المقارنات والمقابلات بين أحكام المرافعات والمعاملات والحدود في شرع اليهود ونظائرها من الشريعة الإسلامية الغراء ومن القانون المصري والقوانين الوضعية الأخرى

By المستشار محمد حافظ صبري كانون2/يناير 29, 2024 826 0

يبحث كتاب «المقارنات والمقابلات»، للمستشار محمد حافظ صبري -وهو من كبار رجال القضاء المصري في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني- في موضوع تشابه واختلاف أحكام مسائل المعاملات في الشرائع الدينية، والقوانين العقلية الأوروبية والمصرية والحديثة المنقولة عن القوانين الفرنسية. وقد صدرت أولى طبعات الكتاب عن مطبعة هندية بمصر عام 1320ه/ 1902م (وهي الطبعة التي ينشرها موقعنا)، وأعاد مركز نهوض طباعته في نسخة حديثة عام 2021، بدراسة وتحليل من أ. د. محمد كمال إمام (رحمه الله).

ويحتوي الكتاب على ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: في المرافعات في الدعاوى الحقوقية والجنائية، الجزء الثاني: في أحكام المعاملات وهي أحكام العقود، الجزء الثالث: في أحكام العقوبات والحدود.

الجزء الأول يحتوي على عدة مباحث، يتحدث بعضها عن "القضاء"؛ اختصاصات القضاء، وشئون القضاة ومخاصمتهم، وكذلك "جلسات القضاء" حيث يناقش محلات انعقاد الجلسات وأيامها وساعات انعقادها، والتكليف بالحضور، وما يتعلق بالشهود وتحليفهم، وكذلك ما يتعلق "بالأحكام" وما يتعلق بها من الأحكام الغيابية وفسخ الأحكام وإلغائها، ويتناول ما يتصل بفحص القضايا والمداولة، وسقوط الحق في الدعوى.

وأيضا "تنفيذ الأحكام" وما يتعلق بها من الإمهال والانتظار، والحجز على مال المدين لبيعه في الدين، وحجز ما للمدين عند الغير، وحجز المزروعات، والحجز على أمتعة المستأجر، والحجز على العقارات، والبيع بالمزايدة بعد الحجز، وترتيب الدائنين ودرجاتهم… وصولًا إلى "إقامة الحدود وتنفيذ العقوبات" وما يشمله من الجلد والقتل والحرمان الصغير والكبير.

بينما يشتمل الجزء الثاني على مناقشات لقضايا "أهلية المتعاقدين" و"موضوع العقود" و"تفسيرها" و"الشروط" و"تأويلها"، وكذلك "أنواع التعهدات والعقود" و"التضامن فيها"، وكذلك "انقضاء التعهدات"، وكذلك "إثبات الديون"، "البيوع"، و"المواريث"، و"التبرعات المنجزة والوصايا"، و"النكاح"، وحقوق "الانتفاع" و"الارتفاق" وكذلك عقود "الإيجار" و"الشركة" و"العارية" و"الوديعة" و"الأمانة" و"الوكالة".

أما الجزء الثالث فإنه يختص بالجرائم والجنايات المستحقة للعقاب، حيث يناقش أنواع الجنايات وعددها، والجنايات التي تقع من المرفوع عنهم التكليف، والتي تقع على المرفوع عنهم التكليف، وعذر الجاني، وكذلك في العقوبات وأنواعها، والجنايات المعاقب عليها بالغرامة، والجنايات المستحقة عقاب النبذ، والجنايات المعاقب عليها بالحرمان الكبير، والأخرى المعاقب عليها بالجلد، والثالثة المعاقب عليها بالقتل.

 

ومما جاء في مقدمة مؤلِّف الكتاب:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه العربي الهادي إلى الحق المبين. وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة والتابعين. وبعد: فإني طالما تمنيت وسمعت الكثير من المشتغلين بالقوانين والأحكام يتمنون مثلي وجود كتاب يبحث في موضوع تشابه واختلاف أحكام مسائل المعاملات في الشرائع الدينية والقوانين العقلية الأوروباوية والمصرية الحديثة المنقولة عن القوانين الفرنساوية. فحدثتني نفسي - وأنا على يقين من عجزي بالشروع في هذا العمل - لوضع كتاب جامع للنصوص المتنوعة في كل مسألة وكل مادة من المسائل الشرعية والمواد القانونية؛ كي يظهر الشبه أو الفرق بين حكم الشريعة الإسلامية الغراء وحكم القوانين الجديدة، وأخذت أقابل مواد القانون المدني المصري بمواد «مجلة الأحكام العدلية» و«مرشد الحيران» وغيرهما من الكتب الفقهية؛ مظهرًا ما بينها من أوجه الشبه أو الخلاف، حتى أتممت جزءًا عظيمًا من هذا العمل المفيد، وكلما توغلت في البحث والتنقيب كانت تستوقفني فكرة ضرورية الورود على بال كل مشتغل بمثل هذا العمل، ألا وهي الرغبة في الوصول إلى معرفة سبب توافق الخواطر في معظم المسائل الفقهية والقواعد القانونية، ومع كثرة البحث في هذا الموضوع لم يتيسر لي الوقوف على الحقيقة، بل بالعكس زادت حيرتي وكثر ترددي باطلاعي على كتاب فرنساوي العبارة، جمع مسائل المعاملات والحدود في شرع اليهود، منقول عن كتب الفقه العبرية، وضعه مؤلفه الأستاذ (دي بفلي) في قالب كتب القوانين الأوروباوية؛ أي: صاغه أبوابًا وموادا مثل القانون المدني ومجلة الأحكام العدلية و«مرشد الحيران».

فأمعنت النظر ودققت في البحث وأكثرت من الاطلاع والمراجعة حتى تيقنت أن للحوادث التاريخية دخلًا عظيمًا في تشابه الشرائع والقوانين، عدا اتفاق العقول على اختلاف الأجناس والملل على قواعد العدل والحق الفطرية لما هو مجبول عليه الإنسان بفطرته من الميل إلى الحق والتسليم به.

فأكثرت من التجول وصرتُ أنتقل من كتاب إلى كتاب، من كتب من سلك هذا المنهج قبلي من الطلاب حتى عثرتُ على بعض كتب مؤلفة باللغات الإفرنجية لعالم فرنساوي محقق مدقق وهو الأستاذ ريفللو) مدرس الشرائع القديمة بباريس عاصمة الفرنسيس، تضمنت الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على أخذ الشرائع الأوروباوية لا سيما الرومانية عن الشرائع الشرقية القديمة كشرائع القدماء المصريين والكلدان والسريان وغيرهم من الأمم السالفة، التي بلغت في المدينة مبلغا عظيمًا ارتقت معه علوم الفقه والأحكام، ثم زاد ارتقاؤها وتقدمها في زمن فتح دولة اليونان والرومان والإسلام للبلاد الشرقية، واختلاط الشرق بالغرب اختلاطا كليا.

فزال بذلك ما كان عندي من الشك مما كنت أسمعه من أغلب المشتغلين بالقوانين، الذين يعتقدون أن الشريعة الإسلامية مأخوذة عن شرائع الرومان وأحكامهم. وتيقنت أن شرائع الرومان وأحكامهم مأخوذة عن شرائع الأمم الشرقية القديمة، ثم تحسنت وتهذبت على مر الأيام باختلاط الرومان بالشرقيين واطلاعهم على الحسن من أحكامهم. نعم لا ننكر أن الرومان خدموا علوم الفقه والأحكام ولمجتهديهم وافر الحظ في ترقيها، إلا أنه من السخافة إنكار فضل الأمم الشرقية القديمة على هذه العلوم أو إنكار فضل فقهاء اليهود والمسلمين والفرس وغيرهم من الأمم المتقدمة، وقد دلت آثارهم على طول باعهم ورســـوخ أقدامهم في هذا الميدان.

فلما ثبت عندي صدق هذه الأمور وصرتُ على يقين من صحة هذه الأقوال، عدلت عن الطريقة التي كنت سلكتها في عمل المقارنة، وشرعت في ترجمة كتاب الأحكام العبرية المذكور تأليف الأستاذ (دي بفلي)، من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية ثم تصديت لمقارنة ما به من الأحكام بنظائرها من الشريعة الإسلامية الغراء والقوانين العقلية الموضوعة حديثًا بالديار المصرية، نقلا عن قوانين الفرنسيس؛ لأني رأيت أوجه الشبه بين هذه الشرائع والقوانين كثيرة جدا خصوصا في أحكام المعاملات والحدود.

وقد زدت على المقارنة كثيرًا من المباحث النقلية والعقلية تتمة للفائدة، ولكي لا يكون كتابي عبارة عن مجرد قاموس شرعي شامل لنصوص خالية عن بعض الأقوال، التي تقربها إلى الفهم وتظهر ما بينها من الفرق واختلاف وجهة التشريع أو توافق الخواطر. ولكي يظهر للمطلع الفرق بين النصوص في الشرائع المختلفة جعلنا خط النصوص المترجمة عن كتاب الفقه العبري بحرف كبير، والنصوص المنقولة عن كتب الشريعة الغراء والقوانين العقلية بحرف صغير.

أما جامع كتاب الأحكام العبرية التي نقلناها إلى اللغة العربية فهو الأستاذ (دي بفلي) الفرنساوي أحد أساتذة مدارس مدينة (ليون) ومن مشاهير علماء اللغات القديمة وله مؤلفات أخرى تشهد له بسعة الاطلاع، وضعه خدمة للعلم وقدمه لجلالة قيصر الروس الحالي نقولا الثاني مذ كان ولي عهد والده، ونشره في سنة ١٨٩٦ إفرنكية، قد جمعه من جملة كتب من المعول عليها في الفقه العبري ذكر أسماءها في آخر كل حكم بلفظها الأصلي وحرفها العبري منعًا للتحريف والتأويل وتسهيلا للمراجعة ولحل رموز هذه الأسماء وترجمتها إلى العربية قد التجأنا إلى بعض من نثق بتضلعهم في اللغة العبرية من نخبة نبهاء الإسرائيليين، خصوصا حضرة البارع الدكتور مزيال، فساعدونا في وضع هذه الأسماء بالعربية، فلهم منا الشكر الجزيل على هذه المساعدة العلمية.

أما عملنا هذا وإن كنا أضعنا فيه زمنا طويلًا في مراجعة جملة كتب فقهية وقانونية، إلا أننا استفدنا منه جملة فوائد علمية لا تخفى على ذي بصيرة. فإن علم مقارنة الشرائع والأحكام المختلفة من أجل العلوم الفقهية، وأقل ما فيه من الفائدة حل كثير من المسائل الفقهية المختلف فيها بين العلماء، ومعرفة مصدر كثير من الأحكام التي لم يرد عنها نص في الشريعة الغراء؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ما يخالفه. وما علينا إلا إيراد العبارة الآتية من أقوال الإمام القرافي في باب السياسة الشرعية نقلا عن «معين الحكام لمعرفة أهمية مقارنة الأحكام» قال: إن أول بدء الإنسان في زمن آدم الله كان الحال ضيقا، فأبيحت الأخت لأخيها وأشياء كثيرة وسع الله تعالى فيها. فلما اتسع الحال وكثرت الذرية حرم ذلك في زمن بني إسرائيل، وحرم السبت والشحوم والإبل وأمور كثيرة، وفرض عليهم خمسون صلاة، وتوبة أحدهم بالقتل لنفسه، فلطف الله بعباده فأحلت تلك المحرمات، وخففت الصلوات وقبلت التوبات، فقد ظهر أن الأحكام والشرائع بحسب اختلاف الزمان... إلخ.

ولا يخفى أن حال المصريين في هذه الأزمان قد تغير كثيرًا عن ذي قبل لاختلاطهم بجميع الأمم الأوروباوية وغير الأوروباوية، وتغيير أحكام المعاملات والحدود تغييرا مناسبًا للأحوال والظروف، فصار من الواجب على كل مشتغل بعلوم الفقه والقوانين التوسع في تعلمها بالاطلاع على الفروق الموجودة بين الأحكام وبعضها.

وقد اعتمدتُ في المقارنة على النصوص الشرعية المدونة في كتب الفقه المعول عليها عند علماء المذاهب الإسلامية الأربعة، مثل كتاب «رحمة الأمة» و«ميزان الشعراني» و«وجيز الغزالي» و«الفتاوى الهندية» و«منح الجليل» و«معين الحكام»، وكتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي وكتاب «مجلة الأحكام العدلية» وكتاب «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان» و«فتح القدير وتكملته وكتاب البهجة في شرح التحفة»، وغيرها من الكتب المذكورة في محل الاستشهاد بها مع ذكر الأبواب والفصول وعدد الصحائف الواردة بها.

ولأجل تسهيل فهم المسائل التي أوردناها على المواد جعلنا بين كل مسألة والأخرى فاصلًا عبارة عن رقم مذكور في أولها على طريقة التأليف الإفرنجي في ترتيب العبارات.

وقد اتضح لنا من مجموع هذا العمل أمور لا بد من ذكرها تتميما للفائدة. منها أن معظم ما تضمنته الشرائع السماوية من الأحكام متعلق بالعبادات والأحوال الشخصية، كالنكاح والطلاق والمواريث وما يتعلق بها.

ومنها أن أحكام الحدود والمعاملات الدنيوية الخاصة بالبيوع وسائر المسائل المدنية والتجارية لم تذكر بالكتب السماوية إلا بوجه الإجمال وكملت بالسنة وأعمال الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولذا كثر فيها الاختلاف بين علماء كل أمة وفقهائها أكثر من اختلافهم في فهم المسائل الوارد عنها النص في الكتب السماوية.

ومنها أن فقهاء اليونان والرومان وغيرهم من الأوروباويين استفادوا كثيرًا من اطلاعهم على الشرائع الدينية وعلى شرائع قدماء الفراعنة والسريان والكلدان وسائر الأمم الشرقية ولذا لم يتهذب الشرع الروماني إلا بعد اختلاط الرومان بالأمم الشرقية وفتح البلاد الآسيوية والإفريقية. وبعد أن تهذب صار شرع معظم البلاد الرومانية وغير الرومانية وتداخلت قواعده وأحكامه بعد ذلك في الشرع اليهودي بعد فتح الرومان لمملكة اليهود قبل الميلاد وبعده.

ومنها أن الإسلام عند فتوح البلدان التي كانت تابعة لدولة الروما كالشام ومصر وإفريقية والجزائر ومراكش وجد الشرع الروماني سائدا فيها فنسخ منه ما نسخ وأيد ما أيد؛ ولذا كانت أغلب قواعد الفقه الإسلامي موافقة لقواعد الفقه العبري والروماني في مسائل المعاملات الدنيوية؛ المعبّر عنها بالمسائل المدنية والتجارية والعقوبات.

ومنها أن فقهاء المسلمين ومجتهديهم راعوا عوائد البلدان واختلاف الأمكنة والأزمنة في وضع قواعد مذاهبهم وتطبيقها على الكتاب والسنة، ولذا كان مجموع المذاهب الإسلامية كافيًا لاستنباط جملة قوانين لضبط المعاملات في كل جهة من جهات المعمورة، مع مراعاة القواعد الأساسية لأحكام الدين.

ومن أهم ما رأيناه وتحققنا من صحته أثناء اشتغالنا بهذا العمل هو أن كل حكومة أوروباوية فتحت بلدًا من بلاد الشرق وأرادت إحداث تغيير في قوانينه وأحكامه، تعذر عليها تغيير أحكام الأحوال الشخصية وسهل عليها تغيير أحكام الأراضي والمعاملات والحدود وما ذاك إلا لكون مسائل الأحوال الشخصية وردت عنها النصوص في الكتب السماوية وللدين فيها دخل.

وهـاك ملخص ما قاله المسيو دي بافلي المؤلف الفرنساوي جامع الأحكام العبرية في خطاب أرسله إلى الموسيو ألفريد بوكس وكيل حكومة هايتي الجمهورية ومعتمدها لدى جلالة قيصر الروس، وهذا الخطاب مدون في مقدمة الكتاب وقد رأينا ضرورة ترجمته ملخصا لما اشتمل عليه من الفوائد العلمية، قال بعد الديباجة:

شرع بني إسرائيل وما أدراك ما شرع بني إسرائيل ذلك الشرع الذي لا يزال تحت طي الخفاء، ولم يظهر ما بدا منه للناس إلا على غير حقيقة أنه لأقدم من قوانين (ليكورج) - المشرع اليوناني الشهير الذي يحسبه الأوروباويون أقدم المشرعين وأعظمهم - وهو الشرع الذي أنزله الله تعالى إلى موسى ليبلغه إلى بني إسرائيل فبلغه إليهم واتبعوه وحافظوا عليه ولا يزالون متمسكين بأهم ما ورد فيه من الأحكام. واعتقاد اليهود في هذا الشرع يخالف اعتقاد سائر الأمم في قوانينهم وأحكامهم فسائر الأمم تتبع أحكامًا وقوانين اصطلاحية تتغيّر وتتبدل بالاتفاق والاستحسان تبعًا للظروف وبحسب الزمان والمكان، أما اليهود فيعتقدون اعتقادًا دينيًا أن أحكام المعاملات والحدود الواردة في شرعهم من جملة الأحكام الدينية الواجب اتباعها والتمسك بها كما هي بدون تغيير ولا تبديل على ممر الدهور والأعوام. فكم قيل لهم وأشير عليهم بالعدول عن بعض عوائدهم وسُنَّتهم المخالفة للأفكار الحديثة، وكم من ظالم غشوم تعمد إكراههم على ترك بعض ما يتمسكون به من القواعد وأذاقهم العذاب الأليم توصلا إلى غرضه فلم تُجْدِ النصائح ولا الإكراه نفعًا بل ظلوا متمسكين بدينهم معتقدين صحة اعتقادهم. قد رأينا الأمم امتزجت واختلطت ببعضها البعض بعوامل الاختلاط والامتزاج الزمانية حتى صار الناس كأنهم أُمة واحدة ولكن هذه العوامل لم تؤثر على حالة اليهود بل لا يزال بينهم وبين سائر الأمم حاجز متين يمنع اختلاطهم وائتلافهم بسائر الأمم فتراهم أمة قائمة بذاتها والناس أُمة أخرى. لقد زالت العقبات ومهدت جميع السبل ولم يبق بين الناس من مانع ولا حاجب ولكن لا يزال حاجب (التلمود) باقيًا وسيبقى ما بقي على وجه الأرض يهودي، وبعبارة أخرى سيبقى اليهود ما بقي التلمود في عالم الوجود. وكفى بالشرع العبري فضلا أنه من أقدم الشرائع وأسبقها، ولو لم يكن له من الفضل سوى الأسبقية لكفانا ذلك للقول بوجوب الاطلاع عليه والإلمام بما اشتمل غاية. فما بالك إذا كان من المطلعين عليه سيدنا المسيح (عليه الصلاة والسلام) حيث تعلمه أثناء وجوده في الهيكل (راجع الآية ٤٦ و٤٧ من الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا) فقد ورد بهما قوله: (وبعد ثلاثة أيام وجداه - بريد مريم عليا ويوسف - في الهيكل جالسًا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته). فالاطلاع على الشرع العبري ليس من الأمور التي ترغب فيها النفس لمجرد حب الاطلاع والتسلية بل من أهم ما يهمنا معرفته للنسبة التي بين هذا الشرع وبين أعمال المسيح أثناء وجوده على وجه الأرض. ومع ذلك فإن هذا الشرع يكاد يكون مجهولًا خافيًا على الناس مع أهمية تعلمه كما قلنا؛ وما ذاك إلا لأن الأرباب) اجتهدوا على الدوام الاجتهاد الكلي في إخفائه عن أعين الناس وإبعاده عن أفهامهم وجعلوه سرا من الأسرار العميقة كما جعل كهنة اليونان معبد مدينة (أيليوريس) - إحدى المدن التي كانت تابعة لأثينا مستودع أسرار العبادة القديمة التي لا تصل إليها الأفهام ولا تدركها العقول، فلم يترجم الأرباب من التلمود سوى ما رأوا لزوم نشره لإظهار محاسن الديانة اليهودية، أما علماء النصرانية فلعدم قدرتهم على حل رموز اصطلاحات هذا الشرع وترجمتها من اللغة العبرية إلى اللغات الأخرى فقد اكتفوا بالتعويل على ما كتبه بعض اليهود أو بعض مرتدي اليهود من الكتب التي لا يمكن التعويل عليها لأنها مصوغة في قالب الأغراض أما بيد محب يريد إظهار فضائل دينه وإما بيد عدو جعل نصب عينيه الطعن في الدين الذي تركه وفضل غيره عليه. ولهذا اختلفت آراء الناس في هذا الدين اليهودي باختلاف عبارة الناشرين لأحكامه، فالمنتصر يصف كتبه بأنها خزائن الحكمة والحق والصواب والرحمة والعدل، ويشبهها برياض تزهو بأنواع الأزهار الفائقة الرائقة. وأعداؤه يصفون ما بها بالبدع والخرافات والجهل والسخيف الذي تمجه الأذواق ولا يقبله عقل سليم والفظيع الذي تنفر منه النفوس، ويشبهونها بمستودع قاذورات بخسة قل ما يوجد بها قول سديد ورأي مصيب.

فلهذا دعتنا الحال إلى ترجمة أحكام المعاملات والحدود في شرع اليهود عن كتبها الصحيحة المعول عليه؛ ليكون الناس على بينة منها وليقفوا على حقيقتها من قلم ناقل خال عن الأغراض.

أما كتب التفسير في هذا الشرع فكثيرة، وأقدمها شرع (مشنا) المؤلف في زمن سابق على ميلاد المسيح بنحو أربعمائة سنة. ثم يليه شرح التلمود وهو شرحان:

أحدهما ظهر في أورشليم قبل ميلاد عيسى بنحو المائة سنة. وثانيهما: استغرق زمن وضعه في مدينة بابل نحو الستمائة سنة منها مائة سنة قبل الميلاد وخمسمائة سنة بعده. ثم شرح الأحبار المعروفين باسم (جويؤنيم) وهم علماء يهود بابل، وقد استغرق زمن وضعه جملة قرون بعد الميلاد من الجيل السابع إلى الجيل الحادي عشر، ثم كتاب العالم الشهير موسى بن ميمون الذي ظهر ما بين سنة ١١٣٥ وسنة ١٢٠٤ بعد الميلاد، ثم كتاب يعقوب بن أشير الذي ظهر بين سنة ١٢٦١ وسنة ١٣٤٠ بعد الميلاد، ثم شرح يوسف قارو وموسى أيسر الذي ظهر ما بين سنة ١٤٢٢ و١٥٢٣ وعنوانه (شلحان عروخ)؛ أي: المائدة المبسوطة.

وقد اخترت في ترتيب كتابي هذا الطريقة التي اتبعها صاحبا شلحان عروخ المذكور لكونه أحسن من غيره وضعًا وقالبًا؛ ولذا لم أغير فيه سوى ما رأيت لزوم تغییر محله من العبارات الموجودة في غير محلها. إلخ.

هذا ملخص مقدمة الموسيو (جان دي بفلي) ناقل الأحكام العبرية ويليها عبارة كتاب ورد إليه من أحد ياوران جلالة قيصر الروس (نقولا) الثاني يخبره فيه برضا جلالة القيصر عن عمله وقبول تقدمته إليه ووعده بشموله بأنظار جلالته.

أما نحن فإنّا نقدم واجبات الشكر إلى جناب العالم الفاضل والمتشرع الكامل المستر ملكولم مكلريث (Malcolm Mac Ilwraith) المستشار القضائي للحكومة المصرية، الذي تفضل علينا بقبول تقدمة هذا الكتاب لجنابه انتصارًا للعلم وتشجيعًا للتأليف، ما زالت المحاكم المصرية بحسن إدارته راقية ونظارة الحقانية بجميل أفكاره زاهية، أكثر الله من أمثاله بين رجال الإنجليز الذين يتولون وظائف الإصلاح في هذه الديار.

رابط تحميل الكتاب

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الإثنين, 29 كانون2/يناير 2024 19:50

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.