يدخل "الإسلام" القرن الخامس عشر للهجرة ... "والمسلمون" متخلفون عنه بما يقرب من عشرة قرون!
التخلف بأي معيار؟ ومتى بدأت دورة التخلف هذه؟...
ربما اختار البعض معيارًا جغرافيًا محضًا، وهو توقف نمو الدائرة الإسلامية جغرافيًا.
وربما اختار البعض معيارًا لبدء التخلف موعدًا سياسيًا مثل سقوط الدولة الأموية، أو سقوط الأندلس، أو اجتياح التتار للشرق العربي وتدمير بغداد ثم دمشق، أو خروج الخلافة من قريش إلى العثمانيين على يد سليم الأول.
وربما اختار البعض معيارًا لبدء التخلف.. إما بداية حركات الانشقاق الإسلامي إلى مذاهب.. فيعودون إلى حرب علي ومعاوية وظهور الانقسام بين السنة والشيعة، وإما إلى بداية الاضطهاد الفكري مثل محنة أحمد بن حنبل أيام المأمون. وإرغام العلماء والفقهاء، على اعتناق تفسير رئيس الدولة لمسائل دينية وعقلية وفلسفية، بالسجن والتعذيب والقتل.
ولكنني في حقيقة الأمر لا أريد أن أكون متعسفًا، ثم إنه في تفسير التحولات التاريخية الكبرى، لا يمكن الوقوف عند حدث وأحد، مهما كانت خطورته. إنما الحدث الخطير الذي نعتبره "نقطة تحول" يكون في الواقع نتيجة مقدمات طويلة ربما لم ندركها إلا بهذا الحديث.
وبالتالي، فعندما أقول إن "الإسلام" يدخل القرن الخامس عشر و "المسلمون" متخلفون عنه ما يقرب من عشرة قرون، إنما أحاول في الواقع أن أتخذ موقفًا وسطًا، معقولاً، دون تشدد ودون تحديد حادث بالذات أو قرن بالذات..
إن ما أقصده -وهذا هو المعيار الأول الذي أرشحه هنا- بمعنى "التخلف"... لا أقصد به، المعنى الجغرافي ومساحة الدولة، أو العسكري وقوة الدولة أو الاقتصادي ورخاء الدولة ... إنما أقصد معنى حضاريًا عامًا يشمل هذه الأمور كلها، ويشمل أساسًا ما هو أهم منها، وهو: مدى قرب المسلمين أو بعدهم عن جوهر القيم والمثل التي جاء دينهم يبشر بها، ويدعو إليها، ويمكن في الأرض لها..
وبالتالي، وهذا هو المعيار الثاني، فإن تحديد بداية التخلف، فيه محاولة البحث عن الفترة الزمنية الواسعة التي بدأت فيها ظواهر التخلف - بهذا المعنى الشامل تتراكم وتتوالى...
إن الإسلام، -وهذا إجماع كل المؤرخين على اختلاف أجناسهم - كان أسرع رسالة في الانتشار على هذا النطاق الواسع. رغم أنه لم ينتشر في فراغ ولا في نقطة نائية من الأرض ولكنه انتشر مكتسحًا في طريقه حضارات وإمبراطوريات شامخة قوية.
في أقل من قرن ونصف، كان الإسلام قد شمل هذه المساحة الهائلة من العالم المعروف وقتذاك...
والأهم أنه لم يكن انتشار غزو عسكري فحسب. ولكن سرعة اعتناق الناس من كل الحضارات والأجناس لهذا الدين الجديد، هي التي أكدت أنه رسالة، وليس إمبراطورية.
وكل شيء حدث بسرعة ...
ففي القرون الأربعة الأولى، مع التساهل الشديد، حدث كل شيء تقريبًا ...
تتابعت العصور الهامة.. من عصر الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية، إلى الدولة العباسية في بغداد، إلى دول الأندلس القوية، إلى السامانية (سمرقند) والغزنوية في (أفغانستان) والحمدانية من المواصل إلى حلب، والطولونية والفاطمية في مصر.
وفي تلك القرون ذاتها عرفنا كل كبار القادة العسكريين الخالدين، من خالد بن الوليد، إلى طارق بن زياد، إلى جوهر الصقلي، حتى صلاح الدين الأيوبي لم يتأخر عن القرن الخامس إلا قليلاً .. وهذا بالطبع ليس حصرًا ولكنه مجرد أمثلة من أماكن وعصور متباعدة.
وفي الفقه عرفنا كل الأئمة والفقهاء من جعفر الصادق إلى أصحاب المذاهب الأربعة: أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وابن حنبل.
وفى الآداب والعلوم والفنون والفلسفة كان الجاحظ والمتنبي، والكندي وأبو العلاء المعري، وابن الهيثم وابن سينا والرازي وجابر بن حيان وابن حزم، وغيرهم كثيرون.
والقائمة طويلة هائلة، ليست في حاجة إلى تعريف...
ولكن مع أواخر تلك القرون الأولى، كان الخيط الأسود يختلط بالخيط الأبيض مع الغروب، وكان الظلام يزحف تدريجًا، ربما في بطء محسوس لأهل كل عصر، ولكننا حين ننظر إليه مجملاً نستطيع أن نراه بوضوح.
وكما هي العادة دائمًا، عرف التاريخ الإسلامي الحكام المستبدين مبكرًا، منذ يزيد بن معاوية وتناوب الصالح مع الطالح صعودًا وهبوطًا مع تحولات الدول وتنقل مراكز الأحداث، فكان عمر بن عبد العزيز يذكر الناس بعدل الخلفاء الراشدين، وكان ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدمها يذكر الناس بالجاهلية. ولكن جو الحضارة العام، في صعوده وهبوطه، ظل هو السمة الأساسية لتلك القرون الأولى.
وفى تلك الأثناء، كانت عوامل الاضمحلال تتداخل في اندفاعة النهضة، أو بقايا اندفاعتها وتكسب أرضًا جديدة كل يوم...
أحيانًا من الداخل، مع تضييق الخناق على حرية الفكر، وانتهاء عهد الفقهاء والأئمة وحلول عهد المفسرين غير المجتهدين، ثم قفل باب الاجتهاد، وأخذ أي مجتهد بأقسى العقاب..
أو مع زيادة المسافة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي ازدياد الشك بينهما، ولجوء الحاكم إلى عناصر غريبة يشتريها خدمًا ويحول الخدم إلى حكام... فهكذا تسرب المماليك حتى صاروا من القوة بحيث استولوا على السلطة.
.. أو مع طغيان العصبيات الإقليمية، والعائلية، على روح الأخوة والمساواة، وبالتالي الحروب المستمرة بين دويلات لا حصر لها، وصلت إلى الاستعانة بالحلفاء الغرباء ضد الإخوة كما حدث في ممالك الأندلس على سبيل المثال...
.. أو مع العدول عن تقليد عصر النهضة العربية التي كانت واثقة بنفسها، فانفتحت على حضارات الدنيا وثقافاتها، تنهل منها وتستنبط وتختار.. إلى انغلاق تدريجي عن الدنيا، فأخذ الغرب بالذات يتقدم، والعلم يتطور، والمعارف تتغير، ونحن لمعرفة ما يدور حولنا رافضون، إلى أن جاءونا يومًا، غزاة بأسلحة لا نعرفها، وعلـوم لا نفهمها، ومخترعات لم نسمع عنها...
وأحيانًا كانت عوامل الانهيار من الخارج، فالتتار يكتسحون عالمنا من الشرق تارة، والأوروبيون يطردوننا من الأندلس ومن كل جزر البحر الأبيض، حتى الاندفاعة العثمانية تصل إلى أسوار فينيا، ثم تخسر بالفساد والترف والاستبداد.
وحكمنا المماليك والانكشارية والعبيد والخصيان، قبل أن يأتي الاستعمار الحديث بجبروته فيجد كل شيء ممزقًا، مهلهلاً...
طبعًا، ظهر بعد هذه القرون الأولى مماليك عظام مثل الظاهر بيبرس الذي هزم التتار وردهم في "عين جالوت". أو فلاسفة عظام مثل ابن خلدون أو رحالة مثل ابن بطوطة. ولكن الظلام العام الزاحف كان أقوى من تلك الشهب القليلة البازغة...
وهكذا فليس غريبًا أن نقول إن "الإسلام" يدخل القرن الخامس عشر، و"المسلمون" متخلفون عنه ما يقرب من عشرة قرون. ولعل الكثيرين سيقولون: بل وأكثر من ذلك...
وفى نفس الوقت، يدخل "الإسلام" القرن الخامس عشر، ومن أهم ملامح الأحداث العالمية "صحوة إسلامية"، تتخذ حتى الآن أشكالاً شتى أحيانًا متضاربة، وأحيانًا حائرة، وأحيانًا متفائلة...
ذلك أن تعويض قرون من التخلف ليس بالأمر السهل. ولا يوجد طريق مختصر سريع إليه..
وليس من حق أي حاكم أو زعيم أن يحتكر لنفسه اكتشاف هذا الطريق.
ولكن هناك ضرورات مسلمًا بها، إذا كنا حقًا نريد اجتياز هذه المرحلة من أسلم الطرق.
إنه لابد من النظر إلى الأمام، ولابد من رفض كل اتجاه إلى أن يعود المسلمون إلى خوض معارك جرت منذ ألف وأربعمائة سنة تقريبًا.
والغريب إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لدية نص أساسي واحد غير متنازع عليه، هو القرآن الكريم. وبالتالي فمهما اختلفت الاجتهادات والتفسيرات، فإنه ليس مقبولاً أن يصبح الخلاف صراعًا، وهناك عندنا ذلك الأساس الواحد الثابت غير المتنازع عليه.
إنه لابد من إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، بنظرة نقدية علمية، لا تسحب قداسة الإسلام ذاته على سلوك آلاف الأجيال من المسلمين طالما أصابوا وأخطأوا.
إنه لابد من إدراك أن نقطة البدء في التطور هي الإنسان. والإنسان عقل وقلب. التطور ليس بناء ناطحات سحاب. وليس شراء أحدث الأسلحة. وليس اقتناء أي نوع من الماديات.
إنما لابد أن نقول إن العقل الإنساني لا يتحرك إلا بالحرية والإقناع. وأن القلب الإنساني لا يكسب إلا بالحب والكرامة والاحترام.
في البدء لابد أن نعيد إلى الإنسان المسلم حقوقه التي أتى بها القرآن. فالإسلام انتشر بالرسالة وليس بالسلاح. وقد كان خصومه دائمًا في عصر ازدهاره أقوى منه سلاحًا وأضعف منه حجة.
حقوق الإنسان المسلم هي نقطة البدء.
ما عرفه العلم بعد ذلك باسم حقوق الإنسان من حرية الفكر والرأي والعقيدة، أو من الحرية والإخاء والمساواة. أو من الديمقراطية (الشورى) والعدل الاجتماعي.
عودة القيم الإنسانية العليا التي دعا إليها الإسلام، إلى الإنسان المسلم، دون تعلل أو اعتذار، وتحول هذه القيم إلى قوانين مفصلة، مطبقة لها حرمتها ... هو أول الطريق...
وكل ما عدا ذلك فهو باطل، وقبض الريح؟!
* مقال مستل من كتاب "شرعية السلطة في العالم العربي" للأستاذ أحمد بهاء الدين، دار الشروق، القاهرة، د. ت، ص45-51.