يُعَدّ كتابُ "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي"* للشيخ الدكتور مصطفى أحمد الزرقا** (1904–1999م) من الإسهامات الفكرية المهمة التي توازن بين النقل والعقل في التعامل مع النصوص النبوية، حيث يقدم رؤية متزنة تجمع بين احترام السند والمقاصد الشرعية والرجوع إلى المنطق السليم.
يهدف الكتاب إلى إعادة نظرٍ نقدي في بعض الاجتهادات الفقهية التي تبنّت مفاهيم شرعية دون التأكّد من صحة سندها في الحديث النبوي، مستعينًا بأمثلة متعددة يوضح فيها طبيعة تلك الإشكالات وسبل معالجتها. وانطلاقًا من هذه المعالجة، يؤكد المؤلّف اتساق الشريعة الإسلامية مع العقل والمنطق، وأنها تعزّز مكانة أهل العلم في خدمة النصّ وتأويله.
يعتمد الزرقا في منهجيته على قواعد فقهية وعقلية متينة؛ إذ يوازن بين النقل والتحليل، ويضع ضوابط منهجية لفهم الأحاديث بما يحقق مقاصد الشريعة ويراعي ظروف العصر ومستجداته. ويقدّم نماذج تطبيقية توضّح كيفية توظيف العقل في استنباط الأحكام واستخلاص المعاني بدقةٍ علمية، كما يؤكّد الزرقا على أن هذا المنهج يجسّد نموذجًا راقيًا للتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، جامعًا بين الأصالة والمعاصرة، ومقدِّمًا للباحثين والدارسين في علوم الحديث والفقه مرجعًا علميًا دقيقًا يُعِين على فهم النصوص النبوية وتطبيقها بما يحقق رفعة الدين وصلاح المجتمع.
الأدوات الثلاث لفهم الحديث النبوي
يؤكد الزرقا أن حسن فهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب يحتاج إلى ثلاث أدوات لا بد منها جميعًا:
الأداة الأولى: التعمق في اللغة العربية ومعرفة أساليبها البيانية، لأنها لغة الكتاب والسنة. فالنصوص النبوية نزلت بلسان عربي مبين، ولا يمكن الوصول إلى المعنى الصحيح دون إتقان اللغة وفهم دقائقها وبلاغتها.
الأداة الثانية: العقل الذي هو الميزان الذي ربط الله به التكليف، وعلى قدر سلامته يحاسب المكلفين. العقل أداة التمييز بين الصحيح والفاسد، وبه يوازن الإنسان بين الأمور ويتجنب التناقض في سلوكه وآرائه.
الأداة الثالثة: التمكن من فقه الشريعة الذي به يعرف العالم مقاصدها، ويقيس الأمور بأشباهها، ويعرف محامل النصوص، ويميز بين الوسائل والغايات في أحكام الشريعة، ويدرك فقه الأولويات.
التمييز بين ما يصادم العقل وما يخفى عليه
يوضح الزرقا في تمهيد الكتاب فرقًا مهمًا بين مفهومين متقاربين في ظاهر التعبير لكنهما متباينان في الحقيقة:
النوع الأول: ما يصادم العقل ويناقضه من العقائد والمفاهيم والأحكام والآراء، وهذا لا يمكن أن يأتي في دين إلهي سماوي أصلًا، وبخاصة في الإسلام.
النوع الثاني: ما تخفى على العقل حكمته وعلته فلا يستطيع العقل معرفة حكمته وتعليله، لكنه لا يصادم العقل، وهذا لا يخلو منه دين سماوي.
موضوعات الكتاب ومحتوياته
يتناول الكتاب عدة موضوعات فقهية هامة من خلال إعادة النظر في فهم بعض الأحاديث النبوية الصحيحة، ومن أبرز هذه الموضوعات:
- رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام:
يقدم الزرقا فهمًا دقيقًا لحديث "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي". يرى الشيخ أن هذه الرؤيا المذكورة في الحديث خاصة بأصحاب النبي الذين رأوه في حياته رؤية حقيقية. فالحديث خاطب به الرسول صحابته الكرام الذين يعرفونه شخصيًا بقوله "من رآني"، إذ لا يستطيع أحد بعدهم أن يزعم أنه رأى الرسول بصورته الحقيقية وهو لم يعرفه.
يتطرق الكتاب إلى مسألة دية المرأة ومساواتها بالرجل أو استحقاقها نصف ديته، وهي من المسائل الفقهية المهمة التي تحتاج إلى نظر دقيق في النصوص ومقاصد الشريعة.
- جواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود:
يجيز الزرقا إخراج زكاة الفطر نقودًا، معتبرًا أن الأفضل والأيسر للفقير والمزكي إخراج القيمة نقودًا؛ لأن العلة من فرض الزكاة هو إغناء الفقراء في هذا اليوم، فمتى تحقق الإغناء كان ذلك هو الأولى. ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم في هذا اليوم"، معتبرًا أن أصل الإغناء يكون بالنقود التي تصلح لجلب جميع الحاجات من أغذية وغيرها.
- إثبات الهلال بالحساب الفلكي:
يناقش الكتاب موضوع استخدام الحساب الفلكي في إثبات دخول الأشهر القمرية، وهي مسألة معاصرة تحتاج إلى موازنة بين النصوص الشرعية والتطورات العلمية.
- ميقات الإحرام للقادم بالطائرة:
يعالج الزرقا مسألة مواقيت الإحرام للحجاج القادمين بالطائرة، وهي من النوازل الفقهية المستجدة التي تحتاج إلى اجتهاد معاصر. يوضح أن الميقات المكاني للإحرام عن طريق الطيران يكون بمحاذاة أحد المواقيت المعلومة، اجتهادًا في تطبيق القاعدة الشرعية على الوسائل المستحدثة.
- أوقات الصلاة والصيام في البلاد القريبة من القطب:
يتناول الكتاب مسألة الصلاة والصيام في البلاد القطبية التي تطول فيها الفترات الضوئية أو المظلمة بشكل استثنائي. يقترح الزرقا حلولًا فقهية تراعي خصوصية هذه البلاد وتحقق مقاصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج.
- إعادة النظر في الفهم الاجتهادي:
يؤكد الزرقا أن الإنسان غير معصوم في فهمه واجتهاده ولو كان في أعلى مقام من العلم بين أهل زمانه. هذا من سمات إنسانيته، ولا عبرة في ذلك لكونه سابقًا أو لاحقًا، ما دام يتمتع بالأدوات الثلاث لحسن الفهم وحظه متوافر من تقوى الله والإخلاص له.
- المشكلة في الفهم وليس في النص:
يلفت الزرقا إلى أن المشكلات التي نشأت عن بعض الفهم الاجتهادي للأحاديث لم تكن في أصل النص، بل في الفهم الاجتهادي الذي فُهم به الحديث النبوي. ودلت نتائج التطبيق على أن ذلك الفهم لم يكن دقيقًا وصوابًا، وأن نص الحديث لو فُهم بصورة أخرى تتفق مع دقة تعبيره لانسجم مع مقاصد الشريعة وزال منه كل إشكال.
- التوازن بين النقل والعقل:
يسير الكتاب على منهج التوازن بين النقل والعقل، مؤكدًا أنه لا يوجد في الإسلام ما يصادم العقل. بل إن الإسلام دعا الناس إلى استعمال عقولهم التي جعلها الله ميزانًا، وأن يحكموها فيما يدعوهم إليه من الإيمان والأسس التي ترتكز عليها عقيدته وشريعته.
لتحميل ملف الكتاب
* مصطفى الزرقا، العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الثانية، 2002م.
** الشيخ مصطفى أحمد الزرقا عالم سوري من أبرز علماء الفقه في العصر الحديث، نشأ في بيت علم وصلاح في حلب الشهباء عام 1904م. والده الشيخ أحمد الزرقا مؤلف "شرح القواعد الفقهية"، وجده الشيخ محمد الزرقا من كبار علماء الأحناف. تتلمذ الزرقا على يد محدثين وفقهاء أجلاء منهم بدر الدين الحسني ومحمد راغب الطباخ، وأصبح من علماء عصره المشهود لهم بالفقه والأصول. من مؤلفات الشيخ مصطفى الزرقا: "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد"، و"الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي"، و"شرح القانون المدني السوري".