عرضت في محاضرتي الثانية التي ألقيتها في الموسم الثقافي، الذي دعتني إليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت بعض خصائص الفقه الإسلامي، وجوانب من مزاياه التي تجعله هو المصدر الوحيد، الذي يجب أن يستمد منه كل تشريع ناظم للحقوق في البلاد العربية خاصة والإسلامية عامة، وأوضحت تلك الخصائص والمزايا بالأمثلة والشواهد العملية الواقعية من أحكام الفقه الإسلامي.
أ- فمن خصائصه الذاتية العامة التي أكسبته صفة الخلود وقابلية الاستجابة لتغطية جميع الحاجات التشريعية في مراحل الحضارة الإنسانية، الخصائص لتغطية جميع الذاتية التالية:
- السعة والاستيعاب والغنى بالنظريات القانونية في تنظيم الحقوق والالتزامات ومصالح المجتمع بصورة شملت كل شُعب القانون المعروفة إلى اليوم مبتدئة من علاقة الإنسان بأسرته من أحكام الزواج إلى الميراث وما بينهما، وتنتهي بأحكام القانون الدولي المنظم لعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الأمم والدول سلمًا وحربًا. كل ذلك نظمه النظام القانوني في الشريعة الإسلامية بأعدل القواعد، وأحكم الأحكام، وأسمى المبادئ وأخلدها وأكثرها رعاية للمثل الإنسانية العليا، وتطعيمًا للعنصر القانوني بالعنصر الخلقي.
- الدقة المتناهية في بناء الأحكام، حتى لكأن الدارس الباحث في مسائل الفقه الإسلامي وآراء الفقهاء ونظرياتهم، يشعر كأنما هو أمام ميزان حساس يوزن به الألماس، وتظهر به الفروق بين المتشابهات مهما دقت وغمضت.
- مرونة أصوله ومصادره، سواء ما كان منها نصوصًا كنصوص القرآن العظيم والسنة النبوية، وما كان منها طرقًا ومسالك وقواعد ومقاصد كالقياس والاستحسان والاستصلاح. فطريق الاستحسان يفسح مجالاً لتقرير أحكام استثنائية على خلاف القياس عندما تختلف الظروف والاعتبارات الخاصة بين المسائل المتشابهة التي يقاس بعضها على بعض في الأحكام. ومن الأمثلة التطبيقية لذلك أحكام المفقود وهو الذي فُقد ولا يدري أحد أهو حي أو ميت ولا أين هو. فالحكم الفقهي الأساسي في علاقاته وحقوقه وأمواله أنها تجمد فلا يرث ولا يورث منه حتى تثبت حياته، أو تثبت وفاته بمثبت أو بالقرائن الكافية كموت أقرانه جميعًا في بلده، فعندئذ يحكم بوفاته وتوزع أمواله بين ورثته. هذا هو مقتضى قاعدة الاستصحاب القياسية.
ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أن تطبيق هذا القياس على الزوجة وتركها معلقة على عصمة زوجها المفقود حتى يموت أقرانه فيه حرج عظيم وضرر بليغ بالنسبة إلى الزوجة، لأن تجميد المال غير تجميد الزوجة، فقضى بالنسبة إلى الزوجة أن لها الحق أن تطلب القضاء لها بإنهاء الزوجية بعد أربع سنوات من فقدان زوجها في حال السلم، وبعد سنة واحدة فقط في أيام الحرب، وهذا حكم قرر بطريق الاستحسان استثناء من قاعدة الاستصحاب القياسية.
- مكانة العرف في الشرع الإسلامي، فإن العرف مصدر هام دائم للأحكام الفضائية، وتتبدل الأحكام العرفية بتبدل العرف. وبما أن العرف مُعبر في أغلب الأحيان عن حاجات المجتمع، فاعتماده في الفقه الإسلامي مصدرًا للأحكام والقضاء جعل هذا الفقه مستجيبًا بصورة دائمة لهذه الحاجات سوى ما كان منها انحرافًا يجب تقويمه، وللعرف في الفقه الإسلامي نظرية ضافية ذات قواعد وشرائط وتفصيل رائع.
- بناء أحكام الفقه الإسلامي على أساس التوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة والحق العام.
ويتجلى ذلك في منع التعسف في استعمال الحق الخاص، وفي منع الاحتكار في التجارة، وفي الحجر على السفيه المذر، والحجر على شخصين يخصهما الفقهاء بالذكر في ضمن التعميم وهما:
الطبيب الجاهل والمكاري المفلس "والمكاري هو من يتعهد للناس بالنقل السفري على دوابه مثل مكاتب السفريات اليوم". فإذا كان مفلسًا ليس عنده دواب كافية يأخذ من الناس أجور النقل ثم لا يستطيع نقلهم في مواعيد سفرهم المقررة. فلذا يحجر عليه شرعًا في فتوى الفقهاء.
- بناء أحكام الفقه الإسلامي على أساس الموضوعية والتجرد عن كل دافع من عصبية أو عاطفة خاصة سوى فكرة العدل والحق المجردة بقطع النظر عن اللون أو الجنس أو البيئة أو الدين أو أي صفة أخرى في الأشخاص الذين تطبق عليهم أحكام الشريعة.
ومن الأمثلة الرائعة على ذلك في التاريخ الإسلامي فتوى الإمام الأوزاعي للخليفة الأموي بعدم جواز قتل الرهائن، وهم أشخاص أخذهم المسلمون من الروم ضمانًا لعدم غدر قومهم – وكانت العادة العامة المتبعة أن تقتل الرهائن إذا غدر قومهم - فلما غدر الروم، وهَمَّ الخليفة بقتل الرهائن عارضه الإمام الأوزاعي ونادى به أنه لا يحل قتلهم في شريعة الإسلام وقانونه، لأن الله -تعالى- قد منع أن يؤاخذ أحد من الناس بجريرة غيره، وقرر ألا تزر وازرة وزر أخرى، فإذا غدر الروم فإن ذنبهم لا يسري إلى رهائنهم التي أخذناها منهم، وقد نزل الخليفة على فتوى الإمام الأوزاعي هذه.
ومن الأمثلة الرائعة أيضًا التي دوى بها التاريخ، حادثة محمد بن عمرو بن العاص فاتح مصر وأميرها عندما سبقه قبطي نصراني في حلبة سباق، فضربه محمد بن عمرو بقضيب، وقال له: أتسبق ابن الأكرمين، فلما اشتكى القبطي إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في المدينة أحضر محمدًا وأباه عمرًا من مصر، بعد أن حقق وثبت لديه الحادثة، وقال لمحمد منذ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ثم أمر القبطي النصراني أن يضرب محمد بن عمرو في المجلس ثم أمره أن يضرب أيضا أباه عمرو، أمير مصر، فلما امتنع القبطي عن ضربه قال: إنما ضربك بسلطان أبيه.
من هذه الينابيع والأسس الموضوعية المجردة عن كل نزعة سوى مبدأ إحقاق الحق وإقامة العدل استمدت أحكام الفقه الإسلامي، وبهذه المادة بني صرحه العظيم الخالد، ولا يستغرب هذا في فقه مؤسسه الأول هو الرسول العربي القائل - عليه الصلاة والسلام - في التوصية بأهل الذمة، وهم المواطنون المقيمون في ظل الدولة الإسلامية من غير المسلمين: "من آذى ذميًّا فقد آذاني". فلنقارن هذا بالقانون الأسود القائم في أميركا مثلاً على التمييز العنصري في الأحكام الإدارية والقضائية بين السود والبيض.
وبالقانون الروماني القديم، الذي هو أصل معظم التشريعات الأوروبية، والذي كان يميز في الأحكام بين الرومانيين والرعايا الآخرين من مواطني الدولة الرومانية.
- وهناك خاصية هامة في الفقه الإسلامي، هي خاصية بالنسبة إلى العرب فقط، وهي أنه فقه عربي المنشأ والمصدر. فالكتاب الأصلي الذي يستمد منه قواعده وتوجهاته العامة في خطوطه العريضة هو القرآن، وهو عربي، والمؤسس الأول لهذا الفقه وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو عربي، وكلامه الذي هو نواته ثم شجرته الأصلية هو كلام عربي، والأدمغة التي خدمته ودونته في البداية هي عربية استمدته من تلك الأصول العربية، والعلماء اللاحقون الذين وسعوه ونموه بالأقيسة والاجتهاد والتخريج من مختلف الأمم الإسلامية، وإن كان منهم أناس غير عرب، إنما بنوا كل بحوثهم فيه علي تلك الأسس العربية وما استنبط منها.
وبذلك يكون هذا الفقه العظيم الضخم تراثًا عربيًا قانونيًا خَلدَ على الزمن، بينما زال كل تراث علمي آخر أنشأه الغرب أو اقتبسوه ووسعوه.
وهذا الميراث القانوني العربي، كما يقول الأستاذ السنهوري، هو مفخرة كل عربي، ولو غير مسلم، إذا كان حقًا يعتز بعروبته وأصالته فيها وصادقًا في ذلك.
هذا إجمال الخصائص الأساسية لهذا الفقه الإسلامي ومزاياه إلى جانب ما فيه من خصائص أخرى من نوع آخر كاللغة الاصطلاحية القانونية الخالدة التي أتى فيها فقهاؤنا بروائع المصطلحات مما لا يوجد له نظير في القانون، ومما لا يزال القانونيون العرب يستمدون منها حاجتهم في الترجمة عن الفقه الأجنبي، هذا إلى خصائص أخرى كثيرة فرعية يعرفها الراسخون من العلماء.
ومن هذا يتبين أن الفقه الإسلامي هو الفقه الوحيد الذي تجتمع فيه الخصائص والمزايا التي تفي بحاجة التشريع في البلاد العربية والإسلامية، لأنه منسجم مع تاريخها، ونابع من عقيدتها ولغتها الجامعة، كما أنه هو الذي يمكن أن تجتمع عليه البلاد العربية في توحيد تقنيناتها عن طريق استمدادها، ولا يمكن أن تجتمع كلمتها واتجاهاتها في ذلك على مصدر آخر سواه.
ومما يؤسف له أن كثيرًا من العالم العربي اليوم يجهلون أنفسهم وقيمة ما عندهم من تراث أصيل، ويتنكرون لذاتيتهم جهالة منهم، فيحبون استجداء الفقه والقانون من المصادر الأجنبية، معلنين أنهم فقراء جوف في هذا المضمار، ويظنون هذا تقدمية، بينما هم أغنى أمة بالتراث القانوني، ورحم الله شاعرنا المرحوم حافظ إبراهيم، إذ يقول:
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ونحن نمشي على أرض من الذهب
أما شبهة الجهلاء الببغاويين الذين يرددون ما كان زعمه بعض المشككين الخبثاء من المستشرقين أو سواهم من أن التشريع الإسلامي وفقهه مستمد من القانون الروماني فهذه شبهة أصبحت عتيقة رثة سخيفة لم تبق في حاجة إلى أن يهتم المحققون في جمع الأدلة على إدحاضها، ذلك لأن المستشرقين المنصفين قد أغنونا عن دفعها، بما كتبوا هم وبينوا في هذا الشأن، وقرروا أن الفقه فقه أصيل مستقل بأصوله وفروعه غير مستمد من أي فقه آخر، وأن زعم استمداده من القانون الروماني هي خرافة تدل على عدم معرفة قائلها بالنظامين القانونيين كليهما، النظام الروماني والنظام الإسلامي. وإن كانت بعض قواعد العدل قد تتشابه بين أمة وأخرى نتيجة وحدة منطق التفكير العلمي ومنطق العدالة.
وأقرب ما أحيلكم عليه في ذلك قرار مجمع القانون الدولي المقارن في مدينة لاهاي عام ۱۹۳۷، حيث صرح فيه بما ذكرت من عدم وجود أية صلة بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، وأن الفقه الإسلامي صالح لإمداد التشريع الحديث بأحسن النظريات والقواعد.
وقد نقلت أنا خلاصة هذا القرار في أوائل الجزء الأول من السلسلة الفقهية التي وضعتها باسم "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد"، وكذا قرار مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في كلية الحقوق بجامعة السوربون بباريس، وكنت مشتركًا فيه باسم الجامعة السورية، حيث تضمن ذلك القرار تأكيد هذا المعنى، بالإضافة إلى بيان ما في مجموع المذاهب الفقهية من قيمة فقهية خالدة، تصلح أن تكون خير مستمد للتشريع الحديث.
_________________________________
* مقال مستل من كتاب "علماء وأعلام كتبوا في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية"، ج1، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، الإصدار الرابع عشر، 1432هــــ/ 2011م، ط1، ص509-515. والمقال نُشر لأول مرة في العدد (١٤)، صفر (١٣٨٦هـ) / مايو (١٩٦٦م).