تجديد الفكر الإسلامي "إطار جديد.. مداخل أساسية"*

By أ. د. أحمد كمال أبو المجد ** تشرين2/نوفمبر 09, 2024 575 0

 

تمهيد ضروري:

يكاد مؤرخو الحضارات يجمعون على أن الحضارات الإنسانية ليست أبنية ثابتة تتحدد معالمها مرة واحدة، ثم تبقى على حالها.. وإنما هي أشبه بالكائنات العضوية الحية.. لها لحظة ميلاد.. ولها بعد ذلك مراحل نمو وتطور.. تنتقل فيها تلك الحضارات بين الارتفاع والازدهار في مرحلة من تاريخها والتراجع والانكماش في مرحلة أخرى من ذلك التاريخ.

كذلك يسجل تاريخ الحضارات وجود تيارين متقابلين داخل كل حضارة.. أحدهما تيار محافظ شديد التمسك بالثوابت التي حددت- في لحظة تاريخية قديمة- هوية تلك الحضارة.. وتيار آخر حريص على تجديد الحضارة، وملاقاة ما يحمله اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال من مستجدات لم تكن قائمة لحظة ميلاد تلك الحضارة.. وذلك بتجدد وتطور مواكبين لتلك المستجدات.. يكفلان للثقافة مزيدا من الحيوية، ويحققان لها مزيدًا من فرص الاستمرار والبقاء.

إنه على الرغم من دور "الوحى" في تحديد معالم الثقافة ومواقفها الأساسية من القضايا الوجودية الكبرى المتصلة بالإنسان والكون، والخالق، ومصير الحياة.. فإن دور "العقل " والتجربة الإنسانية في ملء تفاصيلها، وتغذية تجلياتها، يظل دورًا بارزًا لا يتصور إغفاله أو إنكاره.. ولهذا تبقى "الثقافة الإسلامية" في نهاية المطاف ثقافة إنسانية تتعرض لما تتعرض له سائر الثقافات، من مد وجزر، وارتفاع وانخفاض.. كما يظل المسلمون- عرفوا ذلك أو لم يعرفوه- جزءًا من التاريخ العام للإنسانية- كما يظل سلوكهم جزءًا من تيار السلوك الإنساني، تحكمه ذات السُّنن والضوابط التي تحكم الناس في مسيرتهم عبر التاريخ.

 

لهذا كله لم يكن غريبًا أن يعرف تاريخ الثقافة الإسلامية، وتاريخ الفقه الإسلامي بصفة خاصة تيارين متقابلين، يميل أولهما إلى المحافظة الشديدة، ويخاف على الإسلام أشد الخوف من أن تضيع معالمه وتهتز ثوابته بسبب نزوع فريق من المسلمين عامتهم وخاصتهم وفقهائهم إلى "التجديد"، وإدخالهم على ثقافة المسلمين وشريعتهم أمورًا لم يكن يعرفها أهل القرن الأول للإسلام.. ويعتصم هذا الفريق بالنصوص القرآنية والنبوية لا يكاد يعدوها.. بل لا يكاد يعدو حروفها وظواهرها، وذلك إيمانًا بأن هذه النصوص وحدها التي تحمل الخصائص الذاتية النفيسة للإسلام وثقافته وتصوراته الأساسية في الاعتقاد والأخلاق والسلوك الفردي والتنظيم الاجتماعي.. أما التيار الآخر فإنه يجعل للعقل دورًا بارزًا إلى جانب دور النصوص.. إيمانًا بأن النصوص، خصوصًا في أمور التشريع والنظام السياسي والاجتماعي، نصوص متناهية، وأن الحوادث والنوازل وما يعرض للناس من حاجات.. أمور غير متناهية.. وأن كمال الشريعة وخلودها لا يمكن أن يتحققا إلا بأمر "وراء ما فهمه الفريق الأول من النصوص ومن الشريعة.. وهؤلاء هم الذين يطلق المؤرخون عليهم أو يطلقون هم على أنفسهم وصف "المجددين"، ويلتمس هذا الفريق أساسًا لشرعية منهجه من الحديث الشريف الذى رواه أبو داود وغيره والذى يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي).

ويعرف دارسو الفقه وعلماء الشريعة ومؤرخو الثقافة الإسلامية روافد هذين التيارين، عالم كل منهما.. ويصفون أتباع التيار الأول في مجال العقائد وأصول الدين بوصف السلفيين، كما يصفون التيار الآخر بأنه تيار "المجددين".. ويقابلون في خصوص الفقه وأصوله بين مدرسة "الحديث " التي نشأت ونمت في مدينة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومدرسة "الرأي" التي نشأت ونمت في بغداد والكوفة.

وهذا البحث لا يتوجه إلى دراسة معالم هاتين المدرستين في ميدان " الفقه " وحده.. وإنما يتوجه إلى دراسة أمر يتجاوز "الفقه " ومدارسه.. ليمتد إلى الفكر الإسلامي في عمومه ومجمله.. وإلى "العقل المسلم" المعاصر ومناهجه الغالبة والسائدة في تعامله مع الواقع الموضوعي الذى يتجدد من حوله، ومدى قدرته على تجديد فهمه لدور "الدين" في التعامل مع هذا الواقع المتجدد.. وفى هذا الإطار نستطيع من جانبنا أن نقابل بين منهجين متقابلين.. اخترنا أن نسمى أولهما منهج "الجمود على الموجود" وأن نسمى الآخر منهج "التجديد" في فهم مضامين الإسلام والتجديد في المضامين والأولويات التي يجرى بها تعامل "الخطاب الإسلامي" مع جموع المسلمين من ناحية، ومع سائر الأمم والشعوب من ناحية أخرى.. وفى الثقافة الإسلامية المعاصرة استقطاب واضح تحددت من خلاله معالم هذين المنهجين.. على النحو الذى سنفصله فيما يلى.. ولكنَّا نسارع فنقول: إن المواجهة بين هذين المنهجين قد صارت تستهلك القدر الأكبر من طاقة المسلمين جميعًا، وتستغرق الجانب الأكبر من جهود مفكريهم وخاصة علمائهم.. وهو استغراق يهدد مستقبل الأمة.. وينتقص من فرصتها في اللحاق بالآخرين.. وفى التأهل لأداء دور الريادة والقيادة الذى عبرت عنه الآية القرآنية الكريمة رقم 143 من سورة البقرة (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).

 

إن أخص خصائص المنهج الأول الأمور التالية:

1- الاستغراق الكامل في النصوص، والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التي تستخلص من هذه النصوص.. والوقوف- فوق ذلك- عند ظواهر تلك النصوص.. واعتبار ذلك من علامات الاتباع المحمود، الذى يقابل "الابتداع" المذموم، والتوقف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد وللأمة، وعن النظر في إمكان تغير تلك الأولويات باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.

2- إساءة الظن بكل مذهب أو رأى أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية.. واعتبار هذا الاستخدام تهديدًا لقدسية الشريعة، ومدخلا لتحكيم الهوى، وتمردًا على حكم الله الذى تقرره الآية القرآنية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)  (الأحزاب: 36).. ويلخص أتباع هذا المنهج موقفهم من هذه القضية بقولهم: إن الشريعة حاكمة لا محكومة.. وأن على المؤمنين بها أن يطبقوا أحكامها الكلية والجزئية (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).

3- المبالغة في تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام ومتابعة تلك الأقوال والآراء امتثالًا لما ورد به حديث النبي- صلى الله عليه وسلم- : "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، ولما اشتهر عنهم من الجمع بين العلم والعمل به، وبين المعرفة والتقوى.. على نحو كانوا معه أئمة في العلم وقدوة للأمة في السلوك والعمل.. وليس هذا -فيما يرى أتباع تلك المدرسة- حال المحدثين من العلماء والمشتغلين بالفقه، بل إن هؤلاء المحدثين -في نظر أتباع هذه المدرسة- مظنة الافتتان بحضارات الآخرين، والاستعداد العقلي والنفسي لتقبل آراء أولئك الآخرين.. وتعريض خصوصية الإسلام، وثوابت عقيدته وشريعته لأخطار عظيمة.

4- المبالغة في رفض كل فكرة وافدة، والحذر الشديد من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى والانحصار بذلك في الإسلام التاريخي والإسلام الجغرافى.. اعتقادا بأن غير المسلمين متآمرون أبدًا على الإسلام والمسلمين.. وأن الإسلام متميز ومتفرد بخصائص ذاتية تنفى عنه مشابهة أي حضارة أخرى وأي نظام آخر عرفه الناس قديما أو يعرفونه حديثًا.. وأن أي لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة أخرى لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابرًا تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسي.. لأن التصور الإسلامي كله تصور متميز تمامًا..

 

ونحن لا نخفى استدراكنا على كل المقولات المكونة لهذا المنهج.. واعتقادنا بأنها تؤدى إلى انكماش الحضارة الإسلامية، وتراجع شأن المسلمين.. كما أنها تلزم المؤمنين بما لم يلزمهم به الله.. وتملأ حياتهم عسرًا وحرجًا وحيرة.. وهى أمور تنافى ثوابت كبرى من ثوابت المنهج الإسلامي السليم الذى تشهد له نصوص قطعية في كتاب الله وسُّنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- .. كذلك لا نخفى أننا نعتبر اقتحام مصاعب التجديد بعد عصور طويلة من الجمود والانغلاق.. سبيلًا وحيدًا لنهضة الأمة وانبعاثها وتجدد دورها في ريادة المسيرة الإنسانية توجهًا إلى قيم الحق والعدل والرحمة والسلام..

إن العقل المسلم المعاصر يحتاج إلى أن يعيد النظر في جسارة وثقة في كل واحدة من المقولات التي تقف في طريق التجديد، وتحبس الأمة في إطار التقليد.. لا يرده عن ذلك تخويف المخوفين أو لوم اللائمين (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (التوبة:13).

وتفصيلا لأسباب هذا الاستدراك نقرر ما يلى:

1- أن أحدًا من المسلمين، عامتهم وعلمائهم، لا يخطر بباله أن يهون من قدسية النصوص القرآنية، أو نصوص الأحاديث النبوية الصحيحة.. وهم جميعًا مأمورون بالامتثال لما جاءت به تلك النصوص نزولًا عند قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله).. وقوله (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51).

ولكن النصوص الجزئية تحتاج إلى تفسير، ولهذا التفسير أصول ومناهج مقررة.. كما أن وراء النصوص الجزئية مقاصد كلية عامة لا يتصور الغفلة عنها أو الذهول عن إدراكها.. وإلا استوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. ولوقع جملة الناس في الحرج والعسر والمشقة بسبب التزامهم ما لا يلزم، ولفاتت مصالح ومنافع شرعها الله.. سبحانه- لهم، وهم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد، وإذا ضاعت المصالح وفاتنا المنافع وضاقت صدور بالعسر والمشقة.. انتفى مقصود الشارع سبحانه من قوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).. وقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185).. والاتباع الذى أمرنا به هو اتباع العقلاء المبصرين الذين يرون آيات الله تعالى في الآفاق وفى أنفسهم.. لا اتباع المقلدين الذين سدوا على أنفسهم وعلى الناس طرقًا كثيرة من طرق الحق والخير والعدل "ظنًا منهم منافاتها للشريعة"، ولعمر الحق إنها لم تناف الشريعة، وإنما نفت ما فهمه هؤلاء من الشريعة.. والابتداع الذى نهينا عنه، هو أن يدخل على الدين ما ليس منه، زيادة فيه أو نقصًا منه.. تحريمًا للحلال أو تحليلًا للحرام، أو قولًا على الله تعالى بغير علم.. وهناك ابتداع محمود هو ثمرة الاجتهاد في استقراء الحكم الشرعي من دليله الجزئي في إطار من مجموع النصوص، في ظل من الوعى بمقاصدها الكلية، وبالمصالح التي اعتبرها الشارع بالنص عليها.. أو تركها مرسلة يتغياها المجتهدون في اجتهادهم وتسعى الأمة لتحقيقها، وهى تصوغ أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. غير خارجة على نص قطعي ولا ساعية لتحقيق مصلحة ألغى الشارع اعتبارها بدليل لا يحتمل التأويل..

2- ويتصل بهذا أوثق الاتصال أن ينتبه المجتهدون والفقهاء وأن يلتفت العقل المسلم "في كل مكان" إلى مبدأ استصحاب الحال، وأن الأصل براءة الذمة، وأن كل شيء هو حلال وجائز وصحيح حتى يقوم دليل بنقض هذا الأصل بدليل يقيني مثله، يفيد التحريم أو المنع أو البطلان، إعمالا لقاعدة فقهية ومنطقية مؤداها أن اليقين لا يزول بالشك..

لهذا نستطيع أن نقرر في ثقة أن الأصل في المطعومات والمشروبات الحل حتى يرد دليل التحريم، لقوله تعالى  (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ) (النساء: 24)، وقوله:  (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (الأنعام: 119) .. وقوله: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29) .. وأن الأصل في الأعمال الجواز حتى يرد دليل المنع.. وأن الأصل في العقود والتصرفات الصحة حتى يرد دليل البطلان.. والقول بغير ذلك افتئات لا دليل عليه من علم ولا كتاب، ومن عواقبه المحققة أن تمتلئ حياة الناس حرجًا، وأن يزول عنها الإحساس بنعمة الله وفضله ورحمته.. وأن يعرض بعضهم -بذلك- عن جملة الشريعة كما قال ابن قيم الجوزية- رحمه الله: "إن هذا الأصل من أصول الشريعة مدخل أساسي من مداخل التوجه إلى التجديد.. وهو أصل من شأنه جعل ثمرات التجديد قسمًا من أقسام الشريعة داخلًا فيها لا قسيما لها خارجا عنها أو منافيا لمقتضاها".

3- إنه قد آن الأوان لإسدال الستار على الثنائية التقليدية التي سممت الحياة الفكرية لملايين المسلمين عبر قرون طويلة، وهى الثنائية التي تقابل بين العقل والنقل.. فينحاز بسببها بعض الناس إلى العقل وإعماله، وينحاز بعض آخر منهم إلى النقل وإنزال حكمه.. كما لو كان أحدهما من عند الله والآخر من عند غيره.. كيف والله سبحانه هو خالق العقل والمنعم به على آدم وذريته، وبه علم آدم الأسماء كلها.. وجعله خليفة في أرضه، وحامل أمانته التي عرضها الله سبحانه (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) (الأحزاب: 72).. ولا نقول في هذا إلا أن العقل آية من عند الله.. وأن النقل، قرآنًا وسنُة، نعمة ورحمة من عند الله.. وليس يصح في العقول أن تتناقض آيات الله مع رحمته.. !ذا وقع هذا التناقض في بعض العقول.. فهو تناقض موهوم مرجعه إلى واحد من أمرين.. أولهما: ألا يكون "المنقول " قطعيًا في وروده أو في دلالته.. والآخر: ألا يكون "المعقول" يقينيًا في صحته وثبوته وثباته.. ولكن المهم أن يستقر في "العقل المسلم" أن الإيمان فريضة، وأن العلم- هو الآخر- فريضة.. وأن الله تعالى أنعم علينا بكتابين هما آيتان من آيات رحمته.. كتابه الموحى به إلى نبيه- صلى الله عليه وسلم-.. وكتابه الأكبر المثبوت في الكون والتاريخ وفى ثنايا الوجود كله.. وإذا كان الإيمان والتصديق هما السبيل إلى استقبال كتاب الله الأول.. فإن البحث والتجربة والنظر وسائر ما يتجلى به العقل على العالم والطبيعة هو السبيل إلى استقبال كتاب الله الأكبر.. المبثوثة آياته في الآفاق الأنفس.

إن التجديد الذى به خلاص هذه الأمة.. لا أمل فيه ولا رجاء في تحققه إلا إذا أعيد العقل من جديد إلى عرشه الذى أنزلته عنه مخاوف الخائفين وهواجس المرتابين الذين يحسبون كل صيحة عليهم.

 4- إننا جميعًا نعرف فضل الأولين السابقين، بدءًا من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعشيرته وأهل بيته- رضى الله عنهم وأرضاهم- الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ومرورًا بالتابعين الذين صحبوا أصحابه وأخذوا العلم والعمل عنهم في أيام كان صوت الوحى فيها لا يزال يملأ الآفاق علمًا وهدى ونورًا.. وانتهاءً بالأئمة العلماء من المفسرين والمحدثين والمتكلمين والفقهاء.. والأمة كلها تعرف ما قدموه للأجيال من بعدهم من زاد وخير وعلم غزير.. وما أصَّلوه من قواعد وما فصلوه من فروع وتطبيقات.. ولا يدخر أحدنا وسعًا في الاستفادة من علمهم والاستئناس بآرائهم.. ولكنا نقف عند هذا المنتهى لا نتجاوزه ولا نعدوه.. ونقول، فيمن عدا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم رجال ونحن رجال.. وليس صحيحًا أبدًا ما يجرى على بعض الألسنة من أن الأول لم يترك للآخر شيئًا.. ذلك أن الأولين كانوا يجتهدون في إطار واقع لم تعد كثير من عناصره قائمة بيننا.. كما كان اجتهادهم محكومًا بعلوم لم يكن أكثرها قد بلغ من النمو والتطور ما بلغه في عصرنا.. والفقه والإفتاء في الشريعة يقوم على معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر.. فإذا تغير الواقع لزم أن تتغير ثمرة هذا التنزيل الذى يجريه الفقيه أو المشرع الوضعي أو القائم بالإفتاء.. والخلاصة أننا نستقصى- في كل مسألة- ما قرره السابقون الأولون من علماء المسلمين- ولكنا لا نتوقف عنده، ولا نعطل بسببه ما أمرنا به من الاجتهاد.. وإلا كنا عالة عليهم، متبعين غير مذهبهم السوى في مواصلة البحث والاجتهاد.

5- وأما رفض كل فكرة وافدة وإغلاق الباب في وجه كل تبادل ثقافي، فإننا نرى الإسراف فيه تعبيرًا واضحًا عن المبالغة في الخوف.. ونقص الثقة في قدرة الأمة، وقدرة علمائها على اتخاذ موقف نقدى من تلك الأفكار الوافدة.. نقبل منه كل نافع ونرفض كل ضار أو مخالف لثوابت عقيدتنا وشريعتنا ومصالح أبناء أمتنا.. إن هذا الرفض المطلق الذى يعزل ثقافة المسلمين عن كل ثقافة إنسانية قديمة أو حديثة يقوم على ثلاثة أخطاء لا بد لنا أن نسميها بأسمائها، وأن نستدرك عليها في غير مجاملة لأحد:

الخطأ الأول تصور الإسلام كما لو كان كيانًا ونظامًا مختلفًا عن كل ما عداه اختلافًا مطلقًا.. وينسى أصحاب هذا التصور أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، وأن الحنفية كانت دين إبراهيم عليه السلام وأنه سبحانه وتعالى شرع لنا من الشريعة (مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13).

وينسى أصحاب هذا التصور كذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائل إن: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها" وأنه قال صلى الله عليه وسلم: شهد في الجاهلية حلفًا كريمًا هو حلف الفضول، وأنه قال فيه، لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم لم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

الخطأ الثاني: تصور إمكان العزلة وتوهم أنها مسلك يحتاج إليه المسلمون، وهذا خطأ مركب.. فالعزلة لم تعد ممكنة بعد الثورات العلمية والصناعية التي أدت إلى سقوط حواجز الزمان والمكان.. ولم يعد لطلاب العزلة سبيل- اليوم- لممارستها إلا بأن يقطعوا عن أنفسهم شرايين الحياة، وهواء التنفس، ونسمات الحياة الاجتماعية التي فطر الناس عليها.. ثم إن المسلمين لا يحتاجون اليوم إلى العزلة، لأن حضارة الإسلام قد ولدت ونمت وشبت عن الطوق وأفاءت على الإنسانية عبر التاريخ خيرًا كثيرا وعلمًا نافعًا وقيمًا صالحة، والتعلل بأن الحضارة عند مولدها تحتاج إلى حماية وحضانة حتى تنمو وتشب ويشتد عودها يتجاهل حقيقة جوهرية مؤداها أن الحضارة تولد مرة واحدة ولا يتجدد مولدها مع تعاقب المد والجزر في حياتها، وفى هذا السياق جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".

الخطأ الثالث: أن كثرة الحديث عن خطر الفكر المستورد والعيش الدائم تحت ظلال الخوف من أشباح الغزاة يحتاج إلى مراجعة واستدراك.. ذلك أن أكثر الأفكار التي نعايشها اليوم أفكار مستوردة من مكان آخر أو من زمان آخر، والفرض الذى لا يجوز البناء على غيره أن المسلمين أصحاب عقول ونظر، وأن لهم في اختيارهم من تجارب الآخرين وأفكارهم ميزانًا ومعيارًا.. والمسلمون- في تاريخهم الطويل ابتداء من عصر النبوة لم يجدوا -في عصور نهضتهم- حرجا ولا غضاضة في أن يأخذوا من غيرهم وأن يأخذ غيرهم منهم.. لهذا يكون من الخطل والخطأ أن ينصب بعض الناس اليوم أنفسهم وصاة على الإسلام وثقافته، يرفضون -نيابة عنه- كل تجربة إنسانية نشأت أو تمت واكتملت خارج نطاق الإسلام التاريخي والجغرافي، ولا يبقى إلا أن نذكر هؤلاء الخائفين على الإسلام وثقافته بأن الله سبحانه وتعالى هو الذى أنزل الذكر وهو الذى يحفظه، وأنه سبحانه وتعالى هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. فليس الإسلام- إذًا- في حاجة إلى وصاية أحد، ولا حماية أحد ولا تحتاج شريعة الله إلى أن يستدرك عليها أحد من الأولين أو الآخرين، ذلك أنها الحق الخالص والخير المحض وأنها تحكمها في مدها وجزرها سنة الله الخالدة: (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: 17).. ويبقى كذلك أن نضيف أن الحضارات عبر نشأتها تحتاج إلى مرحلة إعلان واضح للمبادئ التي تميزها وتحدد هويتها، ولكن هذه الحاجة تكون لها الأولوية الكبرى عند مولد الحضارة، أو انفصالها عن حضارة أخرى.. ففي هذه المرحلة يشتد الحرص على رموز التميز وشعائر الخصوصية. وإلى تعقب مظاهر "التشبه" بالغير.. أما بعد أن تتحدد المعالم، وترسخ أقدام الحضارة الجديدة في الأرض، وتحتل مكانها على خريطة الناس والشعوب، فإن الحاجة إلى توكيد الخصوصية تقل وإن كانت تظل قائمة.. ولكنها تحتاج- حينئذ- إلى أن توازنها دعوة أخرى إلى اكتشاف العناصر المشتركة التي تعين على التواصل، وتفتح أمام دعاة الحضارة الجديدة وأبنائها عقول الناس وقلوبهم.. خصوصًا إذا كانت دعوة إنسانية وعالمية على ما عليه الشأن في دعوة الإسلام وثقافته.

والخلاصة.. إننا نستمع- بعقول مفتوحة وقلوب صافية- إلى كل ما يقول دعاة "الجمود على الموجود" وإلى ما ينبهون إليه من محاذير الاندفاع وراء دعوات التجديد، بل إننا ننبه إلى هذه المحاذير، كما ينبهون ولكنا نضعها في إطارها الصحيح وفى إطار الغاية من التذكير بها، وهى أن يظل التجديد تجديدًا في "فكر المسلمين" وتطويرًا له.. لا خروجًا على شيء من ثوابت الإسلام ولا تحريفًا لأحكامه، وانفلاتًا من مبادئه وقيمه..

ولكن حسبنا هذا، ولننطلق بعده بلا مخاوف ولا شكوك، نجدد الفكر، ونغنى الرؤية بكل ما هو جديد، ونطور خطابنا الديني حتى يلقى آذانًا سامعة وقلوبًا واعية، ونمارس الاجتهاد الفقهي في جسارة وثقة.. ولنذكر أن البديل الوحيد لهذا هو أن نبقى حيث نحن، قانعين بالتبعية والتخلف، تمر بنا مواكب الأمم والشعوب، تحمل القيادة، وتمارس السيادة.. ونحن نكتفى بإعلان السخط والرفض والإنكار.

 

مداخل التجديد:

المدخل الأول: تصحيح التصور العام للإسلام والمسلمين.. فأما عن الإسلام فهو خطاب ودعوة.. بلغها أنبياء الله ورسله.. وحمل أمانتها من بعدهم أتباعهم وأنصارهم والمؤمنون بهم وبرسالاتهم.. مصداقًا لقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44)، وبعد هذا البلاغ تنتقل التبعة والمسئولية إلى كل من بلغته هذه الدعوة.. بلا إكراه له أو وصاية عليه (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية: 21). والإسلام- فوق ذلك- هو كلمة الله الموحى بها إلى أنبيائه ورسله (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285) .. هكذا فَهِم نبينا- صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وأدرك حقيقة الرابطة الوثقى التي تربط بين الأنبياء والمرسلين، فكان يقول: "يرحم الله أخي موسى" ويقول عن يونس- عليه السلام- (حين سأله الغلام القبطي يوم خروجه من ثقيف) "هذا أخي هو نبي وأنا نبي"..

أما المسلمون.. فهم، والخلق جميعا، عيال الله.. والله تعالى ليس بينه وبين أحد نسبا "إنما هي أعمالكم ترد إليكم" كما يقول الحديث الشريف.. والمسلمون بهذا لا يحملون صكًا يضمن لهم النصر والتأييد والرفعة بين الشعوب.. ونصر الله الموعود نصر مقيد ومشروط (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) (النساء: 123).

المدخل الثاني: توسيع نطاق الاجتهاد الفقهي ليشمل أصول الفقه، وحتى لا يختلط الأمر على أحد، وقبل أن ترتفع في وجه هذه الدعوة صيحات التحذير من المحاذير.. نبادر فنقول إن الأصول التي نعنيها هنا ليست أصول الدين أو أصول الشريعة.. وإنما هي قواعد علم أصول الفقه، وهو نتاج اجتهاد بشرى لرجال أمثالنا، نعرف فضلهم، ونغترف من علمهم.. ولكنا لا نقدسهم ولا نمنحهم موافقة عامة مطلقة على كل ما قالوا به.. فما قالوه في الإجماع والقياس والمصلحة.. وما صاغوه من مبادئ كلية استخلصوها من استقراء النصوص الجزئية.. كل ذلك اجتهاد مأجور.. ولكنه غير نقدى ولا معصوم.. ويعرف المشتغلون بالفتيا في زماننا هذا أن تقرير الحكم الشرعي في أي مسألة أو نازلة.. لابد أن يفضى إلى التعرض للقواعد التي قررها واضعو علم أصول الفقه.. وما لم يمتد الاجتهاد ويعاد النظر في بعض تلك القواعد فسيبقى هذا الاجتهاد مقيدًا ومكبلًا بقيود تحول دون استجابة الشريعة لحاجات الناس ومطالبهم المشروعة، وما قبلته الكثرة الغالبة من المعاصرين من كلام الإمام الشاطبي في "الموافقات" من أن أصول الشريعة كلها قطعية (ومن ثم لا يجوز الاجتهاد في شأنها) يحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة، لأن الأمر أجل وأخطر من أن يسلم فيه لفقيه مهما علا قدره، وقد استدرك على ذلك غير واحد من العلماء الثقاة كالإمام الشوكاني والقاضي أبى بكر الباقلاني وتابعهما في هذا الاستدراك كثير من المعاصرين.. ومن هذا المدخل الثاني تتفرع مداخل عديدة.

المدخل الثالث: معاودة النظر في منهج تفسير القرآن الكريم، بعد أن نشأت ناشئة من الشباب تزعم لنفسها القدرة على ما يسمونه (التعامل المباشر) مع القرآن الكريم.. دون أن تكون لهم قدم ثابتة أو غير ثابتة في علوم اللغة أو أصول التشريع أو غيرها مما اتفق العلماء والعقلاء على ضرورته لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم.. ويزيد من أهمية ضبط منهج التفسير، ما يعرفه المشتغلون بالقضاء والإفتاء من أن المجتهد بصفة عامة يملك -عن طريق التفسير- دورًا كبيرًا في تحديد مضمون الأحكام الشرعية المستمدة من أدلتها الجزئية، سواء أعلن ذلك أم لم يعلنه، وسواء عرف ذلك هو أم لم يعرفه، وكثيرًا ما يكون هذا الباب أوسع أبواب التجديد، لأنه يلتزم أساسًا بالنص، ولا يحاول معارضته بدليل آخر، ولكنه قد يحمله -مع ذلك- كل ما يريد مما قد لا يكون مقصودًا به أصلًا، ولكنه أكثرها اتفاقًا مع ميله واختياره.. ومعاودة النظر في منهج التفسير لا يجوز أن تقتصر على مراجعة أقوال الأقدمين من المفسرين.. إذ في الثقافات القانونية والتشريعية المعاصرة زاد نافع ومفيد، لابد أن يضاف إلى أقوال القدامى والمحدثين من المشتغلين بتفسير القرآن الكريم.

ويتصل بهذا- وان لم يتصل بجوهره- الاستئناس بما توصلت إليه العلوم المختلفة من نتائج ثابتة ومستقرة، في فهم بعض آيات القرآن الكريم أو الاستدلال بها على إعجازه وتجاوزه حدود المعرفة التي كانت متاحة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل زمانه.

المدخل الرابع: إطالة التوقف عند السنة النبوية باعتبارها الأصل الثاني، والمصدر المتمَّم للقرآن الكريم بين أدلة الأحكام الشرعية.. وهو توقف يشمل، بدوره أمورًا عديدة:

أولها متابعة الاجتهاد في كل ما يشتمل عليه "علم مصطلح الحديث"، ومعلوم أن المحدثين والفقهاء الأوائل قد اختلفوا في تصنيفات الأحاديث من حيث سندها ومتنها.. وأن عنايتهم بأمر السند كانت أشد بسبب تأخر البدء في جمع الأحاديث إلى عهد عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-، وذلك مخافة اختلاط الأحاديث بآيات القرآن الكريم على ما هو معروف ومفصل في كتب الأصول وكتب علم الحديث.

ومن أهم ما يحتاج إليه في هذا الباب معاودة النظر في جواز الاستدلال بالحديث الضعيف، ومعاودة النظر في أقسام الحديث الضعيف، ومتابعة الدراسة لأمر "الوضع في الأحاديث ".. ويملك الجيل المعاصر من أدوات البحث والتحليل ما يتيح مزيدًا من التثبت في كل ما يتصل برواية الأحاديث بحيث تتم تصفية هذه القضية التي لا تزال سببًا من أهم أسباب الخلافات الفقهية القديمة والمعاصرة، حين يؤول الأمر إلى الاحتجاج بحديث يقبله البعض ولا يقبله غيرهم، لاختلافهم في وزن رواته أو اختلافهم في جواز الاحتجاج بمثله.

ثانيها: تحديد ما يعد تشريعًا وما لا يعد تشريعًا من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله.. وأساس هذه الحاجة ما أجمع عليه علماء المسلمين، وشهد له القرآن الكريم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر يوحى إليه، وأن بشريته ظلت حاضرة في حياته حضور نبوته، وأن كثيرًا من أقواله وأفعاله قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية دون أن يكون المقصود بها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده، وقد يصرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن فعله للتشريع أو أنه من خاصة أمره البشرى، وقد لا يصرح بذلك فيستعين العلماء بطبيعة الموضوع الذى ورد فيه الحديث وملابساته وما يحيط به من قرائن.

ثالثها: توجيه مزيد من العناية إلى الملابسات والوقائع التي أحاطت بالحديث، قولًا كان أو فعلا من أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما يقابل البحث في أسباب النزول في خصوص آيات القرآن الكريم.. وفى هذا السياق تتعين إعادة النظر في القاعدة التي قررها علماء الأصول من أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" إذ لا يمكن- في تقديرنا- إسقاط دلالة "الوقائع" التي ورد عليها الحكم الشرعي سواء كان مصدره نصًا قرآنيًا، أم حديثًا نبويًا.. وأقل ما يقال في هذا الشأن أن من شأن الإحاطة بتلك الملابسات أن تعين على تفسير النص تفسيرًا يطابق المقصود من ورائه، ويحقق الغاية منه، ويحدد -لذلك كله- نطاق تطبيقه على الوقائع الداخلة في نطاق حكمه.

المدخل الخامس: الاجتهاد بتحديد ما يمكن أن يتغير من الأحكام بتغير الزمان وما لا يجوز أن يرد عليه التغيير، وهو ما عبر عنه بعض الفقهاء الأوائل بعبارة "ما هو تشريع دائم من الأحكام، وما هو مؤقت بزمان".. وعبر عنه آخرون بأنه "ثوابت الشريعة التي لا يجوز فيها الخلاف".. كما شاع بين الفقهاء القدامى والمحدثين تعبير "ما عرف من الدين بالضرورة"، وهو تعبير لا يتخلص به الإشكال.. وتظل القضية معه قائمة موكولة إلى المجتهدين بغير ضابط يحكمها أو معيار يحتكم إليه.. لعل هذا الباب من أبواب الاجتهاد أن يكون أدقها وأصعبها وأقربها إلى مواطئ الزلل، والحجة الأساسية التي يستند إليها الرافضون لهذا النوع من الاجتهاد أنه لا نسخ للأحكام بعد انقطاع الوحى بانتقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.. والحقيقة- فيما نرى- أن الأمر ليس أمر نسخ ولا ادعاء بوقوعه، وإنما هو أمر تغير في الفتوى.. وهو تغير قليل الاحتمال جدًا حين يكون في الأمر نص قرآني أو نبوي قطعي لا يحتمل التأويل.. وحينئذ لا ينفتح الباب لمثل هذا الاجتهاد، إلا إذا قامت قرينة على ارتباط النص بواقعة معينة هي سبب وروده فينفتح الباب عندئذ لمناقشة مدى الارتباط بين الحكم وسبب نزوله، ومن هذا الباب ما نجده من قول بعض المجتهدين عن حكم معين إن ذلك "كان والناس حديثو عهد بشرك أو جاهلية" بمعنى أنه إذا تباعد الزمن واستقر أصل التوحيد والإيمان وزالت مخاوف الشرك الجلي، لم يعد للاحتياط الذى جاء به النص ضرورة ولا لزوم. ويقوى هذا ويسنده المبدأ العقلي الرشيد الذى نبه إليه العز بن عبد السلام من أن "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل" وقد يفيد أن نختم الحديث عن أثر تغير الزمان بالإشارة إلى ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب".. ويقول في تفسير هذا الحديث عالم معاصر هو المرحوم الشيخ/ عبد الوهاب خلاف عليه رحمة الله "إن في نفس صيغة النص ما يدل على أنه تشريع زمنى روعي فيه زي المشركين وقت التشريع والقصد إلى مخالفتهم فيه، وأزياء الناس لا استقرار لها".. (من بحث له بعنوان: مصادر التشريع الإسلامي مرنة- مجلة القانون والاقتصاد- مايو 1945)- ومن هذا القبيل أيضًا الرمل في الحج "عند الطواف" فقد قال فيه عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-: "مالنا وللرمل به، كنا نتراءى به بين المشركين وقد أهلكهم الله".

المدخل السادس: إعادة النظر فيما قرره العلماء الأوائل في شأن مصدرين من مصادر الأحكام.. وهما الإجماع، والمصلحة المرسلة..

(أ) فأما "الإجماع "فإن ما اشترطه كثير من الفقهاء عند تعريفهم له أنه "الإجماع التام بين جميع المجتهدين في عصر من العصور بغير مخالف على الإطلاق".. هذا الاشتراط أمر غير مقبول على الإطلاق- فيما نرى- وهو يؤول عملًا إلى إلغاء الإجماع كمصدر للتشريع والفتيا.. إذ يستبعد تمامًا أن يجمع جميع العلماء على رأى واحد في أمر الفرض فيه أنه موضع من مواضع الاجتهاد.. فضلًا عن أن من الجائز وقوعه توهم الإجماع، مع وجود مخالف لم يستدل الباحث عن الإجماع عليه ولم يعرف رأيه، وفوق هذا كله فإن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتشاورون في النوازل ومستجدات الأمور، دون أن يتحروا معرفة رأى جميعهم وأهل الاجتهاد فيهم، بل كان الإجماع- في الحقيقة- إجماع من حضر منهم أو من طلب منه الرأي والمشورة.. هذا مع أن قلة عدد الصحابة ومعرفة الناس لهم جميعًا كان من شأنها أن تجعل الوصول إلى رأيه أيسر وأدنى مما عليه الحال بعد انتشار الإسلام، وتباعد الديار بين علمائه والمجتهدين في شريعته..).

وبقى أن نشير إلى أن هذا الذى ندعو إليه ليس بدعًا في الآراء ولا هو أمر ننفرد به.. بل ذهب إليه كثير من العلماء الأوائل كالإمام أحمد وابن جرير الطبري عليهما رحمة الله، كما قال به من المحدثين أستاذنا الشيخ/ خلاف، والشيخ/ محمود شلتوت عليهما رحمة الله: وإذا كان من المقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن تنظيم أمر هذا الإجماع يغدو-هو الآخر- واجبًا وذلك بتنظيم ما يسميه المعاصرون "الاجتهاد الجماعي" بدلا من الاجتهاد الفردي.. الذى يترك السائل حيرانا حين يعرف أن من الفقهاء من يفتى بغير ما أفتى به.. وليس بين يديه أداة ولا معيار يختار- استنادًا إليهما بين الآراء المتعارضة والفتاوى المختلفة.

(ب) أما "المصلحة" فإن إعادة النظر فيما قرره العلماء الأوائل في شأنها قد صارت أمرًا تدعو إليه الضرورة والحاجة العامة.. فالشريعة كلها مبناها على المصالح، كما يقول ابن قيم الجوزية.. والعلاقة بين "المصلحة" واعتبارها دليلًا شرعيًا يتمم النصوص، وبين مقاصد الشريعة أظهر من أن تحتاج إلى بيان.. إذ تكاليف الشريعة ترجع كلها كما يقول الشاطبي في الجزء الثاني من موافقاته إلى "تحقيق مقاصدها في الخلق".. فالمصالح هي غاية التشريع، وتحقيقها هو أساس العلة التي يرتبط بها كل حكم شرعي بحيث إذا زالت أو تغيرت معها الحكم، وهذا هو الفهم الرشيد للتشريع الإسلامي في جملته وفى جزئياته، فقد جاء النبي- صلى الله عليه وسلم- يحل للناس الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث.. ولذلك كان حقًا ما قرره ابن قيم الجوزية من أن كل مسألة خرجت من العدل إلى الظلم، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الرحمة إلى ضدها فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.

وإنما يدعونا إلى تجديد الدعوة لمعاودة النظر في المصلحة وضوابطها ما لاحظناه من أن أكثر المعاصرين الذين كتبوا عن المصلحة قد غلب عليهم الخوف، واستولى عليهم الحذر الشديد والخوف من المحاذير، فربطوا المصلحة بالنصوص ربط شديدا يكاد [يلغي] دورها ويحول دون الانتفاع بها كمصدر تكميلي من مصادر استخراج الأحكام.

وقد حاول بعض المحدثين توسيع نطاق الأخذ بالمصلحة عن طريق توسيع الأخذ بالقياس، بحيث لا يُبنى على العلة بمفهومها الضيق وتعريفها بأنها "الوصف الظاهر المنضبط" الذى بني عليه الحكم، [و]إنما يبنى على استقراء عدد من النصوص الجزئية، واستنباط المقصد أو المصلحة التي تسعى تلك النصوص لتحقيقها، ثم نتوخى بعد ذلك هذا المقصد حيثما كان في الظروف والملابسات الجديدة.. وهذا ما يطلق عليه "قياس المصالح المرسلة".

ونحن لا نتعجل القول في أمر هذا المنهج.. وإنما ننبه إلى العلاقة الوثقى بين الاستدلال على المقاصد التشريعية، وبين الأخذ بالمصالح المرسلة دليلًا من أدلة الأحكام.. وإلى العلاقة الوثقى كذلك بين فقه المقاصد وفقه إجراء القياس.. وإنما على الحاكم لهذا كله الانتباه إلى أن الأحكام الشرعية وسائل لغايات، وليست مجرد شعائر تعبدية يجرى أمرها على قاعدة الطاعة وحدها.. وأن الطاعة التي يصاحبها تحقيق المصالح، والانتفاع بالمنافع، تجمع الحسنيين.. حسنى الدخول في طاعة الحق سبحانه.. وحسنى تحقيق النفع لعامة المسلمين، "وخير الناس أنفعهم للناس".

المدخل السادس- تنظيم الاجتهاد الجماعي:

لم أتوقف- عامدًا- عند دعوى قفل باب الاجتهاد.. وذلك لسببين: أولهما: أن هذه الدعوى لا يعرف صاحبها على وجه التحديد وإن عرفت أسبابها ومبرراتها وهى تصدي من ليس عالمًا بالفقه ولا حائزًا القدر الأدنى من شروط الاجتهاد للقول في دين الله ودنيا الناس بغير علم ولا هدى.. فخشى العلماء المحققون من عواقب هذا الانفلات ومن آثاره الضارة على الناس أجمعين.. ولكن القول بقفل باب الاجتهاد سدًا لهذه الذريعة، قول لا يسنده دليل، ولا تشهد له مصلحة.. بل إنه كما قال كثير من المحققين يحمل في طياته تناقضًا أساسيًا، إذ هو في ذاته اجتهاد، فكيف يقول بمنع الاجتهاد من يمارسه بقوله وفعله.

ثانيهما: أن باب الاجتهاد لم يقفل أبدًا خلال قرون التاريخ الإسلامي، فبعد الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة ومن هم في مقامهم ومنزلتهم من الفقهاء كالأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، وابن حزم، وابن تيمية، والشوكاني، والصنعاني، وولى الله الدهلوي، وغيرهم.. فإن عشرات من المجتهدين قد ظهروا وأفتوا الناس ومارسوا الاجتهاد.. وتبعهم كثيرون من المعاصرين يضيق المقام عن تعدادهم وذكر أسمائهم. لهذا لم تعد القضية في تقديرنا هي الرد على دعاة قفل باب الاجتهاد.. وإنما صارت القضية قضية وضع منهج منضبط للاجتهاد يصاحبه التنبيه المتكرر إلى زيادة الحاجة إلى هذا الاجتهاد في ضوء المستجدات العديدة التي اقتحمت على الناس حياتهم.. وصارت مواجهتها محتاجة إلى فقه جديد واجتهاد متواصل.

وقد عرف تاريخ الفقه الإسلامي نوعين من الاجتهاد..

أولهما اجتهاد فردى يمارسه فقيه واحد، فيتبعه بعد ذلك عدد قل أو كثر من تلامذته والآخذين بمنهجه.. ويظل الاجتهاد- مع ذلك- منسوبًا إليه وحده.. وقد كان هذا حال الأئمة مؤسسي المدارس أو المذاهب الفقهية المعروفة.. ولكن المتأمل يجد- مع ذلك- في هذه المدارس الفقهية نوعًا من الإفتاء الجماعي، وذلك حين يحدد الفقيه المؤسس للمدرسة أصوله ومنهجه في استدلال الأحكام.. ثم يتابعه فقهاء المذهب في الأخذ بهذه الأصول وتطبيق ذلك المنهج، ولهذا يوصف مؤسس المدرسة الفقهية بأنه فقيه مطلق بينما يقتصر اجتهاد أتباعه عادة على الاجتهاد في إطار منهج المدرسة التي يتبعها، ولذلك يسمى هؤلاء المتبعين مجتهدين في المذهب.. وقد تتردد مرتبة بعضهم بين الاجتهاد المطلق والاجتهاد في المذهب، كما هو حال ابن تيمية في علاقته بمنهج أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي وابن حزم في علاقته بداود الظاهري مؤسس مدرسة أهل الظاهر.

ولكن الاجتهاد الجماعي الذى يحتاج المسلمون إليه اليوم هو اجتهاد "مؤسسي".. بمعنى أنه يتم داخل مؤسسات بحثية، ينقطع فيها العلماء لمدارسة العلوم الإسلامية، ومدارسة الفقه بصفة خاصة مدارسة لا تقف عند حد معرفة آراء الفقهاء المجتهدين أصحاب المذاهب والمدارس.. ولكنها تعنى بأمرين لا يستغنى قائم بالإفتاء عن الإحاطة بهما:

الأول: معرفة مقاصد الشريعة في موضوع البحث واستقصاء آراء العلماء في شأن ذلك الموضوع استقصاء علميًا يستعان فيه بأدوات المعرفة والإحصاء التي وفرتها ثورة المعلومات.

والآخر: معرفة أحوال الناس معرفة قائمة على المشاهدة والتجربة والتحليل.. مع متابعة ما يطرأ على تلك الأحوال من تغير لابد أن تستجيب له الفتوى، ومعنى هذا أن هذه المؤسسات البحثية ولنصطلح على تسميتها "المجامع".. لابد أن تكون فيها أقسام متخصصة في الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. بحيث توضع نتائج أبحاثها بين أيدى المتصدين للفتيا.. ذلك أن من أهم أسباب القصور في الاجتهاد المعاصر أن "الفقيه" قد يكون ملما بآراء الفقهاء القدامى والمحدثين، ولكنه غير عليم بحقيقة الوقائع والمواقف التي يطلب الناس الرأي فيها خصوص بعد أن تعقد الواقع تعقيدًا شديدًا وظهر من أنواع المعاملات والتصرفات وأنماط سلوك الناس ما يحتاج فيه الفقيه إلى الاستعانة بأهل الخبرة في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والإحصاء.. وتزداد صعوبة هذا الأمر حين يبحث المجتهد عن المصالح والمفاسد أو حين يفتى أو يقضى على أساس ما يسميه علماء الإسلام "سد الذرائع"، فتلك كلها أمور تقديرية لا يمكن الاعتماد في شأنها على تقدير الفرد الواحد ولو كان أعلم العلماء، إذ ليس الأمر فيها كما يتخيل بعض الناس مجرد مضاهاة واقع بسيط قد يرى الفقيه جزءًا واحدًا من أجزائه وتغيب عنه أجزاء، بل نص واضح صريح، بل لابد فيها من دراسة وفهم وتحليل لأوضاع الأفراد وللمجتمع كله، ودراسة للآثار المحتملة للتشريع أو القضاء برأي معين على الناس.. بل إننا نضيف في هذا المقام أن من المتصور اختلاف الفتوى باختلاف حال السائل، أو ما يسميه المحدثون "تفريد الفتوى وتفريد القضاء".. أي اختلافه باختلاف حال الفرد السائل أو المسائل أمام الحاكم.. وهذا التفريد، في إطار القاعدة العامة بطبيعة الحال، هو عين ما انتبه إليه وقال به الإمام الشاطبي في الموافقات من أن على المجتهد "النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال، وشخص دون شخص ثم يقول: "فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذى رزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها.. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقى التكاليف وتشهد لهذا النظر السُّنة العملية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يُسأل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال فيجيب بأجوبة مختلفة، لاختلاف الحال أو اختلاف صاحب السؤال.. وهذا ما يسميه بعض الفقهاء كذلك: فقه الواقع.. وهو فقه يرتفع عن الاكتفاء بالعموميات وإجراء النص إجراء واحدًا دون التفات لتغير وقائع الحال.. ولذلك وجدنا القرافي ينكره ويعلل هذا الإنكار بقوله (الفروق ج 1 ص176): "فمهما تجدد العرف اعتبره، ومتى سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين".

وحين نتحدث اليوم عن المجامع الفقهية أو "الاجتهاد الجماعي المؤسسي" فنحن لا نبتدع جديدًا.. إذ من حولنا مؤسسات بحثية عديدة.. حسبنا أن نشير فيها إلى مجمع البحوث الإسلامية الذى أنشئ بالأزهر عام 1961م، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والذى أنشئ 1981م، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية الذى أنشئ بالأردن تحت اسم "مؤسسة آل البيت"، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

والحق أن المجامع الفقهية القائمة ليست سواء في أولويات اهتمامها أو في الهدف من إنشائها، أو فيما تبذله من جهد علمي حقيقي على طريق تجديد الفكر الإسلامي، وإحياء حركة الاجتهاد الفقهي.. منها ما هو مشتغل بالعموميات يجتمع لها مرة كل عام أو مرتين ثم ينفض المشاركون في تلك الاجتماعات دون أن يثمر اللقاء عن تقدم فكرى أو ممارسة لاجتهاد فقهى أو حوار حقيقي بين العلماء حول مشكلة احتار المسلمون في البحث عن حل لها.. وجاءوا إلى تلك المجامع يلتمسون الرأي ويطلبون الفتيا المؤيدة بالدليل.. ومنها ما هو خاضع حتى في توجهه السياسي لحكومة تموله أو تراقبه أو تشرف عليه.

ومنها ما جمد وشاخ وفارقته الهمة وتحول إلى جسم لا روح فيه.. وانقطع عن تيار الحياة الزاخر بالمشاكل والتطلعات والتحديات..

لهذا فإن "إحياء" المجامع القائمة يقتضى فيما نرى أمرين:

أولهما: التقويم الفوري لأدائها، وإعادة النظر في كيفية تشكيلها، ونظام عملها.. حتى تعود كما أريد لها، مؤسسات بحث فقهى أصيل يقوم به علماء محققون، مشهود لهم بثبوت القدم في علوم الإسلام، كل في تخصصه.. ووضع برنامج لعملهما.. يشمل عددًا من السنوات يتوجه فيها المجمع إلى بحث قضايا فقهية محددة من خلال بحوث متخصصة يعدها أعضاء المجمع خلال سنة كاملة سابقة لموعد اجتماعه.

ثانيهما: إيجاد لجنة للتنسيق بين هذه المجامع.. حتى لا تتكرر الجهود بغير مقتضى، ويدخل في عمل هذه اللجنة تحقيق تبادل المعلومات والأبحاث ونتائجها بين المجامع المختلفة، حتى إذا توجه مجمع إلى دراسة مشكلة عرض لها مجمع آخر بدأ من حيث انتهى البحث في المجمع الأول، مستفيدًا من نتائج هذه الأبحاث... وقد ترى هذه اللجنة تنظيم نوع من "تبادل العلماء"، لفترات زمنية يتفق عليها.. وذلك أملًا في توحد الرؤية، وتوحيد الأولويات.

وفى تقديرنا أن من السابق لأوانه إنشاء مجمع واحد أو مجلس أعلى للمجامع تجرى فيه البحوث وتصدر عنه الآراء والاجتهادات.. ذلك أن تعدد الاجتهادات في هذه المرحلة التي يتهيأ فيها الفقه الإسلامي للتجدد، أمر مطلوب ونافع..

وبعد،

فهذه لمحات تعبر عن إيماني بالحاجة الكبرى إلى تجديد الفكر وتجديد الفقه.. ذلك أن إيقاع التطورات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم قد صار بالغ السرعة، مما يعنى أن المستقبل يدق أبواب الحاضر قبل تصوره والاستعداد للقائه.. وأن تحديات جديدة سوف تواجه الناس جميعًا قبل أن يتموا تصور مضمونها وحساب آثارها والاستعداد لمواجهتها.. يصدق ذلك على المسلمين وغير المسلمين..

وسوف يتفاضل الناس وتتفاضل الشعوب في هذا المقام على أساس من قدرتها على مغالبة الجهود واستعدادها لاستقبال عناصر التطور والتغير السريع.. فالذين يتجاوبون ويتعاملون مع المستجدات لهم فرص أكبر وأوفر في إقامة مستقبلهم إقامة واعية مبصرة على أساس معادلات دقيقة جمعوا فيها بين ما يريدون الاحتفاظ به والالتزام بضوابطه وبين عناصر الواقع الجديد الذى يرد عليه الالتزام.

أما الرافضون المنكمشون الذين لا يعبؤون بمتابعة ما يدور حولهم فأولئك (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) (نوح: 7)، وآثروا- خوفًا وعجزًا- أن يفروا إلى ماض لا فضل لهم فيه، إشفاقًا من مستقبل لا أمل لهم فيه..

سادتي العلماء.. لقد التوت أعناق أجيال متعاقبة من المسلمين، وهم مشدودون إلى الوراء، منكفئون على الماضي، متعبدون بآراء الأسلاف من العلماء.. مسرفون في إساءة الظن بكل دعوة ينادى أصحابها بالجديد.. في الفكر وفى الفقه وفى أساليب العمل الفردي والجماعي.. لهذا توقفنا وتحرك الآخرون.. وتجمدت أوصال أمتنا، حين انطلق الآخرون.

والخطاب في نهاية هذا الحديث موجه لجيل الشباب، أن تعالوا نرفع أصابعنا عن آذاننا، ونشحذ الهمة لعمل كبير وجهاد طويل.. فيه تجرد في الفكر وتجديد في الفقه، نمد به أبصارنا إلى المستقبل، ونرتحل فيه بمشاعرنا -بعض حين- عن الماضي الذى أوقعنا التقليد في أسره ونحن نحسب أننا بهذا نتقرب إلى الله.. تعالوا نمارس الاجتهاد كما تمارس العبادة، ونمارس اختلاف الرأي في تواضع الأتقياء المؤمنين.. اختلافًا تظلله روح الأخوة الصادقة، والحرص على توحد الكلمة واجتماع الشمل.. ولنلقى من أيدينا تلك الصواعق المحرقة التي يتقاذفها المفكرون في عالمنا الإسلامي الفسيح، فتسقط على الأمة كلها كأنها حجارة من سجيل!

وإن الله تعالى هو الموفق إلى سواء السبيل.

 


* محاضرة ألقيت في المؤتمر الثالث عشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالأزهر الشريف، والذي عقد تحت عنوان: "التجديد في الفكر الإسلامي، مايو 2001م.

** وزير الإعلام الأسبق- مصر.

 

 

Rate this item
(0 votes)
Last modified on السبت, 08 آذار/مارس 2025 04:00

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.