهاء والحكام من النظر والفتوى بين الأنام في الأحكام بادرت بكتابي هذا"(87). ولقد بلغت المستويات العلمية لمن "اتسم بالفتوى من التدني أن أثيرت زوبعة من الجدل في أوساط فقهاء العصر"(89) حول مدى صلاحية إسناد الفتوى لمن ركن إلى التقليد واقتصر على قراءة الكتب المستعملة مثل المدونة والعتبية دون رواية أو الكتب المتأخرة"(90). ولعل فيما أورده ابن حيان(91) عمن "غبر دهره عطلاً لا ينظر في شيء من التعاليم إلى أن فتح الله عليه ... فركض في حلبة الفقهاء المشاورين وقدم لعلو السن لا لعلو الهمة"، وعمن "عطف الدهر عليه بصحبة متوثبي السلاطين المنتزين على الأقطار وسط الفتنة فخاض معهم وصار أخص من مارسها وشاطر السلطان خطة المواريث"(92)، ما يؤكد شمولية التردي وسريان الفساد في مجمل دواليب النظام القضائي والتشريعي.
من الطبيعي في ظل هذا الوضع، ومع اتساع الخروق وانعدام المصداقية أن تستفحل ظاهرة هروب وتملص ثلة من الفقهاء من ولاية الخطط القضائية، بشكل لم يسبق له مثيل على ما يبدو. فلما دعي أحدهم إلى "قضاء طليطلة أبي وهرب من ذلك"(93). وبالمثل، فلما عزم المقتدر بالله أن يولي فقيهًا "الأحكام بسرقسطة أبى وحلف ألا يقبلها"(94). ومنهم من بلغ به الأمر إلى حد التضرع لله كي يصاب بالعمى حتى يتخلص من إلحاح "محمد بن جهور أن يوليه القضاء بقرطبة"(95). ولما دعي غيره إلى قضائها "صرف الرسول على عقبيه وانتهره"(96). وبالمثل، فلما دعي أبـا عبد الله محمد بن عبد الله المعافري "إلى الشورى بقرطبة أبى"(97) وامتنع. وبإشبيلية أكره أحدهم على ولاية أحكامها فعزم على الخروج من البلد حتى سكتوا عنه(98) كما تهرب أحمد بن طاهر بدانية "وامتنع عن ولاية قضائها"(99). وبمرسية اضطر أبـو علي الصدفي إلى قبول ولاية أحكامها على مضض "إلى أن استخفى آخر سنة سبع في قصة يطول إيرادها"(100). على غراره اختفى أحد المرشحين للقضاء "وغيب وجهه مدة شهور"(101) ولعل فيما أورده القاضي عياض(102) عن الصندوق المقفل الذي خلفه كبير فقهاء عصره أبو عبد الله بن عتاب، "فلما مات فتح فإذا فيه أربعة كتب من أربعة رؤساء: ابن عباد وابن الأفطس وابن صمادح وابن هود، كل منهم يدعوه إلى نفسه وتقلد قضاء بلده، وقد كتب على كل كتاب منهما تركته لله"، ما يفصح ببلاغة عن حقيقة الموقف. والجدير بالملاحظة أن هذه الظاهرة ما فتئت تزداد شيوعًا خلال العصر المرابطي(103) وبعدئذ طوال العصور اللاحقة، ونتوفر على فيض من التفاصيل عن أصناف المتابعة وأشكال القهر والامتحان(104) التــي تعرض لها ثلة من القضاة والفقهاء المفتين(105) والمشاورين(106) وأصحاب خطط المواريث والأحباس(107) ممن آثر الوقوف في وجه التيار، وعمن "امتحن في قضاء بلده بالأمراء فاعتقل"(108) خلال عصر الطوائف. ويقدم أبو عبد الله بن فرج مولى ابن الطلاع مثالاً نموذجيًا عن استمرار ذات المسلك خلال العصر المرابطي إذ "كان قوالاً للحق شديدًا على أهل البدع غير هيوب للأمراء، شوور عند موت ابن القطان، ونفذ قوله إلى أن دخل قرطبة المرابطون فأسقط عن الفتيا"(109). ولا تعوز الدلائل عن غيره من الفقهاء المفتين والقضاة وأصحاب الخطط ممن اشتهر بالورع والتقوى وبالحزم في مواجهة تيار التردي، نخص منهم بالذكر القاضي أبو المطوف بن بشر الذي "كان شديد التعسف على الفقهاء والتقويم لميلهم، فلما ولي المعتمد اجتمعوا عليه وطلبوه حتى عزله"(110). وبالمثل، فلما أقدم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على استحداث ضريبة المعونة بمباركة كبير فقهاء عصره أبي الوليد "الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس"(111) امتنع قاضي المرية "محمد بن يحيى من فرضها"(112) وانفرد بالتصدي لها والإفصاح عن لا شرعيتها(113).
وإذا كان في مواقف هؤلاء ما حافظ للقضاء والتشريع عن بعض المصداقية فإن دور العوام لا يقل أهمية. فبصرف النظر عن تجمعهم مرارًا للشكوى من قضاتهم والضغط على أولى الأمر لعزل من اتضح جوره(114)، لم يترددوا في أكثر من مناسبة عن التشهير بهم(115) واتهامهم "بأكل مال السلطان وقبول جوائزه"(116) إن لم يكن التجرد لإقامة الحدود بأيديهم(117). ولم يكن العامة أقل حزمًا في مقارعة الأمراء وأولي الأمر، لحملهم على تدعيم الخطط القضائية والالتزام بالأحكام. فعلى إثر تعطيل قضاء الجماعة بقرطبة - على سبيل المثال - "ضج الناس إلى أبـي الحزم فولى ابن المكوى"(118) اضطرارًا. وبالمثل، فلما تجرأ خلفه أبو الوليد بن جهور على إسناد الأحكام لوزيره، كما سلف الذكر، "انثال الناس وكثر تعبه وتفرقت الأمور عليه"(119)، مما عجل بسقوط الدولة الجهورية. وبطليطلة، لم يمهلوا يحيى بن ذي النون في تجرئه على قاضيهم والفقهاء، إذ بمجرد ما "وقع إلى العامة دس من الخبر، هاجت فلم يرعها إلا مائلة الرؤوس والمنادي بين أيديهم والمشيخة والممتحنون خلفها"(120)، في إحدى أكبر ثورات عامة طليطلة خلال عصر الطوائف. وعلى الرغم من شهرة قاضي قضاة إشبيلية في العهد المرابطي أبو بكر ابن العربي بكونه فخر المغرب، فقد "اجتمعت العامة العمياء وثارت عليه ونهبوا داره وخرج إلى قرطبة"(121) لائذًا. ومن المعلوم أنه كان صارمًا في تنفيذ الأحكام على العوام(122). ولتحاشي الانغماس في صراعات مماثلة، وحفاظًا على مكانته المتميزة، أثر القاضي أبي الوليد بن رشد الاستعفاء من قضاء الجماعة بقرطبة على "إثر الهيج الكائن بها من العامة واعفي"(123).
خلاصة القول - إنه بقدر ما يوفر القرن الرابع الهجري إمكانية الوقوف أبرز استقلال وانفصال القضاء والتشريع عن بقية السلط في تاريخ الغرب الإسلامي، بقدر ما تتضح إمكانات البحث عن جذور التراجع والانكفاء، في سياق الاختلالات الشاملة والعميقة التي مست مجمل الأوضاع خلال عصر الطوائف. وإذا كان دور العوام في تعضيد جهود ثلة من الفقهاء من أهل الورع والتقوى، قد ساهم في التصدي إلى حين لمنحى الانهيار، فإن عجلة التردي ما فتئت تؤتي على ما تبقى من عناصر التألق طوال القرون اللاحقة. ولعل في هذا ما يدعو البحث التاريخي المعاصر إلى استيفاء القراءة في الوجهين، في أفق تكوين منظور أكثر تاريخية لحقيقة القضاء والتشريع في الحضارة العربية الإسلامية.
رابط مباشر لتحميل المقال
*****************
الهوامش:
- وهي من المواضيع التي لم تنل بعد حظها من الدرس والعناية الكفيلة بالإفصاح عن حلقات التطور على مدار تاريخ الإسلام مشرقًا ومغربًا، في أفق إنجاز نوع من تاريخية القضاء والتشريع تخلص الفكر العربي المعاصر من مزالق التعميم وانتقائية التعلق بمنجزات الثورة الفرنسية في هذا المضمار، ومن سلبيات الاقتصار على إجراء مقارنات سطحية بين الحضارات.
- راجع بهذا الخصوص نص الحوار الهام الذي دار بين إمام المدينة مالك بن أنس والخليفة العباسي، ضمن ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، تحقيق طه محمد الزيني، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، ج 2، 149 - 50، ويقدم ابن المقفع في نص لا يقل أهمية التفاصيل عن وقع الاختلافات في الأحكام بين البصرة والكوفة، وبداخل كل حاضرة على حدة بين الحوم والأحياء، كاشفًا عما يثيره ذلك من مشاكل، وداعيًا إلى التدخل باستعجال لتوحيد الشرائع وضبط الأحكام، رسالة الصحابة، تحقيق أبــو حلقة.
* نُشر في مجلة أمل، ع: 21، أبريل 2000م، ص110-119. https://2u.pw/rD4UQeEs
** أستاذ باحث بكلية الآداب - المحمدية.