كتاب "حالة الاستثناء- الإنسان الحرام"* للدكتور جورجو أغامبين** يعد مرجعًا مهما لطلاب القانون والسياسة والعاملين في الحقل القانوني، فهو يقدم إطارًا نظريًا معمقًا لفهم كيف تؤثر حالات الطوارئ في شكل الدولة ومبدأ سيادة القانون. وهذا الكتاب هو الجزء الأول من الكتاب الثاني في رباعية "الإنسان الحرام" للفيلسوف الإيطالي "جورجو أغامبين". يناقش الكتاب سؤال السيادة في الدولة الحديثة بعبارة مركزية: "لمن السيادة وما هو مصدر الشرعية؟ هل هي للسلطة التشريعية ممثلة بشعب منتخب، أم للسلطة التنفيذية القادرة على تعليق القانون في الظروف الطارئة؟" تبدو هذه الإشكالية مُلخص الموضوع الرئيس للكتاب، حيث يستعرض أغامبين كيفية تعليق العمل بالقانون في حالات الطوارئ ووسيلة ذلك للحفاظ على النظام العام.
وقد كشف المؤلف عن هدفه من الدراسة، حين قرر الآتي: «ونظرًا للحاجة الملحة التي تفرضها علينا حالة الاستثناء التي بتنا نعيش في ظلها، فإن الهدف التي تسعي إليه دراسة هذا الكتاب يتمثل في تسليط الضوء على الحيلة التي تحكُم أسرار سلطة زماننا هذا بامتياز. أعني أن ما يقبع في تابوت السلطة هو حالة الاستثناء غير أنها حيز خاوٍ، حيث ثمة فعل إنساني لا علاقة له بالقانون يواجه قاعدة لا علاقة لها بالحياة، إلا أن هذا لا يعني أن الآلة بمركزها الخاوي ذاك لا تعمل بكفاءة؛ بل على العكس، فما قصدنا إثباته بالضبط هو أن هذه الآلة قد واصلت عملها دون انقطاع منذ عقود وحتى يومنا هذا. بهذه الطريقة أصبح بوسع العنف الحكومي محو السمة المعيارية للقانون أو مخالفتها دون مُساءلة أو عقاب مُتجاهلًا بذلك القانون الدولي على المستوى الخارجي، ومنتجًا في الداخل حالة استثناء دائمة، ولا ينفك مع هذا بزعم قيامه بتطبيق القانون. فلا يتعلق الأمر بإعادة حالة الاستثناء إلى حدودها الزمنية والمكانية المُحددة كي نؤكد على أولوية القاعدة والحقوق التي في نهاية الأمر نشأت وتأسست من حالة الاستثناء. فلا سبيل للخروج من حالة الاستثناء الفعلية التي نعيش في ظلها والعودة إلى حالة القانون، لأن الأمر بات يتعلق الآن بمفهوم الدولة والقانون نفسيهما. ولكن إن كانت محاولة إيقاف الآلة، والكشف عن الحيلة المركزية القابعة داخلها أمرًا ممكنًا، فهذا لأنه ليس ثمة ارتباط جوهري بين العنف والقانون، وبين الحياة والقاعدة».
كتاب "حالة الاستثناء" يطرح موضوعات محورية ترتبط بالعلاقة بين القانون والسلطة في الظروف الاستثنائية، ومن أبرزها:
- مشكلة السيادة والشرعية: يتساءل أغامبين في الكتاب "لمن السيادة" في الدولة الحديثة، وهل تكمن في إرادة الشعب الممثلة بالبرلمان أم في سلطة الحاكم التنفيذي الذي يعلق القانون عند الضرورة.
- طبيعة حالة الاستثناء: يعرف أغامبين حالة الاستثناء بأنها فضاء قانوني مشوه، يُعلق فيه العمل بالقانون والدستور تحت مبرر الضرورة، فتتحول مؤسسات الدولة إلى فراغ قانوني ودولة استثناء. ويصفها بأنها "فضاء بلا قانون" يميزها التعليق الكلي أو الجزئي للنظام القانوني، مما يحول الديمقراطية إلى حكم استبدادي مؤقت.
- العلاقة بين القانون والاستثناء: يبحث الكتاب في إمكانية "دسترة" حالة الاستثناء أو تقنينها ضمن المنظومة الليبرالية، وفي مدى حدود انصياع الأجهزة القضائية والتشريعية في الظروف الطارئة. يستعرض أغامبين كيف أن "حالة الطوارئ" قد تُستغل كقاعدة للحكم، وهو ما يلغي مبدأ سيادة القانون وسيادة الشعب في التشريع.
- الحياة العارية والإنسان الحرام: يرتبط موضوع الكتاب بمفهوم "الإنسان الحرام" أو Homo Sacer، وهو الفرد الذي يٌستبعد من الحماية القانونية في ظل الاستثناء. يشير الكتاب إلى أن الإنسان المستباح يُحرم من حقوقه ويحيا حياة عارية (bare life)، أي حياة معرضة لإلغاء القانون عليه. تبرز الحياة العارية كقاعدة تتحول معها حالة الاستثناء إلى قانون دائم في المجتمعات المعاصرة.
- مراجعة تاريخية وسياسية: يتتبع أغامبين الأصول التاريخية لمفهوم الاستثناء بدءًا من القانون الروماني والكنيسة الوسطى، وصولًا إلى تجارب القرن العشرين (الفاشية والنازية) والدول الديمقراطية الغربية (انجلترا، فرنسا، سويسرا، أمريكا). كما يتناول أفكار كبار الفلاسفة والقانونيين مثل كارل شميت ووالتر بنيامين، مشيرًا إلى تضاد مواقفهم من حالة الاستثناء، ويستعين بأفكار ميشيل فوكو عن "السياسة الحيوية" لشرح كيف تحكم الدولة حياة الأفراد العارية.
- التطبيقات المعاصرة: يجري الكتاب ربطًا ضمنيًا لأفكاره بسياقات اليوم، مثل توظيف الأزمات (الإرهاب، الأوبئة، الحروب) لتعليق الحريات والقانون. ويفتح الباب لدراسة حالات إقليمية وعربية -على سبيل المثال- كيفية تطبيق أدوات الاستثناء في الحكم كالحالة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة أو أنظمة الاستثناء بعد الاستقلال في الدول العربية.
يختتم أغامبين كتابه بالتأكيد على الطابع الدائم لحالة الاستثناء في العصر الحديث، حيث لم تعد المؤقتة بل صارت قاعدة قانونية قائمة بذاتها في كثير من الأنظمة السياسية. ويوضح أن العنف السلطوي المستند إلى حالة الطوارئ يمكنه محو الطابع المعياري للقانون بدون مساءلة أو عقاب. من ثم، يدعو التحليل إلى إعادة التفكير في العلاقة بين القانون والسيادة والعنف، لما يميز الحكم الاستثنائي من خلل في فصل السلطات والمساءلة. إن قراءة أغامبين لهذا الواقع تلقي ضوءًا جديدًا على العلاقة الخفية بين القانون والعنف في الحياة السياسية.
لتحميل ملف الكتاب
* صدرت الترجمة العربية لأول مرة على يد الدكتور ناصر إسماعيل عن دار مدارات للأبحاث والنشر (الطبعة الأولى، 1436ه/2015م).
** جورجو أغامبين (مواليد 1942) هو فيلسوف إيطالي معاصر بارز، معروف بأبحاثه حول مفاهيم السيادة وحالة الاستثناء والسياسة الحيوية. درس القانون والفلسفة في جامعة روما "سابينزا"، وحصل على الدكتوراه في الفكر السياسي (أطروحة حول سيمون فيل). يُعد أغامبين من روّاد الفكر الفلسفي والسياسي الإيطالي التجديدي، وأحد أبرز منظري نظرية الإنسان الحرام (Homo Sacer). من أشهر أعماله: كتاب "رجل بلا محتوى" و"رباعية الإنسان الحرام" التي ينتمي إليها كتابنا، بالإضافة إلى اللغة والموت و"وسائل بلا نهاية". اهتم أغامبين بتحليل العلاقة بين القانون والعنف، وترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية؛ وقد عُرِف بمواجهته لتجارب القرن العشرين الكبرى (النازية والفاشية مثلًا) من خلال منظور نقدي لقضايا السيادة والاستثناء.