في التاسع من مايو 2004؛ رحل عن عالمنا قاضي القضاة وشيخهم، أستاذ الجمع الغفير من القانونيين المعاصرين ومعلمهم، العلامة الفذ، القاضي العادل، والمربي المعلم، المرحوم المستشار الدكتور عوض محمد المر، الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا.
ومما لاشك فيه أن عوض المر أكبر من أية كلمات أو عبارات؛ إذ ليس في أي حديث يتناوله ما يوفيه حقه، فالرجل كان ظاهرة خاصة، فريدة ومتميزة، أحدثت -ولا تزال- آثارًا جوهرية ثابتة وملموسة في حقل القانون والقضاء، ليس في مصر فحسب، وإنما أيضًا خارج حدود البلاد، وفي العديد من الدوائر والمحافل الدولية، ولعل كل من يتتبع ما لحق بالبلاد من تطورات كبيرة في مجال القانون والقضاء خلال العقد الأخير من الزمان يستوقفه الدور العميق الذي أسهم به الدكتور عوض المر في عملية تحديث المفاهيم وتطويرها، والارتقاء بالفكر القانوني، ودعم حقوق الأفراد وحقوقهم، فمنذ أن ارتكز علي قمة القضاء بتوليه رئاسة المحكمة الدستورية العليا، في سنة1991، علي امتداد فترة خصيبة امتدت لزهاء سبع سنوات، أحدث تغييرًا شاملًا في المفاهيم والسياسات القضائية التقليدية، مستهلًا لمرحلة جديدة شكلت حدًا فاصلًا افترق معه الفكر القانوني عما كان سائدًا قبلها، وبحيث أصبحنا نميز في تناولنا لهذه المرحلة بين ما كان ساريًا قبل رئاسة عوض المر للمحكمة الدستورية العليا، وما صار عليه الحال بعد ذلك. فقد كان هدفه منذ البداية هو إقامة العدل، وصون حقوق الأفراد، وكفالة حرياتهم علي سند من الشرعية الدستورية واحترام القانون من جانب السلطات العامة والأفراد علي حد سواء.
فإقامة المجتمع الديمقراطي الحر المتحضر في إطار دولة المؤسسات يتطلب نزول الجميع علي حكم القانون، وهو ما يستلزم أيضًا توافق التشريعات علي ما فيها من تدرج مع القاعدة الأعلى التي تستمد منها، وبحيث يكون دستور البلاد وقانونها الأعلى، هو الأساس الذي ينبغي أن ترد إليه أعمال وتصرفات السلطات العامة، والأشخاص العامة والخاصة كذلك، ويلزم اتفاقها معه، وإلا كان في خروجها عنه مخالفة ممقوتة تهدرها وتنال من صحتها وسلامتها. ولم يكن هذا التوجه من جانبه محض فكر نظري يردد به ثوابت متفق عليها، وإنما كانت سياسته حكيمة وفاعلة نقل بها الشرعية الدستورية من صيغها النظرية التقليدية إلي تطبيقات عملية متطورة. وقد ساعده علي ذلك فكره المتطور المستنير، واستيعابه للمدارس والمذاهب القانونية المختلفة الإسلامية واللاتينية والانجلو أمريكية وغيرها، ونجاحه باقتدار من خلال نظر ثاقب وتحليل دقيق وفهم عميق في اقتباس وابتكار الحلول المناسبة لظروف البلاد وأحوال أبنائها، محتفظا للدستور بقدسيته ناظرًا إليه كوثيقة تقدمية حية ترعي تلك الظروف والأحوال، وبما ليس فيه إخلال أو انتقاص بما حوته من ضمانات للأفراد.
ولقد أحدثت الأحكام القضائية المتوالية والرنانة التي أصدرها الدكتور عوض المر أصداءً واسعة في الشارع المصري، وكان لها كذلك تأثير ايجابي ملموس علي وضع وسياسات البلاد من منظور المجتمع الدولي. فمعالجته للحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية بل والحق في البيئة والتنمية، اتفقت إلي حد كبير مع المستويات المتعارف عليها في أرقي الأمم المتحضرة علي نحو أبرز دور القضاء المصري علي الساحة القانونية الدولية، من خلال ما حققه هذا القضاء تحت ريادة الدكتور عوض المر، من إنجازات متوالية دعمت الحقوق والحريات الفردية، وكفلت لها المزيد من الضمانات.
ولعل من أهم تأثيرات الدكتور عوض المر في هذا المجال هو تفجيره وتنميته للوعي الدستوري بين الأفراد. إذ تزايدت بقدر ملحوظ درجة إدراك المواطن العادي للمفاهيم الدستورية التي تقدم له الضمانات وتكفل له الحماية في ظل الدستور، وأصبح كل مواطن عالمًا في معظم الأحوال بحقوقه المكفولة دستوريًا، وحريصا على عدم المساس بها أو النيل منها، على نحو صار معه التقاضي في شأن المخالفات الدستورية أمرًا مألوفًا ومتزايدًا.
وإذا كانت فجيعتنا في أستاذنا المرحوم عوض المر كبيرة ومؤلمة، إلا أن عزاءنا أنه وإن رحل عنا للقاء رب عزيز كريم، فقد ترك لنا ثروة غنية وفيرة من علمه وفضله، يتزود بها تلاميذه، وستكون علما نافعا لأجيال تأتي من بعده، كذلك يشفع له عند الله سبحانه وتعالي يوم الحساب.
رحمة الله علي الفقيد المعلم الكريم وألهمنا وآله الصبر والسلوان.
__________________
المصدر: عادل عمر شريف، الأهرام، 23 مايو 2004، السنة 127، العدد 42902، https://2u.pw/T8qLI5x.