لا يزال النقاش يتجدد حول مكانة الدين في الدولة الحديثة، سواء في دساتيرها أم في واقعها العملي، ولا سيما فيما يتعلق بالدين الإسلامي، الذي يتميز عن غيره بإبداعه حضارةً رائدةً متكاملة مغايرة في جوهرها لطبيعة تلك الدولة القومية الحديثة، التي نشأت لتكون هي مرجعية نفسها، فلا تخضع لمرجعية أخرى تفارقها وتحدُّ من سلطتها المطلقة، ومن هنا فإنه حتى إذا كانت النصوص المقرِّرة لدين معين للدولة في الغرب لا تثير إشكالات حقيقية، فإن مثل هذه النصوص تظل تثير صراعات وسجالات في عالمنا الإسلامي، ليس فقط لطبيعة الدين الإسلامي المتميزة، ولا حتى لطبيعة الدولة الحديثة - عامةً – التي أشرنا إليها، بل - بالإضافة إلى ذلك – لطبيعة تلك الدولة بصورتها التي استوردت بها في العالم الإسلامي، أو فرضت عليه، حيث ظلت تابعة للغرب يتحكم فيها وفي إراداتها ومساراتها وتحولاتها عن بُعد، وأحيانًا عن قرب، فيحرص على بقائها مكبلة من سلطة مطلقة أو كَلَها في تنفيذ ما تريده من مهام، حتى في وجود دستور لها الأصل فيه أن يحدُّ من تلك السلطة، ولكنه للأسف تحولت وظيفته ليحد من مقدرة الشعب على محاسبتها وتغييرها إذا لزم الأمر.
وتتحدد إشكالية هذه الدراسة في البحث عن السبيل إلى ضبط العلاقة بين الدين والدولة الحديثة في عالمنا الإسلامي، بحيث تتحول النصوص الدستورية الناظمة لتلك العلاقة من محل للسجال والشقاق والتوظيف السياسي البراغماتي، إلى مصدر للإلهام وباعث للنهوض الحضاري، ومرجعية تحمي حقوق المواطنين وترشدهم إلى واجباتهم في تحقيق النهوض المنشود، ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي ستحاول أن تسهم في الوصول إلى كلمة سواء بشأن تلك النصوص.
وتستهدف الدراسة محاولة الإسهام في الإجابة عن سؤال رئيس يتعلق ببيان مدى تأثير النصوص الدستورية المقررة لإسلامية الدولة في صدر غالبية دساتير دول العالم الإسلامي، على إعادة التوازن فيما بين السلطات العامة للدولة، وفي ضبط العلاقة بين الحكام والمحكومين، ووقف هدر حقوق الإنسان في غالبية هذه الدول.
كما تستهدف الدراسة كذلك الإجابة عن الأسئلة المتفرعة عن السؤال السابق، وهي:
ما موقف دساتير دول العالم - عمومًا - ودول العالم الإسلامي - خصوصًا - من النص على دين أو أيدولوجية معينة للدولة؟
ما السياقات التي حدث فيها النص الدستوري على إسلامية الدولة في مصر؟
ما انعكاسات النص الدستوري على إسلامية الدولة على النظام السياسي المصري؟
ما مدى تأثير النص على إسلامية الدولة على النظامين التشريعي والقضائي في مصر؟
هل يستدعي الأمر السعي إلى رسم مسار جديد للتعامل مع النصوص الدستورية المنظمة للعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع، أم أن المسار الحالي حقق غرضه ولا داعي لتجديده؟
وركزت الدراسة على النصوص الدستورية المتعلقة بإسلامية الدولة في مصر، مستعرضة السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية ومجمل الظروف التي وضعت فيها تلك النصوص، وموقف السلطات الدستورية حيالها، وهو ما تطلب أحيانًا الاستعانة ببعض المناهج العلمية، مثل المنهج الوصفي والمنهج التاريخي والمنهج المقارن، لبيان الواقع الذي ظهرت فيه تلك النصوص وصولاً إلى استكشاف آثارها القانونية والإجرائية في وضعنا الراهن، بهدف التوصل إلى أفكار جديدة وطريق واضح لتفعيل هذه النصوص، والتي لم تلق الدراسة بالاً إلى تحليلها تحليلاً كيفيًّا، وشرح بنيتها وتحليل مضمونها، باعتبار أنها كانت مجرد متغير تابع للمتغير المستقل المتمثل في الإرادة السياسية للدولة والسياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المحيطة بها.
وتتناول الدراسة بشكل أساس النصوص المتضمنة أن الإسلام دين الدولة في الدساتير المصرية المختلفة، ومعنى ذلك أن المدى الزمني للدراسة سيتركز على الفترة التي سبقت صدور دستور ۱۹۲۳م، أول دستور مصري حقيقي، إلى الدستور الحالي (دستور ٢٠١٤م).
وبدأت الدراسة بمدخل تمهيدي لبيان موقف دساتير العالم من النص على دين معين من عدمه، ثم تناولت التجربة المصرية كنموذج للدول العربية الإسلامية التي نصت دساتيرها على إسلامية الدولة، فاستعرضت السياقات التي نُصَّ فيها على أن الإسلام دين الدولة في الدستور المصري (أولاً)، ثم انعكاسات ذلك النص على الأنظمة السياسية والتشريعية والقضائية في مصر مع طرح بعض الأفكار المرشدة إلى إرساء منهج جديد للتعامل مع النصوص الدستورية المقررة لإسلامية الدولة (ثانيًا) ، وأخيرًا خاتمة تناولت أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
وقد انتهت الدراسة إلى أنه على الرغم من النص الدستوري الواضح على أن الإسلام دين الدولة، فإن هذا النص لم يُفعل في الواقع، ولم يحل قط دون تغول الدولة على المجتمع، وتحكمها في المؤسسات الدينية، كما أنه لم يكن له تأثير حقيقي على التشريع والقضاء، بعد أن تخلى البرلمان عن دوره المناط به وتقاعس عن مهمته في استمداد التشريع من مبادئ الشريعة الإسلامية، وإن كانت قد جرت محاولة جادة في هذا الشأن في الفترة من 1978-1982م، حين شكل مجلس الشعب لجانًا فنية لوضع مشروعات قوانين خالية مما يصادم الشريعة ومخرجة على أحكامها، إلا أن هذه المحاولة أجهضها تراجع الدولة عن رغبتها في إصدار تلك القوانين، وصرحت بذلك فعلاً سنة ١٩٨٥ حيث رفضت مناقشتها في مجلس الشعب، وتماهت مع الدولة – في موقفها هذا - المحكمة الدستورية العليا المناط بها الرقابة على دستورية القوانين وأصدرت في العام نفسه حكمًا يساند الدولة في موقفها عبر جعل نص المادة الثانية ملزمًا من تاريخ التعديل الدستوري (سنة ١٩٨٠) وبحيث لا يسري على القوانين السابقة على صدوره، كما ضيقت فيما بعد من مفهوم مبادئ الشريعة ليقتصر على الأحكام قطعية الثبوت والدلالة وحدها دون الأحكام القطعية استنادًا إلى الاستقراء التام.
أرجعت الدراسة عدم تفعيل النص الدستوري على إسلامية الدولة، ثم على مصدرية الشريعة للتشريع، سواء في مصر، أم في غالبية الدول العربية والإسلامية، إلى طبيعة تلك الدولة التابعة للاستدمار الغربي الذي يرفض الشريعة الإسلامية؛ لأنها تقدم رؤية مخالفة للعالم من شأنها أن تحد من هيمنته وتظهر عوار نمطه المادي الذي حول الإنسان إلى كائن مادي استهلاكي، فضلاً عن أن تلك الدولة لا تريد أن ينازعها أحد في سلطويتها في الداخل، ولذا فهي لن تفعّل هذا النص الذي يلزمها بشريعة ستكون عصية على إخضاعه لها، كما يرفض أي نص دستوري آخر من شأنه أن يعيق استعبادها للمواطنين وقهرها لهم واستنزاف ثرواتهم البشرية والثقافية والمادية!
كما طرحت الدراسة بعض الأفكار التي قد تسهم في تفعيل النص الدستوري على إسلامية الدولة، وتساعد على ترشيد العلاقة فيما بين الدين والدولة بصفة عامة، ومن ضمنها الدعوة إلى تحرير الإسلام نفسه، وتحويل خطابه إلى العالمية ليشع بنوره عليه بقيمه الراسخة، ويعرقل إعلاء غريزة الإنسان على روحه وعقله، بالإضافة إلى عدم تجاهل أن الشريعة الإسلامية مكونة من عقيدة وأخلاق ومعاملات، كما أنها أنشأت بنى ومؤسسات ورصيدًا تشريعيًا تاريخيًا ينبغي عدم إهداره، بل دعم الثقة فيه، ومحاولة استعادة تفاعله مع الواقع بشكل ذكي غير تصادمي، مع وقف التوظيف السياسي للدين، والتركيز على حل الأزمة الدستورية التي يواجهها العالم المعاصر حاليًّا.
رابط لتحميل الدراسة من موقع مركز أركان
https://2u.pw/jbWpcjCp
______________
* بحث محكم من قِبَل مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، ومنشور على موقع المركز: https://2u.pw/jbWpcjCp
** باحث مهتم بدراسة تطبيقات الشريعة الإسلامية في الدساتير والقوانين المعاصرة، وبكيفية تحقيق التفاعل بين الشريعة والقانون الوضعي. حاصل على الدكتوراة في القانون والشريعة من كلية الحقوق- جامعة القاهرة عن موضوع: “تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر: دراسة تطبيقية حول النصوص الدستورية”. له العديد من الأبحاث والمؤلفات منها، كتاب "تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية" (تقديم المستشار الجليل طارق البشري- رحمه الله)، كتاب: "دور الوقف في مواجهة الغلو والتطرف" (محكم علميًا)، وكتاب "مسألة تطبيق الشريعة بين اختطاف النموذج ونموذج الاختطاف"، (بالاشتراك مع د. فارس العزاوي) وكتاب (بالاشتراك): "الأحكام القضائية والفتاوى الشرعية في الأوقاف الكويتية" صادر عن الأمانة العامة للأوقاف سنة 2015م، المشاركة في كتاب "إسلامية المعرفة ودور المعهد العالمي للفكر الإسلامي" مع كل من الأستاذ الدكتور/ جمال الدين عطية، "الدستور المصري المنتظر.. جدل السياسي والثقافي والمجتمعي" بحث منشور ضمن كتاب: الثورة المصرية والتغيير الحضاري والمجتمعي، (أمتي في العالم- -حولية قضايا العالم الإسلامي)، القاهرة: دار الشروق الدولية، 2013م، "تحولات التشريع والقضاء في مصر بين ثورتي 1919 و1952"، بحث منشور ضمن فصلية "قضايا ونظرات"، وبحث بعنوان "مالك بن نبي" منشور بمجلة المسلم المعاصر.