الغرب.. الحاضرُ دومًا! نقدُ الخطابِ الإسلامي الجديد *

By أ. د. سامر رشواني ** آب/أغسطس 27, 2024 831 0

"لا تزال روح العالم تتحرك بعيدًا عن المدارات الثقافية المكتملة لتقبع في مكان ما في الغرب!".

هكذا عبرَّ هيجل -بدقة- عن هاجس نشأ فيما بعد لدى المجتمعات والمنظومات الفكرية غير الغربية بالغرب. ففضلاً عن أن الغرب استطاع فرض منظومته كأمر واقع يجب اتخاذ موقف محدد منه من قِبَل أية منظومة فكرية أخرى، قبولاً أو رفضًا أو تفاعلاً - فإنه استطاع أيضًا فرضَ القَوالب الفكرية التي صيغت هذه المواقف من خلالها، حتى ولو كانت المواقف رافضة للمنظومة الغربية. وقد اشتغل الكثيرون على تقديم تفسيرات هذه الظاهرة ليس هذا مجال عرضها.

والمنظومة الثقافية الإسلامية لا تختلف عن غيرها من المدارات الثقافية الأخرى التي واجهت التحدي وقدمت استجابات، من حيث بنيتها المنطقية وآلياتها الذهنية. وقد اشتغل كثيرٌ من المفكرين بتحليل ودراسة الفكر الإسلامي وتطوراته منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولا سيما في علاقته بالفكر الغربي ورؤيته له. ولكن المراقب لتطورات الفكر الإسلامي يلحظ أن العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين شهدت تحولات كبيرة في طبيعة هذا الفكر وأطروحاته ومنهجياته ومواقفه، ولا سيما موقفه من الغرب وفكره. ومع ذلك لا يجد المرء ما يكفي من الدراسات والأبحاث حول هذه التحولات -أو هذا "الخطاب الإسلامي الجديد" كما يسميه البعض-؛ إذ لا تزال التصنيفات والتحليلات النمطية لتيارات الفكر الإسلامي هي السائدة. إلا أن الدكتور عبد الوهاب المسيري نشر دراسة بعنوان "معالم الخطاب الإسلامي الجديد"([1]) حاول أن يحدد فيها طبيعة هذا الفكر ومنهجه وخصائصه التي تميزه عن الخطاب الإسلامي القديم، لا سيما من جهة الموقف من الحضارة الغربية، بالنظر إلى أن هذا الموقف هو الذى حدَّد كثيرًا من ملامح الخطابين القديم والجديد وتوجهاتهما وأطروحاتهما، واختلافهما الجوهري نابع من الموقف تجاه الحضارة الغربية (ص١٦٧).

وقد وجدتُ هذه الدراسة معبِّرة إلى حدٍّ كبير عن ملامح هذا الخطاب الجديد، الذي أشرت إليه، والذي ساهم في تشكيله عدد من المفكرين والمجموعات الفكرية من أمثال: مالك بن نبي، راشد الغنوشي، طه جابر العلواني، بشير نافع، [إسماعيل] راجي الفاروقي، منى أبو الفضل، طارق البشرى، فهمي هويدي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مجلة المسلم المعاصر، وغيرهم. لذا، وبالرغم من ضرورة الدراسة التفصيلية لكتابات هؤلاء المفكرين، إلا أنني سأقتصر هنا على مقالة المسيري للسبب الذي ذكرته، لأُخضع "الخطاب الإسلامي الجديد" للقراءة النقدية، ولأختبر صحة مقولة الاختلاف الجوهري بين الخطابين القديم والجديد في الموقف من المنظومة الغربية. وسأحاول في هذه القراءة النقدية أن أركز على تحليل الآليات المنطقية والفكرية التي تحكم الخطاب الإسلامي الجديد بخصوص موقفه من الفكر الغربي، مقارنةً بمنطق الخطاب القديم وآلياته الفكرية. بعبارة أخرى: هي محاولة نقد ابستمولوجي للخطاب الإسلامي الجديد.

  • آلية الأواني المستطرَقة:

يؤكد المسيري -بصراحة ووضوح- أن كلا الجيلين القديم والجديد لم يؤسِّسا منظومتهما الفكرية انطلاقًا من المنظومة الإسلامية وحسب، وإنما نتيجة تفاعلهما مع الحضارة الغربية في الوقت ذاته، وهو يرى أن هذا أمر طبيعي للغاية باعتبارها الحضارة التي فرضت سيطرتها ومركزيتها على العالم عسكريًا، وألقت تحديًا كان يجب الاستجابة له بطريقة ما (ص ۱۷۱). ولكن بسبب الانبهار والإعجاب الساذج بالنور الغربي لم ير الجيل القديم -جيل محمد عبده الذي ساد حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين- سلبيات الحضارة الغربية وفظائعها، كما لم تصل إلى يديه نتاجات الخطاب النقدي الغربي (ص۱۷۰)، وهو الأمر الذي تنبه له أصحاب الخطاب الجديد، فلم يظهروا الإعجاب نفسه تجاه الحداثة الغربية، بل نجد خطابهم ينبع من نقد جذري لها (ص۱۷۳). وهذا الخطاب الإسلامي الجديد هو جزء من تيار عالمي كبير أحس بأزمة الحداثة الغربية آخذًا أشكالاً مختلفة في أرجاء العالم، وشكلاً إسلاميًا في العالم الإسلامي (ص ١٧٤).

إن تحليل المسيري هذا لظهور الخطابين وطريقة تشكلهما حسب علاقتهما مع الفكر الغربي صحيح إلى حدٍّ بعيد. ولكنه يثير في الوقت ذاته إشكالات تتعلق بالأسس التي تقوم عليها مصداقية الخطاب الإسلامي الجديد أو مشروعيته.

أولاً: قد يكون من المفهوم التفاعل الاضطراري مع الحضارة الغربية، ولكن الغريب هو اتكاء أطروحات الفكر الإسلامي على أطروحات التيارات الفكرية الغربية السائدة، دون أن يثير ذلك أية تساؤلات ومشكلات في ذهن من يعرف ذلك. بعبارة أخرى: لقد ترك الخطاب الإسلامي الجديد دور المنبهر بالحداثة الغربية والمحاكي لها، وهو الدور الذى قام به الخطاب القديم، ليقوم هو الآن بدور المحاكي للخطاب النقدي الغربي -الذي يعبَّر عنه أحيانًا بما بعد الحداثة أو خطاب نقد الحداثة- والمتبنى لأطروحاته ونظرياته.

فالأمر لا يعدو –إذن- استبدالَ خطابٍ شائع ومنتشر الآن بخطاب كان سائدًا في العالم في زمن ما. وإلا؛ فما جوهر الاختلاف بين الخطابين القديم والجديد إذًا؟ الذي يبدو أن قوالب الخطابين لم تختلف، وإنما اختلف المضمون وحسب. وإلا؛ فلِمَ لَمْ يتعامل أصحاب الخطاب الإسلامي الجديد مع الخطاب النقدي الغربي تعاملاً نقديًا؟ لِمَ استبدلوا بنقد التقاليد نقدَ الحداثة، وبتمجيد الحداثة تمجيدَ ما بعد الحداثة؟ لماذا انتظَروا حتى بدأ الغرب بتشريح ذاته، وفحصها تحت المجهر؟ مـا مـوقف الخطاب الجديد لو لم يأت مفكرون من أمثال اشبنجلر وماركوز وفوكو وهايدجر وألتوسير وأمثالهم؟! أيمكن القول مع المسيري بأن النقد الإسلامي للحداثة مختلف، لإدراكه ارتباط الحداثة الغربية بالإمبريالية التي عانينا منها، ولأنه متفائل بخلاف النقد الغربي للحداثة فهو متشائم عدمي (ص١٧٤)؟ إذ أعتقد أن هذه الفوارق ليست مناسبة منهجيًا، فلسنا الوحيدين الذين عانوا من الإمبريالية الغربية، ثم إن مصداقية النقد الغربي للحداثة لا تأتى من مجرد د معاداته للحداثة المرتبطة في ذهني بالإمبريالية الغربية التي أعاني منها، وبالتالي يصبح عدو عدوى صديقي بطريقة لا واعية! أما عن تشاؤمية «نقد الحداثة»، فهو حكم فيه الكثير من التعميم كما سيأتي لاحقًا. ويمكننا ملاحظة تبنى الخطاب الإسلامي الجديد للخطاب النقدي الغربي على مستويات مختلفة: المفاهيم، المنهج، الأدوات التحليلية. فلنلحظ مفاهيم مثل: النموذج المعرفي، والرؤية الحضارية النسبية، العقلانية المرنة، واعتماد النماذج التفسيرية والتحليل المفاهيمي بكثرة.

ثانيًا: يتعامل الخطاب الإسلامي الجديد مع الخطاب النقدي للحداثة -أو «ما بعد الحداثة»- وكأنها نتاج مستقل عن المنظومة الفكرية الغربية، لا يشترك معها في رؤاه ومنظومته المعرفية.

ولا أحد يستطيع أن ينفي كون خطاب نقد الحداثة هذا نتاجًا غربيًا خالصًا، بل ومفرزًا خاصًا ومرتبطًا إلى حدٍّ كبير بطبيعة مشروع الحداثة نفسه وما نجم عنه من سلبيات. بل إن الكثير من المفكرين والفلاسفة يعدون ما بعد الحداثة من نتاج الحداثة نفسها، وأنها قائمة على النزعة النقدية المتجذِّرة في الفكر الغربي. إذن؛ فالتيار النقدي للحداثة أو "ما بعد الحداثة" قد لا يكون إلا محاولة لتصحيح مسار الحداثة وتعديله، وفتح آفاق أوسع لتطويره (آلان تورين). وليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها المشروع الغربي للتحول والانحراف والتجديد.

 

  • الانتقائية.. أو الرؤية المشوهة:

كان الخطاب الإسلامي القديم في نظر أغلب الدارسين خطابًا توفيقيًا، يقوم على تقبُّل الحداثة الغربية مع القيام ببعض التعديلات. فيأخذ أجزاء من الحداثة الغربية ويضيفها إلى أجزاء من المنظومة الإسلامية، وهو ما أصبح يسمَّى بـ «أسلمة الحداثة» أو «تحديث الإسلام» أو «الحداثة الإسلامية»، في محاولة للحاق بركب الحداثة وتحقيق التقدم لمجتمعاتنا.

أما الخطاب الجديد؛ فهو خطابٌ جذريٌّ توليديٌّ استكشافي، لا يحاول التوفيق بين الحداثة الغربية والإسلام، بل يبدأ من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة باعتبارها رؤيةٌ كاملةً للكون، وهو يعود إلى المنظومة الإسلامية بكل قيمها وخصوصيتها الدينية والأخلاقية والحضارية، ويستنبطها ويستكشفها، ويحاول تجريد نموذج معرفي يتمكن من خلاله من توليد إجابات على الإشكاليات التي تثيرها الحداثة الغربية، وعلى أية إشكالات أخرى جديدة (ص ١٧٦).

وقبل الانتقال إلى اختبار مصداقية هذا الطرح، هناك إشكال تثيره الـعبـارة الأخيرة السابقة، ويتمثل في ضرورة الإجابة على إشكاليات الحداثة الغربية. أوليس التحيز إلى إشكالية معينة أو سؤال معين مساويًا للتحيز إلى إجابة معينة؟ ألا يشكل السؤال نفسه طريقة معينة في رؤية الكون؟ أليست كل مـعـرفـة ردًا على السؤال - كما يقول باشلار؟ ألن نبقى محكومين برؤية الآخر للكون والحياة وبنموذجه المعرفي ما دمنا محكومين بإشكالاته وأسئلته؟!

وإذا عدنا إلى اختبار انسجام الخطاب الجديد وتوافقه مع أطروحاته الجديدة؛ فيمكننا ملاحظة الخلل على مستويين، الأول: النموذج المعرفي، والثاني: الأطروحات المتعارضة.

أولًا: الاختلال الإبستمولوجي:

لقد قام مشروع الحداثة الغربي منذ "عصر الأنوار" حتى بدايات القرن العشرين على مجموعة من المبادئ والقواعد والفلسفات، التي تؤكد باستمرار على قيم العقلانية والإمبريقية والتقدم والموضوعية وغيرها. ثم بدأت تبرز حركة مضادة في فلسفة العلم وتاريخه، وعلم الاجتماع المعرفي، وعلم نفس المعرفة، وغيرها من الفروع العلمية المستحدثة - تقوم على إعادة النظر في طبيعة العلم والمعرفة، وخلخلة كثير من المفاهيم «المقدَّسة» التي قامت عليها الحداثة الغربية. وهكذا، حين حاولَ البعض تحليل أسس الثورة العلمية، وفهم كيفية تطورها، إنما كانوا يمهدون بهذا لنقد جذْري شديد لهذه الثورة بمبادئها وتقاليدها المختلفة. فحين قدم توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية مفهوم النموذج المعرفي -أو الجذر المعرفي (Paradigm)- المعرَّف بأنه جملة المعتقدات والقيم المتعارف عليهَا والتقنيات المشتركة بين أفراد جماعة معينة، أي أنه رؤية معينة للعالم يشترك فيها جماعة العلماء والمفكرين([2]) -إنما كان يمهد، وربما عن دون قصد، للتأكيد على نسبية النموذج المعرفي، وبالتالي نسبية المعارف والعلوم التي تبنى عليه، كما كان يمهِّد لنقد واسع للحداثة. وعلى نحو قريب طرح فوكو مفهوم المعرفة (Epistime) باعتبارها أيضًا شبكة مفهومية تتضمن كل الأنماط المعرفية في حقبة معينة، ولتصبح -مع مفاهيم مثل العقل والموضوعية- سلطة ذات بُعد ميتافيزيقي، وترتبط بقوى الدولة والمجتمع العلمي ونحو ذلك من أمور تبعدها من فرضية المصداقية العلمية- الموضوعية البحتة([3]).

وبينما كانت التقاليد العلمية الأرثوذكسية تقوم على:

  1. التحويل الكمي.
  2. المادية الميكانيكية.
  3. الاختزالية (Reduction).
  4. العقلية الحدية (Tough-minded).

بدأت تحل مكانها بوادر تقاليد جديدة يمكن حصر جذورها في إحياء الأفلاطونية المحدثة التي ظهرت في القرن السابع عشر، والتي تقوم على:

  1. الاقتراب الكيفي.
  2. إعطاء العلم معنى روحانيًا (Mystical).
  3. الكلية والشمول (Holistic).
  4. العقلية المرنة Tender-minded))([4]).

على هذا الخطاب النقدي للحداثة حاول الخطاب الإسلامي الجديد أن يؤسِّس مشروعيته ويثبت ذاته على أنقاض الآخر الحداثي. ولكن النظر العميق في هذه المسألة يثبت عكس ذلك، إذ يبدو أن الخطاب الجديد قد قطع الغصن الذي كان يقف عليه! ويتضح ذلك بما يلي:

  • أن الخطاب النقدي للحداثة ليس متجردًا عن نموذج معرفي يستند إليه، أو رؤية للعالم يعبِّر عنها. وهذا ما يفترضه هو ذاته. ولكن الخطاب الإسلامي الجديد يريد الاستناد إلى هذا الخطاب النقدي وكأنه منزَّه عن النموذج المعرفي أو الرؤية الخاصة. لذا؛ فحتى حين يحقق الخطاب الإسلامي الجديد أطروحاته، فإنه يكون منفذًا للمشروع ما بعد الحداثي بجدارة، ولابد أن نسائله عن مدى إسلاميته الجِذْرية المدَّعاة.
  • لقد كان متاحًا في ظل الأفكار الحداثية "القديمة" استخدام الحداثة الغربية والاندماج فيها مع إضفاء القيم الإسلامية الخاصة عليها، على أساس النظر إليها بأنها محايدة. ولكن في ضوء النظريات النقدية «ما بعد الحداثية» هناك توجس من أي نتاج فكري أو تقني غربي، خشية أن يكون محمَّلاً ببذور الرؤى الغربية الخاصة والنظام القِيَمي الخاص بالحضارة الغربية، بما لا يتناسب ونموذجنَا المعرفي. فحتى التقنية لم تبقَ وسيلة فحسب، "بل أصبحت طريقة كشف، وطريقًا للحقيقة" كما يقول هايدجر، و"حقول المعرفة متناظرة في أعماقها إلى حدٍّ بعيد" كما يقول فوكو([5])، ولكن الخطاب الإسلامي الجديد يبدو مترددًا في بعض هذه النواحي كما سنرى لاحقًا.
  • إن خطاب ما بعد الحداثة يطرح الخصوصية ويفترض الاختلاف في النماذج المعرفية، الأمر الذي يصطدم بمبدأ أساسي كامن في الخطاب الإسلامي، وهو العمومية والعالمية التي يفترضها الإسلام. إذ يستحيل طرح أسلمة المعرفة كرؤية إنسانية عالمية، ما دامت قائمة على نموذج معرفي خاص مستند إلى قيم وافتراضات ومعتقدات خاصة.

 

مقولة التوليد أو الإبداع:

تعتمد مقولة التوليد والإبداع في الخطاب الإسلامي الجديد على بناء نموذج معرفي مستمد من المنظومة الإسلامية، يمكن من خلاله توليد المعارف والإجابات، كما ذكرنا.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يكفي هذا الطرح لتفجير الإبداع وخلقه؟!

إن من الأمور التي تناولتها المدارس النقدية الحديثة بالدرس والتحليل البنية العميقة التي أسَّست للنهضة العلمية الحديثة، والشرارة التي فجرت الثورة العلمية وأثرت في أعماق الوعي الغربي وكانت مناط الإبداع وعلة الاكتشاف.

من هذه التحليلات ما يذكره يونغ وماكس فيبر على المستوى النفسي، حين يرجعون القضية إلى انفكاك سحر العالم، حيث لا يبقى شيء غامض أو مقدس أو لا يمكن الإمساك به في هذا الكون.

يقول يونغ: بدأ العالم باكتشاف القوانين الفلكية، وكانت تلك مرحلة أولى خارج "الأرواحية" التي كانت تطبع العالم بطابعها"([6]).

أما على المستوى المعرفي والفلسفي فقد صاغ هايدجر ومن بعده فوكو فكرة «التمثُّل»، كطريقة معرفية جديدة متميزة عن الطرائق المعرفية السائدة في الحضارات التقليدية والقائمة على التماثل والتوافق. فالوجود –حسب هايدجر- يتحول للمرة الأولى عند ديكارت إلى موضوعية التمثل والحقيقة، ويقين هذا التمثل بالذات. والتماثل الذي كان في الماضي من إنجاز الخيال الخلاَّق، صار هذيانًا وجنونًا، وغدت وظيفة العقل تمييزَ الأشياء واكتناهَ هُوياتها. ويضيف فوكو انقطاعًا معرفيًا آخر جسَّدته المعرفة الحديثة عند مطلع القرن التاسع عشر، وتأسس بالتحول من «النظام» إلى "التاريخ"، حيث التقدم الخطي والتنظيمات التناظرية([7]).

ودون الدخول في تفاصيل هذه التفسيرات أو غيرها، أتساءل عن مدى إدراك الخطاب الإسلامي الجديد ووعيه بهذه البنية الفلسفية والنفسية العميقة التي فجَّرت الوعي وخلقت الإبداع والثورة العلمية الغربية -بغض النظر عن تحديدها- بما فيها الاتجاهات النقدية الحديثة!

إن ما يلحظ على الخطاب الإسلامي الجديد -والقديم من باب أولى- عدم عنايته بهذه المسائل نهائيًا، فكل اهتمامه منصب على نموذج معرفي مستقى من الأصول الإسلامية، يولِّد من خلاله إجابات على مشكلات العصر، دون بحث للآليات التي تمكننا من التوليد وخلق روح الإبداع في وعينا الخاص. ولا أعتقد أن بناء نموذج معرفي خاص بنا -الأمر الذى ارتبط غالبًا بالنواحي الأخلاقية والقيمية والحضارية وتكوين رؤية للعالم- كاف لتشكيل وإبداع منظومة معرفية خاصة، ولا حتى لتوليد أسئلة جديدة نابعة من وعينا الخاص. ولكننا سنبقى نجيب على أسئلة الغرب وإشكالياته، ولن نستطيع خلق أسئلتنا وإشكالياتنا الخاصة. كما أن جزءًا كبيرًا من النموذج المعرفي المقترح أو رؤية الكون أمر معروف وموجود في بنية وعينا منذ زمن بعيد، ومع ذلك لم يتم تقديم -أو إبداع- المعارف والإجابات المطلوبة.

ومن الإشكاليات التي قد تُثار حول هذا الخطاب محاولته فرض أزمة الحداثة الغربية علينا بشكل من الأشكال. فمجتمعاتنا لم تشهد التحولات الفكرية الكبرى التي عاشتها المنظومة الفكرية الغربية بمختلف مراحلها: النهضة -الأنوار- الحداثة- ما بعد الحداثة، ولا العقلانية الصُّلبة والمادية والموضوعية والسببية الحادة.. وما إلى ذلك، ولم تمارس شيئًا من ذلك عمليًا. فما معنى مجابهة فكر لم تُعانِ أزمتَه بنظريات لم ننتجها؟!

 

ثانيًا: تردد الأطروحات:

  • يلحظ في الخطاب الإسلامي تردده في تحديد موقفه من ثمرات الحداثة الغربية، لا سيما المادي منها. ففي حين يرى ضرورة بل وحتمية الاشتباك والتفاعل مع الحداثة الغربية واستيعاب ثمراتها دون أن تستوعب في منظومتها القيمية (ص ١٧٥: ۱۷۷)، حيث يؤكد على انفصال العلم والتكنولوجيا والإجراءات الديمقراطية عن القيمة والغاية الإنسانية (ص۱۷۹)، نراه في سياق آخر يؤكد إدراكه للمكوِّن الحضاري في الظواهر، كالبُعد الحضاري في السيارة الذي قد يقف على النقيض من الرؤية الإسلامية للكون (ص۱۸۰)، ويفترض أن يكون هذا الرأي الأخير هو المنسجم مع منطق الخطاب الإسلامي الجديد.
  • ومع أن الخطاب الجديد يعلن رفضه استيرادَ المقولات التحليلية الغربية (ص ١٧٦) -وهذا مفهوم ومنسجم- نراه يؤكد حتمية الإجابة عن الأسئلة والإشكاليات التي طرحتها المنظومة الغربية على العالم (ص١٧٥)، وقد وضحت سابقًا وجه الخلل في هذا الطرح الأخير. وأضيف أن مجموعة أسئلة معينة تشكل مقولة تحليلية، وطريقة في معالجة القضايا وطرحها.
  • بينما يؤكد الخطاب الجديد على ارتباط العلوم الإنسانية الخاصة به بالمنظومة الإسلامية (ص ۱۷۸)، ويعبِّر عن اهتمامه بالخصوصية (ص ۱۸۱)، لا يقدم مع ذلك خطابًا للمسلمين وحسب، وإنما لكل الناس، حلاً لمشاكل العالم الحديث (ص ۱۷۷).
  • التضخيم والتهميش:

ومما يلاحظ في الخطاب الإسلامي الجديد تضخيمه المبالَغ فيه لأزمة الحداثة، لدرجة اعتبارها قد وصلت إلى طريق مسدود (ص ١٦٩: ١٧٣). ولا يختلف المفكرون على أن الحداثة الغربية تعانى أزمة معقدة، ولكن هذا لا يعنى أنها انتهت أو ماتت، بالرغم من أن البعض يتصور ذلك، كما أنه لا يعنى أن ما بعد الحداثة ليست محاولة إصلاح وتعديل هذه الحداثة. ولا يجب -حسب وجهة نظري- أن نفترض قيام بنياننا الفكري على أنقاض الآخر الغربي، الذي قد يجد طريقه إلى النهوض من سبيل غير التي نسلكها.

كما أن وصف مجمل النقد الغربي للحداثة بأنه متشائم وعدمي فيه الكثير من التعميم. تعميمٌ للتيار العدمي التشاؤمي الذي ساد في الأدب ما بعد الحداثي، وفي بعض الكتابات الفلسفية، على جميع النقد الغربي للحداثة، الذي نبع في كثير من جوانبه بعد انتشار التشاؤمية والعدمية، فجاء كرد فعل يحاول التقليل من هذه الظواهر ومقاومتها، على عكس ما هو مطروح. ثم إذا كانت التشاؤمية والعدمية تشكل جزءًا من طبيعة النقد الغربي للحداثة؛ فكيف نضمن ألا تنتقل إلينا عندما نعتمد على ذات الخطاب؟!

كما أن التركيز الشديد على مسألة النموذج المعرفي في رؤية العالم والمكون الحضاري قد طغى على محتوى الخطاب بحيث حجب قـضـيــة النتاج المعرفي المفترض وجوده وتحققه. والناظر في كتابات المفكرين الذين يشكلون هذا الخطاب لا يجد إلا بعض الأعمال القليلة التي استطاعت أن تقدم إبداعًا معرفيًا قائمًا على نموذج معرفي إسلامي. فكثيرًا ما سمعنا وقرأنا عن أطروحات جديدة تحدد معالم رؤيتنا للكون والإنسان والحياة، وتحدد النماذج المعرفية الخاصة بمختلف مجالات المعرفة.. ولكننا لم نر حتى الآن إلا القليل النادر من الثمرات المعرفية المفترضة لهذه الأطروحات.

بعد هذه الجولة النقدية لابد لي من القول: لنكن صرحاء مع أنفسنا، فإذا كنا مقتنعين بما أفرزته النظريات النقدية الغربية، وبما طرحته من نقد جِذْري للحداثة، فعلينا إذن أن نسير في الطريق حتى آخره. أو لنكن مستعدين للانطلاق من رؤيتنا الحضارية الخاصة ونموذجنا المعرفي وقيمنا الخاصة من أجل بناء صرح علمي مستقل. وفى سبيل ذلك قد نتخلى عن أمور كثيرة قد تكون: ربطات أعناقنا، مسجلاتنا، حواسبنا، حبوبنا المهدئة.. قد نضطر إلى تحطيمها واستبدال أمور أخرى بها، أو الاستغناء عنها بالمرة. كما يجب أن تكون لدينا شجاعة الحكيم الصيني الذي عاش منذ ٢٥٠٠ سنة لقول ذلك. فقد رُوىَ أن أميرًا مر بكهل صيني يعمل في حقل، ينزل بنفسه إلى البئر ويستخرج الماء بوعاء ليفرغه في الأقنية، فاقترح عليه طريقة للري توفر عليه كثيرًا من الجهد، فغضب الكهل وقال: "إن الذي يستخدم آلات ينفذ آليًا كل أعماله، وذلك الذي ينفذ أعماله آليًا، يجعل قلبه آلة، ومن ثَمَّ؛ يفقد براءته الطاهرة، ويغدو متشككًا في حركات روحه. أنا لا أجهل هذه الطريقة، ولكنني أخجل من استعمالها"([8]). قد يكون هذا القول حادًا، ولكنه بالنسبة للصيني مسألة مبدأ ورؤية للعالم!

ثم، لكي نحقق انسجامنا مع ذاتنا ومقدماتنا المنطقية لابد لنا -حسب اعتقادي- من إزالة سحر العالم الغربي والعلم الغربي من نفوسنا، أن نقتلع هذا السحر الذي تجذر في وعينا بسبب ما أطلقنا عليه الإنجازات العلمية المثيرة والاستكشافات التكنولوجية الباهرة، التي بدأنا ننتقدها منذ زمن. وأعتقد أن الإبداع الحقيقي هو في تجاوز هذه النقطة الحرجة -إزالة سحر العالم الغربي- والانطلاق بعدها في عوالمنا الخاصة. أما أن نستمر في عملية "فَصْل الحَبِّ عن الزُّؤَان" التقليدية فلا أدرى مدى فاعليتها، أو علاقتها بالسلبية والأنانية التي ستختلق في اللاوعي نتيجة لها!

أما الخيار الآخر -وهو الأكثر واقعية على ما يبدو- فيتمثل في استيعاب المشروع الغربي برُمَّته، وفهم أسسه الفلسفية وحركته التاريخية وارتباطها بالعالم، وإدراك موقفنا منه، والموقع الذي قد يتمثل في أننا -كغيرنا- خاضعون للمشروع الغربي ومرتَهنون له حتى في طور ما بعد الحداثة، الذي قد لا يكون لديه من حل سوى المضي فيما هو قائم- كما يرى نكولاس لومان.

إذن، على الخطاب الإسلامي الجديد أن يراجع أطروحاته، ليتساءل عن المدى الذي ستكون فيه إسلامية بالفعل، وقادرة على الإبداع الحر المستقل! وكيف سيستطيع تجاوز هاجس الغرب في وعينا ومجتمعاتنا، وتضييق الهوة التي تتشكل بسبب الازدواجية الكامنة التي نعاني منها.

أخيرًا، لا أحدَ يستطيع أن ينفى أن الخطاب الإسلامي الجديد هو أكثر الخطابات الإسلامية تطورًا ووعيًا وإدراكًا لواقعه ومنظومته الفكرية، وللآخر الغربي وعلاقته به، كما أنه خطاب يمتلك شحنة نقدية عالية، تكسبه قدرة على إصلاح ذاته ومراجعتها وتطويرها، وقد لا تكون هذه المحاولة النقدية أكثر من محاولة لتطوير هذا الخطاب بشكل ما، فنحن نعلم أن الثورات الثقافية لم تقم أبدًا إلا على النقد وإزالة سحر الماضي.ر

رابط تحميل ملف الدراسة

دراسة د. عبد الوهاب المسيري 

دراسة د. جمال الدين عطية في نقد دراسة المسيري

____________________________ 

* دراسة مستلة من كتاب "في عالم عبد الوهاب المسيري، حوار نقدي حضاري، المجلد الثاني: دراسات وشهادات، تقديم أ. محمد حسنين هيكل، تحرير د. أحمد عبد الحليم عطية، القاهرة- دار الشروق، الطبعة الأولى: 1425هـ/2014م، ص144-156.  

** أستاذ الدراسات القرآنية والتاريخ الإسلامي الفكري، تشمل اهتماماته الدراسية والبحثية موضوعات الدراسات الإسلامية حول القرآن منذ القرون الإسلامية المبكرة، والمناهج الجديدة لتفسير القرآن، كان محاضرًا بكلية الشريعة (بجامعات دمشق وحلب) 2007-2011، وزميلاً بمنتدى الدراسات العابرة للأقاليم ببرلين (2011-2013)، ومنذ 2013 يعمل على دراسات الأستاذية في مركز العقيدة الإسلامية، جامعة توبنغن. للدكتور رشواني كتاب بعنوان: التفسير الموضوعي للقرآن الكريم "دراسة نقدية"، وله عدة بحوث في الدراسات القرآنية وفي الاجتهاد والتجديد، منها: الاجتهاد المعاصر: إشكالات وتحديات، الآخر المستبطن.. نقد الخطاب الإسلامي الجديد. كان وقت إعداد هذه الورقة يُعدُّ للماجستير في علوم القرآن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، ثم حصل على الماجستير ومن بعده على الدكتوراة من الكلية نفسها.

([1]) عبد الوهاب المسيري، "معالم الخطاب الإسلامي الجديد"، من: مشاركة الإسلاميين في السلطة، مجموعة باحثين تحرير: عزام التميمي، لندن: ١٩٩٦م.

([2]) توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة: شوقي جلال، الكويت: المجلس الوطني والثقافة والفنون والآداب ۱۹۹۲، ص ٢٣، ١٦٥، ٢٥٧.

([3]) ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة: سالم يفوت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ١٩٨٦م، ط2، ص١٧٦.

([4]) نصر عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم السياسية العربية، فيرجينا: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، ۱۹۹۸، ص ۲۷ نقلاً عن: Stewart Richards. Philosply and Sociology of science (Oxford: Basil Blackwell) P. 178.

([5]) ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مجموعة باحثين، بيروت: مركز الإنماء القومي، ۱۹۹۰م، ص ۲۹۳: ۲۹۷.

([6]) داريوش شايغان، في النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا، لندن: دار الساقي، ۱۹۹۱م، ص ۷۸.

([7]) ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ص ٦١، ٢٣٠: ٢٣٥.

([8]) داريوش شايغان، في النفس المبتورة، ص ٢٤.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الأربعاء, 28 آب/أغسطس 2024 02:45

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.