مفهوم الشرعية

المقصود بالشرعية في اللغة

شَرعيّة: (اسم) مؤنَّث منسوب إلى شَرْع، وهي مصدر صناعيّ من شَرْع: كون الشيء قائمًا على أساس شرعيّ، واللاَّشرعيَّة: حالة من الفوضى وغياب الشرائع والنظم والعهود تفشَّت اللاَّشرعيّة في كثير من البلدان المعاصرة.

وبين الشرعية والشريعة جناس كامل لفظاً ومعني، فكلاهما مصدر من فعل واحد هو شرع، والشِراع بالكسر شِراع السفينة وأشرع باباً إلى الطريق أي فتحه إلى الشارع، وشرع فلان إذا اظهر الحق وقمع الباطل.

ومنه يصبح مبدأ الشرعية يطلق من الناحية اللُغوية على مجموعة القواعد الأساسية التي تُشكل أساس نظام معين والتي يمكن من خلالها الحكم على مدى مطابقة ما استحدث في هذا النظام مع أصوله وأسسه، لهذا عبّـر البعض عن الشرعية بالتطابق في القوانين، وعبر عنه البعض الآخر بالاستقامة والإنصاف.

المقصـود بمبـدأ الشرعيــة اصطلاحــًا

يُعّرف فقهاء القانون العام مبدأ الشرعية بأنه “خضوع كلٍ من الحكام والمحكومين للقانون بمعناه الواسع”، بمعني سيادة حكم القانون وخضوع جميع السلطات الحاكمة في الدولة لأحكامه، أي ضرورة أن تكون جميع تصرفات السلطات العامة في الدولة متفقة وأحكام القانون بمدلوله العام، سواء كانت هذه السلطات تشريعية أم قضائية أم تنفيذية.

ومقتضي هذا التعريف أن يستطيع الأفراد ذوي المصلحة والصفة طلب إلغاء جميع أعمال الهيئات العامة وقراراتها الملزمة غير المشروعة، أو طلب وقف تنفيذها أو طلب التعويض عن الأضرار التي تسببها لهم أمام القضاء الإداري المختص، فهـو يعني خضوع الدولة للقانون فـي كل ما تأتيه مـن أعمال وما تُجريه من تصرفات وما تتمتع به من امتيازات.

كما أن من معان الشرعية أن تكون السلطة القائمة متمتعة بقبول المحكومين، بإرادتهم الحرة ودون قهر. فقضية الشرعية هي قضية لماذا يستحق نظام ما أن يتمتع بمظاهر الولاء والالتزام السياسي من قبل أعضائه. ولقد اتفق المفكرون السياسيون على أن السلطة تكون شرعية عندما يكون القائم عليها متمتعًا بحق ممارستها ومن ثم فإن المفهومين المحورين عند دراسة فكرة الشرعية هما السلطة والحق، فمن أهم القضايا التي شغلت المفكرين السياسيين الباحثين في مفهوم الشرعية قضية «السلطات» التي تمارس باسم الدولة أو الحكومة وقضية ما الذي يعطي الدولة «الحق» في أن تمارس تلك السلطات على مواطنيها.

وقضية الشرعية لم تكن مطروحة بهذا الشكل الملح على مسرح الفكر السياسي في العصور الوسطي، ففي هذه العصور كان العالم الذي نحيا فيه يعتبر جزءًا من كل … جزءًا من الكون الذي يسيره الله بنظام معين ولغاية محددة. ومن ثم فإن هذا العالم السفلي له أيضًا وظيفة محددة وغاية معينة رسمها له الله في تناسق مع بقية أجزاء الكون. وكان ينظر بالتالي إلى النظام السياسي -في الدولة الدينية في الغرب- على أساس أنه انعكاس للنظام الكوني والسلطة السياسية على أساس أنها تعبير عن إرادة الله وأصبحت هذه القناعة التي تجعل من النظام السياسي والسلطة السياسية شيئًا مقدسًا على أساس أنهما انعكاس لإرادة الله التي هي مصدر الشرعية الأساسية.

ولكن مع زوال هذا الإطار الفكري بانتهاء العصور الوسطى حدثت أزمة في الفكر السياسي الخاص بالشرعية وبدأ البحث عن أسس جديدة لها. ذلك أنه إذا لم يعد النظام السياسي شيئًا مقدسًا كجزء من نظام كوني حدد الله غايته فكان هو مصدر شرعيته فإن القواعد التي يضعها النظام ويطالب الناس باتباعها أو بالامتناع عن اتباع غيرها ستضحى قيودًا على الحرية غير مرغوب فيها من قبل أعضاء النظام. وأضحى الحل الجديد لإضفاء نوع من الشرعية على هذه القيود يجعلها مقبولة هو أن يكون مصدرها الإرادة الإنسانية، أي إرادة البشر الذين يحيون في ظل النظام وليس الإرادة الإلهية كما كان سائدًا في العصور الوسطى.

ويمكن إجمال النظريات المعاصرة حول قضية الشرعية في ثلاثة اقسام رئيسية، القسم الأول: يضم تلك النظريات التي تحاول إعادة مفهوم الشرعية بالصورة التي كان سائدًا بها في العصور الوسطى مؤكدة أن العالم الذي نحيا فيه في كل مناحيه، ولا يستثنى من ذلك نظمه السياسية، مسير بإرادة الله ويعد تجسيدًا أو انعكاسًا لهدف يعلو فوق إرادة البشر. فهذا النوع من النظريات يقوم من ثم على مقولة أن الشرعية السياسية تستمد من شيء يقع خارج نطاق الأفعال والإرادة الإنسانية، أما القسم الثاني: من نظريات الشرعية فتؤكد أن المجتمعات المعاصرة رغم التحديث الهائل فيها فإنها تستند إلى الأعراف، وأن إجماع الناس على الأعراف التي تحكم علاقة المواطن بالدولة واحترام النظام السياسي لهذا الجانب من الأعراف هو مصدر الشرعية السياسية. أما القسم الثالث من النظريات السياسية الخاص بالشرعية فيؤكد أيضًا دور العرف في الحياة الحديثة، ولكنه يبرز أن العرف يحكم كافة أوجه الحياة في المجتمع ويخلص من ثم إلى أن الأعراف التي تحكم مناحي الحياة كلها، وليس العلاقة بين المواطن والدولة وحسب، هي مصدر الشرعية، فإجماع الناس على طريقة حياة متكاملة وتكريس النظام السياسي لأسلوب الحياة تلك يضحي هو مصدر شرعية.

وهناك أربعة محاور أساسية يدور حولها تحليل مفهوم الشرعية:

المحور الأول يقع في مجال تخصص الفلسفة السياسية ويدور حول التساؤل عن الأسس الفكرية التي تجعل حكومة ما أو السلطات التي تمارسها تلك الحكومة شرعية، وهو تساؤل مواز في جوهره للتساؤل عن الالتزام السياسي، أو ما الذي يلزم المواطن بأن يطيع الحكومة.

أما المحور الثاني فيقع في مجال اهتمام رجل الدولة الممارس، ذلك لأنه لا يمكن لأي سياسي محترف أن يتجاهله ويدور حول التساؤل عما يجعل الناس يؤمنون بأن حكومة ما هي حكومة شرعية.

والمحور الثالث يقع في مجال الدراسات القانونية ويدور حول التساؤل عن المحددات والضوابط القانونية للسلطة الشرعية، وهو تساؤل تخطف إجابته من دولة إلى أخرى باختلاف نظمها السياسية والقانونية.

والمحور الرابع يقع في مجال كل من السياسة العملية والقانون ويدور حول المحددات القانونية التي تضبط عملية تولي السلطة فتضفي عليها سمة الشرعية، فمثلًا تعد الانتخابات الديمقراطية، وفقًا للدستور الأمريكي، هي الوسيلة الشرعية الوحيدة لتولي الرئيس مهام سلطاته في حين أن الصورة تختلف تمامًا في بريطانيا مثلًا وفقًا لقواعد الدستور البريطاني.

ورغم أن الدستور يخدم وظيفة إضفاء الشرعية على السلطة سواء عند توليها الحكم أو في ممارستها الفعلية المهام السلطة، فإن المشكلة الأساسية تظهر عندما لا يكون المواطنون مقتنعين بهذا الدستور أصلًا. وهذا تظهر أهمية المحورين الأول والثاني في التحليل دون المحورين الثالث والرابع فالدستور وحده لا يكفي في إضفاء الشرعية على الحكومة القائمة إذا لم يكن هناك إجماع من الشعب على تقبل الحكومة فنجاح الحكومة في أن تجعل المحكومين يؤمنون بشرعيتها ويقتنعون بهذا طواعية هو أهم معايير نجاح السلطة في اكتساب الشرعية السياسية. وهنا يبرز الفكر الماركسي دور الأيديولوجية في مساعدة النظام السياسي على تحقيق هذه المهمة، فيؤكد هذا الفكر على أن إحدى وظائف الأيديولوجية الرئيسية هو أن تضع المؤسسات والمناصب السياسية القائمة في النظام في إطار يجعل الطاعة والالتزام السياسيين يبدوان وكأنهما السلوك الصائب والمنهج الطبيعي. ومن ثم فإن مهمة إضفاء الشرعية على النظام السياسي تنبع في الدول الماركسية من الدولة ذاتها عن طريق التنشئة السياسية للمواطنين وفقًا لعقيدة معينة موجهة نحو تبرير وجود النظام بالصورة التي يوجد عليها وتبرير أساليبه ووسائله في الحكم. في حين أنه على الجانب الآخر نجد أن النظم المحافظة، ورغم إيمانها بأهمية ومحورية الشرعية لبقاء النظام، إلا أنها ترفض أن تضطلع الدولة بهذه المهمة وتؤمن أن اكتساب الشرعية للنظام لا بد أن يتم باستقلال تام عن العقيدة السياسية والمؤسسات السياسية فتقوم به، ومن ثم المؤسسات المدنية الاجتماعية أو المحلية أو الدينية.

الشرعية في النظام السياسي الإسلامي:

من فقهاء الشريعة الإسلامية من عبّر عن مصطلح الشرعية بمبدأ حاكمية الله في مقابل حاكمية البشر، ومنهم من عبّر عنه بمبدأ سيادة أحكام الشريعة، وعلي الرغم من التباين في تناولت مبدأ الشرعية في النظام الإسلامي إلا إنه ومما لا شك فيه فإن الدولة الإسلامية هي دولة قانونية تقوم على أساس تكريس مبدأ الشرعية، ويوضح القرآن الكريم قانونية الدولة وسيادة القانون في خطابه للرسول صلي الله عليه وسلم، الممثل للولاية والسلطة الشرعية، فيقول سبحانه وتعالي: ]وَإذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(، ويقول سبحانه وتعالي: ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(.  فهذه الآيات القرآنية وغيرها قد اعتبرت الرسول صلي الله عليه وسلم منفذ ومتبع للشريعة والأوامر الإلهية وليس فوقهما، مما يجعل القانون سيداً وركناً أساسياً في بناء الدولة، ومن ثم فلا شك أن الدولة الإسلامية هي دولة خاضعة للقانون وليست فوق القانون، بل هي منفذة للقانون وقائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد. وأن النظام القانوني في الإسلام قد ورد في الكتاب والسنة ومعه الأهداف الأساسية والقيم العليا للمجتمع الإسلامـي في آن واحد، فالحاكم حين يلتزم في قراراته بالكتاب والسنة إنما يلتزم في نفس الوقت بالنظام القانوني الإسلامي وبالمبادئ الأساسية والأهداف العليا للمجتمع الإسلامي، كما وردت في هذين المصدرين في آن واحد، مـن ثم فإن شرعية السلطة -في النظام الإسلامي- مرهونة من حيث قيامها واستمرارها لا بمجرد الالتزام بالنظـام القانونـي كمـا ورد في الكتاب والسنة فقط، وإنما في الالتزام بالعمل على تحقيق أهـداف المجتمع الإسلامـي العليـا، وبهذا المفهوم يكون هناك فرق جوهري بين الشرعية في النظام الإسلامي عنها في النظام الوضعي، إذ نجد أنه في النظام الوضعي مجرد التزام السلطة في الدولة بنظامها القانوني يكفي لتحقق شرعيتها، في حين أن مبدأ الشرعية في النظام الإسلامـي يعني التزام القائم على السلطة بإقامة مجتمع إسلامـي كما صـور في الكتاب والسنة، وهي بذلك شكلًا وموضوعًا تقع داخل النظام القانوني الإسلامـي، كما أن شرعية السلطة في الدولة الإسلامية مرهـونة في قيامها وفي استمرارها بالتزامـها بالعمـل على إعمال النظام القانوني الإسلامي في جملته دونما تمييز بين أحكامه المنظمة لسلوك المسلم كمواطـن وسلوكه كحـاكم، وبين تلك القيم الأساسية والأهداف العليا التي وردت في الكتاب والسنة.

_________________

المراجع:

  1.  إسماعيل مقلد ومحمد ربيع (محررين)، موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، الجزء الأول، ص: 290-291.
  2. شريف طه، قضايا الشرعية والمشروعيـة بين الشريعـة والقانــون، المعهد المصري للدراسات، 29 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: .
Rate this item
(0 votes)
Last modified on الإثنين, 30 تشرين1/أكتوير 2023 19:21

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.