صدرت الطبعة الأولى من هذا للكتاب للدكتور محمد فتحي عثمان[*] عن دار الشروق في عام 1982م. ومما جاء في تقديم المؤلف للكتاب ما يلي:
أتت شريعة الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل وإجراء العدل في مختلف صوره التي تتناول الفرد والمجتمع والدولة والعالم... وكان (الحق) أساس بناء النظام الإسلامي، ولا غرو فالحق من أسماء الله الحسنى، ولقد خلق الله السموات والأرض بالحق وأنزل كتابه بالحق.
وإذا كان الحق بوجه عام يعني العدل والاستقامة والانتظام وانتفاء الميل والاعوجاج والاضطراب بوجه عام، وهو قائم في خلق الله جميعًا جماده وأحيائه، فإنه أولى ما يكون في شأن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
فعبادة الله وإنفاذ شريعة الله كان ينبغي أن يقترنا في الأذهان بإحقاق الحق وكرامة الإنسان ... "فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط -وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر صبحه بأي طريق فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ..."- كما عبر في إصابة وبلاغة الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله (المتوفى ٧٥١ هـ).
وكلمات الإمام ابن القيم تقبس من نور أي القرآن وتستلهمها .... ألم يرد في الذكر الحكيم والكتاب المبين مثلاً: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد / ٢٥]
ولكن من المسلمين المعاصرين من يذهب به الحماس لدينه وتحكيم شريعته إلى الغفلة أو التفاعل عن (البينات) و(الكتاب والميزان) و(القسط) ... فيطفر مباشرة إلى (الحديد) ... فيكون دين الله وكتابه المنزل بالحق ورحمته المهداة للعالمين (قتالاً) أول ما يكون... أو (عقابًا) وقصاصًا وحدًا وتعزيرًا أول ما يكون.
وارتبطت (دولة) الإسلام و(نظام) الإسلام في أذهان الكثيرين من المسلمين وغير المسلمين (بالجهاد) و (الحدود) ... وربما لم تخل من ذلك بعض الكتابات الفقهية في الأحكام السلطانية.
وهكذا كلما عرض كتاب لنظام الإسلام استهل بمباحث الإمامة والسلطان...
وكلما دعا داع لتحكيم نظام الإسلام كانت صورته المرتسمة في ذهنه قبل كل شيء هي: (نصب الخليفة، وإقامة الحدود، وإعلان الجهاد).
ولا يصلح الناس بغير حاكم يسوسهم، وقد بينت شريعة الإسلام حقوق (أولي الأمر) وواجباتهم .... ولابد من عقاب المهددين لأمن الجماعة ومصالحها المعتدين على حقوق الأفراد وحرماتهم ... ولابد من دفع أعداء البلاد المهاجمين لأراضيها، والدفاع بالفكر والقلم عن دين الإسلام ضد من يفترون عليه.
ولكن لابد أيضًا من أن تأخذ هذه الأحكام مكانها الصحيح من (الترتيب) المنطقي والعملي... ويبدأ فهم الإسلام وتطبيقه من إحقاق حقوق الإنسان وحفظ كرامتها.... بحيث يستعمل (الحديد) ويمتشق الحسام وتستعمل (القوة) في سبيل إحقاق الحق الذي قامت به السموات والأرض وقام به شرع الإسلام ونزل به کتابه.
روى الطبري في سياق (ابتداء أمر القادسية) من أخبار سنة ١٤ هـ أنّ ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه، فسأله رستم: ما جاء بكم؟ فقال ربعي بن عامر:
"الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء:
من عبادة العباد إلى عبادة الله
ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام
فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه ...".
روى بن عبد الحكم (المتوفى سنة ٢٥٧هـ) أنّ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب خطب يومًا، فكان من خطبته: "... ألا إني إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ولا يأخذوا أموالكم. ألا فمن أتى إليه شيء من ذلك فليرفعه إلي، فو الذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، فقام عمرو بن العاص فقال: أرأيت يا أمير المؤمنين إن عتب عامل من عمالك على بعض رعيته فأدب رجلاً، إنه لمقصّنه منه؟ قال: نعم ... رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الفياض فتضيعوهم.
فأتى رجل من أهل مصر إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال عُذت معاذًا. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين.
فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه فقدم، فقال عمر: أين المصري، خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين! قال أنس (راوي الخبر): فضرب، فو الله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني".
وكتب قاضي القضاة أبو يوسف (المتوفى سنة ١٨٢هـ) ضمن رسالته إلى الخليفة هارون الرشيد التي تعرف بكتاب (الخراج): «... فمر ولاتك جميعًا بالنظر في أمر أهل الحبوس [أي من نعبر عنهم في أيامنا بالمحبوسين احتياطيًا تحت التحقيق] في كل أيام، فمن كان عليه أدب أُدِّب وأطلق، ومن لم يكن له قضية خلّي عنه. وتقدم إليهم أن لا يسرفوا في الأدب ولا يتجاوزوا بذلك إلى ما لا يحل ولا يسع ... حدثنا بعض أشياخنا عن هوذة بن عطاء عن أنس قال: قال أبو بكر رضي عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين، ومعنى هذا الحديث أنه نهى عن ضربهم من غير أن يجد عليهم حد يستحقون به الضرب، وهذا الذي بلغني أن ولاتك يفعلونه ليس من الحكم والحدود في شيء، ليس يجب مثل هذا على جاني الجناية صغيرة أو كبيرة...".
وروى ابن جبير (المتوفى سنة ٥٩٨هـ) ضمن أخبار رحلته المعروفة عن السلطان أبي المظفر صلاح الدين يوسف بن أيوب: أنه صفح عن جريرة أحد الجناة عليه وقال: «أما أنا فلأن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أصيب في العقوبة»، وقد استلهم السلطان بلا شك التوجيه النبوي الكريم «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا، فإذا وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»، كما روى ابن جبير أيضًا أن صلاح الدين قد حضره يومًا أحد مماليكه المتميزين بالحظوة والأثرة مستعديًا على جمّال ذكر أنه باعه جملًا معيبًا فقال له السلطان: ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته!... وكانوا يقولون (الشحنة) للشرطة. ثم قال صلاح الدين لمملوكه: الحق يقضي لك أو عليك!
وأولى بالذين يدرسون نظام الإسلام أو يضطلعون بتدريسه أو الكتابة عنه أن يكون (الحق) و(كرامة الإنسان) مدخلهم إليه، فهو الأساس المتين لهذا النظام القويم ... وأولى بالذين يدعون مخلصين لتحكيم شرع الله أن يؤصلوا الأصول قبل تفريع الفروع...
وهذه محاولة لتقديم كلمات عن (حقوق الإنسان في شريعة الإسلام) ... وفاء بحق الله وكرامة الإنسان ... أسأل الله أن ينفع بها، حتى يأتي من بعدها خير منها بيانًا وأوفى بالقصد وأسلم من الزلل، وحتى يقوم واقع المسلمين على إحقاق الحق وضمان ما أراده الله من كرامة الإنسان بما شرعه لحفظ حقوقه وحرماته.
محتويات الكتاب:
- تقديم.
- حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي.
- حقوق الإنسان في الوثائق الدستورية.
- الوثائق الدولية لحقوق الإنسان.
- حقوق الإنسان في شريعة الإسلام.
- الحق في الفقه الإسلامي.
- ارتباط الحق بالشارع في الإسلام ضمان وتوثيق للعدل لا ذريعة للاستبداد.
- مقاصد الأحكام في شريعة الله تحقيق مصالح عباده.
- ارتباط الحق بالشارع كفل التقرير المتوازن لحق الفرد وحق الجماعة للحقوق والواجبات.
- الحقوق والواجبات.
- الاستخلاف في الأرض وكرامة الإنسان.
- حقوق الإنسان في شريعة الإسلام سياسية واجتماعية ومسئولية الدولة في ضمانها إيجابية.
- الحقوق والحريات المتعلقة بشخص الإنسان في ذاته وبدنه.
- الحقوق والحريات المتعلقة بخصوصيات الإنسان مثل حياته الخاصة وأسرته ومسكنه وشرفه وسمعته.
- الحقوق والحريات المتعلقة بالمأوى والتنقل والإقامة داخل الدولة وخارجها
- الحقوق والحريات الفكرية أو المعنوية.
- الحقوق والحريات السياسية.
- المساواة أمام القانون.
- الحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية: ما يتعلق بالأسرة.
- الحقوق والحريات الاقتصادية: التملك.
- حق العمل.
- الضمان الاجتماعي.
- حق التعليم.
- الحقوق الجماعية للشعوب.
- تقرير حقوق الإنسان في الإسلام.
- الضمانات لمنع الاعتداء على حقوق الإنسان.
رابط مباشر لتحميل الكتاب
--------------------------------------------------------------------------
[*] الدكتور محمد فتحي عثمان (1928م-2010م) أكاديمي ومفكر إسلامي مصري الجنسية. له العديد من المؤلفات منها:
- السلفية في المجتمعات الإسلامية.
- حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون الغربي.
- من أصول الفكر السياسي الإسلامي.
- عبد الحميد بن باديس: رائد الحركة الإسلامية.
- المدخل إلى دراسة التاريخ الإسلامي.
- دولة الفكرة.
- عبد الحميد بن باديس- رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة
- آراء من تراث الفكر الإسلامي.
- القيم الحضارية في رسالة الإسلام.
- إبراز الوحدة الكلية للإسلام عقيدة وشريعة كإطار للعرض المذهبي.
- هل يكون هذا القرن للمسلمين قرنَ الفكر.
- بين تناقضات الحاضر وآمال المستقبل: نقاط أساسية عن مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب.
- إبراز الوحدة الإسلامية الكلية للإسلام عقيدة وشريعة كإطار للعرض المذهبي.
- تراث الفكر الإسلامي في النظم السياسية والإدارية: قطعة من التاريخ.
- قبل تقنين أحكام الشريعة الإسلامية كأساس لتطبيقها- لا بد من حوار علمي بين أهل الاختصاص في مناخ ديمقراطي سليم.
- تحت الضوء: قراءات وخواطر، الأرض في القرآن الكريم...، وغيرها.