مفهوم الدستورية

يري العديد من المفكرين السياسيين أن مصطلح دستورية مرادف لمصطلح حكم القانون (Rule of Law) والواقع أن هذا المصطلح يستخدم بمعنيين، أحدهما معنى حرفي لغوي والآخر معنى وصفي. أما الدستورية في معناها اللغوي الحرفي فتعني مجموعة المبادئ والقواعد التي تنتظم وتحكم الحكومة، وفي حين أن سير كينيث موير Sir Kenneth Wheare قد ضرب مثلًا على ذلك المعنى مشيرًا إلى النظام البريطاني قائلًا إن الدستورية هناك مجموعة القواعد القانونية، وغير القانونية أيضًا، التي تحدد شكل نظام الحكم. إلا أنه من المعتاد عند علماء السياسة بصفة عامة استخدام المصطلح للدلالة على مجموعة القواعد القانونية على وجه التحديد والمنصوص عليها في وثيقة واحدة أو عدد محدود من الوثائق. فالدستورية إذن وفقًا لهذا المعنى، هي عملية بناء الدساتير المكتوبة وتضمينها قواعد تنظم عملية الحكم. ولكن يستخدم بعض المفكرين السياسيين مصطلح الدستورية بمعنى آخر وصفي أضحى هو المعنى الشائع الاستخدام في الوقت الحالي. والدستورية وفقًا لهذا الاستخدام الثاني هي قيام نظم سياسية تأخذ بمفهوم الحكومة المقيدة، فالدستورية إذًا هي المذهب الذي يرتب الشرعية على الدستورية، فيؤمن بأن الحكومة لابد أن تكون دستورية حتى تتمتع بالشرعية. والدستورية هنا تعني شيئين، أولًا أنه لابد وأن تتكون الحكومة وفقًا لقواعد الدستور، وثانيًا أنها لابد وأن تكون مقيدة في سياساتها وتحركاتها بالمبادئ التي ينص عليها الدستور.
ويدور التنظير السياسي للدستورية حول محورين أساسيين؛ المحور الأول هو دور الدستور كمحدد ومحجم للحكومة، وذلك لاحتوائه على بعض المبادئ التي تضمن عدم سيطرة الحكومة المطلقة وعدم انفرادها بالسلطة دون مراجعة، ومن أهم المبادئ التي تعمل نحو هذه الغاية مبدأ الفصل بين السلطات. أما المحور الثاني فهو دور الدستور في الوصول بالحكومة القائمة إلى التمتع بالرضا العام. ومن أهم المبادئ التي تنص عليها الدساتير والتي تساعد على تحقق الرضا العام ويعمل في الوقت نفسه كإحدى أدوات التعبير عن هذا الرضاء هو مبدأ التمثيل النيابي.
ويوجد في معظم الدول الحديثة دستور مكتوب يعمل -من الناحية النظرية على الأقل- على تحديد شكل ومهام الحكومة وطريقة ممارستها للسلطة وبشكل يضمن تحقق الحريات السياسية. ولقد نظّر العديد من المفكرين السياسيين بداية من القرن الثامن عشر على وجه الخصوص وعلى رأسهم هوبز Hobbes ولوك Locke ومونتسكيو Montesqueu للحكومة الدستورية بصورة تضمن التعبير عن حقوق الشعب أساساً وليس عن إرادة هؤلاء الذين يمارسون السلطة. ويؤكد منظرو المذهب الدستوري أنه حتى تظل الحكومة شرعية لابد لها من احترام مبدأ الفصل بين السلطات وكذلك مبدأ سيادة القانون.

كما أنهم يركزون على ضرورة أن يكون مناط السلطة هو المنصب وليس فرداً بذاته، وعلى أن تكون هناك قواعد إجرائية واضحة يمكن للمواطن اتباعها ضد الحكومة ككل أو ضد فرد ما في الحكومة، إذا ما كان هناك تعد لما أقره الدستور كحدود لممارسة السلطة. ويخلص العديد من المراقبين السياسيين إلى أنه رغم وجود دساتير مكتوبة في الغالب الأعم من الدول الحديثة، إلا أن قلة قليلة من حكومات هذه الدول يمكن اعتبارها دستورية بالنظر إلى تطبيق معالم الدستورية السابق الإشارة إليها من حيث الواقع العملي. بعبارة أخرى، يؤكد هؤلاء المراقبون أنه إذا ما اعتبرنا المعنى الأول للدستورية وجدنا أن معظم -إن لم يكن كل- النظم السياسية في العالم اليوم دستورية. أما إذا ما اعتبرنا المعنى الثاني للدستورية وجدنا أن قلة قليلة من هذه النظم يمكن إطلاق صفة الدستورية عليها. فالنظم التي تسودها إرادة فرد واحد أو حزب واحد لا بد أن تختفي منها صفة الدستورية بغض النظر عن المسمى الذي يتسمى به النظام. ولكن العكس صحيح أيضاً. فالنظام الملكي مثلاً رغم وجود فرد واحد على قمته، إلا أنه يكون نظاماً دستورياً عندما لا تكون سلطات الملك مطلقة بل مقيدة بقواعد لا يضعها هو بل تكون معرفة بوساطة الدستور، وعندما لا يكون الملك فوق القانون بل يخضع للقانون، وعندما تكون هناك إجراءات واضحة ومحددة في الدستور يمكن اتباعها للإطاحة به في حالة ما إذا لم يحترم الدستور، وعندما تكون كل هذه الشروط ممكنة عملياً وليست مجرد قواعد نظرية مضمنة في صحف ووثائق لا يعمل بها.

المصدر: إسماعيل مقلد ومحمد ربيع (محررين)، موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، الجزء الأول، ص: 284-285

Rate this item
(0 votes)

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.