اللغة العربية سياسة وحضارة وإستراتيجية معًا!

By أحمد بهاء الدين آب/أغسطس 31, 2024 576 0

 

  • هذا الموضوع يلح على خاطري كثيرًا...

ولعلي كتبت عنه قبل ذلك، ولكن أحداثًا كثيرة متنوعة تسوقه دائمًا إلى ذهني.

ذلك أنه موضوع تعليمي، ثقافي، سياسي، حضاري، فكثير من الأحداث أو الأنباء التي تقع، على اختلافها وعلى تباعدها الشديد، في موضوعاتها وفى مظاهرها، تزيد هذه القضية -التي اعتبرتها إستراتيجية- في ذهني اشتعالاً ...

ولا أملك إلا أن أسأل نفسي: هل ما زال العالم العربي، بتمزقاته، وصراعاته، وانشغاله بتوافه يومه، قادرًا على أن يخصص من عقله وماله ورجاله، جزءًا يعمل للقضايا ذات الحجم الإستراتيجي الضخم؟ أو أن ما سيقوله أي كاتب في مثل هذه الأمور يعتبر "ترفًا" لا نقوى –ونحن مشغولون بما نحن فيه- على التفكير والتدبير والعمل؟ بل مجرد إدراك أهميته؟...

إن الموضوع عنوانه "اللغة العربية" ولكن ليس جوهره هنا النحو والصرف والإعراب. ولكن جوهره "اللغــة" كسلاح، أو كعنصر إستراتيجي، يحيي الأمم ويميتها، ويقيم الحضارات ويهدمها، ويشكل الجغرافيا البشرية والسياسية للعالم...

مثلاً...

تتفاقم قصة الصراع في القرن الأفريقي.. فيخطر على بالي، من بين عواملها الكثيرة، قضية اللغة العربية!

أو.. يصدر في دولة باكستان قانون يجعل دراسة اللغة العربية إلزامية كلغة ثانية في كل المدارس فأتذكر القضية ...

أو.. تبدأ الصراعات الدولية في الوصول إلى الحزام الأفريقي، في منطقة "التداخل والتماس" بين العالم العربي والعالم الزنجي.. مثل تشاد وغيرها، فأتذكر القضية..

أو.. أتابع تطورات حل مشكلة جنوبي السودان...

أو.. أتلقى دراسة مفصلة، من لندن عن فرقة "إنجليزية" تخصصت في ترجمة المسرحيات العربية الحديثة -لكتاب مثل الفريد فرج- وتقديمها للجمهور الإنجليزي.. مشفوعة باقتراح خلاصته "إذا كان العرب يشترون العمارات والفنادق والشركات في إنجلترا وغيرها .. فلماذا لا يشترون مسرحًا في لندن؟" تقدم عليه هذه المسرحيات على نطاق أوسع، وتعرض عليه الفرق العربية لمليون عربي تقريبًا في لندن وما حولها؟.. وتفاصيل تبدو أول الأمر طريفة ولكن تأملها يكشف عن جديتها وأهميتها!

أو.. أتلقى التقرير السنوي للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو (العربية) ومحاولتها وضع إستراتيجية للثقافة العربية.. وما لديها ملاليم.. إذا قيس إلى "ما يمكن" أن يكون لديها من ملايين... لو تأملنا الأمر من زاوية أخرى..

هكذا، من صراع عالمي معقد رهيب في القرن الأفريقي.. إلى فكرة فردية خلاقة عن مسرح عربي في لندن.. حيثما أتجه أو أتابع، أجد هذه القضية تفرض وجودها، قضية اللغة، مرة أخرى، ليس لمجرد أنها لغة نعتز بها.. بل بوصف أن اللغة لها تلك الآثار الحياتية في تشكيل العالم، التي أسلفت ذكر بعضها.

إننا نعرف أن القوميات لها مقومات عديدة. من وحدة التراث، ووحدة التكوين النفسي، والتلاحم الجغرافي، إلى آخره، ولكن لعل أستاذنا المرحوم ساطع الحصري كان أهم من أبرز أن عنصر وحدة اللغة يلعب الدور الأكبر بين هذه العناصر كلها في توحيد أمة ما.

ذلك أن اللغة الواحدة هي -من ناحية- عنصر أساسي في جسد ذاته، وهذا الأمر لا يحتاج إلى تدليل. ولكنها -من ناحية أخرى- هي المفتاح الأكبر لسائر العناصر. فوحدة التراث والتاريخ مثلاً تكون بالتأكيد أقوى وأمنع وأقدر على مقارعة القرون إذا كانت محفوظة في وعاء لغة واحدة.

والتكوين النفسي الواحد ماذا يصنعه؟ ربما جغرافية واحدة، وبيئة واحدة. وربما أصول تاريخية واحدة، وعقائد واحدة، أو متشابهة، ولكن المؤكد أن عنصر الأدب الواحد والفن الواحد –في أصوله- وأدوات التعبير الواحدة تلعب الدور الأساسي، وهى لا تتوافر إلا بلغة واحدة.

.. ونحن هنا لا نتحدث عن اللغة فيما يتعلق بالقومية العربية. فلا توجد هنا مشكلة تقريبًا. والإحساس بها بديهي. فما كانت الجزائر مثلاً لتعود عربية حقًا إلا ببرنامج التعريب الجبار فيها، حتى تجتث جذور مائة وخمسين سنة من محاولات الفرنسة، وطمس اللغة العربية.

ولكننا نتحدث في أوسع من الحدود القومية...

وهنا نجد أن اللغة الواحدة، لا تصنع بالضرورة قومية واحدة.

فإنجلترا مثلاً والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها لغتها هي الإنجليزية. ولكنها ليست قومية واحدة رغم أنها تكاد تكون من أصل عرقي واحد. ومع ذلك، وهذه هي قضيتنا هنا، لا شك أن وحدة اللغة أوجدت "علاقة خاصة" و"روابط خاصة" بين هذه البلاد على تباعدها الجغرافي الهائل...

ولم أذكر كندا لأنها نموذج أكثر دلالة. فلأن كندا فيها لغتان –إنجليزية وفرنسية- واحتفظت بازدواجية اللغة. ورغم أن كل ظروف العقل والمنطق والمصلحة تقتضي أن يظل كندا بلدًا واحدًا. فإننا نجد الآن، وفى أواخر القرن العشرين، حركة انفصالية عنيفة، من مقاطعة "كويبك" ضد سائر كندا، لأنها المقاطعة الفرنسية اللغة.

مرة أخرى لأن اللغة ليست مجرد وسيلة تخاطب. اللغة هي وعاء الفكر ووعاء العاطفة معًا. فالفرد الكندي في كويبك لا يتحدث بالفرنسية فقط. إنه "يفكر" بالفرنسية و"يشعر" بالفرنسية. حتى صارت روابط كويبك الثقافية والتعليمية مع فرنسا، عبر المحيط الأطلنطي، أقوى من روابطها مع عاصمة دولتها "أوتاوا".

والأمة العربية تتميز بوضع خاص وفذ.

ذلك أن القرآن -الكتاب المقدس لأغلبيتها الساحقة- نزل باللغة العربية. وقد امتد الإسلام إلى أمم وشعوب وقوميات أخرى، صحيح أنها لا تتكلم اللغة العربية. ولكن الإسلام حمل إليها بالتأكيد روائح اللغة العربية. ولقحها بها. وجعل لهذه اللغة حتى عند غير أهلها "مكانة" خاصة. وأحيانًا "قداسة" خاصة. لأنها لغة كتابهم المقدس.

ونحن نرى.. إلى أي حد حاربت دول لتفرض لغتها بالقوة. وأنفقت المال لتفرض لغتها بالإغراء وجاهدت القرون لقلب اللسان المحلى إلى لسان أوروبي. ولم يكن هذا حماقة ولا عبثًا، فانتشار اللغة من أقوى أسلحة انتشار النفوذ المعنوي، والمشاركة الوجدانية، والتأثر العقلي...

وحين استقلت أفريقيا مثلاً، صرنا نرى ما يسمى بكتلة أفريقيا الفرنسية، وكتلة أفريقيا الإنجليزية. ليس على أي أساس سوى نوع المستعمر الذي فرض لغته على البلاد التي كان يحتلها. وأثار هذا النفوذ موجودة إلى الآن في التجارة والسياحة والتعليم والنظرة إلى الغد.. إلى آخره.

وما هو الشيء الذي يجعل جريدة إنجليزية، أو وسيلة إعلام غربية كما نقول، لها هذا النفوذ الهائل؟ إنه انتشار لغتها، ووجود من يقرأ بها، في أي عاصمة من عواصم العالم بأجمعه.

والأمة العربية -ليست ككيان سياسي فقط، بل ككيان حضاري أيضًا- لديها فرصة نادرة، لأن تكون لغتها سلاحًا من أمضى أسلحتها في كل معاركها، ووسيلة خلاقة للمساهمة في صراع الحضارات العالمية الراهن... أو "الحوار بين الحضارات" إذا شئنا أن نختار التعبير المهذب للمفكر الفرنسي روجيه جارودي.

ولا أريد أن أدخل في بحث لغوي تاريخي معقد عن العائلة التي تنتسب إليها اللغة العربية. ولا عن تأثيرها وتأثرها. فليس هذا ميداني. وهو أمر له أصحابه وأهل العلم فيه. ولكن يمكن القول ببساطة ودون الوقوع في خطأ، إن الشعوب الإسلامية، المتأثرة بالتالي باللغة العربية، تنقسم إلى قسمين:

  • شعوب لها قوميات قديمة، ولغة حضارة حية، يتكلم بها عدد كاف من الناس؛ مثل إيران.
  • وشعوب لها لغات مشتتة، أحيانًا غير مكتوبة أو مستوعبة للغة الحضارة؛ كشأن الكثير من مناطق آسيا وأفريقيا المبعثرة. التي كانت إلى وقت قريب قبائل وليست دولاً ولا شعوبًا بالمعنى الكامل.

ولنتأمل، على سبيل المثال الحرب القائمة في القرن الأفريقي، والتي وصل المشتركون فيها من روسيا شرقًا إلى كوبا غربًا، أو المال الأمريكي والسلاح الأمريكي من قبل ومن بعد. وفى منطقة حساسة جدًا بالنسبة لما نسميه "العالم العربي"..

"لقد احتلت إيطاليا الصومال وأثيوبيا وإرتيريا معًا زمنًا طويلاً، انتهى بانتهاء الحرب العالمية الثانية...

وفي الصومال استقرت اللغة الإيطالية، وأريد لها أن تمحو اللغة العربية تمامًا، كما حاولت فرنسا في الجزائر، إدراكًا من تلك الدول الأوروبية أن إقامة حاجز اللغة هو إقامة الساتر الحديدي الطبيعي النهائي بين شعب وجيرانه. وصار من قبل ذلك الصومال صومالاً إيطاليًا وصومالاً فرنسيًا وصومالاً إنجليزيا وصومالاً أثيوبيًا هو مقاطعة أوجادين.

وبعد الحرب العالمية الثانية أضيف لأثيوبيا - فوق الأوجادين- إرتيريا. وعادت فرنسا إلى الصومال الفرنسي "جیبوتي". ووضع الصومال الرئيسي –الإيطالي- تحت وصاية الأمم المتحدة لفترة يعقبها الاستقلال.

ومثلت الأمم المتحدة بلجنة ثلاثية: مصري وإيطالي وإنجليزي.

وأهم معركة قامت خلال وصاية الأمم المتحدة كانت حول اللغة. فتقرير نوع اللغة التي سيتحدث ويتعلم بها الشعب هو من تقرير هويته واتجاهه الحضاري وتكوينه النفسي.

وكان هم العرب أن يختار الصوماليين اللغة الإيطالية، فهي لغة أوروبية على أي حال. وبصماتها بعد الاحتلال كانت قوية. وكل شباب الصومال كانوا لا يتعلمون إلا في جامعات إيطاليا. ولكن الرغبة الشعبية العارمة كانت في اختيار اللغة العربية. ولأن مندوب مصر في لجنة الوصاية الدولية كشف كل المناورات، قتل اغتيالاً، ومات السفير كمال الدين صلاح شهيدًا لهذه القضية، وأقام الشعب له تمثالاً في عاصمة الصومال.

وكانت مطاردة اللغة العربية هدفًا أهم. فأوجد الغرب من يدعون إلى اللغة السواحلية، تحت ستار إثارة نعرة إقليمية. ورغم أن الاستفتاء دل على تفضيل الشعب للغة العربية، فقد أثر الغرب تقرير اللغة السواحلية، أملاً في انقراض اللغة العربية هناك ذات يوم.

وحين دخلت الصومال، جامعة الدول العربية، كان يجب أن يطلب منها الارتباط ببرنامج تعريب. لأنها جامعة دول "عربية".

ولأن أثيوبيا لم تنتبه إلى أهمية القضية كأوروبا، فقد عاشت اللغة العربية -مع السواحلية- في الأوجادين خمسين سنة. والصور نفسها، مع اختلاف في طول الفترة، في إرتيريا.

ومن أتصل بهذه الحركات، وقابل زعاماتها، وشبابها المثقف، يعرف أن اللغة العربية كانت بالنسبة لهم أحد أقوى الروابط والوشائج وحوافز الأمل في التحرر واسترداد شخصيتهم.

وإنني لأسمح لنفسي أن أروي، أنني منذ سنوات، وقبل قيام هذه الصراعات بأشكالها الحالية، حين كان السودان على وشك الانقسام في الحرب في الجنوب.. في تلك السنوات، قلت لبعض زعماء وحكام الدول العربية، الذين لديهم الإمكانيات الهائلة: إن هناك خدمة بسيطة جدًا، ولكن أثرها الإستراتيجي بالنسبة للأمة العربية.. والأمن العربي.. لا يقدر بثمن، وهو الاتفاق، والنضال، من أجل نشر اللغة العربية، على طول الحزام الإسلامي في أفريقيا... وحيث لا توجد لغات محلية متكاملة.

السنغال.. مالي.. وسط أفريقيا.. تشاد.. غينيا.. شمالي غانا ونيجيريا.. جنوبي السودان .. الصومال بفروعه المبعثرة..

هذا الحزام كان من حظي أن أذهب إلى بعض مناطقه، في أول أيام استقلال تلك المناطق، وانهدم الحاجز الذي كان يمنعنا منعًا من الذهاب إليه ... ورأيت لهفة الناس إلى اللغة العربية.. لغة كتابهم المقدس.. لغة عباداتهم وصلواتهم.. وأحيانًا لغة جيرانهم الأقدمين وشركائهم في التجارة عبر طرق القوافل التي شقها العرب قديمًا.

هذه اللغة أقرب إليهم وأسهل لهم. ولم تفرض يومًا بالقوة عليهم. إنها ليست الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الإيطالية ولا الألمانية مما تعاقب عليهم.

وقد حاولت بعض الدول العربية محاولات محدودة في هذا المجال. ولكن وجه الخطأ كان في أنها ركزت على تدريس اللغة فقط. أو تدريس الدين فقط.

ولكن من زار هذه البلاد -ميدانيًا- يجد أن هذه الشعوب على درجة من التخلف تجعل الناس فيها محتاجين أشد الحاجة إلى ما يغير حياتهم. ومن هذه الزاوية دخلت إسرائيل في تلك الأيام بسهولة ويسر: كانت تعلم الناس حرفًا يدوية تلائم البيئة. أو طرقًا حديثة مبسطة لزراعة الأرض البالغة الخصوبة. فيتغير مستوى الفرد ودخله ووضعه. بينما من تعلم اللغة فقط وترك كما هو في الغابة لم يستفد شيئًا.

ثم إنها، على أية حال، كانت مجهودات قليلة وتجريبية تقريبًا.

ومن هنا -فيما أذكر- نشأت فكرة تطوير الأزهر في مصر. ليخرج منه رجل الدين واللغة والعلم معًا: الطب مثلاً ليعالج أو الهندسة الزراعية ليعلم، إلى جانب تلبية حاجات الناس الروحية المعنوية المتعطشين إليها تعطشًا شديدًا. ولكن الأمر في تطوير الأزهر خرج عن فكرته الأولى، وتحول إلى جامعة أخرى بين الجامعات العديدة.

ولكن الآن وقد توافر للعرب المال الهائل. وقد افتتحت أفريقيا وآسيا أمامهم وأقبلت عليهم. فلم يعد لنا عذر في هذا المجال.

وإن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة تبحث حقًا في هذا وتتلمس وضع إستراتيجية لها. ولكن بملاليم؟

إن نصف الملايين التي تنفق في شراء السلع حتى الأسلحة القديمة، لا تحقق الفوائد الإستراتيجية التي يحققها استخدام سلاح اللغة العربية في آسيا وأفريقيا إلى أقصى مداه.

لا يكفى أن نستصدر قرارات من الأمم المتحدة ومنظماتها باعتماد اللغة العربية لغة رسمية من اللغات العالمية.

المهم أن نجعل هذا واقعًا أقوى، وأقوى، كل يوم...

من بنجلاديش شرقًا .. إلى الشاطئ الأفريقي غربًا.. أرض وشعوب أخصب ما تكون لتلقي اللغة العربية وتحويلها إلى لغة أصلية لها مع الزمن.

وهذا نضال وكفاح لا يقل شرفًا عن أي نضال آخر.. في صراع الحضارات الراهن والمستقبل أو -مرة أخرى- في حوار الحضارات كما يحب أن يقول روجيه جارودي...

وهذا كله وجه واحد من وجوه سلاح اللغة. هو واجب، وهو مسئولية أيضًا. وهو عمل حضاري فوق كل شيء. وللأمر وجوه أخرى كثيرة.


* مقال مستل من كتاب "شرعية السلطة في العالم العربي" للأستاذ أحمد بهاء الدين، دار الشروق، القاهرة، د. ت، ص91-100.

 

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الأحد, 01 أيلول/سبتمبر 2024 02:01

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.