تسعى هذه الدراسة** إلى إجراء مقارنة بين مسارات الحداثة ومآلاتها في كل من اليابان ومصر، حيث ترى الباحثة أن العوامل المشتركة بين مصر واليابان يمكن تتبعها من خلال العلاقة بين تراثهما الثقافي الأصلي، ومقاربتهما للحداثة، إضافة إلى مسألة ما بعد الحداثة.
ومن خلال ما جاء في مقدمة الدراسة فإن الباحثة تركز على دراسة مشروع المفكر المصري طارق البشري (1933-2021م) الذي كرس حياته في مقاربة المسائل المتعلقة بالأصالة والتحديث المعاصرة في المجتمع المصري، ودراسة أفكار طارق البشري من قبل باحث ياباني يمكن أن تفهم على أنها شكل من أشكال التواصل الفكري والمعرفي. وبناءً عليه، تعقد هذه الورقة مقارنة بين مسارات التحديث في كل من مصر واليابان، ثم تدرس أثر طارق البشري على الحراك الفكري في مصر خصوصًا، وصدى هذا الفكر في السياق العالمي عمومًا.
وقد أشارت أياكا في هذا الشأن إلى أنه يمكن القول إن العلمانية "فشلت أخيرًا في ترسيخ جذورها داخل المجتمع المصري وإن الدين لا يزال يمارس تأثيره المباشر وغير المباشر بوضوح لا يخفى على متتبع. ولذلك يواجه المجتمع المصري تحديًا صعبًا في بناء حداثة جديدة لا تنفي التدين ولا تستأصله، بل تجد لنفسها مكانًا إلى جانبه؛ مغايرة بذلك الحداثة العلمانية التي لطالما اعتبرها الغرب واليابان بديهية وأمرًا واقعًا لا مفر منه. وفي هذا الصدد، يبرز المفكر طارق البشري بوصفه أنموذجًا فرض حضوره في الحالة الثقافية المصرية من خلال دراسته للعلاقة بين التحديث والتقليد على نحو يربط فيه التقليد بالتراث الإسلامي بشكل واضح".
ولخصت الكاتبة اليابانية الدور الذي لعبه مفكّرو تيار الوسطية الإسلامي في مصر –ومن ضمنهم المستشار طارق البشري- في النقطتين التاليتين:
أولا: أنهم رفضوا الفكر الإسلامي المتطرف والمتعصب، إضافة إلى تناولهم مجموعة من القضايا المحورية المعاصرة في الفكر الإسلامي كالحرية والحقوق والمساواة والعلاقات بين الأديان والإصلاحات المتعلقة بالقانون الإسلامي والنظام القضائي. فقد كتب البشري، على سبيل المثال لا الحصر، على نطاق واسع في تسعينيات القرن الماضي حول وجهة نظر الفقه الإسلامي في نظرية المواطنة، التي غدت مفهوما أساسيا في الفكر السياسي الإسلامي في أي مناقشة معاصرة للمساواة بين المواطنين. كما صرح عن قناعته بأن الدولة التي يجب على المصريين السعي لإقامتها لا تتمثل في إحياء الدولة الإسلامية الماضية، بل هي دولة ديمقراطية حديثة تتيح لجميع أفرادها ومواطنيها المشاركة على قدم المساواة، بغض النظر عن دينهم الذي ينتمون إليه أو جنسهم. كما أعلن البشري في كتابه المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" الحاجة إلى الاجتهاد ودعا إليه، كما ناقش إمكانية تولي القبطي لرئاسة الدولة نظريا من خلال توضيحه للفرق الجوهري بين طبيعة رئيس الدولة الإسلامية التقليدية وطبيعة الدولة الحديثة.
ثانيا: أنهم -ومن خلال نشاطاتهم الفكرية والاجتماعية- قاموا بدور الوساطة في الصراعات بين العلمانيين والإسلاميين والمسلمين والمسيحيين وغيرهم من أصحاب الانتماءات الأيديولوجية والدينية والسياسية المختلفة. هذه الوساطة يمكن التعبير عنها بكلمات د. محمد سليم العوا في وصفه لهدف التيار الوسطي الإسلامي بأنه "جمع الناس معا".
وخلصت الباحثة – في خاتمة دراستها- إلى ما يأتي:
إن اليابان ومصر على -الرغم من تباعدهما الجغرافي- قد نهجا مسالك مشابهة في مهد الحداثة، وعلى الرغم من التزام اليابان بالإمبريالية لفترة من الزمن، فإن الباحثين اليابانيين الذين كونوا علاقات مع مصر بعد الحرب العالمية الثانية، واصلوا دراساتهم في المقارنة بين الحضارتين وأبحاثهم المتعلقة بالتفاهم بين الثقافتين، ولم يقصروا في التعلم من المجتمع المصري، والتفكير في القضايا السياسية والاجتماعية والتاريخية في اليابان.
وقد علق سانيكي ناكاوكا Saneki Nakaoka، الباحث في التاريخ الاقتصادي المصري والعربي، مرة بأنه من خلال تواصله مع المثقفين العرب شعر باختلاف في الوعي بين الشعبين إزاء مستقبل الأمة. وانتقد المثقفين اليابانيين لمواقفهم غير المؤكدة فيما يتعلق بأهداف أمتهم، وشجب شعور الرضا الخفيف عن وضعهم المكتسب في المجتمع الدولي. هذا الوعي النقدي الذي تبنّاه ناكاوكا في أواخر ستينيات القرن الماضي وسبعينياته لم يفقد حيويته ونضارته إلى اليوم، حتى بعد مضي ما يقارب الخمسين عاما.
وكما قررت في المقدمة، كانت مصر لليابان في العصر الحديث نموذجا يحتذى به. وحتى اليوم ثمة الكثير من الأفكار التي تطورت في مصر الحديثة يمكن لليابانيين أن يتعلموها ويفيدوا منها، منها على سبيل المثال - تلمس الطريق لفهم طبيعة الحداثة والأصالة والعلاقة بينهما من خلال دراسة التاريخ، وبذل الجهود الحثيثة للتغلب على الانقسامات السياسية والاجتماعية، إضافةً إلى تنمية وعي مرهف إزاء مستقبل الأمة.
محتويات الدراسة:
- أثر الحداثة الغربية على اليابان ومصر.
- أهمية نقد التقليد "الأصالة" والمعاصرة "الحداثة".
- طارق البشري مفكرًا للديمقراطية والتيار الأساسي.
- أ- طارق البشري ورؤيته كمفكر لتيار الوسطية الإسلامية: محاولات الوساطة في الصراعات داخل المجتمع المصري.
- ب- تجليات التاريخ المصري الحديث في فكر البشري وصياغة مفهوم "التيار الأساسي".
- ج- أهمية فكر البشري الديمقراطي في السياق المصري والعالمي.
- الخلاصة.
رابط مباشر لتحميل الدراسة
*أستاذ مساعد بجامعة ريتسو ميكان باليابان.
** نشرت هذه الدراسة في العدد الخامس والعشرين من حولية أمتي في العالم: منهاج النظر الحضاري في قضايا الأمة - قراءة في فكر المستشار طارق البشري، الجزء الثاني، 2023، ص: 1003-1027.