المساواة لغة: مصدر قولهم: ساواه يساويه إذا عادله، قال الراغب: المساواة هي المعادلة المعتبرة بالذرع ّوالوزن والكيل، يقال: هذا الثوب مساو لذاك الثوب، وهذا الدرهم مساو لذلك الدرهم، (وهذا التمر مساو لهذا التمر)، وقد يعتبر بالكيفّية، ولاعتبار المعادلة ّالتي فيه (أي في لفظ السواءّ) استعمل استعمال العدل، وتسوية الشيء (بالشيء) جعلهما سواء، إما بالرفعة وإما بالضعة والسوي: يقال فيما يصان عن الإفراط والتّفريط من حيث القدر والكيفّية.
أما اصطلاحًا، فيقصد بالمساواة: “التماثل بين الجميع في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الدين أو الحالة الاجتماعية، وتوافر معاملة مساوية لكل بني البشر، وإلغاء الفوارق الموجودة والتي تظهر بحكم الطبيعة”.
يرتكز حق المساواة على حقيقة أن البشر متساوين فيما بينهم، أي: لا يوجد أناس فوق أناس، أو أناس تحت أناس. وهو حق أساسي في المجتمع الديموقراطي، فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات لا فضل لأحد على أخر. وهناك فارق بين المساواة والتسوية حيث أن التسوية هي جعل الناس سواسية على خط العمل والكسب، أما المساواة فهي النظر إلى أبناء الجنس البشري على درجة واحدة من القيمة، فالأسود كالأبيض، والقصير كالطويل، والقبيح كالجميل، والعاجز كالقادر، من حيث القيمة الإنسانية، ولا فضل لأحد على الآخر من هذه الناحية.
ويتقاطع مفهوم المساواة مع مفهوم العدل؛ حيث نجد أن كلمة العدل نفسها أخذت معناها -في لسان العرب- من معنى المساواة؛ فالعدل -بالكسر أو الفتح- هو المثل، وعَدَلَ الشيء بالشيءِ أي ساواه به. ثم أُخذ منه معنى القيمة، فالعدل -بالفتح- هو قيمة الشيء، وقيمة الشيء هي أقصى ثمنه! مما يعني أن اللغة نفسها لا يُفهم فيها العدل إلا على أساس المساواة.
وحين يأتي القرآن الكريم ليتبنى هذا اللسان العربي، فإنما يتبناه على شروطه وقواعده. فإذا قال القرآن ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ (البقرة: 48). فإن المعنى لا يقبل منها فداء نظير ما اقترفت من جرم، والنظير هو المثيل المساوي. ليس هذا فحسب، بل إن اللغة تذهب خطوة أخرى في النكاية بالمتلاعبين بها، حين تقول: إن العدل نفسه قد يكون في بعض سياقاته ظلماً وخطيئة؛ مثل أن يعدل العبد بربه آلهة أخرى، أي يساوي بينه وبينها: جاء في القرآن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (الأنعام: 1). أي يسوون بينه وبين الآلهة الزائفة. وقال ابن عاشور في تفسيره للآية: ومعنى يعدلون يسوون، والعدل التسوية، تقول: عدلت فلاناً بفلان إذا سويته به. ومعنى هذا أن كلمة العدل نفسها -التي يهرب إليها أنصار مقولة الحق الإلهي والامتياز العرقي- تُفسر حسب سياقها، مثل كلمة المساواة سواء بسواء! فمثلما أن بعض المساواة ظلم وبعضها الآخر عدل، فإن بعض العدل حق وبعضه الآخر باطل، بحسب دلالة السياق الذي ترد فيه الكلمة! والسياق الحديث الذي ترد فيه كلمة المساواة هو سياق الحقوق والحريات. والمساواة بهذا السياق مصطلح يؤكد التماثل التام بين الأفراد.
ويستخدم مصطلح المساواة بمعنيين معنى معنوي ومعنى توزيعي، فبالمعنى المعنوي العام: تعني المساواة ضرورة عدم التمييز بين الأفراد في الحقوق والواجبات لأي سبب كان تأسيسًا على مقولة أن الأفراد يولدون متساوين، وعلى نظرية الحقوق الطبيعية التي تقرر أن كل الأفراد -بالطبيعة- لهم القدر نفسه من الحقوق بما يؤهلهم للقدر نفسه من الامتيازات. ويصل مفكرون من أمثال هيلفيتيوس: إلى حد القول بأنه لا توجد اختلافات بين الأفراد حتى في القدرات العقلية والإدراكية وأن ما نلاحظه من تفاوت في هذه القدرات بين البشر إنما يرجع إلى اختلاف مستوي الخدمات التعليمية التي يتلقونها. ولكن يرفض الكثير من المفكرين المساواة بين البشر على أساس أنها مخالفة لقوانين الطبيعة، ثم هناك فريق ثالث من المفكرين يتخذ طريقاً وسطًا بين المؤيدين والرافضين لمفهوم المساواة فنجد إيمرسون: على سبيل المثال يقدم ما اسماه بمبدأ (التعويض) والذي مؤداه أن كل فرد قد لا يمتلك كل ما يملكه فرد آخر وبالنسب نفسها، ولكنه يؤكد أنه وإن كان يفتقد ما يمتلكه الآخر في جانب فإنه يمتلك ما يفتقده هذا الآخر في جانب ثان بحيث تضحى المحصلة النهائية هي أن الأفراد كلهم متساوون إذا ما نظر إلى مفهوم المساواة نظرة كلية.
إضافة إلى هذا المضمون المعنوي لمفهوم المساواة فهناك استخدام آخر له هو استخدام توزيعي: يحاول، تأسيسًا على المعنى الأول، أن يقرر توزيعًا متساويًا للسلع الاقتصادية والفرص الاجتماعية والحقوق السياسية بين الناس. ويرتبط هنا مفهوم المساواة بمفهوم العدالة حيث المقولة الأساسية انه طالما ان الأفراد يولدون متساوين فإن التمييز بينهم في الثروات أو الامتيازات أو الظروف يضحى أمرًا غير عادل.
وإذا نظرنا إلى المساواة السياسية على وجه التحديد لوجدنا أنها تعني أن يكون لكل المواطنين فرص متساوية للمشاركة في كل ما يتعلق بعملية صنع القرار السياسي بوصفهم أندادًا سياسيين، ولقد رأى روسو أن تحقق هذه المساواة السياسية لا يمكن أن يتم إلا عن طريق إلغاء نظم الحكم النيابية التمثيلية والعمل على تضييق نطاق المجتمع إلى أقصى درجة ممكنة بما يسمح بإعادة مفهوم المشاركة السياسية المباشرة -كما كانت مطبقة في أثينا في العصور القديمة. وبحيث يصبح كل مواطن ملمًا بأمور مجتمعه كما يلم بأمور أفراد أسرته المباشرة. وإذا كان الكثير من معاصري روسو قد أدرك صعوبة تقليص المجتمع إلى الحجم الذي تحدث عنه إلا أنهم أكدوا معه أن إلغاء نظام الحكم النيابي هو السبيل الوحيد أمام إيجاد مساواة سياسية حقيقة بحيث يضحى للجميع فرصة للمشاركة في عملية صنع القرار السياسي بصورة مباشرة. ويرى فريق ثالث من علماء السياسة أن المساواة السياسية يمكن تحققها مع وجود حكومة تمثيلية شريطة وجود قنوات ومؤسسات تعمل على أن يكون ممثلو الشعب أكثر قدرة على التعرف وباستمرار على مطالب ورغبات من يمثلونهم مع ضمان استجابة النواب لمطالب الناخبين.
ويرفض البعض مفهوم الحكومة الديمقراطية كلية، سواء تمثيلية أم مباشرة على أساس أنها وان كرست مفهوم المساواة السياسية، بمعنى مشاركة الجميع بصورة من الصور في عملية صنع القرار السياسي، إلا أنها بتمكينها دائمًا لقرار الأغلبية أن يسود فإنها قد تضر بمفهوم المساواة الاقتصادية مثلًا إذا ما قررت الأغلبية حرمان الأقلية من ممتلكاتهم. ومن ثم فإن أنصار هذا الفريق يؤكدون أن الحكومة المركزية هي وحدها القادرة على تحقيق مفهوم المساواة في التوزيع بمعناه الواسع لأنها تضمن أن يصل إلى الجميع القدر نفسه من الخدمات سواء اقتصادية أم تعليمية أم سياسية … الخ. ويرد أنصار الحكومات الديمقراطية بأن نظم الحكم المركزية، وإن كانت تضمن بالفعل قدرًا عاليًا من المساواة الاقتصادية، إلا أنهم يؤكدون أنها تحرم غالبية المواطنين من فرص المساواة السياسية حيث تقصر المشاركة السياسية الحقيقية على نخبة ضيقة من أعضاء الحزب الواحد الحاكم.
ومن أهم الانتقادات التي يقول بها مناهضو مفهوم المساواة التوزيعية أنه لا يمكن تحقيق مبدأ المساواة في التوزيع إلا عن طريق الإخلال بحقوق الملكية الطبيعية. ويشيرون في هذا الصدد إلى تأكيد الماركسية على أنه لا يمكن تحقيق المساواة دون إلغاء الملكية الفردية وتصفية الطبقية. كما أن نيتشه يؤكد على أن تحقيق الذات لا يتم إلا عن طريق المنافسة والصراع والنجاح والفشل وأن هذا بدوره يتطلب الإقرار بوجود قدر مقبول من اختلاف القدرات والمواهب بل والثروات لأن هذه التمايزات هي التي تحفز الناس لدخول حلبة المنافسة. فالمساواة التامة تصب الناس في قوالب متشابهة فتقضي على المواهب.
المساواة في القانون:
ويقتضي هذا المفهوم مساواة الجميع أمام القانون، وذلك عن طريق التزام يقع على كل من يطبق القاعدة القانونية يفرض عليهم ألا يرتكبوا تمييزًا بين الخاضعين للقاعدة القانونية لا تنص عليه هذه الأخيرة، ومن دون شك فإن هذا المظهر للمساواة أمام القانون لا يتعلق بمحتوى العمل التشريعي ذاته، إنما يتعلق فقط بأساليب تطبيقه.
وهذا يعني أن هذا النوع من المساواة لا يفرض على الحكام إلا التزامًا بالامتناع حيث يحظر عليهم أن يرتكبوا أي تمييز بين الأفراد مهما كان نوعه خارج نطاق قاعدة القانون.
وفي الحقيقة أن المساواة أمام قاعدة القانون تكون تاريخيًا التعبير الأول عن المساواة، بحيث تطرح نظامًا قانونيًا يقوم على إبطال جميع أنماط التمييز التي تقترف من قبل القائمين على تطبيق القاعدة القانونية، وقد ظهرت هذه القاعدة لتقضي على التمايزات الاجتماعية التي كانت توجد خصوصًا في النظم الإقطاعية القديمة، ولتطرح مبدأ قانونيًا جوهريًا يقوم على وحدة البنية القانونية التي تطبق على الجميع من دون استثناء، أي ضرورة تطبيق قانون وحيد على الجميع، فإذا كان الأفراد يملكون جميعًا الحقوق نفسها ضمن المجتمع السياسي فإنه من الطبيعي أن يخضعوا لقانون واحد، ولمعيار واحدٍ يطبق على الجميع للتمييز.
وبالتالي فإن الوظيفة الأساسية التي يطرحها مفهوم المساواة أمام قاعدة القانون إنما تتمثل في تجميع كل المواطنين في فلك قانوني واحد، وبغض النظر عن مراكزهم الواقعية التي يشغلونها.
ويعد مبدأ المشروعية الذي يقوم على أساس مطابقة القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى ضمانًا مهمًا لتحقيق المساواة أمام القانون؛ لأن من شأنه أن يحول دون ارتكاب تغييرات عن طريق الأعمال القانونية الأدنى (لوائح، قرارات فردية، …) بالمخالفة لمقتضى ومضمون القواعد القانونية الناجمة عن الأعمال القانونية الأعلى مثل القوانين.
المساواة في الشريعة الإسلامية:
إن الله تعالى استقل بالخلق والتشريع ليضع أرسخ قاعدة لكفالة حق الناس في المساواة أمام حكمه وشرعه، وقطع بذلك السبيل أمام أي فرد أو فئة من الناس قد تدعي لنفسها الفضل والتميز عن غيرها، وتذهب بالسيادة فتضع لغيرها من الأحكام ما تهواه، ومن أنظمة الحياة ما تشتهيه، سواء أضرها أم لا، ولذلك اختص الله وحده بالتشريع ابتداءً، كما اختص كذلك بالخلق والتكوين قال الله تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ” وقوله تعالي:” وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ”، وإنما اختص الله بالتشريع، لأن التشريع يراد به إصابة الحق ِوالعدل، وعدم التحيز للهوى والشهوات والإنسان مهما وضع من نظم وقوانين، فلا يمكنه إصابة الحق والعدل فيها على الدوام، بل إن أصابه مرة، أخطأه مرات، لأنه تتحكم فيه الأهواء والنزعات، وينتابه النقص والقصور، ولهذا امتلأ التاريخ البشري بأنواع كثيرة من الظلم، في الأحكام التي صنعتها يد الإنسان، أو تدخلت فيها، أما كيف يتساوى الناس أمام الشريعة، فذلك أن خطاب الشرع عام يشمل جميع الناس، حكاما ومحكومين، رجالا ونساء، فالأوامر كلها كالصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوه، يطالب الجميع بأدائها والقيام بها، فيطالب الراعي بالصلاة ونحوها، كما يطالب بها المرعى، وكذلك النواهي كالسرقة والزنا والقذف، يطالب من الجميع الكف عن ذلك دون استثناء أحد، وهذا معنى المساواة أمام الشريعة.
وقد دلت السنة النبوية في عدد النصوص على معاني المساواة بين البشر جميعًا، فلا يمتاز أحد عن أحد إلا بالتقوي والعمل الصالح، ونجد ذلك في قوله صلي الله عليه وسلم {النَّاسُ سواءٌ كأسنانِ المُشطِ وإنَّما يتفاضلون بالعافيةِ}، وفي خطبة الوداع قال رسول الله صلي الله عليه وسلم{أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى}، وقال أيضًا: {الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالهِ}.
________________________________
المراجع:
- عصام القيسي، العدل أم المساواة “لعبة اللغة”، الجزيرة نت، 22 نوفمبر 2016، متاح عبر الرابط التالي: