وصف فارس بك الخوري هذا الكتاب -عند تقديمه له- بأنه: بحث جديد لم يطرقه أحد من المؤلفين قبل اليوم، وسبب ذلك أن الشرع الدولي بالعرف الراهن لم ينشأ إلا مع الدول الأوروبية الحديثة، ولا ظهرت آثاره للناس إلا في التاريخ الحديث، في الانبعاث منذ القرن السادس عشر، فكان ذلك نتيجة طبيعية للمذاهب الحديثة التي اعتبرت كل دولة شخصًا حُكميًا له وعليه من الحقوق والواجبات المتقابلة مثلما للأفراد وعليهم بعضهم تجاه بعض.
كما ذكر الخوري في مقدمته أن هذا الكتاب قد جاء بخير ما يُستطاع الإتيان به في سبيل الإجابة على التساؤل عما إذا كان المسلمون وضعوا شيئًا من قواعد الشرع الدولي وجاء هذا الجواب شافيًا مقنعًا لكل متسائل بما جمع بين دفتيه من المذاهب النظرية والحوادث الفعلية التي جرى عليها المسلمون في العهد العربي لدولتهم الزاهرة. وأنه: ولما كان كل موضوع ينقسم إلى قسمين: النظري والعملي، فقد قدم السيد الأرمنازي جميع النظريات الاسلامية ذات العلاقة بموضوع كتابه مبتدئًا بنصوص الآيات في القرآن الكريم إلى توصيات النبي والخلفاء وأمراء الأجناد في حالة الحرب إلى آراء الفقهاء المعتمدة على الحكم والحديث والسنة، ثم أفاض بتفصيل الوقائع التي طبقت فيها هذه النظريات بحالات السلم والحرب والفتح والصلح والعهد وفى الصلات السياسية والعلائق التجارية وما هي الأوضاع التي شرعها الني والخلفاء الراشدون بعده لأهل الذمة وكيف جرى عليها المسلمون بعدهم، كل ذلك بأسلوب شيق ومنهاج صريح جمع فيه بين بلاغة التراكيب وفصاحة الألفاظ وروعة المعاني وسلاسة المباني وجرى فيه انسجام الحديث في تضاعيف جزالة القديم.
وقد نقل فارس بك الخوري في تقديمه للكتاب تغطية الصحف آنذاك لكتاب الأرمنازي، ومن ذلك:
قالت مجلة المقتطف الكبرى في عدد فبراير سنة ١٩٣٠… “الشرع الدولي في الإسلام”:
تقدم الاستاذ نجيب الأرمنازي بهذه الرسالة التاريخية القانونية إلى كلية الحقوق بباريس للحصول على رتبة دكتور فكان لها وقع حسن في نفوس الأساتذة الذين عهد إليهم بالاطلاع عليها ففاز الدكتور الأرمنازي بأمنيته وعاد في أواخر السنة الماضية إلى دمشق ليوالي خدمة بلاده بما عرف عنه من علم ووطنية.
والحضارة العربية كما بين المؤلف في ديباجته هي الحضارة التي كانت مسيطرة بين العهد القديم وعصر النهضة أي بين القرن السابع والقرن الثالث عشر من التاريخ المسيحي. ولهذه الحضارة منشآت وتقاليد كانت دستورًا للمعاملات الدولية ولها اتصال وثيق بالشرع الدولي المتبع في عصرنا فغاية المؤلف درس هذه المنشآت والتقاليد والقوانين التي تسترعي النظر من الوجهتين القانونية والديبلوماسية وقد وعد الاستاذ الأرمنازي بأن يلخص مباحث كتابه هذا في مقالتين أو ثلاث مقالات للمقتطف وهو كاتب مجيد كما لا يخفى على قراء المقتطف الذين اطلعوا على مقالته عن الاحتفال بعيد رنان سنة ۱۹۲۳، لذلك نكتفي الآن بتهنئته وتتمنى له اضطراد النجاح في عمله الجديد.
وقالت جريدة “الفتح الغراء” التي تصدر بمصر بتاريخ (۱۹ ديسمبر ۱۹۲۹): عاد من أوروبا في هذا الأسبوع صديقنا المفضال السيد نجيب الأرمنازي –من انبغ شبان المسلمين الذين انجبتهم مدينة حماه- بعد أن أتم علومه الحقوقية في باريس بتفوق عظيم وقد أهدانا كتابًا ألَّفه باللغة الفرنسية بعنوان “المبادئ الاسلامية والعلاقات الدولية في حالتي السلم والحرب” تكلم فيه على التشريع الإسلامي المتعلق بقواعد حقوق الدول وفي روابط الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى في العهود والحروب، وفي سائر الأنظمة الاسلامية الداخلة في هذا الكتاب، والكتاب مستمد من أمهات الكتب الإسلامية ومن مؤلفات المنصفين من أفاضل الافرنج. وكان السيد نجيب موفقًا في الاطلاع على كتب نادرة ومهمة في هذا الباب، فكان من آثار اجادته لكتابه أن أساتذة الحقوق الفرنسيين الذين لم يكونوا يحسنون الاعتقاد في الإسلام من هذه الناحية اعترفوا بسبقه إلى كثير من المبادئ الانسانية في العلاقات بين الأمم، ونحن نهنئه بهذا الفوز، وقد رجوناه أن ينقل كتابه إلى العربية، وقلنا له أن مطبعتنا تقوم بنشره بسرور وافتخار.
وذكر المؤلف -د. نجيب الأرمنازي- في مقدمة الكتاب، ما يأتي:
إن الشرائع الدولية من أوضاع المحدثين ولم تتقرر حقيقة إلا منذ معاهدة (وستفاليا) حيث أصبحت الصِلات الدولية قائمة على قواعد محكمة، وقد تساءل كثير من العلماء عن وجود شرائع دولية عند الأقدمين كاليونان والرومان والصين وتباينت الآراء في ذلك، غير أنه مما لا مجال للشك فيه أن في العهد الطويل الذى خلا بين الحضارة القديمة والحضارة الحديثة أي بين القرن السابع والثالث عشر -ذلك العهد الذي سادت فيه الحضارة العربية والآراء الإسلامية- أُسست قواعد ومذاهب في المعاملات الدولية يستطيع المؤرخ أن يجد فيها سوابق تاريخية جليلة يوازن بينها وبين ما وصل إليه المحدثون. وأول ما عرض في خاطري من تلك المواضيع الجليلة أنني كنت أسمع في محاضرة ثناء على القواعد التي وصى بها قادة الأميركيين في غضون حرب الفصال سنة ١٨٦٠ في معاملة المحاربين، وكانت تلك القواعد مصدرًا للشرائع الحربية الحديثة، فذكرت ما أوصى به أبو بكر جيوش المسلمين التي خرجت حينئذ من المدينة لتسير في أقطار الأرض فاتحة إذ يقول: “لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تحرقوا نخلًا ولا تقطعوا شجرة مثمرة..”.
وكم قضيت عجبًا من تشابه الآراء التي يأتي بها الفكر الانساني في أجياله المختلفة لحل المعضلات المتشابهة التي تعرض عليه، حتى كدت أقول مع القائلين “ما ترك الأول للآخر شيئًا”، وما أعظم الحكمة في معرفة ما رآه الأولون لاسيما ما كان من تجارب أمة أبقت في التاريخ أثرًا بعيد المدى. وإذا كان كثير من مؤرخي الشرائع الدولية قد أغفلوا تلك المرحلة العظمى التي يحسن التنويه بها والإشادة بذكرها فإنهم قد أغفلوا بذلك أعظم المراحل التي قطعها الشرع الدولي قبل المرحلة الحديثة.
إن الأمم والشعوب تتوارث الآراء والمذاهب، وميراث العلوم عام مشترك بين الجميع، والتشابه عظيم بين القواعد التي أخرجت للناس، ولكن ينبغي إن ينظر المرء حينما يقايس بين آراء المتقدمين وآراء المتأخرين إلى الفرق بين هذا الزمان وبين تلك الأزمان، فقد تغيرت الأمم وتبدلت قواعد الدول وأصبح الانسان اليوم غيره بالأمس، ولم تبق شؤون الرجال على ما كانت عليه من قبل وبدلت حالًا بعد حال.
وهذه الصحائف التي يجدها القارئ بين يديه ترجمة الرسالة التي وضعتها باللغة الفرنسية مع تهذيب وإضافة، وقد قسمتها إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة وهذه سياقتها:
المقدمة: في تطور المملكة الإسلامية وما يتصل بها من تاريخ العرب وسيرة الرسول والفتوح والنزاع بين النصرانية والإسلام.
الفصل الأول: في الشرع الدولي والشرع الإسلامي وما يضاف إلى ذلك.
الفصل الثاني: في أوضاع الدولة وشؤون الخلافة وما إليهما.
الفصل الثالث: في شريعة الحرب وما يذكر معها من أساليب القتال وسياسته وتوزيع الفيء والمغانم وحروب المصالح.
الفصل الرابع: في قواعد السلم، ما يلحق بها من الأمان وعقد الذمة والجزية والخراج والمهادنات والمعاهدات.
الفصل الخامس: في الصلات السياسية والعلاقات التجارية وما يذكر معهما.
الخاتمة: في تلخيص بعض ما تقدم وإيراد وجوه الشبه والتباين بين قواعد المسلمين وقواعد الغربيين في الشرع الدولي.
هذا ولم نحفل بالعلاقات الدولية في زمن الترك العثمانيين إلا ما جاء منها عن عرض، لأنها تخص في الغالب تاريخ السياسة والشرع الدولي في أوروبا وقد عولجت في الكتب التي افردت لهذه المواضيع.
إليكم فهرس الكتاب مفصل
(1)