محمد سليم العوا ... الحياة في محراب العلم والعدالة*

By د. إبراهيم البيومي غانم أيلول/سبتمبر 02, 2024 1688 0

العلامة «محمد سليم العوا»، واحد من أعلام الاجتهاد والتجديد المعاصرين ... ومنذ تعرفت إليه في بدايات القرن الخامس عشر الهجري = ثمانينيات القرن العشرين، لم أتوقف عن التعلم منه، والأخذ عنه. ومنذ تلك السنين البعيدة، أغرتني سماحته بكثرة الذهاب إليه، واقتطاع جزء من وقته، كلما لاحت لي الفرصة؛ كي أطلعه على كثير من المسائل التي يستعصي على فهمها، والأفكار الجديدة التي لا أكون على ثقة من جدتها أو جدواها؛ فأعرض عليه مسائلي بإسهاب، وهو صابر منصت باحتساب، إلى أن أفرغ من معروضاتي، فيقوم متفضلا مترفقا بي -رفق الله به- ليصحح زلاتي، ويقيلني من عثراتي، ويفتح لي أبوابًا جديدة، ويرفدني بآراء سديدة. وإن أنسى، فلن أنسى أفضاله علي في تصويب ما دق وخفي على من أسرار اللغة العربية، وكم دهشت من تدقيقه في قراءة كل ما أعرضه عليه من بحوث ودراسات، وحتى "المقالات" الصحفية التي أكتبها بين الحين والآخر. وكم أفدت من ملاحظاته وتصويباته. ومن جلوسي الطويل إليه، ومن قراءتي لمؤلفاته، ومن استماعي لمحاضراته ومناقشاته؛ ترسخ عندي اقتناع مؤداه أن التعلق بالأصول العالية (القرآن والسنة) هو مبتدأ "إسلامية المعرفة"، وأن خبره هو: تغيير الواقع باتجاه الكرامة والحرية والعدالة والسلام، وأن من غاب عنه هذا "المبتدأ " فليس يرجى منه خبر خير، ولا خير خبر.

استمعت إليه أول مرة في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة وهو يناقش الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في رسالته للدكتوراه في سنة 1407هـ = 1987م، فأعجبتني صرامته في المناقشة، وراقت لي لغته الفصيحة، وبشاشته المفرحة في ذات الآن، وعوضني الله به لين الجانب الذي افتقدته في أستاذي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور حامد ربيع من قبل، وما افتقدته أيضًا في أستاذي العلامة توفيق الشاوي من بعد. وكنت قد تعرفت إلى العلامة الشاوي، بعد سنتين أو ثلاثة فقط من تعرفي إلى العلامة العوا. قرأت أغلب مؤلفاته، وتعلمت منها، ولكني تأخرت كثيرًا في قراءة كتابه "في أصول النظام الجنائي الإسلامي" حتى سنة 1439هـ = 2017م، فلما قرأته، اكتشفت كم فاتني من علم بسبب هذا التأخير، وتبين لي أن هذا الكتاب يعتبر نموذجًا فريدًا يتعين الاقتداء به في "إسلامية المعرفة " بعامة، وفي البحث والنظر في قضايا التشريع الجنائي الإسلامي/الإنساني بخاصة، وكذلك في تجديد الفقه الإسلامي، وتقديمه بأسلوب عصري مستوعب للأصول، ولا ينفك عنها بحال من الأحوال.

 

النشأة والأسرة:

ولد العلامة العوا في الإسكندرية يوم 14 من ذي الحجة 1361هـ = 1942/12/22م. ونشأ في أسرة من الطبقة المتوسطة، وكان أبوه -وقت ولادته- رئيس تفتیش مصلحة التلفونات (هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية الآن) في منطقة الإسكندرية، والتي كانت تمتد من مديرية البحيرة إلى الحدود مع ليبيا، بما فيها من مدن ومراكز وقرى.

تنتمي أمه إلى إحدى عائلات البحيرة (عائلة أبو عجلة) من قرية المحمودية. طلقت أمها -رحمها الله- بعد ولادتها بزمن قليل، فكفلها خالها الحاج محمود العطار من أعيان البحيرة ثم الإسكندرية، وهو أول من اتخذ (قمائن) الطوب الأحمر، ومن إنتاجه بنيت أهم مباني الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين في مدينة الإسكندرية وما حولها.

وعائلة "العوا" سورية الأصل، وليست مصرية؛ فقد هاجر جده عبد الله سليم العوا لأسباب سياسية من الشام (غوطة دمشق) إلى الإسكندرية عبر اللاذقية في الثلث الأخير -تقريبا- من القرن التاسع عشر. وقد وُلد له ثلاث بنات وخمسة ذكور، وتوفي سنة ميلاد العلامة العوا 1361هـ = 1942م. ولا تزال عائلة العوا تسكن "دمشق"، وهم يعملون في مهن متعددة.

نشأ العلامة العوا في منطقة (جليم جليمونوبولو) برمل الإسكندرية، وكانت بيوت أخواله وأقاربه في المنطقة نفسها. واعتاد وهو طفل صغير أن يقطع المسافة من بيته إلى بيوتهم مشيا في نحو عشر دقائق لأبعدها من بيته، ودون ذلك للبيوت الأقرب. أما بيوت أعمامه فكانت في منطقة محرم بك، التي كان فيها آخر بيوت جده عبد الله العوا رحمه الله. وعلى الرغم من بُعد المسافة بين المنطقتين فقد عوده أبوه رحمه الله على زيارتهم مع أشقائه منذ طفولتهم؛ فكان يصطحبهم معه لزيارتهم مرات في كل شهر، وما إن يبلغ أحدهم سنا يستطيع فيه التنقل بالمواصلات العامة وحده حتى يشجعه على زيارتهم وحده. وكثيرًا ما كان هو وأشقاؤه في الإجازات يمضون الليالي ذوات العدد في بيت جدهم، الذي استقر فيه اثنان من أعمامه، أو يأتي أولادهما إلى بيتهم؛ ليقيموا فيه معه، ولا سيما في إجازة المدارس. يقول العلامة العوا: "كانت حياتنا في بيتنا حياة مليئة بالحركة؛ فالضيوف لا يتوقفون عن الوفود إليه، وأصدقاؤنا (نحن الأبناء والبنات) موجودون بصورة شبه دائمة، والجيران يحلو لهم زيارة الوالدين -النساء نهارًا والرجال بعد المغرب أو قبلها- بل إن كثيرا من القادمين من خارج الإسكندرية، أو خارج الوطن، يقيمون في البيت إقامة كاملة مدة بقائهم في الإسكندرية. وكنا نحن الذين نقوم على خدمتهم، وتوفير سبل، راحتهم، وهكذا عرفنا معنى البيت المفتوح، ومعنى إكرام الضيف، ومعنى قول الشاعر:                 

   "لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها        ولكن أخلاق الرجال تضيق"(!)"([1]).

وما قاله -في الفقرة السابقة- يكشف عن واحدة من الخصال الحميدة التي اشتهر بها العلامة العوا؛ ألا وهي: الكرم الحاتمي، وحب الضيوف وترحيبه بهم، بل وأكاد أقول: "وبحثه عنهم". ولما كان يتكرم ويدعوني لبيته العامر، فقد شهدت فيه مرات ومرات ضيوفا من مختلف الأقطار، واستمعت إلى أحاديثهم في جلائل الأمور، وأفدت كثيرًا من تنوع تخصصاتهم، واختلاف ألسنتهم. وأذكر أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين (المرجع الشيعي اللبناني المعروف) كان ضيفه ذات ليلة إبان الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003م، وكنت حاضرًا، وكان المجلس يغص بعدد كبير من العلماء والمفكرين والسياسيين من مصر ومن خارجها، وكان من الذين تكلموا في تلك الليلة الدكتور [أحمد] كمال أبو المجد (وزير الشباب [ثم وزير الإعلام] في عهد الرئيس السادات، والمحامي وأستاذ القانون والمفكر المعروف)، وكان حاصل كلامه ما معناه: "إن الغزو الأمريكي للعراق بات أمرًا واقعًا، وإن الخلافات إذا ظلت تمزق الأمة فلا خلاص من هذا البلاء، ولا جدوى من أي جهاد أو مقاومة إلا عندما تتحقق الوحدة". استمع الحضور لما قاله، وإذا بالعلامة مهدي شمس الدين ينهي اعتدال جلسته، ويضع ساقًا فوق الأخرى -حتى بان أثر ارتفاعها من تحت عباءته- في مواجهة الدكتور كمال أبو المجد، وكان مما قاله معقبا به على حديث أبي المجد (حرفيًا): "لا بديل عن المقاومة ... كفى تخذيلًا للأمة ... وإذا انتظرنا حصول الوحدة، فلن يتحرر شبر من بلادنا المحتلة". وهنا بادر العلامة العوا وتدخل بلباقته المعهودة، وصرف الحديث إلى وجهة أخرى؛ تفاديا لمزيد من الإحراج.

كان ترتيب العلامة العوا الثالث بين إخوته: سبقه أخوان، وجاءت بعده أختان. وكان أبواه لا يفرقان في المعاملة أو التعليم أو التربية أو التوجيه بين ذكر أو أنثى. ويذكر أن من نوادر أمه -رحمها الله-: عنايتها بحقوق الغائب من الأبناء أو البنات حتى فيما تطهوه من طعام يحبه، فتحفظ له نصيبه في المجمد (الفريزر)؛ حتى يعود من غيبته، بل كانت ترسل إلى المقيم خارج البلاد نصيبه من كعك العيد(!).

 

التعليم:

قال لي إن أمه علمته كما علمت سائر أبنائها وبناتها - القراءة والكتابة، وأصول الأعداد والحساب وجدول الضرب، وإن أباه أقرأه وإخوته جزء عم أو بعضه لمن لم يكمل القراءة، قبل أن يصلوا إلى سن دخول المدارس النظامية. التحق العوا في سن الخامسة بمدرسة يحيى باشا الأولية النموذجية بالإسكندرية، ومكث فيها عاما دراسيا واحدًا، انتهى بكارثة تعليمية بقي أثرها معه طول حياته كما قال، وهي: "كراهيته لدراسة الرياضيات وما يتصل بها من علوم (!)"؛ ذلك أن مدرس الرياضيات عاقبه لأنه لم ينجز (الواجب) كما كان ينبغي، وكان هذا صحيحًا، لكن العقاب كان قاسيا، أحدث تورما خلف مفصلي الركبتين، اقتضى علاجا طبياً مدة يرى الآن أنها كانت طويلة.

يقول: "يعاودني الشعور بالألم في موضع العقوبة كلما ذكرتها. وقد تركت مدرسة يحيى باشا قبل نهاية العام الدراسي، وألحقت بعدها بمدرسة المعارف الابتدائية، ملتحقا بشقيقي عبد الله وعبد الرحمن، وفيها أتممت الدراسة الابتدائية، ولحقني في السنة الأخيرة تعديل نظام التعليم، فحصلت منها على شهادة إتمام الدراسة الإعدادية، وانتقلت بعدها إلى مدرسة الرمل الثانوية القديمة، التي تخرجت فيها سنة 1959م؛ لألتحق بكلية الحقوق في جامعة الإسكندرية".

كان المدرسة المعارف العمومية ثم لمدرسة الرمل الثانوية أكبر الأثر في تكوينه المعرفي؛ فقد كان في كل منهما نخبة من أفذاذ العلماء الأزهريين والدرعميين والتربويين؛ الذين كانوا يتخرجون من معهد إعداد المعلمين بعد دراسة سنتين تليان الدراسة الجامعية؛ وكان يديره -أو يشرف عليه- الأديب الكبير والمربي الفذ محمد سعيد العريان الذي كان يكتب على بطاقته (كروت الزيارة): "التقي النقي"، وتحتها اسمه، وكم فتش في الفصول، ولا سيما في مدرسة المعارف، على المدرسين في تدريبهم العملي، فكان إذا أعجبه جواب تلميذ أو صوابه، أخرج له واحدة من هذه البطاقات ووقع عليها، وطلب منه الاحتفاظ بها، والنظر إليها؛ لئلا يصيبه الكسل عن الدرس الجاد (!) وعن تلك المرحلة يقول أستاذنا العوا: والحق أن ذلك فعل فعله معي شخصيًا، وكنا يباهي بعضنا بعضًا بالعدد الذي حصل عليه كل منا من هذه البطاقات".

وكان لكل مدرس خصوصيته التي تجعل التلاميذ يلتفون حوله، ويلاحقونه في الفترات بين الدروس؛ فمنهم من كان اهتمامه بالقرآن الكريم وتعليم الدين، ومنهم من كانت العربية تستحوذ عليه، فيطيل الكلام عن خصائصها ومميزاتها وبديع نظمها ونثرها، ومنهم من كان التاريخ همه، فكانت حلقته تجمع بين الفائدة التاريخية والمتعة القصصية ... ولكل من هؤلاء أفضال لا تحصى، وآثار يصعب تمييزها في توجهه المعرفي، وفي تكوينه الثقافي.

وكان للكتب المدرسية نكهة خاصة -فقدت مع الأسف في كتب هذا الزمان- فكان من أسماء مؤلفيها طه حسين وأحمد الإسكندري وأحمد أمين وإبراهيم الإبياري والعناني ومحمد عوض وشفيق غربال ومحمد الأنبابي وحفني ناصف ومصطفى طموم ومحمد دياب وسلطان محمد وحمزة فتح الله ... وأعلام عديدون، أدوا رسالتهم نحو ناشئة البلاد كأحسن ما يكون الأداء.

يقول: "ولا أنسى فرحتي بيوم تسلم الكتب الدراسية، الذي كان يتم قبل بدء الدراسة بنحو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. كنت أعود إلى البيت محملا بوقر بعير أعكف على المجموعة الأولى، فأرهقها بقراءة عجلى لموضوعاتها كلها، ثم أعود إليها واحدًا بعد واحد، فأدرسها دراسة متأنية، لا تخلو من مراجعات لبعض المعلومات مع أبي أو أحد أعمامي أو أخوالي، أو في كتاب من الكتب التي تضمها مكتبة المنزل. ثم أبدأ العام الدراسي وأنا واع تمامًا بما في هذه الكتب من معارف وطرائف. أما المجموعة الثانية فحظي منها أن أتابع المدرس في شرحه، وأستعد بأدنى مجهود لامتحان نصف العام ثم نهايته، والأغلب ألا يبقى في الذاكرة من مسائلها شيء ذو بال (!) فقد كنت من هذه السن المبكرة قد اتخذت قرارًا نهائيا - وفقني الله تعالى لتنفيذه- أن مجال اهتمامي العلمي هو الدين وعلومه واللغة ومباحثها، وقبل أن أبلغ الثامنة من عمري كنت قد قررت الانتماء إلى دارسي القانون. وصَنَعت رحمة الله تعالى لي ذلك كله، ولله الحمد والمنة".

وكان من نصيبه عندما التحق بالجامعة أنه أدرك جيل العظماء من فطاحل رجال القانون والشريعة الإسلامية. أدرك شيخه العلامة محمد مصطفى شلبي رحمه الله، الذي درس له ولزملائه المحاضرة الأولى في كلية الحقوق سنة 1389هـ - 1959م، ومن ساعتها - ولا أقول يومها – نشأت صلة متينة الأساس قوية البينان بين الطالب والأستاذ، ولم تزل هذه الصلة تزداد وثوقا على الأيام، حتى لقي الشيخ محمد مصطفى شلبي ربه في 18 من ربيع الآخر 1418هـ = 21/8/1997م عن ثمانية وثمانين عاما. وأدرك أيضا الأستاذ الجليل الدكتور عبد الحميد متولي، أستاذ القانون الدستوري والنظم السياسية، وكان أديبا شاعرًا محبا للطرفة والملحة، وله منها مجموعة مرتبة، يلقيها في أثناء محاضراته على الترتيب نفسه سنة بعد سنة؛ قصد إخراج الطلاب من جفاف الدرس القانوني، وتنشيط أذهانهم ليتابعوه كما ينبغي. وقد اتجه منذ منتصف الستينيات إلى دراسة الفقه الإسلامي، فأصدر عدة كتب عن النظم الدستورية الإسلامية، لقيت رواجا كبيرا، وأفاد منها قراؤها، وهي - مثل كل عمل بشري - لا تخلو من مآخذ علمية، ولا سيما في رجوعه إلى الأحاديث النبوية، واختياراته لبعض الآراء الفقهية، لكن شيئًا من ذلك لا ينقص من أثرها - وقت صدورها - في الدراسات القانونية بعامة، وفي طلاب الدراسات العليا والدكتوراه الذين كان لها فضل كبير في توجيههم إلى الدراسة الإسلامية القانونية. وأدرك الفقيه الكبير الأستاذ الدكتور علي صادق أبو هيف، أستاذ القانون الدولي العام، ومن عجيب أمره رحمه الله أنه حصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة برسالة عن "الدية في الفقه الإسلامي"، وقد أشرف عليها شيخ شيوخه العلامة الشيخ أحمد بك إبراهيم. ثم تحول إلى دراسة القانون الدولي؛ ليصبح علما من أعلامه في مصر والوطن العربي. وقد خلفه في رئاسة القسم الأستاذ الجليل الدكتور محمد طلعت الغنيمي، ويصفه العلامة العوا بأنه "صديقه الكبير"، وكان أحد أعضاء الفريق القانون المصري في تحكيم طابا.

وأدرك كذلك أستاذ القانون المدني الفذ الدكتور حسن كيرة، وأستاذ القانون المدني المتميز الدكتور شمس الدين الوكيل، وأستاذ القانون الإداري الكبير الدكتور محمد فؤاد مهنا، وأستاذ القانون الجنائي العلامة الدكتور حسن صادق المرصفاوي، وأستاذ القانون الجنائي الجليل الدكتور رمسيس بهنام، وأستاذ القانون التجاري الكبير الدكتور مصطفى كمال طه، والدكتور علي البارودي، الذي جمعته به بعد الدراسة صداقة امتدت إلى وفاته رحمه الله. كما أدرك الأستاذ الدكتور عوض محمد عوض، والأستاذ الدكتور عبد الفتاح الصيفي، وكلاهما أستاذ القانون الجنائي في حقوق الإسكندرية، ولهما في فقهه آثار باقية إن شاء الله.

وعن بقية أساتذته يقول: "هناك آخرون كثر، لا يليق أن أغفل ذكرهم لولا ضيق المقام. لكنني أخص بالذكر مشايخي الذين تعلمت على أيديهم - في المدرجات وفي عشرات المجالس الخاصة في مكاتبهم أو منازلهم-: الشيخ عمر عبد الله البيتوني، والشيخ مصطفى خفاجي، والشيخ بدران أبو العينين بدران، والشيخ عبد العال عطوة، والشيخ عيسوي أحمد عيسوي، والشيخ طه الدسوقي العربي، والشيخ زكريا البرديسي، والشيخ زكي الدين شعبان، رحمهم الله جميعًا؛ فلكل منهم فضل علمي خاص علي أذكره ولا أنساه".

شارك في المدرستين الابتدائية والثانوية في نشاط الكشافة، ثم الجوالة، وفي النشاط الثقافي في جماعات الصحافة والخطابة، وفي النشاط الرياضي في الكرة الطائرة والسباحة وتنس الطاولة؛ ولكنه لم يفلح أبدا في الانضمام لفريق - أي فريق - لكرة القدم(!). وفي الجامعة انضم إلى جماعة الرحلات، وشارك في إصدار عدة صحف حائطية، أهمها (المنتدى)، التي زامل فيها الأصدقاء محمود طلعت مفتاح (رئيس محكمة استئناف القاهرة وعضو مجلس القضاء الأعلى فيما بعد)، ومراد منير فهيم (أستاذ القانون التجاري فيما بعد)، ومحمد حلمي الحسيني (شيخ الطريقة القادرية بالإسكندرية الآن)، وفؤاد علي فهمي طمان (المحامي الشهير والشاعر الكبير بالإسكندرية)، وقد استمر إصدار (المنتدى) نحوا من أربع سنوات، ثم توقفت بعد تخرج فؤاد طمان من الجامعة.

وكان من زملائه النابهين في الدراسة الجامعية الدكتور سعيد يحيى، أستاذ القانون التجاري بعد ذلك، والمحامي الآن، والدكتور محمد السعيد الدقاق أستاذ القانون الدولي العام، والدكتور محمد رفعت عبد الوهاب، والدكتور ماجد [راغب] الحلو أستاذ القانون العام، والدكتور فخر الطاهري، المستشار بعد ذلك بمجلس الدولة، والمستشار محمد عبد العظيم الشيخ الرئيس الأسبق لهيئة قضايا الدولة والمستشار حسيب البطراوي رئيس محكمة جنايات القاهرة السابق رحمه الله، والشعراء: إبراهيم التلواني، ومحمد صالح، وعشرات غيرهم يضيق المقام عن ذكرهم.

 

القراءات الحرة:

بدأ العلامة العوا القراءة الحرة في سن مبكرة جدا، ربما كان ذلك في نحو الثامنة أو التاسعة من عمره، يقول: "أنا لا أذكر نفسي غير مرتبط بكتاب أقرؤه، ولا أذكر وقتا منذ تلك الطفولة - لم تكن لدي (كتبي) التي لا تختلط بمكتبة المنزل، وأغضب جدا إذا عدت من المدرسة فوجدت بعضها في غير مكانه. ولست أستطيع أن أحدد كتابًا بعينه كان له الأثر الأكبر في تكويني الثقافي والفكري. لكنني قرأت منذ ذلك الوقت لعبد العزيز جاويش كتابه العجيب: الإسلام دين الفطرة والحرية، وأذكر جيدا أنني قرأته مرات عديدة، كانت كل مرة منها بمثابة القراءة الأولى؛ لما فيه من فكر حر غير تقليدي، ومن لغة سهلة ممتنعة بليغة راقية؛ لكنها يسيرة قريبة من القارئ الناشئ بقدر ما هي ممتعة للشادي والمنتهي. وقرأت في ذلك الزمان كتب طه حسين الأيام، ودعاء الكروان، وكنت أجمع (حديث الأربعاء) قبل أن تصدرها دار المعارف في أجزاء ثلاثة، وقرأت كثيرا من سلستي (اقرأ) وكتاب (الهلال)، غالبها عن الشخصيات التاريخية التي كانت تهتم بها هاتان السلسلتان، وبعد مدة من التعلق بالكلام المكتوب اكتشفت الشعر، وكان اكتشافا له وقع السحر في نفسي، فتعلقت بكبار الشعراء: شوقي وحافظ والديب. ثم تعرفت إلى الفطاحل القدماء: المتنبي والبحتري وابن الرومي وجرير والفرزدق ... وغيرهم، ولا تزال بعض النسخ الرديئة الرخيصة التي اقتنيتها من دواوينهم بسبب ضيق ذات اليد موجودة في مكتبتي، أرجع إليها؛ لأستعيد ذكريات القراءة الأولى الصعبة، وألتذ بما كنت أدونه على بعض صفحاتها، عن بيان أخذه عن بعض مدرسي في مدرسة الرمل الثانوية، وقد كان عدد منهم من الشعراء المجيدين؛ كالأستاذ توفيق جبر، والأستاذ إبراهيم اللقاني وغيرهمها".

وقد ترك والده أثرًا مهما في تكوينه الثقافي، وفي توجيهه الفكري العام. كان والده لا يفتأ يدله على كتب التفسير والفقه والحديث، ويطلب منه في أحيان كثيرة - أن يقرأ له بعض المواضع منها، وكان رحمه الله يقدر المعاجم تقديرًا خاصًا. يقول: "ولا أذكر أن أحدًا منا نحن الخمسة -سأله عن معنى كلمة عربية أو إنجليزية أو فرنسية وكان يجيدها جميعها مع الإيطالية- وأجابه إلا بقوله: (هات القاموس)، فإذا ذهب السائل ولم يعد، استدعاه وسأله عما وجده، وطلب منه قراءة الكلمات المشتقة أو المتصلة بالكلمة التي سأل عنها... وهكذا تكونت ملكتي اللغوية، وتأسس حبي للغة وتعلقي بها".

 

 العلماء:

إلى جانب أساتذة القانون السابق ذكرهم، تأثر الدكتور العوا أيضًا بعدد آخر من كبار الأساتذة، منهم الأستاذ الدكتور توفيق حسن فرج رحمه الله، أستاذ القانون المدني، والأستاذ الدكتور أحمد أبو الوفا أستاذ قانون المرافعات المدنية والتجارية، وقد كان لكل منهما أثر كبير في توجيهه الصحيح للدرس القانوني، والبحث العلمي فيه.

أما علماء الشريعة الذين لهم الفضل العلمي عليه؛ فقد بدأ معهم منذ الطفولة المتأخرة -كان عمره نحو عشر سنين- حين عرف دروس العلم في جمعية أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية، فاستمع واستمتع - كما يقول- بدروس العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ محمد متولي عركز ... كان عالمًا في الحديث، وتاجر حدايد وبويات، (يبيع بنفسه رحمه الله) والشيخ عبد الفتاح عفيفي في مصلى مدرسة المعارف، والشيخ منصور النمر في مسجد القباني بالإسكندرية، وكان مدرسًا له في مدرسة المعارف نفسها، والشيخ عوض عبد العال عوض في مسجد أحمد سالم (جامع الصيني؛ لأن منشئه كان من كبار تجار الأدوات المنزلية)، والشيخ محمد الشوربجي في مسجده، والشيخ إسماعيل حمدي في مسجدي الهداية والشوربجي (كان له درسان أسبوعيًا). ثم التحق بالجامعة، وكان لقاؤه بشيخه الكبير العلامة الفقيه الأصولي الحنفي الشيخ محمد مصطفى شلبي، وبه بدأت صحبة لم تنقطع في سفر ولا حضر نحوا من أربعين سنة. وأفاد إفادات لا تحصى من العلماء الآخرين الذين سبق ذكرهم في فقرة (التعليم)، رحمهم الله.

في لندن أشرف على رسالته أولا الأستاذ أندرسون، (وكان وقتها عميدًا) Institute of Advanced Legal المعهد الدراسات القانونية المتقدمة (Studies)، وأستاذا للقانون في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. ثم (School of Oriental and African Studies) تقاعد بعد سنة من تسجيله لرسالة الدكتوراة، وانتقل الإشراف إلى الأستاذ كولسون، الذي أكمل عمل الأستاذ أندرسون، ولم يطلب تغييرًا واحدًا على الخطة، أو طريقة العمل التي أقرها سلفه (قارن لنفسك هذا مع ما يفعله الأساتذة في جامعاتنا من تعذيب للطالب الذي يكون في مثل ذلك الموقف).

وفي جامعة لندن، أدرك أيضًا الأستاذ برنارد لويس، بمواقفه المعروفة من العرب والإسلام، وحضر عددًا من محاضراته العامة. وتعرف إلى الأستاذ جون إسبوزيتو، الذي ترك بريطانيا وانتقل إلى الولايات المتحدة، ولا تزال صلته الشخصية والعلمية مستمرة إلى الآن. وتعرف كذلك إلى عشرات العلماء من مختلف بلدان العالم، ممن كانوا يدرسون له في لندن في السنوات الأولى من السبعينيات، وقد سبق بعضهم إلى دار القرار، ولا يزال البعض الآخر يؤدي رسالة العلم، ويدفع ضريبة المعرفة؛ تعليما للناس، وتوجيها لطلابه، ومساهمة في النشاط العلمي والثقافي العام([2]).

 

في محراب العلم والعدالة وميادين العمل العام:

تنوعت إسهامات العلامة العوا العلمية والعملية ما بين ميادين متعددة أهمها:

1- ميدان العلم: تأليفا وتدريسًا بعدد من الجامعات المصرية والعربية والأفريقية، وعضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوا بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعضوا بالمجلس الأعلى ومجلس الخبراء المركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية (لندن).

2 - ميدان العدالة وكيلا للنائب العام في مستهل حياته العملية، ثم محاميا في ساحات المحاكم، ومحكما في المنازعات محليا ودوليا.

3- ميدان السياسة والثقافة: حيث أسس "جمعية مصر للثقافة والحوار"، وشغل منصب الأمين العام للاتحاد العالمي للمسلمين، وخاض الانتخابات الرئاسية التي جرت في سنة 2012م عقب ثورة 25 يناير 2011م.

وتغطي مؤلفاته من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات أغلب تلك الميادين. ويصعب حصرها هنا، ومن أهمها وأقدمها صدورًا كتاب "في النظام السياسي للدولة الإسلامية"، الذي صدرت طبعته الأولى في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكتاب "في أصول النظام الجنائي الإسلامي" (صدر في سنة 1979م)، وكتاب "الفقه الإسلامي في طريق التجديد" (صدر في سنة 2006م)، وكتاب "للدين والوطن: فصول في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين " (صدر في سنة 2006م).

وتحتاج هذه المؤلفات وغيرها من البحوث والدراسات والمقالات إلى كثير من الجهد لرسم معالم المشروع الفكري الذي انشغل به العلامة العوا، ولا يزال - يحفظه الله - مثابرا على الانشغال به. وهنا تعريف مجمل بأحدث مؤلفاته:

أحدث مؤلفات العلامة العوا هو كتابه الذي صدر في سنة 2016م بعنوان "المدارس الفكرية الإسلامية من الخوارج إلى الإخوان المسلمين" (511 صفحة) ([3]). وقد اقتصر فيه على المدارس التي استمدت فكرها من القرآن والسنة، وسلمت بمرجعيتهما العليا؛ باعتبار أن هذا التسليم وذاك الاستمداد هما الخصيصة التي تجعل ما قدمته هذه المدرسة أو تلك حقيقا بوصف "الإسلامي". وما بين أول مدرسة وآخرها ظهورا؛ تتبع العلامة العوا بطول نفس - مدارس الإباضية والشيعة الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية والمعتزلة، والصوفية، وأهل السنة والجماعة، والسلفية، والسلفية الإصلاحية، واختتم ببعض الجهود والاجتهادات الفردية.

وقد يتبادر إلى الذهن أن ماء هذ النهر الطويل كله عذب سائغ للشاربين، وفرات نافع للقاصدين. وهذا بعيد عن الصواب، والصواب بعيد عنه. فبعض مائه كدرته الأوشاب. وبعضه أَسَنَ وتغيرت رائحته، وفقد طهوريته. وبعضه غاض في الأرض، وأمسى غورا، أو اختلط بغيره من الأمواه الأجاج، فأصبح مثلها وأخذ حكمها، وبعضه أضحى كأنه السراب؛ يحسبه "الظمآن" ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. وبعضه بقي مباركًا، تنبت به الجنات وحب الحصيد، وظل غدقًا مسكوبًا، يسقي الحرث، وينشر الخير، ويعمر الأرض.

قرأت هذا الكتاب من "طرته" إلى "حَرْدِه" مرتين. وتأكد لي في المرتين أن "نهر الفكر الإسلامي" لم يصل إلى نهاية تاريخه بعد، وأنه سيظل يتدفق إلى آخر الدنيا، وأن مياهه مهما تكدرت وعلاها الغثاء حينا، فإن "الأصول العالية" لهذا الفكر تحمل بداخلها أدوات تنقيته وتطهيره وتجديده في كل حين. وإذا كان النَّفْرِيُّ يقول إن: "القراء ثلاثة: قارئ قرأ، وقارئ عرف، وقارئ فَهم"؛ فإنِّي بعد أن انتهيت من قراءتي الثانية، تحققت من صدق قوله، ووجدت أن ليس كل ما قرأته عرفته، وليس كل ما عرفته فهمته حق فهمه. وعليه فإن ما سأقدمه هنا في سياق التعريف الموجز بأستاذنا العوا، هو مزيج مما استقام لي فهمه بعد قراءته ومعرفته واخترت أن أعرض هنا عددًا محدودًا من بين عشرات المسائل التي امتلأ بها الكتاب، تاركًا للقارئ الكريم قراءة كل مسائله بتفاصيلها فيه؛ إذ هو بالفعل: "لا تُغني قراءة بعضه عن بعضه"، لمن أراد الإلمام بتيارات الفكر الإسلامي المتنوعة ومدارسه المختلفة.

 

مسألة المنهج:

سطر العلامة العوا منهجه بوضوح في مقدمة الكتاب، والتزمه بصرامة من أوله إلى آخره. وحاصله هو: "أن لا ينسب إلى مدرسة فكرية، أو عالم من علمائها، إلا الكلام الذي أوردته المدرسة في كتبها المعتمدة، أو كتب العالم المعني نفسه، أو نقله عنه غيره من موافقيه أو مخالفيه نقلا صحيحًا" (ص 19). والاستثناء الوحيد من هذا المنهج هو ما أورده عن "الخوارج "؛ والسبب هو عدم وجود كتب لهم. وقد استعاض عن ذلك بما كتبه العلماء الثقات عنهم. ثم إنه أجرى كثيرًا من المقارنات والموازنات في كثير من القضايا. وليست قوة هذا "المنهج" في وضوحه وبساطته، وكونه مقارنا فحسب؛ وإنما في عمقه وأصالته واستقامته أيضًا. أما عمقه؛ فلأنه يغوص في مدونات المدارس المختلفة وأقوالها، ويعرف بمؤسسيها وأئمتها، ويميز أصولها من فروعها، ويقارنها أحيانًا بغيرها من المدارس، ويختار منها ما يصورها تصويرا مطابقا لحقيقتها قدر المستطاع، دون نصرة مدرسة على أخرى؛ إلا في حالات قليلة. وأما أصالته؛ فلأنه تطبيق مباشر للقول المأثور:

"آفة الأخبار رواتها"؛ إذ لم ينقل عن خصوم المدارس ولا عن منتقديها. وكان من ثمرات الالتزام بهذا المنهج أنه سد أغلب طرق الطعن على ما سرده عن كل مدرسة، وأكسب جل ما انتهى إليه من أحكام بشأن هذه المدارس قوة "الأمر المقضي"؛ وبذلك استقامت أحكامه التي انتهى إليها، وخرج بعد أن خاض في معمعة المطارحات والاختلافات سالما غانما، لم تبتل قدماه.

وقد يسرع البعض إلى القول إن "منهج" هذا الكتاب لا يعدو كونه منهجًا "تاريخيًا"؛ ليس فيه شيء من التحليل أو النقد أو التقييم. ولمثل هذا القول ما يبرره في ظاهر متن الكتاب، فلدينا التصريح الوارد في مقدمة الكتاب يعلن "الالتزام بالنقل" من المصادر المعتمدة عند كل مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي، ولدينا هوامش الصفحات ملأى ببيانات تثبت فعلًا أن ما ورد عن كل مدرسة هو من مصادرها المعتمدة. ولكن تدقيق سردياته بشأن تلك المدارس -عند مقارنتها بسرديات أخرى معاصرة- يكشف عن أن العلامة العـوا لم يكن مجرد ناقل" لروايات موثوقة فحسب؛ وإنما نجده "يختار" مـن مصادره، وينتقي روايات معينة ويعتمدها دون غيرها، وكأن النقد والتقييم عنده يتمثل في عملية الانتقاء من تلك المصادر. وظني أن مثل هذا الاتجاه يعبر عن شيء من التأثر بمنهج "أهل الحديث"، الذين يبحثون عن "أصح الروايات"، وطرح ما سواها جانبًا، بعد أن يتبين لهم ضعفها أو وضعها. وهذه عملية نقدية بالغة الدقة والصعوبة في آن واحد... مع إدراكنا أن ثمة اختلافات جوهرية بين ممارسة هذا النقد في مسائل ذات طابع "تاريخي"، وبين ممارسته في مسائل علم الحديث، ومنها أن المؤرخين الثقات يحذرون أساسًا من الهوى في تناول الأحداث، ويرون في تحليلها خروجًا على الموضوعية، بينما أهل الحديث يحذرون أساسًا من الزلل أو الكذب أو الوقوع في الإثم؛ نظرًا لما يترتب من أحكام شرعية على إثبات أو نفي صحة رواياتهم. وبأيسر نظر في متن هذا الكتاب وفي هوامشه يتبين لنا أن العلامة العوا قد تأثر بمنهج أهل الحديث في سردياته التاريخية عن مختلف مدارس الفكر الإسلامي؛ الأمر الذي أكسب عمله الاستقامة والسلامة معا، وليس في هذا مصادرة على حق الاختلاف معه.

 

مسألة الفرق والمدارس:

يحمل هذا الكتاب بين طياته الكثير من "جديد القول" في شأن مدارس الفكر الإسلامي. ولكن ليس من اليسير الوقوف على شيء من هذا "الجديد"، ما لم يتبين القارئ معالم منهجه النقدي على ما ألمحنا. ومن جديد هذا الكتاب أنه سمى "الفرق " أو النحل" باسم: "المدارس الفكرية". واستبدل هذا الاسم الجديد بالاسم القديم، الذي شاع في كتب التراث، بشأن كل مجموعة اجتهدت واتخذت مواقف مختلفة في مسائل كبرى ظهرت في أزمانهم، وتناولت -بالأساس- شئون العقيدة والاعتقاد، والسياسة والحكم، والإصلاح والثورة. وهذا "الجديد" وليد نظرة لا مراء في أنها "نقدية"، ورؤية "غير امتثالية " لاسم "الفرق " الموروث، والمتداول على نطاق واسع في كبريات المصادر منذ ألف سنة على الأقل.

وظني أن تسمية الدكتور العوا لتلك الفرق باسم "المدارس الفكرية"، قد جاءت "موفقة" و "تاريخية"؛ هي تسمية موفقة من جهة تصويرها واقع الحال الذي كانت عليه كل مجموعة من تلك المجموعات، أو "فرقة من الفرق". وهي تسمية "تاريخية" من جهة ارتباطها باسم المكان الذي ظهرت فيه أغلب أفكار مؤسسي تلك "المدارس" وطروحاتهم واجتهاداتهم؛ إذ الثابت تاريخيا أنها نمت وترعرعت في رحاب "المدرسة" بالمعنى المادي الذي يشير إلى المكان الذي كان يلتقي فيه العلماء ببعضهم وبطلابهم، وكان أغلب هذه "المدارس" ملحقا بالمساجد والجوامع الكبرى، على ما يقول عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي (ت: 927هـ) في كتابه: "الدارس في تاريخ المدارس". وكانت قاعات "المدرسة" تشهد -على الأقل- طرح الأسئلة والإشكالات، وبدايات المطارحات التي تبلورت ونضجت فيما بعد، وأكسبت كل "مدرسة" معناها الفكري الذي يميزها عن غيرها من المدارس الأخرى.

شرح العلامة العوا سبب تفضيله اسم "المدارس" على اسم "الفرق"، فقال: "لأن المدرسة لفظ يدل على محاولة طلب العلم، والتنوع في أساليب هذا الطلب. والتنوع [في ذلك] ضرورة ملازمة لأصل الخلق: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين (118)﴾ [هود]. والاختلاف في وسائل طلب العلم يؤدي - غالبا - إلى الاختلاف في النتائج وهو اختلاف تنوع، ما دام الأصل الذي يطلب العلم منه واحدا. وتلك هي الحال في الفكر الإسلامي؛ إذ إن أصل طلبه يكون مستمداً من العلم بالقرآن والسنة" (20،21).

يؤكد العلامة العوا أن هذا الاسم الجديد "مدارس الفكر الإسلامي"؛ يعني أن تلك المدارس "كلها داخلة في نطاق الأمة الإسلامية؛ أي نطاق الذين يستظلون بمظلة الإسلام"، كما يؤكد نسبتها إلى الفكر والاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ، بدلا من تسميتها: "الفرق الإسلامية"؛ لأنها تسمية تحيل إلى "الافتراق"، وإلى "المفارقة"، وإلى "الحق والباطل" و"الإيمان" و"الكفر" في "مسائل العقائد"؛ وهي مسائل لا تتسع - بطبيعتها - لتعايش الآراء المختلفة، ولا لضمان وحدتها في ظل تنوعها.

 

مسألة احتكار السلطة ومشكلتها المزمنة ... بلا حل:

من أعقد المسائل التي خاضت فيها المدارس الإسلامية المختلفة - بدءًا من الخوارج وصولا إلى الإخوان "مسألة السلطة". وقد تفرعت عنها قضايا كثيرة العدد وبالغة الأثر، من أهمها قضايا: "الشرعية"، و"التداول على السلطة"، و"أدوات المراقبة"، و"أساليب المحاسبة". كان أعظم ما تمخض عنه اجتماع "سقيفة بني ساعدة" هو انعقاد أول "إجماع" في تاريخ الإسلام بعد انتقال الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى. وقد انتهى الاجتماع بالإجماع على مبدأ "سلطة الأمة في اختيار الحاكم"، وكذلك في إقامة النظام المناسب المحقق لمصالحها. وبمفهوم المخالفة، كان هذا الإجماع نفيا لمبدأ وراثة السلطة، وللجمود على صيغة دون غيرها من صيغ الحكم وأنظمته. وتجلت في هذا الإجماع عظمة "الشورى"، بأفضل ما يكون التجلي.

لكن تلك المبادئ التي كشفت عنها "الشورى"، وقررها إجماع السقيفة، سرعان ما جرفتها الفتنة الكبرى، وانحرفت بها الأهواء في مسارات بعيدة، باتجاه الاحتراب على السلطة، وتحولت "الخلافة" إلى "ملك عضوض"، يغذيه نهران من الدماء: الأول: نهر الدماء المهراقة من أجل التغلب على الخصوم بقوة السلاح، والثاني: نهر الدماء المتحدرة بالوراثة من الآباء إلى الأبناء بقوة العصبية. ويقرر العلامة العوا -بحق- أن "الانشغال بالفكر النظري " بشأن السلطة، وبمن هو الأحق بها؛ لم يظهر إلا في مرحلة تالية على نشأة الدولة "عندما آتي الاستقرار السياسي والاقتصادي أكله، وظهرت ثمراته في عهد عثمان بصورة محدودة، ثم ابتداء من عهد علي؛ الذي ظهرت فيه مدرسة الخوارج على أثر الفتنة التي سببها قرار التحكيم" (ص 36).

عالج الكتاب هذه الإشكالية عند أغلب مدارس الفكر الإسلامي، في أكثر من موضع (انظر مثلًا الصفحات: 43 - 47 ، و66 - 68، و90، و239، و338)، وتناولها أيضًا في سياقات جدالية أخرى، منها سياق التفرقة بين إمارة المؤمنين، وإمارة الجماعات (ص 83 - (89) ، وسياق المقارنة بين "غيبة الإمام " عند الشيعة، و"غيبة الخلافة" عند السنة (ص: 146-155).

ورغم كثرة المطارحات التي انخرطت فيها مختلف المدارس قديما وحديثا -من أجل حل هذه المعضلة المزمنة- إلا أن أمتنا لم تصل بعد إلى بر السلامة، ولا يزال قانون "التغلب والقهر" هو السائد في الوصول إلى السلطة والخروج منها. ولم تفلح موجة الربيع العربي في تغيير هذا القانون، وبقي على حاله الذي كان عليه منذ معركة صفين. ومن حق شباب الأمة اليوم أن يسألوا: أين مكمن الخطأ؟ ولم تظل أمتنا بالذات دون غيرها من أمم الأرض ترزح تحت قانون التغلب والقهر"؟ وكيف يمكن تغيير هذا القانون، أو على الأقل تعديله؛ من أجل الخروج من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية؛ أسوة ببقية الأمم الحرة؟

من يقرأ هذا الكتاب يخرج بنتيجة واضحة في هذه المسألة، وهي: أنه لا يجوز الخروج على الحاكم الجائر؛ باعتبار أن حقن دماء المسلمين أولى من عزل حاكم لا يضمنون من يتولى الأمر بعده (انظر مثلا صفحة 66 ومواضع أخرى). أهل السنة يقولون بهذا الرأي، والإباضية يوافقونهم ... وحاصل قول الزيدية هو ترك السلطة لمن يتغلب عليها، ويخرج بها عن أوامر الله؛ لأنهم يجيزون "أن يتنحى الإمام إن لم يجد جماعة يعينونه على أمر الله، ويأتمرون له ويجاهدون معه". وكذلك الأئمة: مالك، وابن حنبل، وابن تيمية، لا يجيزون الخروج على الحاكم، ولو كان ظالما متغلبًا؛ تجنبًا للفتنة، وحقنا للدماء. أما الشيعة الإمامية -فقبل أن يتطور فكرهم السياسي بنظرية ولاية الفقيه، التي أنضجها الخميني، وقاد بها ثورة عارمة خلعت شاه إيران ظلوا لما يقرب من ألف سنة يعتقدون أن الأمة لا سلطة أصلا لها في اختيار "الإمام / الحاكم"، ولا في عزله؛ لأنه منصوص عليه، ومعصوم، ويجب انتظاره منذ غاب الغيبة الصغرى في سنة 260هـ، أو منذ "الغيبة الكبرى"، التي يقولون إنها بدأت في سنة 329هـ، ويدعون للإمام الغائب (حتى اليوم) بأن "يعجل الله فَرَجَه"(!).

في هذه المسألة، انتصر العلامة سليم العوا لرأي ابن حزم، وقال إنه يذهب إلى ما ذهب إليه، وهو: "أن الواجب إن وقع شيء من الجور، وإن قل، يُكلم الإمام في ذلك، ويُمنع منه، فإذا امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة والأعضاء، وإقامة حد الزنا والقذف والخمر، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان، لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من الواجبات عليه، ولم يراجع، وجب خلعه وإقامة غيره؛ ممن يقوم: بالحق" (نقلا عن: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 5، ص 16).

ولكن السؤال القديم لا يزال شاخصا، والإشكال لا يزال بلا حل، من ثلاث جهات على الأقل:

أولها: أن القول بأن "يكلم الإمام" وينصح ويمنع، لم يتضمن بيان كيفية أداء هذا "التكليم"، ولا أدوات "النصح والمنع"، ولا كيفية إقامة الإمام الجديد، وهل يكون الخروج سلميا أم مسلحًا؟، ولماذا صيغة "المبني للمجهول" في عبارة ابن حزم "يكلم"، التي تضفي غموضا فوق غموض؟ وألا يفتح هذا الغموض الباب واسعا أمام بزوغ قانون "التغلب " ليفعل فعله؟

وثانيها: أن "احتمال" استجابة الإمام وإذعانه للنصح وإقلاعه عن الجور، وعودته للحق؛ إن جاز في زمن ابن حزم، فإنه عسير "الاحتمال" في هذا الزمن المعاصر؛ لسبب موضوعي، وهو: أن انتخاب الحاكم أو بيعته -بعد تغلبه- لم تعد تتم: "على العمل بكتاب الله وسنة رسوله"، كما كانت في تلك الأزمنة؛ وإنما تقوم على أساس "احترام الدستور والقانون"، وفيهما ما لا يتوافق - ولو قليلا- مع كتاب الله وسنة رسوله.

وثالثها: وهو الأهم أن ما ذهب إليه ابن حزم (وغيره) لم يأتِ على مسألة "الشورى"، وهي من ثوابت الإسلام في شئون الحكم وأساس شرعية السلطة، وإنما جاءَ بما يفيد وجوب الطاعة، وهي من المتغيرات، ومن توابع الشورى. ومعنى هذا أن ما ذهب إليه لم يختلف في جوهره عما ذهب إليه جمهور السنة، وهو ما يتمخض -في حاصله- عن "تثبيت المتحرك وتحريك الثابت": أعني تثبيت الطاعة، والأصل فيها أنها مشروطة وتابعة للشورى الحرة، وتحريك الشورى، والأصل فيها أنها ثابتة لا يجوز تجاوزها، وإلا باتت شرعية السلطة ناقصة، وأغْطَشَ الاستبداد ليلها وضحاها.

يبين العلامة العوا في كتابه هذا السبب في أن كثيرًا "من أهل الفكر والفقه من أغلب تلك المدارس قد آثروا السلامة على الصدام مع السلطة"، ويشرح المسألة فيقول: "كأنهم رأوا أن الفائدة التي تعود على الإسلام وأهله من العلم النافع، والفكر المستقيم، أكبر من الضرر الذي يترتب على ظلم الحكام وبغيهم، ولا سيما أن هذا الظلم كان محدود الدائرة، إذا قيس بنفع العامة الذي كفله ترك الحرية للعلماء والمفكرين بعيدا عن دائرة السياسة". ثم يقول: "غير أن عصرًا من العصور الإسلامية لم يخل من علماء عاملين أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقدموا في سبيل ذلك حياتهم رخيصة في جنب إعلاء كلمة الله".

ودور العلماء في هذا الشأن -ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة- دور ضروري؛ ليظل أداء هذا الواجب منضبطًا بضوابط الشرع" (ص 239). ولكن إشكالية "التغلب بالقوة"، وتثبيت الطاعة وإلغاء الشورى لا تزال شاخصة، وبلغ عمرها ألف سنة أو يزيد. ورغم تنوع اجتهادات المدارس الفكرية الإسلامية التي تناولها العلامة العوا في هذه المسألة؛ إلا أن "مدرسة الصبر على ظلم الحكام وجورهم"، لا تزال أوسع المدارس التي تأوي إليها أغلبية جمهور العلماء والمفكرين منذ موقعة صفين، ومع هذا الصبر الطويل لم تصل الأمة إلى حل هذه الإشكالية حتى اليوم، بينما تمكنت أمم الغرب من حلها بعد نضالات طويلة، حتى استقرت لديهم "سلطة الأمة"، وأضحى حكامها خدامها. وقد تنحل هذه الإشكالية عندنا في اليوم الذي تسترد فيه الأمة سلطتها في إقامة الحكام بالشورى الحرة، وإقالتهم بالشورى الحرة، وتكون الطاعة الواجبة لأولي الأمر تابعة لقرار الشورى، وتتقيد سلطات هؤلاء الحكام، فلا تكون مطلقة، وتتحدد مدة وجودهم في السلطة، فلا تكون مدى الحياة، وتنزاح من حولهم مظاهر البذخ والأبهة من القصور المترفة، والألقاب الرنانة؛ فلا صاحب جلالة ولا فخامة، ولا سمو ولا معالي، ولا سعادة، وإنما يكفي فقط: "رئيس" أو "مسؤول" منتخب لأداء خدمة عامة، ويخضع للرقابة والمحاسبة.

 

مسألة مؤسفة في "مدرسة" ابن عبد الوهاب":

بعض ما ورد في كتاب العلامة العوا بشأن سلفية الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115 - 1206هـ)، يترك القارئ الحليم حيران؛ ليس بسبب دعوته لتخليص التدين الإسلامي من مظاهر الشرك والبدع التي شاعت في البيئة التي نشأ فيها؛ فهذه صفحات محمودة ومشرقة من اجتهاده وجهاده؛ وإنما بسبب الروايات التي تؤكد أنه ذهب إلى "تكفير أصحاب البدع والشركيات"؛ ليس فحسب؛ بل ذهب إلى "الأمر بقتالهم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله الله". وهي روايات وثقها العلامة العوا - ملتزما بمنهجه - من المصادر المعتمدة عند ابن عبد الوهاب نفسه، وعند أتباعه المخلصين. وقد سرد جوانب منها في الفصل الذي كتبه عنه (ص 363 - 386).

وأحد تلك الجوانب التي يندى له الجبين، وتقْشَعِرُّ الأبدان من هول فظاظته وفظاعته هو: قصة ابن عبد الوهاب مع أخيه الشيخ سليمان، الذي اختلف معه -في أول أمره- وذهب إلى عدم جواز تكفير المعين (شخص بعينه أو مجموعة بعينها) أو قتله. وسجل الشيخ سليمان انتقاداته على ما ذهب إليه أخوه في رسالة بعنوان "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية". وتقول القصة إن الشيخ سليمان أرسل رسالته تلك مع شخص اسمه "سليمان بن خويطر"؛ ليبلغها لأتباع أخيه محمد بن عبد الوهاب، فما كان من هذا الأخير إلا أن: "أمر بقتل من حمل الرسالة"؛ خوفًا من تأثيرها في أتباعه، فتم قتله. وبعد قتل الرجل كتب ابن عبد الوهاب رسالةً -لا في التوبة من هذه الجريمة- وإنما في الرد على رسالة أخيه سليمان بعنوان "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد". (راجع الرواية من مصادرها الموثقة، وتعليق العلامة العوا عليها في كتابه هذا: ص (371 - 380).

وليس هنا مجال مناقشة أي شيء يتعلق باجتهادات ابن عبد الوهاب في محاربة البدع ومظاهر الشرك، ولا دوره في تأسيس الدولة السعودية الأولى، وتحالفه مع ابن سعود؛ فلهذا ولذاك أهله من المتخصصين؛ وإنما ما يُكدِّرُ الخاطر، ولا يسر عين الناظر في كتاب العلامة العوا هو: التماس الأعذار لأمر ابن عبد الوهاب بقتل "سليمان بن خويطر"، الذي حمل، أو حتى روّج -على ما يقول بعض المؤرخين- رسالة سليمان بن عبد الوهاب في الرد على أخيه محمد. وقد نقل العلامة العوا (ص375) أن الدكتور عبد الله الصالح العثيمين قد "التمس سبب غضب ابن عبد الوهاب" على الرسالة وحاملها، فقال إنه: "كان يخشى تأثير هذا الكتاب في نفوس الآخرين؛ ولذلك أمر بقتل من أحضره ..."، واستطرد العلامة العوا بعد قول العثيمين وقدم أربعة أسباب، شرح بها تلك "الخشية" ص 375، و376)، ثم قال: "من أجل ذلك كله كان موقف ابن عبد الوهاب من رسالة أخيه الشيخ سليمان موقفًا مختلفًا تمامًا عن موقفه من مخالفيه الآخرين، وليس من عمل هذه الدراسة أن تفصل بين أصحاب المدارس الفكرية وأتباعها، وبين خصومهم؛ إنما همها الأساسي أن تعرف أثرهم في حياتنا الثقافية والفكرية والدينية والسياسية".

وقبل ذلك، انتهى العلامة العوا إلى القول إنه: "... تبقى هذه الواقعة (أمر ابن عبد الوهاب بقتل سليمان بن خويطر) محلًا لمزيد تقص وبحث ودراسة لأسبابها وملابساتها، وهذا كله قد يؤدي إلى زيادة اليقين بصحة المشهور المتداول أنه أمر بقتله)، أو إلى الشك فيه، أو إلى ثبوت بطلانه، وكل ذلك لا يؤثر في الصورة العامة المجملة، التي تحاول هذه الدراسة استخلاصها للمدرسة الوهابية باعتبارها الإحياء الثالث للفكرة السفلية".

وليس من المقبول قبول ما انتهى إليه العلامة العوا في هذا الفصل المؤسف من فصول "مدرسة ابن عبد الوهاب"؛ إذ الأسئلة تظل مشرعة ومروعة بشأن تلك الواقعة، ومنها: أين هو الموقف المختلف لابن عبد الوهاب من مخالفيه الآخرين؟ ألم يزري على جميع مخالفيه، ويصفهم بالجهل، وعدم القدرة على التمييز بين دين محمد ودين عمرو بن لحي، الذي أدخل الأصنام إلى الكعبة قبل الإسلام؟ (ص) (372). ولماذا لم يوجه ابن عبد الوهاب أمر الانتقام - إن ثبت - إلى شقيقه الشيخ سليمان، وقد وصفه بأنه "زائغ وملحد، ومن أعداء الدين" (ص 377)، وأمر بقتل حامل رسالته، فهل "حمل الرسالة" لتوصيلها أشد وقعا على نفس ابن عبد الوهاب من تأليفها وكتابتها؟ أم أن دم ابن خويطر ليس من صنف دم أخيه؟

الإنصاف يقتضينا أن نقول: إذا ثبت أن ابن عبد الوهاب لم يأمر بقتل حامل الرسالة، فهو بريء، وأجره على الله، والإثم على الذين اتهموه بلا دليل. أما إذا أثبت التمحيص والبحث الذي دعا إليه العلامة العوا - أنه أمر بقتل "سليمان بن خويطر" لهذا السبب وحده- وهو أنه حمل الرسالة لتوصيلها إلى من طلب الشيخ سليمان منه توصيلها إليه - فإن ابن عبد الوهاب في هذه الحالة يكون قاتلا لنفس بريئة، ويكون في رقبته دم المقتول إلى يوم الدين، ما لم يكن أولياء الدم قد عفوا عنه. ثم هل حقا أن هذه الواقعة - في حال ثبوتها - "لا تؤثر في الصورة العامة للمدرسة الوهابية "؟ أم أنها أثرت ولا تزال تؤثر؟ وماذا عن "قاموس" التفسيق والتكفير والشتائم والسباب الذي ورد في كلام ابن عبد الوهاب عن خصومه ومخالفيه في الرأي، وتجهيلهم، والاستعلاء عليهم؟، ألا يستحق هذا "القاموس " الإدانة والرفض والبراءة منه وممن يرضون به؟! في جميع الحالات لن تفرغ من قراءة هذا الجزء من الكتاب (ص 363 - 386) إلا وأنت حزين مقطب الجبين.

 

أفضل ما تبقى لنا:

لنترك تلك المسألة المؤسفة، ونمضي لنتعرف إلى ما استخلصه العلامة العوا في خاتمة الكتاب، ورآه أنفع ما تبقى لنا من اجتهادات كل مدرسة من المدارس الإسلامية المختلفة التي بحثها. وأسوق هنا حب حصيد ما استصفاه منها، كما ورد في الكتاب (ص 467 -475)؛ ولكن في عبارات مختصرة على النحو الآتي:

  • الخوارج: تركت مدرستهم "فكرة عدم انحصار رئاسة الدولة الإسلامية في قبيلة أو عائلة أو طائفة، أو فئة بذاتها دون سائر الناس، وأن شرط الولاية هو الكفاءة وحدها. وهذا الرأي -والكلام للعلامة العوا- "هو الذي يجعل رئاسة الملوك والرؤساء الحاليين للدول الإسلامية جميعا رئاسة صحيحة، فليس فيهم أحد يدعي أن ولايته سببها نسبه القرشي، والذين ينتسبون إلى قريش منهم تولوا عروشهم لأسباب لا شأن لها بالقرشية، وجميع هؤلاء الرؤساء والملوك حكام غلبة، تصح ولايتهم من باب أن الضرورات تبيح المحظورات عند جمهور علماء المسلمين؛ ولكنها تصح صحة أصلية لا استثنائية، بسبب طول المدى الزمني الذي بقيت في أثنائه حال الضرورة، كما هو الحال في فكر الخوارج".
  • الشيعة الإمامية: تركت مدرستهم فكرة الحب العميق لآل بيت النبوة والانتصار لهم، ثم تركت في تطورها المعاصر "فكرة ولاية الأمة على نفسها"، و"فكرة رضا الأمة" كأساس الشرعية السلطة. والتقت في تطورها المعاصر أيضًا مع فكر أهل السنة، في رد الأمر كله إلى الأمة، وتأييد الانتخاب الحر، والولاية المقيدة من حيث المدة ومن حيث الاختصاص".
  • الزيدية: تركت مدرستهم "مبدأ مشروعية الثورة على الحاكم الظالم، والسعي لإقامة حكم الحق [العدل]"، وأن الإمامة ليست محل نص، وإنما موضع اجتهاد يخطئ الناس فيه ويصيبون"، وتركت كذلك فكرة جواز وجود إمامين في قطرين في وقت واحد، وهو أساس فقهي لتعدد الدول الإسلامية القائمة اليوم، بشرط التعاون الكامل فيما بينها، والموالاة التامة من بعضها لبعض".
  • المعتزلة: تركت مدرستهم "فكرة الاحتكام إلى العقل، وضرورة فهم الحكم الشرعي في نطاق قدرته وإمكانات إدراكه ... ولم يكونوا يعارضون قط نصوص الشرع برؤية العقل".
  • الصوفية: تركت مدرستهم -الخالصة من البدع والخرافات- "حب الزهد، وتقدير الزاهدين، والشجاعة في الحق، ولا سيما في مواجهة المستعمرين والطواغيت".
  • أهل السنة والجماعة: تركت مدرستهم "الموقف القرآني الذي انبثق عنه الجميع، وهو الأصل والمرجع، وهو الوسط المتوازن الذي لا يميل ولا ينحرف، وهو موقف الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة. وهو منهج يتوسط بين العقل والنقل، ولا يسرف في التأويل، ويقبل الدليل الصحيح من السنة، وهو موقف مفتوح للمسلمين كافة".
  • السلفية الوهابية: تركت مدرستهم "منهجا جديدًا في العمل لنشر الدعوة وتحقيق انتصارها؛ ذلك هو منهج التعاون مع الحكام، وكسبهم إلى صف الدعوة؛ ليكونوا مناصرين لها لا خصومًا".
  • السلفية الإصلاحية تركت مدرستهم "فكرة العودة بالدين إلى ينابيعه الأولى، وفهمه على طريق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف"، وتركت "فكرة تحرير العقل من قيد التقليد، وهي الفكرة التي فتحت باب التجديد والاجتهاد من أواخر القرن الثالث عشر الهجري".
  • الإخوان المسلمون: تركت مدرستهم فكرة شمول الإسلام للحياة كلها. والجمع بين التصور النظري للإسلام وفرائضه وأحكامه، وبين العمل الحركي لإحياء الالتزام به والدعوة إليه، والنزول على حكمه... وضرورة الاهتمام بالفرد فالأسرة فالمجتمع فالعالم؛ لتحقيق البلاغ الواجب لدعوة الإسلام".
  • السنهوري وعشماوي والشاوي: ترك أولهم عبد الرزاق السنهوري باشا فكرة "الخلافة الناقصة"، و "إقامة منظمة جامعة للدول الإسلامية ... ووجوب النهضة القانونية والدستورية، التي تحفظ الحقوق، وتحقق المساواة استنادًا إلى الشريعة". وترك ثانيهم حسن العشماوي باشا فكرة "الاعتداد إلى أبعد مدى بالحريات الفردية والجماعية"، وفكرة "احتمال تطبيق الشريعة لحلول متعددة للمشكلة الواحدة، وأنه ليس هناك حتمية فكرية، أو فقهية إسلامية؛ بل تنوع". وترك ثالثهم العلامة توفيق الشاوي فكرة أن "العمل الدائب أكبر قربة إلى الله"، وترك "فكرة التفرقة بين الشورى الواجبة الملزمة، والاستشارة المندوبة المعلمة؛ الأولى: هي وسيلة اتخاذ القرارات في الشئون العامة، والثانية: هي وسيلة التحقق من صواب الرأي ورجحان المصلحة".

 

وأخيرًا فإن أفضل ما تركه العلامة العوا في هذا الكتاب هو قوله إن: "الإسلام" يسع أهل القبلة كافة، فلا تبديع ولا تفسيق ولا تكفير، أما الخطأ والصواب فبابه واسع. وليس في الدنيا دين، ولا مذهب فكري يجعل للمصيب أجرين وللمخطئ أجرًا واحدا إلا هذا الدين القويم العظيم".

________________________________________ 

فصل مستل من كتاب: أعلام الاجتهاد والتجديد في الفقه والثقافة والسياسة، للدكتور إبراهيم البيومي غانم، صادر عن دار "مفكرون الدولية للنشر"، القاهرة: 2019، الطبعة الأولي، ص: 163-190.

[1] من نص جوابه على مجموعة أسئلة رجوته الجواب عنها، فوافاني مشكورا بما رجوت، وأرخه في 18 من رجب 1439هـ = 5 من أبريل 2018م.

[2] نهاية ما نقلته (بتصرف في الصياغة) من نص جوابه على مجموعة أسئلة رجوته الجواب عنها، فوافاني مشكورا بما رجوت، وأرخه في 18 من رجب 1439هـ - 5 من أبريل 2018م.

[3] صدر الكتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر (بيروت - 2016م)، وقد كتبت مراجعة له، ونشرها موقع "إضاءات" على شبكة الإنترنت، في جزأين: أولهما بتاريخ 2018/3/21م، والثاني بتاريخ 2018/3/30م.

Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.