تُعنى هذه الدراسة بالبحث في المفهوم القرآني بين الرؤية القرآنية للعالم ورؤية العربي له، وينطلق في معالجته للموضوع من إشكالية «تمعين» النص القرآني، أي إمداد النص القرآني بالمعنى عوض استمداد المعنى من القرآن، وهو ما يثير إشكالاً رئيسًا هو: هل المفاهيم التي نتداولها وتوصف ب «المفاهيم القرآنية» هي مفاهيم قرآنية حقًا بكل ما يحمله وصف (قرآني) من دلالة أم أنها بناء لغوي ليس له من القرآن إلا اللفظ بينما المعنى الذي مُلئ به اللفظ وشكل المفهوم هو صناعة وصياغة إنسانية عربية بحتة؟
للإجابة عن هذا السؤال تنطلق الدراسة من نموذج «التعارف»، باعتباره مفهومًا قرآنيًا فتبحث في معناه القرآني وتقارنه بالمعنى الذي صاغه المتلقي لهذا المفهوم، مقارنة تنفذ إلى الأسس المنهجية التي أقيم على وفقها المفهوم القرآني، والمتمثلة في لغة القرآن الخاصة ورؤيته للعالم، والأسس التي أنتجت المفهوم الإنساني العربي، والمتمثلة في لغة العرب ورؤية العربي للعالم، وذلك باعتماد المنهج التحليلي والمنهج المقارن، تحليلاً لعملية تلقي المعنى القرآني من خلال كتب التفاسير ومقارنة للموجود التفسيري بالمنشود القرآني.
ويمكن القول بأن الهدف الذي يرمي إليه البحث يتجلى في الوقوف على الأسس المنهجية التي أقيمت وفقها المفاهيم القرآنية، وذلك بغية استخلاص مفهوم قرآني خام للتعارف يتسق مع النظام القرآني ومنهجية القرآن المعرفية، ويبرز من خلاله البون الشاسع بين المفهوم المتين في صبغته القرآنية والمفهوم الهزيل في صياغته البشرية.
نتائج الدراسة:
يمكن إجمال النتائج التي توصل إليها البحث فيما يلي:
- ضرورة التفريق في التعامل مع المدونات التفسيرية بين ما يمكن أن نعتبره «تمعينًا« للنص القرآني، بمعنى إمداد للنص القرآني بالمعنى، وبين ما يمكن أن نعتبره استعدادًا للمعنى من النص، ولتحقيق ذلك لا بد من التمييز بين رؤية القرآن للعالم وبين رؤية العربي للعالم، فالمعنى القرآني الخاضعُ حين إنتاجه لثقافة المفسر وما يحدها من شروط الزمان والمكان لا يمكن أن يكون إلا تمعينًا للنص، ولم يرق بعد إلى درجة الانصاف ب «المعنى»، لأن المعنى القرآني لا يمكن أن يتصف بهذه الصفة إلا إذا تأطر المفسر حين استكشافه للمعنى برؤية القرآن للعالم، والتي لا يمكن تحصيلها وتحصنيها ما لم نقرأ القرآن بلغته الخاصة التي اتحدت مع لغة العرب في الجهاز وافترقت معها في الإنجاز.
- الاحتراز من وصف المفاهيم بـ «القرآنية» لمجرد كونها ألفاظًا قرآنية، لأن المفهوم لفظ ومعنى وما لم يكن اللفظ والمعنى قرآنيين فإن الحديث عن المفهوم القرآني سيظل سطحيًا، ويظل المفهوم حائمًا حول حمى القرآن لا يقع فيه، ولذلك كان من الضروري إعادة النظر في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. فهل يقف معنى الحفظ عند مستوى اللفظ أم يتجاوز ذلك إلى مستوى المعنى، حيث يستبطن القرآن بوصلة توجه المعنى وتقيه من التمعين والإسقاط المفاهيمي الذي قد يمارسه المتلقي دون وعي منه.
- ضرورة إعادة بناء مفهوم التعارف في ضوء النظام القرآني، شأنه في ذلك شأن كل المفاهيم القرآنية، وذلك انتقالاً به من مستوى اللفظ القرآني إلى مستوى المفهوم القرآني، وارتقاء به من مستوى التمثل العربي إلى مستوى المثال القرآني، استكشافًا للمعاني الثانوية بين تفاصيل هذا اللفظ حين يُقرأ في بيئته القرآنية وعلى وفق لغة القرآن ورؤيته للعالم.
- ضرورة الانتقال بمفهوم التعارف من مستوى اللفظ القرآني إلى مستوى المفهوم القرآني، ذلك أن هذا الانتقال يظهر للوجود معان أخرى يكتنزها هذا المفهوم لم تكن قد استكشفت من قبل، إذا اتضح أن التعارف بمعناه القرآني ينتقل بالإنسان في علاقته مع الآخر من مستوى قبول الآخر إلى مستوى الإقبال عليه ومن مستوى الاعتراف به إلى مستوى العرفان به، ومن مستوى العيش معه إلى مستوى السكن إليه، وهي المعاني التي غابت عن من أطرته الرؤية العربية حين تلقي الآية، فوقف بالمفهوم عند أبعاد سطحية، وليس الحديث عن السطحية قدحًا فيما وصل إليه المفسرون، إنما هو مجرد وصف لما هو كائن، حيث ظل التلقي عند مستويات أولى للفهم لم تنفذ إلى أعماق اللفظ ودلالته.
- بناء مفهوم التعارف على أسسه القرآنية يتيح إمكانية إدراك البون الشاسع بين المفاهيم القرآنية وما يقابلها من مفاهيم إنسانية، حيث يظهر الفرق جليًا بين مفهوم التعارف القرآني وما ينضوي عليه هذا المفهوم من دلالات عميقة ترقى بالتواصل مع الآخر إلى مستويات الإقبال والعرفان والسكن وبين مفهومي التعايش والتسامح اللذين اختيرا ليكونا نظيرين لمفهوم التعارف ولكن هزال بنيتهما الدلالية أبقاهما في مراتب دون التعارف بكثير، ما يحيلنا من جديد على مفهوم التصديق والهيمنة الذي لا يمكن أن يظهر جليًا ما لم نحافظ للمفاهيم القرآنية على صبغتها القرآنية الحاكمة والمهيمنة على الموروث الإنساني تفكيرًا وتعبيرًا.
تقسيمات الدراسة:
قسمت الباحثة الدراسة إلى عدة محاور على النحو التالي:
مقدمة.
أولاً: المفهوم: بين المثال القرآني والتمثل الإنساني.
ثانيًا: التعارف القرآني: من تدبر منظومة الاستخلاف إلى تدبير قيمة الاختلاف.
ثالثًا: المفهوم بين التعبير القرآني والتعبير الإنساني.
رابعًا: التعارف القرآني في ضوء لغة القرآن القاصدة.
نتائج الباحث.
الخاتمة.
رابط مباشر لتحميل الدراسة
* دراسة منشورة بمجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر، المجلد الأول، العدد الأول، 2019، ص52-71.