في مطلع القرن العشرين (وبالتحديد عام 1906م) حين كانت الأفكار (الإصلاحية) تعصف بالعالم الإسلامي، ظهر جدال فكري حاد في صفحات مجلة المنار، المجلة التي كانت تُعد منبرًا للفكر الإسلامي التجديدي تحت رئاسة الشيخ محمد رشيد رضا. هذا الجدل نشب على خلفية مقال نشره الطبيب والمفكر المصري محمد توفيق صدقي بعنوان "الإسلام هو القرآن وحده". قدم صدقي في مقاله رؤية صادمة حول السنة النبوية، زاعمًا أن الإسلام يجب أن يستند إلى القرآن فقط، وأن السنة لم تكن لتكون ملزمة لكل العصور، بل هي خاصة بالعصر النبوي. أثارت هذه الفكرة ضجة بين العلماء والمفكرين، ودفع ذلك مجموعة من الكتّاب إلى الرد عليها، مما خلق نقاشًا حول مصادر التشريع الإسلامي وأدوارها.
محمد توفيق صدقي ومقاله "الإسلام هو القرآن وحده":
محمد توفيق صدقي طبيب وباحث ومفكر مصري، ويعتبر من أوائل القرآنيين في القرن العشرين، عمل بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار فأصبح من كبار الكتاب المصرين في عصره. صدقي كان يرى أن العالم الإسلامي بحاجة إلى العودة إلى القرآن الكريم باعتباره المصدر الوحيد للتشريع، وأن الابتعاد عن السنة النبوية سيحرر المسلمين من كثير من التفسيرات الفقهية التي يعتبرها قيودًا فُرضت عليهم عبر القرون.
في مقاله الأول، اعتبر صدقي أن السنة النبوية لم تُكتب بشكل منهجي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل جاءت الروايات بشكل شفهي، مما فتح الباب أمام التحريف والتلاعب. لذلك، حسب رأيه، يجب أن يكون الاعتماد فقط على القرآن الكريم، لأنه الوحيد الذي تم الحفاظ عليه بشكل نصي دقيق، وصانه الله من التبديل. وكان أحد أبرز حجج صدقي أن الصحابة لم يكونوا في حاجة إلى السنة كنص مكتوب، لأنهم عاصروا النبي وعاشوا معه، ما جعل فهمهم للإسلام متينًا دون الحاجة إلى توثيق الحديث. بالتالي، يرى أن اتباع السنة النبوية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمرًا ضروريًا، بل قد يكون مصدرًا للتناقضات والاجتهادات التي تقيد الإسلام بروح عصور سابقة.
التعقيب المبدئي لمجلة المنار(1):
وقد عقبت مجلة المنار على هذا المقال مباشرة موضحة أنه قد سبق الكاتب إلى هذا الموضوع غيرُ واحد من المسلمين الباحثين من أشهرهم ميرزا باقر الشهير الذي كان تنصر وصار داعية لمذهب البروتستنت، ثم عُني بدراسة سائر مذاهب النصرانية ومذهب اليهود، ثم عاد إلى الإسلام باجتهاد جديد، ودعا إليه في إنكلترا بغيرة وعزم شديد، وأن المجلة هي من اقترحت على الكاتب أن يكتب ما يراه لعرضه في المنار على العلماء والباحثين، ودعت المجلة علماء الأزهر وغيرهم لبيان الحق في هذه المسألة بالدلائل ودَفْع ما عُرِضَ دونه من الشبهات التي اتسم بعضها بالشذوذ، منوهة أنها سترد على المقال تفصيلًا فيما بعد.
الرد الأول على مقال صدقي: "الدين كله ما جاء به الرسول":
أثار مقال صدقي الأول عددًا من الردود والتعقيبات، فقد رد عليه أحد القراء (وهو أ. أحمد منصور الباز) في المجلة نفسها بمقالة حملت عنوان "الدين كله ما جاء به الرسول". في هذا الرد، تمت مناقشة أطروحات صدقي من زاوية فقهية، حيث أكد الكاتب أن الإسلام لا يمكن اختزاله في القرآن فقط؛ فالقرآن، رغم كونه المصدر الأول للتشريع، يحتاج إلى تفسير وتوضيح، والسنة هي التي تقوم بهذا الدور. أشار الكاتب إلى أن السنة النبوية ليست مجرد مكمل للقرآن، بل هي شارحة ومبينة له، وقد أمر الله باتباع النبي في آيات عديدة من القرآن، مما يعني أن سنة النبي جزء لا يتجزأ من الشريعة. كما قدم في مقاله شواهد تاريخية تؤكد أن الحديث النبوي كان يُدوّن في عصر الرسول، مشيرًا إلى نصوص توضح اهتمام الصحابة والتابعين بحفظ السنة وتوثيقها.
الرد الثاني، الشيخ طه البشري ودفاعه عن أصول الإسلام:
في مواجهة الجدل المتصاعد، تدخل الشيخ طه البشري بمقال مؤثر حمل عنوان "أصول الإسلام: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس"، دافع فيه عن المصادر الأربعة للتشريع الإسلامي، موضحًا دور كل منها في حفظ الدين. واعتبر البشري أن الإسلام ليس مجرد نصوص، بل هو نظام كامل يقوم على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن إلغاء أي من هذه الركائز سيؤدي إلى خلل كبير في فهم الدين وتطبيقه. البشري استعرض بالتفصيل كيف أن السنة كانت دائمًا مكملة للقرآن، وأنها كانت ضرورة لفهم الأحكام القرآنية التي قد تأتي في بعض الأحيان مجملة. وأكد أن التشكيك في السنة هو تشكيك في القدرة البشرية على نقل الوحي بطريقة موثوقة، وهو ما يعتبره خرقًا لفكرة الحفظ الإلهي للدين.
رد صدقي على منتقديه: "الإسلام هو القرآن وحده: رد لرد":
لم يتراجع صدقي أمام هذه الردود، بل كتب مقالًا آخر بعنوان "الإسلام هو القرآن وحده: رد لرد"، حيث حاول فيه الدفاع عن مواقفه والرد على منتقديه. جادل صدقي بأن الاعتماد على السنة بجانب القرآن يفتح الباب أمام اختلافات واسعة في الفقه والشريعة، مما يعقد الأمور أكثر مما يبسطها. وأكد أن الله قد تكفل بحفظ القرآن، بينما ترك حفظ السنة للبشر، وهذا، حسب رأيه، يضعف مصداقية السنة كمصدر تشريعي. في مقاله هذا، ركز صدقي على الحاجة إلى تبسيط الدين والعودة إلى أصوله الأساسية، متمثلة في القرآن فقط، معتبرًا أن التشريع يجب أن يكون مرتبطًا مباشرة بالنص القرآني الواضح دون الاعتماد على اجتهادات لاحقة.
الرد الثالث: مجلة المنار تعقب على مقال صدقي:
في تعقيب مجلة "المنار" على مقالي الدكتور محمد توفيق صدقي حول "القرآن وحده"، بدأت بتوضيح أن الجدال تشعب حول سؤال مركزي: هل الإسلام يعتمد فقط على القرآن أم أن السنة جزء لا يتجزأ منه؟ وأشارت المجلة في تعقيبها إلى أن صدقي في مقاليه زعم أن السنة النبوية خاصة بعصر الرسول، ولا يجب اتباعها في كل زمان ومكان، حيث عارضت المجلة هذا الطرح بشدة، مؤكدة على أن الرد على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع البشر، وأن رسالته، بما فيها السنة، ليست محدودة بعصر أو فئة معينة.
وذكرت مجلة المنار في تعقيبها أن الإسلام هو دين شامل يعتمد على ما جاء به الرسول من القرآن والسنة، وأن الاعتماد على القرآن وحده يعني تجريد رسالة الرسول من جوانب هامة تشمل العبادات والأحكام التي لا يُذكر تفصيلها في القرآن. على سبيل المثال، صلاة المسلمين وكيفيتها تُعد جزءًا أساسيًا من الدين وتعلمت الأمة كيفية أدائها من السنة النبوية. كما لفتت المجلة إلى أن جميع الصحابة والتابعين نقلوا كيفيات الصلاة، الحج، والعبادات الأخرى، ولم يحدث أي خلاف أو نزاع حول هذه الأمور الأساسية. لذلك، ما فهمه الصحابة عن النبي يجب أن يكون ملزمًا لكل مسلم إلى يوم القيامة. واعتبر التعقيب أن محاولة الدكتور صدقي التشكيك في صحة بعض جوانب السنة النبوية هو تشكيك في المبادئ الثابتة للإسلام.
وتناول تعقيب المجلة حجة صدقي المتعلقة بالصلاة، حيث يقول إن القرآن وحده يذكر الركعات في صلاة الخوف، ولكن لا يحدد كيفية الصلاة في ظروف الأمن. يؤكد الرد أن السنة العملية، التي أداها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي واظب عليها الصحابة، تفرض على المسلمين الالتزام بعدد الركعات والكيفيات التي نقلت إلينا. بالتالي، من غير المنطقي الشك في أن السنة النبوية تحمل توجيهات عامة تتعلق بالعبادات والحياة الدينية، ويجب أن تكون واجبة على الجميع. كما ينفي الرد ادعاءات صدقي بأن السنة النبوية كانت خاصة بالعرب أو بزمن معين، ويشير إلى أن أي تخصيص لا يمكن الأخذ به إلا إذا كان هناك دليل قاطع يثبت ذلك. وإلا، فالأصل أن جميع ما ورد في السنة هو عام وملزم لكل المسلمين.
ومن النقاط التي تناولتها مجلة المنار في تعقيبها تلك التي تتعلق بجدل كتابة الحديث، حيث استند صدقي إلى فكرة أن النبي نهى في بعض الأحيان عن كتابة الحديث. هنا، يوضح المنار أن هذه الشبهة ليست دليلًا كافيًا على ضعف أو عدم موثوقية السنة. إذ أن الصحابة التزموا بالسنة على مستوى عملي دون الحاجة إلى التدوين المباشر، والاعتماد على النقل الشفهي كان كافيًا في تلك الفترة. فيما بعد، جمع العلماء الحديث بحرص ودقة، مما يُعد امتدادًا طبيعيًا لتبليغ السنة النبوية.
وفي نهاية ردها، حثت المنار علماء الدين على توضيح مسائل السنة النبوية والحديث، وذلك لمواجهة الشكوك والاعتراضات التي طرحها صدقي، مبينة أن دور العلماء هو إيضاح الحقائق وتقديم الأدلة التي تثبت أن الإسلام يعتمد على كل ما جاء به الرسول من قرآن وسنة.
ويعيد موقعنا نشر المقال الذي أثار الجدل الذي لم ينته بعد حول مكانة السُنَّة في الإسلام، وكذلك الردود على هذا المقال التي نُشرت تباعًا في مجلة المنار، باعتبار أن ذلك يمثل باكورة نشأة هذا الجدل في العصر الحديث:
المقال الأول: الإسلام هو القرآن وحده(2)
محمد توفيق صدقي(3)
هذا عنوان مقال لي جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأي أُبدِيه لعلماء المسلمين، المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدوني، وإذا ما كنت مصيبًا أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني، فإني لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذّ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق وتمحيصه، والإسراع إليه إذا ما بدا لي بارق من بصيصه، وها أنا ذا أشرع في إيضاح المقصود بالتدقيق، راجيًا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق، فأقول: لا خلاف بين أحد من المسلمين، في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، ومكتوب في عصره بأمر منه عليه السلام، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء مطلقًا إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل، ومن ذلك نعلم أن النبي عليه السلام لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) فلو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين لأَمَرَ النبي بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته أحيانًا على حسب ما أداه إليه فهمه.
فإنْ قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله، قلت: وكيف ذلك والقرآن معجز بنظمه، ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله؟ ولِمَ لَمْ يضمن ما في الأحاديث من الواجبات كما ضمن ما في القرآن حتى نأمن عليه من التغيير والتحريف والاختلاف؟ ولمَ كان بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر حديثًا؟ وما الحكمة في ذلك؟ وما الفرق بين الواجب بالقرآن والواجب بالسُّنة؟ فهذه بعض أسئلة ألقيها على الباحثين ليجيبوا عنها إن كان ثَم جواب.
سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يجب الوضوء من القيء؟) فأجاب عليه السلام: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) فهذا الحديث صح أو لم يصح، فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لا يحيدون عنه. ولكن ويا لَلأسف لَحِقَ المسلمين ما لحق غيرهم من الأمم، فدفع بهم في ظلمات في بحر لُجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدٌ منهم يده لا يكاد يراها، ومن لم يجعل الله له من كتابه نورًا فما له من نور.
ولع الناس في الأعصر الأولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة جمعها جموعًا، حتى ملأت الأحاديث الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلاف. وصار من المستحيل أن يعمل الإنسان بدينه بدون أن يقلد غيره ممن أفنوا أعمارهم في عمل مذهب لهم فأصبح التقليد من أوجب الواجبات في دين المسلمين بعد أن كان من ألدّ أعداء القرآن المجيد. تنوعت المذاهب واختلفت المشارب وتعددت الآراء في كل فرع من فروع الفقه حتى تجد في كل مسألة أن كل ممكن من الممكنات العقلية قد صار مذهبًا لأحد الأئمة ووجب على المقلدين القول (بأن الكل على الحق) فأصبح القول باجتماع الضدين بل النقيضين عقيدة من عقائد الدين بين المسلمين فحق عليهم القول بأن سيتبعون سنن مَنْ قبلهم حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلوه.
أراد بعضهم أن يزيل عن العين الرمد فقال بسد باب الاجتهاد. وبذلك شفى الرمد بالإعماء، فصار كل من أراد أن يستعمل عقله في الدين رموه بأنه من المارقين وهكذا ضاع الحق بين الأباطيل: ولولا عناية الله لأزهقت رُوحَه الأضاليلُ.
نظر المجتهدون في الأحاديث نظرة علموا ما فيها من الاختلاف، وتحققوا أن أكثرها موضوعات، ولما أراد كل منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها ما صح عند غيره، فهل يعقل أن الله يدين العالمين بشيء لا يمكن لأحد أن يميز حقه من باطله؟ وهل يعذر المسلمون في تركهم القرآن خلف ظهورهم والاشتغال عنه بهذه المذاهب وصرف الوقت في مراجعة الروايات التي لا تحصى لظنهم أن القرآن غير وافٍ بالدين كله، والله تعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ٣٨) وإذا صحت مذاهبهم، فأي تفريط أكبر من ترك القرآن لأكثر واجباتهم في الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك؟
دين الله سهل ميسور، والتقليد فيه محظور، فلو كان العمل بما في الأحاديث واجبًا لَلَزِمَ كل مكلف أن يترك أي شغل آخر ويقضي الليالي الطويلة في مطالعة المجلدات الضخمة من كتب الحديث، ليعرف الضعيف والصحيح والموضوع، والحسن والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ: فهل في شرعة الإنصاف أني ... أكلف خُطَّةً لا تستطاع؟
يحتج السنيون على صحة قولهم بنحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) ولكننا نحن القرآنيين نقول: إن إطاعة الرسول لا نزاع فيها ولكن النزاع في مسألة أخرى، وهي: هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه كتاب الله؟ فإذا كان ذلك صحيحًا فهل لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبعًا بدل الخمس أو صيام شهرين بدل الشهر ونحن مأمورون بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟ وإذا كان الأمر كذلك فما بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة وبين المفروض والمندوب؟ أليس ذلك إقرارًا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب والسنة؟
نحن لا نجهل أن كل مذهب منها يقول ببعض فرائض لا أثر لها في الكتاب، ولكن الذي نلاحظه على أصحابها ونشكرهم عليه أنهم كانوا دائمًا يجتهدون أن يأخذوا دليلهم على الفرضية من الكتاب إن أمكنهم حتى إن كثيرًا منهم قال بعدم وجوب أشياء كان النبي عليه السلام يواظب عليها ويأمر أصحابه بها، إذ لم يجد دليلًا عليها من القرآن، فأبو حنيفة مثلًا قال بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست بواجبة؛ لأنه لم يجد أمرًا بذلك في كتاب الله، وكذلك قال في الاستنجاء، وذهب الجميع إلى القول بأن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء، وغير ذلك كثير حتى إنك تجدهم يستنبطون كل ما قالوا بأنه فرض من الآية الواردة فيه، وبعد ذلك يقولون بأن ما زاد عليه فهو سنة، ولو لم يثبت أن النبي تركه مرة واحدة، أليس ذلك أثرًا من آثار الفطرة السليمة الباقية في نفوسهم؟
إذا نظر ناظر في جميع المذاهب المعروفة واستخرج منها جميع ما أجمعوا على وجوبه وجد أنه كله مستنبط من القرآن الشريف إلا مسائل قليلة جدًّا أذكر منها بعضها لأهميتها، كعدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة وما يتعلق بها. لا شك عندي أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك محلًا للنزاع، ولكن محل النزاع هو هل كلُّ ما تواتر عن النبي أنه فعله وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة، وإن لم يرد له ذكر في القرآن رأيي أنه لا يجب. وربما كان ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم هو مندوبًا إليه ندبًا شديدًا أو أنه تطبيق لأوامر القرآن الباقية على أحوال الأمة العربية، بحيث إن غيرها من الأمم لها أن تستنبط من الكتاب ما يوافق أمورها وأحوالها كما سنبين ذلك في مسألة الزكاة.
ولنبدأ الآن بالبحث في مسألة ركعات الصلاة. قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًا مُّبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء: ١٠١- ١٠٢) إلى آخر الآية، فيتضح من هذه الآيات الكريمة أن قصر الصلاة مباح في السفر إذا خفنا العدو، وأن صلاة الخوف للإمام ركعتان فقط وللمؤتمين واحدة يصلي نصفهم الركعة الأولى معه، ثم يصلي النصف الآخر الركعة الثانية، وهذا هو المتبادر من القرآن الشريف وما ذهب إليه ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. فإذا كانت صلاة الخوف ركعة واحدة للمؤتم، وظاهر من السياق أن هذا قصر، أي دون الواجب، فيكون الفرض في أوقات عدم الخوف هو أكثر من ركعة، أي أن القرآن يفرض على المسلم أن يصلي في كل وقت من أوقات الصلاة أكثر من ركعة، ولم يحدد له عددًا مخصوصًا، وتركه يتصرف كما يشاء، وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلي ركعتين على الأقل، وله أن يزيد عن ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد، فإن الغلو في الدين مذموم وكذا في كل شيء {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف: ٣١) ومن ذلك تعلم أن عدد ركعات الصلاة غير معين إلا بهذا القدر فقط، وهو أن لا تنقص عن اثنتين ولا تزيد إلى درجة الإفراط، وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل على حسب ما يجده من نفسه ومن وقته، ولا يجوز له القصر عن الركعتين إلا فيما ذكره القرآن الشريف، والذي يدلك من السنة على أن هاتين الركعتين لهما الشأن الأكبر في الدين ما يأتي:
(١) أول ما فُرضت الصلاة كان النبي عليه السلام يصلي دائما ركعتين ركعتين مدة إقامته بمكة وجزءًا من إقامته بالمدينة، فإن قيل: لعل ذلك كان في أول الأمر لحدوث عهد المسلمين بالإسلام فناسب أن يكون التكليف حينذاك خفيفًا، قلنا: إن المعهود في طباع البشر أن يكونوا عند دخولهم في دين جديد شديدي الرغبة في القيام بجميع واجباتهم الدينية ويطلبون المزيد، وكلما طال عليهم العهد أخذوا في التهاون فيها، ولذلك كان المسلمون في أول الإسلام يقومون الليل بعضه إن لم يكن كله، وكلما ازداد اضطهاد المشركين لهم كلما ازدادوا رغبة في الصلاة فلو كلفوا بأكثر من ركعتين في أول الأمر لوجدوا في أنفسهم من الرغبة الشديدة في العمل ما لا يجدونه فيما بعد وخصوصًا لأنهم كانوا غير مكلفين بالجهاد ولا بغيره: كالصوم والحج وغيرهما، ثم لو سلَّمنا أن التخفيف في الصدر الأول كان لمراعاة جانب المسلمين الحديثي العهد بالدين وهم إذ ذاك نفر قليل فلماذا لا يراعى جانب مَنْ دَخَلَ في الدين فيما بعد وقد كانوا يُعدُّون بالملايين؟ فلهذه الأسباب نحن نتخذ هذه المسألة دليلًا على أن النبي ما كان يكتفي بالركعتين في ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل الواجب، ثم زاد عليهما فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى.
(٢) إن النبي لما زاد عدد ركعات الصلاة كان يقتصر على ركعتين في سفره ولو لم يكن هناك خوف من العدو، ولو كان السفر قصيرًا جدًّا، ولو أقام بالجهة التي سافر إليها بضعة عشر يومًا وزال عنه العناء والتعب، فلو كانت الزيادة واجبة لعُدَّ هذا تهاونًا، وخصوصًا لأن القرآن لم يبح القصر إلا عند الخوف من العدو ولكنهم يقولون تحكمًا: إن هذا هو القصر المراد في القرآن ولا يبالون بمخالفة الظاهر منه ونحن نسمي ذلك (اكتفاء بالواجب) محافظة على مقام القرآن الشريف ولا نقول في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: ١٠١) إن هذا القيد في الآية المذكورة آنفًا لا مفهوم له كما يقولون اتباعًا لمذاهبهم.
(٣) كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة في الركعتين الأخيرتين، وإن جهر في الأُوليَيْن ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، فهل يدل ذلك على أن منزلتهما أقل من الركعتين الأوليين؟
(٤) إننا إذا نظرنا إلى عدد الركعات التي كان يصليها النبي في أوقات الصلاة مع قطع النظر عما سماه المجتهدون سُنة وما سمَّوْه فرضًا نجد أنه لم يحافظ على عدد مخصوص، فكان تارة يزيد وتارة ينقص؛ ولذلك اختلفت المذاهب في عدد السنن وفي المندوب والمستحب والرغيبة إلى غير ذلك من التقسيمات والأسماء التي ما كان يعرفها الرسول نفسه ولا أصحابه، ثم إن عدد الركعات التي كان يصليها في الأوقات المختلفة من اليوم هو مختلف أيضًا، فصلاة الصبح مثلًا أربع ركعات والظهر عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ولكن الشيء المطرد الذي نلحظه أنه ما صلى وقتًا أقل من ركعتين ولا تقيد بعدد مخصوص، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه كل التأييد.
وأما كونه كان يصلي بعض هذه الركعات في الجماعة ويواظب على ذلك، وإذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية لم يسلم إلا مرة واحدة، وإذا ترك سهوًا بعضها أعاده وسجد للسهو، فكل هذه أشياء لا يصح أن يُردَّ بها علينا، أما صلاة الجماعة فهي غير خاصة بالفرض، فصلاة العيدين والكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها كان يصليها جماعة وكذا صلى بعض النوافل، وأما المواظبة على جعل بعض الصلوات أربعًا أو ثلاثًا فهو لا يدل على وجوب ما فوق الركعتين؛ لأن هذه المواظبة المزعومة غير مسلمة كما بينا ذلك فيما سبق، وإذا سلمت فكم من أشياء واظب عليها طول حياته، وقال بعض الأئمة: إنها غير واجبة مثل الاستنجاء أو الاستجمار، ومثل قراءة الفاتحة في كل ركعة والمضمضة والاستنشاق، وغير ذلك كثير جدًّا.
وأما قرن الركعات بتسليمة واحدة فكم من أشياء قرنت بل مزجت بالفرائض، وقال الأئمة: إنها غير واجبة مثل كثير من أعمال الحج والوضوء والصلاة، ولما لا نتخذ نحن جلوسه صلى الله عليه وسلم دائمًا بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين، إشارة منه إلى فصل الواجب عن غير الواجب، وكذا عدم الجهر في الأخيرتين وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة فيهما، وأما إعادة ما تركه سهوًا وسجود السهو فهو أيضًا غير دليل؛ لأن السبب فيه هو أن النبي عليه السلام لمّا كان ينوي أن يصلي أربع ركعات مثلًا، ويجد أن قلبه اشتغل بشيء آخر أنساه ما هو فيه كان يعد ذلك تقصيرًا وذنبًا؛ فيسجد سجدتي السهو استغفارًا لله تعالى وطلبًا للصفح عنه، وذلك بعد أن يعيد ما كان نوى أن يصليه ونسيه عقابًا للنفس، وإن كان سهوها للفكر في أمر شريف يليق بالأنبياء، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس سجود السهو هذا خاصًّا بترك الفرض، بل إذا نسي الإنسان أي شيء مما نوى عمله لله حق عليه أن يفعله، فإذا نوى أن يصلي مثلًا أربع ركعات، فصلى سهوًا ثلاثًا، ثم تذكر فليصل ما نسيه وليسجد لله، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قام أحدكم يصلي أتاه الشيطان فلبَّس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين) .
وأما الاحتجاج بالإجماع فهو غير حجة علينا؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعرفون اصطلاحاتنا هذه الفقهية، فلا يميزون بين ما نسميه نحن الآن سُنة أو فرضًا أو مندوبًا أو مستحبًّا، بل كانوا يحافظون على كل شيء رأوا النبي عليه السلام يفعله، وأما إجماع الخَلَف فلا نعبأ به والاستشهاد بحديث (لا تجتمع أمتي على ضلالة) إن صح هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، فنحن لا نقول: إن المسلمين اجتمعت في هذه المسألة على ضلالة، فإن مَنْ عرف أن الواجب عليه ركعتان على الأقل فصلى أربعًا تقليدًا للرسول عليه السلام شكرناه وشكره الله ورسوله وزاده الله أجرًا، وإنما الغرض من هذا البحث هو تمحيص المسائل علميًّا ليس إلا، وهو يفيدنا أيضًا في مسائل أخرى من الوجهة العملية فوائد لا تحصى.
***
مبحث الزكاة
نذكر أولًا مقدار النصاب من الذهب والفضة والماشية وما يجب في كل من الزكاة حسب ما ورد في السُّنة المتواترة(4):
النصاب
|
ما يخرج من الزكاة
|
(١) من الذهب ٢٠ دينارًا (أي ١٠ جنيهات تقريبا)
|
نصف دينار
|
(٢) من الفضة ٢٠ دينارًا (٢٠٠ درهم)
|
٥ درهم
|
(٣) من الإبل ٢٠ دينارًا (٥ جمال)
|
شاة واحدة
|
(٤) من البقر ٢٠ دينارًا (٣٠ بقرة)
|
عجل تبيع
|
(٥) من الغنم ٢٠دينارًا (٤٠ شاة)
|
شاة واحدة
|
فالذي يكاد يجزم به العقل أن قيمة النصاب من كلٍّ لا بد أنها كانت عند العرب متساوية أي أن مَنْ كان عنده منهم ٢٠ دينارًا كان كمن عنده ٢٠٠ درهم أو٥ جمال أو ٤٠ شاة؛ ولذلك تؤخذ شاة واحدة ممن عنده ٤٠ شاة وكذا ممن عنده ٥جمال ولو لم تكن جميع هذه المقادير متساوية لكان هناك ظلم ظاهر لبعض الناس دون الآخرين، ومما يرجح أن هذه المقادير إن لم تكن متساوية فهي متقاربة جدًّا أن مالكًا رضي الله عنه جعل القطع ليد السارق مشروطة بسرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم لتَسَاوِي هذين القدرين، وعليه يكون نصف الدينار يساوي ٦ دراهم، وإذا لحظنا أن ما يؤخذ من نصاب الذهب هو نصف دينار وما يؤخذ من نصاب الفضة هو ٥ دراهم أدركنا أن ما يؤخذ من كل هو متقارب جدًّا إن لم نقل: إنه كان متساويًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك كان ثمن الشاة أو العجل التبيع هو ٥ دراهم أو نصف دينار: أي نحو ٢٥ قرشًا صاغًا مصريًّا بالتقريب، وذلك في مبدأ الإسلام وهي قيمة زهيدة جدًّا، ولا شك أن هذه القيمة تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب البلاد وبحسب الأزمنة.
ومن ذلك نعلم أن ما بيّنته السنة للعرب في ذلك الزمن لا يصلح لجميع الأمم في الأوقات المختلفة، ولذلك لم يَرِد شيء من ذلك في القرآن مطلقًا؛ لأنه هو الكتاب الوحيد الذي أمر النبي أصحابه بحمله لجميع العالمين، وتركت أمثال هذه التفاصيل فيه لتتصرف كل أمة في الأمور بما يناسب حالها، فيجب على أولياء الأمر بعد الشورى ومراجعة نصوص الكتاب أن يضعوا للأمة نظامًا في هذه المسألة، وفي غيرها لتسير عليه، ولا يصح أن نجمد على ما وضع للعرب في ذلك الزمن جمودًا يبعدنا عن العقل والصواب، فإن الذي عنده عشرة جنيهات أو خمسة جِمال مثلا إذا عد غنيًّا عند قوم فلا يلزم أن يكون غنيًّا عند الآخرين، ثم إن ربع العشر إذا قام بإصلاح حال الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وبالنفقة منه على العاملين على الزكاة والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله وفي تحرير الرقاب إذا قام بكل هذه الشئون في زمن أو بلد فليس ضروريًّا أن يكون كافيًا كذلك في زمن آخر أو في بلدة أخرى، ومن ذلك تعلم حكمة الله في عدم تعيين شيء من ذلك في كتابه تعالى، وغاية ما ذكر فيه الحث على إعطاء الزكاة وأنها تؤخذ من أصحاب الأموال، وأن تعطى من ثمر النخل والزيتون والرمان يوم حصاده، ولنا أن نقيس على ذلك أن زكاة الأموال تؤخذ سنويًّا من أربابها، وذكر فيه أيضًا مصارفها التي أشرنا إليها سابقًا.
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أننا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله تعالى مع استعمال العقل والتصرف، أو بعبارة أخرى (الكتاب والقياس) وأما السنة فما زاد منها عن الكتاب إن شئنا عملنا به وإن شئنا تركناه، وما فيها من الحِكَم الكثيرة نقبلها على العين والرأس، وكذلك أي حكم من أي مصدر آخر.
***
كلمة في الصوم والحج
أما الصوم فجميع ما اتَّفَقَ على وجوبه المجتهدون هو واضح في القرآن وكذلك جميع أركان الحج، وهنا يناسب أن أذكر شيئًا عن تقبيل الحجر الأسود ردًّا على أعداء الإسلام فأقول: هذا الحجر موضوع في أحد أركان الكعبة وأصله علامة وضعها إبراهيم عليه السلام؛ ليعرف به الركن الذي يبتدأ منه بالطواف، والظاهر أنه قطعة أخذها من جبل هناك يسمى أبا قبيس كما يستخلص من هذه الرواية (إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام، وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله في البيت) فهذه الرواية على ما فيها من الأوهام وكذا غيرها يدلنا على مأخذ هذا الحجر وتاريخه، وقد شوهد أن النبي قبَّل هذا الحجر وكذا الركن اليماني ولم يقبّل الركنين الآخرين؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، وهذا العمل هو ضرب من ضروب العبادة والتذلل لله تعالى وحده كوضع الساجد وجهه على الأرض خضوعًا لله وانكسارًا مع العلم بأن الحجر والأرض لا قيمة لهما بالمرة، ولولا سقوط منزلتيهما لَمَا كان هناك تعبُّد في وضع الوجه عليهما، ولم يأت معنى التعبد إلا لوضع أشرف عضو في الإنسان على هذين الشيئين الحقيرين تعظيمًا لله كمن يُقَبِّلُ أعتاب الملوك أو ذيل ثيابهم؛ ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلتكَ)، ومع كل ذلك فليس التقبيل ركنًا من أركان الحج، ولم يقل أحد بوجوبه، ولم يَرِدْ للحجر الأسود ذكر في القرآن الشريف مطلقًا ولا لبئر زمزم ولا للشرب منها فلندع ما يهذي به الأغبياء الجاهلون من الطاعنين في الإسلام.
بقي عليَّ لإيفاء موضوعنا حقه أن أتكلم عن مسألتين أُخْرَيَيْنِ لوُرود شيء كثير عنهما في السنة وعدم وُرود شيء في الكتاب.
(المسألة الأولى - قتل المرتد) إنه لم يرد أمر بذلك في القرآن فلا يجوز لنا قتله لمجرد الارتداد، بل الإنسان حر في أن يعتقد ما شاء {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) وأما ما حصل من ذلك في صدر الإسلام فقد كان لضعف المسلمين وقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم والخوف من إفشاء أسرارهم وإعانة العدو عليهم، وتمكينه منهم، وتشكيك ضعاف المسلمين في دينهم، أو لأن المرتد كان ممن آذاهم وأبيح لهم دمه، فلمَّا تظاهر بالإسلام كفوا أيديهم عنه، ثم لما عاد عادوا إليه فهذه أسباب قتل المرتد في العصر الأول، أما الآن فإن وُجدت ظروف مثل تلك، وحصل مثل ما كان يحصل جاز لنا قتله؛ لأنه صار ممن حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (المائدة: ٣٣) الآية.
وأما قتل المرتد لمجرد ترك العقيدة فهذا مما يخالف القرآن الشريف {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦)، وورد في الحديث ما معناه (إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فرُدُّوه).
(المسألة الثانية - رجم الزاني المحصن) حد الزاني في القرآن الجلد، وقد أنكر بعض المعتزلة الرجم وكذا جميع الخوارج، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} (النساء: ٢٥): أي أن الأَمَةَ إذا زنت بعد الإحصان تُعاقب بنصف عقاب المحصنة من الحرائر: أي تجلد خمسين جلدة، فقالوا: لو كان عقاب المحصنات الرجم لكان حد الإماء نصف الرجم، والرجم لا نصف له، ثم إن القرآن تكلم عن الزنا وحَدِّه وعن رمي المحصنات به وعقوبته، وعن اللعان وكل ذلك بإيضاح تام، فلو كان الرجم واجبًا لذكره الله تعالى في القرآن، فهذه حجة هؤلاء القوم، والذي نقوله نحن: إن الإمام إذا وجد أن الأمة قاسية غليظة القلوب منتشر فيها الفسق والفجور ولا يردعهم الجلد ولا يؤثر فيهم لخشونتهم وشدتهم، وخاف على الأُمة الضعف والانحلال والفساد جاز له والحالة هذه أن يقرر الرجم عقوبة للزنا، وأن يَعتبر مَنْ أقدم عليه وهو محصن مفسدًا في الأرض عاصيًا لله ومحاربًا له ولدينه عملًا بالآية السابقة.
وعَذَرَ مَنْ لم يكن محصنًا، أو إن تكرر منه الذنب ولم يردعه الجلد جاز للإمام أن يقدر الرجم على غير المحصن أيضًا بعد عدد مخصوص من وقوعه في الإثم، والخلاصة أن المسألة تركت ليتصرف فيها أولو الأمر وليتشاوروا فيها، فإن كان الفساد في الأُمَّة قليلًا ويردعها الجلد فبه، وإن كان المفسدون كثيرين ولا يبالون بالجلد ولا بالدين أوجبوا تقتيلهم.وكذلك ترك القرآن كثيرًا من الحدود وأطلق الكلام في قطع يد السارق، والظاهر منه أن القطع لا يجب لأول مرة بل يستتاب السارق فإن تاب وأصلح وإلا قطعت يده. فهذه أفكاري في هذه المواضيع أعرضها على عقلاء المسلمين وعلمائهم، وأرجو ممن يعتقد أنني في ضلال أن يرشدني إلى الحق وإلا كان عند الله آثمًا.
***
الخاتمة
إذا تقرر ذلك المذهب فما على المسلم إلا أن يطالع كتاب الله تعالى مطالعة إمعان وتدقيق وعمل فكر، وأن يستنتج جميع ما يجب عليه في دينه ودنياه من اعتقادات وعبادات وأخلاق ومعاملات، فإن في هذا الكتاب الهداية والكفاية وسعادة الدنيا والآخرة.
ومن اقتصر عليه عَلِمَ سخافة مَنْ عاب الإسلام بأشياء ألصقت به وليست منه، فاللهم اهدنا بكتابك، وأفهمنا من أسرارك، وافتح أعيننا وأَنِرْ بصائرنا، إنك هادي الضالين مرشد الحائرين آمين. اهـ
***
تعقيب مبدئي لمجلة (المنار)
قد سبق الكاتب إلى هذا الموضوع غيرُ واحد من المسلمين الباحثين من أشهرهم ميرزا باقر الشهير الذي كان تنصر وصار داعية لمذهب البروتستنت، ثم عُني بدراسة سائر مذاهب النصرانية ومذهب اليهود، ثم عاد إلى الإسلام باجتهاد جديد، ودعا إليه في إنكلترا بغيرة وعزم شديد، وقد ذاكرني الكاتب في هذا الموضوع مرارًا، وكذلك رفيقه الدكتور عبده أفندي إبراهيم، فأشرت عليه بعد البحث في كثير من جزئياته أن يكتب ما يراه لعرضه في المنار على العلماء والباحثين، فننظر ماذا يقولون ثم نقفّي عليه بما نعتقده. فنحن ندعو علماء الأزهر وغيرهم لبيان الحق في هذه المسألة بالدلائل ودَفْع ما عُرِضَ دونه من الشبهات، فإن المحافظة على الدين في هذا العصر لا تكون بالنظر في شبهات الفلسفة اليونانية أو شذوذ الفِرَق الإسلامية التي انقرضت مذاهبها، وإنما تكون بإقناع المتعلمين من أهله بحقية الدين ودفع ما يعرض لهم من الشبهات على أصوله وفروعه الثابتة، وأهونها ما يعرض للمعتقدين المستمسكين ككاتب هذه المقالة، فإنني أعرفه سليم العقيدة مؤمنًا بالألوهية والرسالة على وفق ما عليه جماعة المسلمين مؤديًا للفريضة، وإنما كان إقناع مثله أَهْوَن على علماء الدين؛ لأنه يعد النص الشرعي حُجة فلا يحتاج مُناظره لإقناعه بالألوهية والرسالة ليحتج عليه بنصوص الوحي.
وإني أعجل بأن أقول: إن أظهر الشذوذ في كلامه ما قاله في مسألة الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبين للتنزيل بقوله وفعله، كما ثبت بنص القرآن وقد تواتر عنه ما يفيد القطعَ بأن الصلاة المفروضة هي ما يعده جميع المسلمين اليوم فرضًا، والكاتب لم يستغنِ عن السنة في بيان دعواه أن الفريضة ركعتان وغير ذلك، ولا أطيل في المسألة الآن، وإنما ذكرتها لئلا تعلق شبهتها بأذهان بعض القراء فيطول عليهم العهد بالجواب عنها، وسنفصل القول في الموضوع بعد أن ننظر ما يكتبه العلماء من بيان ما يجب عليهم أو السكوت عنه، ونحب أن يكون معظم ما يكتب في أصل المسألة لا في الأمثلة التي أوردها والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
رابط تحميل ملف المقال
------------------------------------------------------------------
الرد الأول على مقال صدقي، بعنوان: "الدين كلهم ما جاء به الرسول"(5)
أحمد منصور الباز(6)
حضرت الفاضل المحترم صاحب مجلة المنار
اطلعت على المقال المندرج في الجزء السابع من المنار لحضرة محمد أفندي توفيق تحت عنوان: (الدين هو القرآن وحده) فأدهشني العجب لما رأيته من الفلسفة الخارقة التي لم يسبق لها مثال إذ قرر حضرته هدم دعامة من دعائم الدين واجتث أصلًا ثبتت جذوره في قلوب جميع المؤمنين (ثم إن الكاتب لخص المقال بنحو عشرة أسطر تلخيصًا يمكن النزاع فيه على أنه لا حاجة إليه ثم قال ما نصه).
ولعمري لو لم يكن الرسول مبينًا لأحكام الله التي لم تفصل في التنزيل ككيفية الصلاة في ركوع وسجود وتسبيح وتهليل ومشرعًا لما لم يرد في القرآن حكمه وأن ما بينه أو يشرعه واجب الاتباع تعطلت وظيفته، وكان اقتداء الصحابة به وتعلموهم منه عبثًا وباطلًا، فقل لي بأبيك إذا لم يكن أمر الرسول صاحب الشرع وصاحب الوحي المعصوم من الخطأ والزلل كأمر القرآن والكل من عند الله فما معنى قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، ومعنى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، ومعنى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ومعنى {ومن يعصي الله ورسوله أو يتعدى حدوده يدخله نارا خالدا فيها} ومعنى {وما ينطق عن الهوى}.
قل لي بإنصاف لو لم يبين الرسول كيفية الصلاة التي أمر الله بها من ركوع وسجود أكان أحد من الصحابة يمكنه أن يؤديها على حسب رغبة الله في ركع الركوع المخصص ويزود مرتين في كل ركعة ما أظن ذلك أبدًا ولا أظن أن الكاتب نفسه عرف كيفية الصلاة إلا عن سنة النبي إذ القرآن لم يبين أن يسجد الإنسان مرتين بل أجمل الأمر وترك كيفية التفصيل للنبي. أيريد الكاتب أن يفهم في الدين فهمًا غير ما كان يفهم رسول الله وبذلك يكون الدين أو القرآن (كالأستك) صالح لكل زمان ولا يكون جامدًا متحجرًا كما يقول البعض.
إن قول الله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} لبرهان قاطع على أن سنة الرسول يرجع إليها كتاب الله، وكذا قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} أدله دليل على أن أوامر الرسول ونواهيه واجبة على متبعيه ولا يشتبه عليه أنها نزلت لسبب إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولماذا لم تذكر طاعة الله إلا مقرونة بطاعة الرسول أكان ذلك من باب تعاطف اللفظ على المعنى الواحد فتكون طاعة الله هي اتباع أوامر القرآن وطاعة الرسول أيضًا اتباع أوامر القرآن أم كانت طاعة الله فيما أمر الله به في القرآن وطاعة الرسول فيما بينه من الأحكام التي لم ترد فيه؟! قل لي أي المعنيين أرجح عندك لا أظن إلا المعني الثاني الذي لا يقبل العقل السليم غيره.
وإني واثق أن الكاتب مقتنع بالقرآن حيث جزم بصحته أفلا يقتنع بما سردته له من الآيات ولو كنت أعلم أنه يقتنع بالأحاديث التي لم يستغن عن الاستبدال بها في مقاله لأوردت له كثيرًا من الأحاديث الصحيحة التي تزيل عنه الشبهة كحديث (أنتم أعلم بأمور دنياهم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به) وحديث (ما من نبي من بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريين وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم خلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وحديث (ألا إني أتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدت فيه من حلال فأحلوه وما وجدته فيه من حرام فحرموه. وإنما حرم رسول الله كما حرم الله).
يقول الكاتب أن آية القصر تفيد أن الصلاة المقصورة ركعة واحدة للمأموم، وإني لا أعجب كيف استنتج ذلك لأن الآية لا تفيد ركعة ولا اثنتين ولا ثلاثة لأن الله يقول ﴿فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم﴾ ولفظ سجد لا يفيد ركعة ولا غيرها.
أما ما يقوله من أن النبي كان يواظب على أعمال من العبادة كثيرة ولم يقل أحد بوجوبها مما يدل على أن المواظبة على الشيء لا تقتضي وجوبه فهو مردود لأنه بيَّن لأصحابه الواجب والمندوب وجرى على ذلك نحو أربعمائة ألف مليون مؤمن كذلك من عهده إلى وقتنا هذا من غير أن يشذ منهم واحد وإني أخجل أن أقيم على ذلك دليلًا بأن إثبات البديهيات من المشكلات أفلا يقنع حضرته ما أقنع أولئك الملايين.
يقول أن النبي لم يأمر بكتابة الأحاديث في عهده كما أمر بكتابة القرآن مما يدل على أنه لم يرغب أن يبلغ عنه شيء من غير القرآن وهذا أيضًا مردود لأنه كان أمر بكتابة القرآن أمرًا كثيرًا يحفظ مما يقول ويفعل روري عنه هذا وقد حُفظت أحاديث في صدور الرجال الذين حفظوا القرآن وحرصوا عليها حرصًا شديدًا حتى إن الواحد من أصحابه كان لا يعمل عملًا إلا ويستشهد عليه بجملة أحاديث، وقد خلف من بعدهم رجال دونوها في الكتب كما دونوا القرآن وحرروها رواية ودراية حتى ضرب بهم المثل في شدة التحري لسنة الرسول، (راجع مصطلح الحديث وتاريخ البخاري وغيره) وجعلوا لها مراتب يعمل بحسابها في الأحكام حتى صار اشتباهها بأحاديث الكاذبين محال (كذا).
وما كنت أظن ولا يخطر ببالي أن حضرة الفاضل صاحب المنار يذاكر الكاتب في هذا الموضوع ولا يقنعه وهو ابن بجدتها ويأمر بعرض مقاله في المنار مع خلوه من الفائدة لأن هذا يعد خلق مشاكل جديدة بين المسلمين وليس هذا ما يتناول الاجتهاد المزعوم ولعمري إذا كان فتح باب الاجتهاد يجر إلى ذلك فسده بالطين واجب!
ماذا يا حضرة الفاضل تطلب من الأزهريين وغيرهم من العلماء؟ أتطلب دليلًا منهم على أقوال الكاتب الفاسدة بعدما قال الله تعالى {وما آتاكم الرسول} ...إلى آخره؟، وهل بعد ما أمر الله صراحة كلام إلي أحد؟! وهل بعد إجماع الملايين من العلماء على ذلك محل استفهامي والسؤال؟ كلا!
هذا وأرجو يا حضرة الراشد المرشد سد باب مثل هذه المواضيع ونشر هذه العاجلة التي لا أكتب بعدها أبدًا في هذا الموضوع وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين للاهتداء بهدي الكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين.
****
تعليق المنار
حذفنا من هذا المقال ما لخص به كاتبه المقال الذي يرد عليه، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه، وحذفنا منه نحن ستة أسطر أخرى ينكر بها الكاتب ما قاله الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في اختلاف الأمة في فهم الدين، وإنما حذفناها لأنه لم يلتزم فيه ما يجب في المناظرة، وأنها ليس فيها شيء من القوة؛ إذ مضمونها أن الأمة اتفقت على الشهادتين وسائر الأركان الخمسة وليس هذا نفيًا لاختلاف الأمة ولو كنت أجيز لنفسي مناقشة أحدًا من المتناظرين في أثناء المناظرة لذكرته بالأحاديث التي نطقت بأن الأمة ستفترق وبخلاف الفقهاء والمتكلمين وبأن الرجل لم يقل بأنهم اختلفوا في كل أصل وفرع.
أما تعجب الكاتب من عدم إقناع صاحب هذه المجلة للدكتور صدقي ومن حمله على كتابة رأيه في المسألة ونشرنا إياه فله وجه؛ ومن أسباب ذلك أنه لم يتفق له أن ذاكرني في ذلك إلا وأنا مشتغل بالكتابة اشتغال لا مندوحة عنه، وأنني أعلم أن من الناس من يعتقد مثلًا اعتقاده في ذلك فلهذين السببين ولاعتقادي أن الإنسان إذا كتب ما يخطر له فإن هذه الخواطر تنتقل بالكتابة من حيز الإجمال والإيهام إلى حيز التفصلة والجلاء حتى إنه كثيرًا يظهر للكاتب الخطأ فيما كان يعتقد عند كتابته له وكنت أريد أن أبين له رأيي فيما يكتبه قولًا لا كتابة ولكنه اقترح أن ينشر ذلك ليعرف رأي علماء العصر فيه فنشرناه ليكون الرد على ما فيه من خطأ وشذوذ ردًّا على كل من يرى هذا الرأي.
وقد حدثنا بعض كبار شيوخ الأزهر وأذكياء المجاورين أن أهل الأزهر اهتموا بذلك المقال وتحدثوا بالرد عليه وأنهم ظنوا أن المنار ربما يتعقبهم ويرد عليهم فقلنا لهم أننا لا نرد على أحد ولكننا ربما نكتب في الموضوع شيئًا بعد انتهاء المناظرة لا نذكر فيه أحدًا من المتناظرين ولا نرد عليه ثم بلغنا إن بعض الأستاذين قد شرع في الكتابة بالفعل ونحن لا نشترط على من يكتب إلا نزاهة العبارات وسلامتها من الطعن والتهكم عملًا بأدب القرآن الحكيم {وإن أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}.
رابط تحميل ملف المقال
--------------------------------------------------
أصول الإسلام
(الكتاب-السنة-الإجماع-القياس)(7)
الشيخ طه البشري
جاءنا من الشيخ طه البِشْري الأستاذ المدرس بالجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما يأتي:
إلى الدكتور النطاسي محمد توفيق أفندي صدقي:
بعد أن نحمد الله إليك ونصلي على نبيه المجتبى ورسوله المصطفى وآله وصحبه:
فلقد قرأنا مقالتك التي ذهبت فيها إلى أن الإسلام هو القرآن وحده، ونشدت من العلماء من يساجلك القول ويبادلك الحجة حتى ينتهي البحث إلى الحق الذي لا شبهة فيه، فإذا كنت مصيبًا تابعك وأيَّدك أو مخطئًا خالفك وأرشدك، وإني مناظِرك إن شاء الله تعالى بما لا ترى فيه حرجًا عليك من إلزامك بما قال زيد ورأى خالد، لكن بالكتاب نفسه أو بما رأيت فيه حجة لنفسك من غيره ملتزمًا جهد المستطيع حد المناظرة الصحيحة حتى تبلغ منزلة الحق الذي ننشده جميعًا فإما تهدّيًا إلى وفاق، وإلا فقد بلغ أحدنا من مناظره عذرًا، وكثيرًا ما ابتدأت المناظرة بالمهاترة، وانتهت بتلاحٍ، والحق ذاهب بينهما أدراج الرياح، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياك من هذا البلاء.
اعلم -وفقنا الله وإياك- أن أصول الإسلام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب فلا تنازع فيه، بل نراك اتخذته وحده التكأة التي تستند في أمر دينك إليها والحجة التي تنافح عن نفسك فيما ذهبت بها.
وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد، وعليه تستند وعنه تصدر وإليه ترجع، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) وليس هناك من معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله، وتفسير مشكله، وغير ذلك من مسائل الدين التي لم يتناولها الكتاب بالنص، ولم ينبسط لها بالبيان ومثله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: ١٥١) . الآية فقال: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَاب} (البقرة: ١٥١) ولو كان المراد مجرد تبليغه لاكتفى بقوله: يتلو عليكم آياتنا، ولا يذهب عنك أن التعليم غير الأداء والتبليغ، ثم عطف عليه بالحكمة، وعطفها على الكتاب يقتضي أنها هنا شيء آخر وليس هناك غير السنة، وقال تعالى في مواضع كثيرة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: ٥٩) وطاعة الله لا شك بالرجوع إلى كتابه، وطاعة الرسول بالرجوع إلى سنته، ولو كان المراد الكتاب وحده لما كان ثمة داعٍ للتكرار، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِث..} (الأعراف: ١٥٧) .. الآية، فنص في هذه الآية الكريمة على الأخذ بما يحل الرسول والتحرج عما يحظر مطلقًا، وقد ثبت أن السنة أباحت كثيرًا وحظرت كثيرًا بدون أي نص أو إشارة خاصة من الكتاب ومع ذلك يجب الأخذ بكل ما جاءت به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:٧).
وقد صرح الكتاب العزيز بأن كل ما أوجب الرسول وأمر، أو نهى عنه وحظر إنما هو من الله تعالى يجب اتباعه ولا يجوز اجتنابه؛ لقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: ٨٠) وقد أكد سبحانه وتعالى على الناس في طاعة الرسول وشدد في مواضع كثيرة من القرآن العظيم بالترغيب في اتباعه ووعد العاملين بأمره بعد أن قرن طاعته بطاعته في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: ٧١) وبتخويف المخالفين لأمره، والمتجافين عن حكمه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣) فمخالفة الرسول -ولا ريب- مخالفة صريحة لأمر الكتاب الصريح.
وقد استدللتَ على أن الإسلام هو القرآن وحده بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} (الأنعام: ٣٨) . وعلى تسليم أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن، فإن أردت أن القرآن لم يفرط في شيء من مسائل الشريعة بطريق النص فلا نستطيع أن نوافقك على هذا احترامًا لمكان الكتاب الكريم من الثقة والصدق؛ فإن القرآن لم يتناول بطريق النص من مسائل الشريعة إلا يسيرًا، وإن أردت أن الكتاب لم يفرط في شيء من الدين على سبيل الإجمال، قلنا: نعم، فإن القرآن لم يفرط في شيء من كليات الشريعة، وأنت خبير بأن ذكرها مجملة ليس كافيًا في استنباط المجتهد ما يقوِّم به العبادة ويحرر المعاملة، على أننا نقول: إن القرآن لم يفرط في شيء من كليات الشريعة وجزئياتها، فإن ما لم ينص عليه الكتاب منها أمر باتباع الرسول فيه، فكل مسائل الشريعة على هذا من الكتاب إما مباشرة وإما باتباع ما يسنه الرسول الأمين.
***
عصمة السنة الصحيحة وأنها من الله قطعًا
لا نحسبك تخالف في أن الرسول معصوم، وأن كل ما يجري على لسانه أو يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي، أو الإلهام الإلهي الصادق، وما كان للرسول أن يشرع شرعًا يتعبد الناس به من عند نفسه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: ٣-٤) فأمر الرسول لا يختلف عن أمر القرآن وكلاهما معصوم، فلا مجال ثمت للسؤال بأنه: هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه الكتاب؟ فإن الكتاب والرسول لا يفرضان شيئًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: ١٢٨). وإنما الذي يفرض هو الله الحكيم، ومظهر هذا الفرض إما أن يجري على لسان النبي العظيم أو يتجلى في لفظ الكتاب الكريم، وليس الأمر بطاعتهما إلا أمرًا بطاعة الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) .. الآية {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: ٨٠) فالرسول عليه السلام هو الواسطة إلينا في نقل حكم الله العظيم قرآنًا كان أو غير قرآن، والقول -نعوذ بالله- بعدم حجية الرسول قول بالأولى بعدم حجية الكتاب؛ فإننا لم نأخذ الكتاب إلا منه، ولم نلقفه إلا عنه وهو أمين الله على وحيه، وبعيثه إلى خلقه وحجته على عباده.
السنة إجمالًا مقطوع بها كالكتاب: لا شك في أن الكتاب مقطوع به ولم يكن هذا القطع إلا من طريقه الذي اتصل بنا منه وهو التواتر، والسنة بالجملة جاءتنا من هذا الطريق بعينه؛ لأن إجماع الأمة من المبدأ إلى الآن منعقد على صحة السنة إجمالًا عن رسول الله، وأنها أصل من أصول الدين كالكتاب، وإذا كان طريق السنة هو بعينه طريق الكتاب لا جرم كان مقطوعًا بها إجمالًا كالقطع بالكتاب تفصيلًا.
قلنا السنة بحسب الإجمال، أما هي الشخص فسيأتي عنها بعض التفصيل في مراتب السنة الصحيحة.
***
عصمة الشريعة كلها
لنا في إثبات هذه الدعوى وجهان:
الأول: الدلائل الدالة على ذلك من الكتاب مثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَه} (التوبة: ٣٢) ونور الله شرعه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩)
ولو فسرنا الذكر بالشريعة كلها، كتابها وسنتها، لكان الأمر ظاهرًا، ولو قصرنا تفسيره على الكتاب لجاءت السنة بطريق اللزوم لما علمت من أنها كائنة لتفصيل مجمله، وتفسير مشكله، ولا معنى لحفظ كليات الشريعة ومجملاتها دون جزئياتها ومفصلاتها التي هي مناط التكاليف وعليها تدور الأحكام.
والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، فإن الله سبحانه كما قيَّض للكتاب العدد الجم من ثقاة الحفظة بحيث لو زِيد فيه حرف واحد لصرفه الآلاف من القارئين، كذلك أقام لكل علم يتوقف عليه فهم الشريعة من الناس من تأدى بعملهم هذا الفرض أحسن الأداء، فمنهم من استنفد السنين الطوال في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة الغراء من القرآن والحديث، وهذا الباب الأول من أبواب فقه الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله على لسان العرب، ومنهم من جدّ في البحث عن تصاريف هذه اللغات في النطق بها رفعًا ونصبًا وإبدالًا وقلبًا واتباعًا وقطعًا وإفرادًا وجمعًا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها الإفراد والتركيب، ومنهم من قَصَرَ عمره -وهو طويل- على البحث عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا الصحيح من السقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في أخذ فلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من الحديث الشريف، فلا محل لدعوى (حصول التلاعب والفساد) في حديث الرسول الكريم، كيف وقد علمت أن السنة شطر الدين، والدين قد جاء إلينا بطريق التواتر القطعي؟! وإذا كان نقلة الكتاب العزيز هم العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ الأمناء فإن الحديث ورواته إن لم يكونوا هم بأعيانهم فإنهم لا يقلون عنهم في العدالة والحفظ والضبط والثقة والأمانة، فمن طعن في صحة السنة فقد طعن في صحة الكتاب أيضًا.
وقد عللت صحة الكتاب وفساد سند السنة بتعاليل نرى من الحتم علينا الإلمام بها جملة ونعقبها بما يكفي لدفعها:
(١) كون متن القرآن مقطوعًا به؛ لأنه منقول عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان.
(٢) كتابة القرآن في عصر النبي عليه السلام بأمر منه.
(٣) عدم كتابة شيء من الأحاديث إلا بعد عهده بمدة كافية في حصول التلاعب والفساد الذي حصل!
(٤) عدم إرادة النبي لأن يبلغ عنه للعاملين شيء بالكتابة سوى القرآن المتكفل بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر: ٩) .. الآية ولو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين لأمر النبي بتقييده كتابةً، ولتكفل الله بحفظه ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه.
ونقول:
(١) أما القطع بالقرآن كله فلا شك فيه، ولكن ليس بما ادعيت من نقله عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، فإن هذا ليس كافيًا في القطع بل هو إنما تحقق بالتواتر اللفظي، وهو الذي استفيد منه عدم الزيادة والنقصان، على أنك إن عددت مثل ذلك موجبًا للقطع يلزمك أن تعد السنة الصحيحة مقطوعًا بها –بحسب الشخص- كلها؛ لأنها جاءتنا أيضًا بلا زيادة ولا نقصان بل ولعُدَّ كل خبر ورد من أي طريق بلا زيادة ولا نقصان - مقطوعًا به وهو غير مُسَلَّم.
(٢) وأما كتابة القرآن بأمر النبي عليه السلام في عصره فلا نزاع فيها أيضًا، ولكن العمدة في القطع به إنما هي بالتواتر كما قدمنا بحفظه في صدور جماعة من الصحابة غير ممكن تواطؤهم على الكذب، والذين يلونهم كذلك ثم الذين يلونهم إلى عصرنا هذا، على أننا لا نهمل ما للكتابة من التوكيد وفوائد أخرى كثيرة:
مثل ترتيب الآيات بعضها إلى بعض بإشارة جبريل عليه السلام، فإن القرآن نزل نُجُومًا على حسب مقتضيات الوقائع لا بهذا الترتيب. ولا يعزب عنك أن ما سطره كُتَّاب الوحي من القرآن ليس بين أيدينا شيء منه الآن، بل نحن لم نقطع بحصول الكتابة في عصر النبي عليه السلام إلا بالتواتر اللفظي المسلسل إلى ذاك العهد الشريف، وهناك تستوي الكتابة وعدمها في صحة النقل مادام مصدرها موجودًا وهو النبي الكريم المبلغ آيات الكتاب الحكيم، فإذا كنت تعد الكتابة التي سجلت في عهده عليه السلام هي الحجة وحدها في القطع بالقرآن، فقد شككت في القرآن المتلوّ طول هذا الزمان في كل بلاد الإسلام. فإننا ومن قبلنا إلى قريب من ذلك العهد الشريف لم نحظَ برؤية شيء من هذا الأثر الكريم! وإذا اعتبرت القطع بالنقل عن ذاك الأثر قلنا: لا نسلم أن هذا موجب للقطع بصحة القرآن؛ إذ إن الكتابة نفسها لا دليل موجب للقطع بأنها من الرسول بل هي في إثبات صحتها ذاتها محتاجة إلى التواتر اللفظي المؤيد يقينًا لصحة العزو، فعلمت أن المدار في القطع بالقرآن هو التواتر اللفظي لا غيره وقد نُقلت إلينا السنة إجمالًا من هذا الطريق، ولا يذهب عنك أن العرب كانت أمة أمية، أكبر اعتمادها في حفظ مأثورها كان على الصدور لا السطور.
(٣) وأما عدم كتابة شيء من الحديث في عهده فهو لا يفيد دعوى التلاعب والفساد، بل ربما كان عدم الكتابة مما يبالغ بالنفس في تأكيد صحة أسانيد السنة، إذ رواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة مع حفظ وسطه وطرفيه أكبر مدفع لدعوى التلاعب والفساد. ثم إنك قلت: (من التلاعب والفساد ما قد حصل) أترمي بذلك السنة الصحيحة المعتد بها، والمعتمد عليها المسطورة في مثل صحيح مسلم والبخاري وموطأ مالك وأمثالها مما أجمعت الأمة على صحته، أو غير ذلك مما نص على ضعفه أو وضعه؟ إن كان الأول فقد طعنت فيما أجمع القوم على صحته في الجملة ومنه القرآن ولا تقول بهذا، وإن كان الثاني فإنا لا نعول منه على شيء.
(٤) وأما دعوى (عدم إرادة النبي عليه السلام لأن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى القرآن) ففي هذه المقدمة -أو شبه المقدمة- نظر، على أننا لو تنازلنا بتسليمها لما نتجت النتيجة التي تريدها، وهي أنه لم يُرد أن يبلغ عنه شيء أصلًا سوى القرآن (طبعًا) والنبي عليه الصلاة السلام أرسل كثيرًا من الرسل إلى الجهات المختلفة ولم نسمع ولا تستطيع أن تثبت أنه كان يقتطع لهم من صحف الكتاب ما يكون (الحجة) في دعوتهم إلى الإسلام أولًا، ويعلمهم أحكامه ثانيًا، ولو كان الأمر كما رأيت ما صح تبليغ أولئك السفراء إلى الدعوة ولا اعتد بإقامتهم بين الناس أحكام الشريعة، نعم يقال: إنه كان يكتفى بمحفوظهم من الكتاب، ونقول إنه كان كذلك يكتفى بمحفوظهم من السنة، وإن قيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم أصحب وفوده إلى الملوك بكتابات مرقومة ورسائل مسطورة، قلنا: إن ذلك لم يخرج عن الإيذان بصحة بعثة أولئك الرسل عن النبي عليه السلام وكل ما فيها لا يجاوز الإلماع إلى الغرض الذي سرحهم إليه، وأما كونه لم يترك أثرًا من الدين مسطورًا إلا الكتاب العزيز فقد علمت أن لا يترتب عليه شيء مما نحن فيه، ولو كان الأمر كما تري فبِمَ كان يتعلم الناس كيفيات الصلاة مثلًا وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام؟! ترى أننا بعد هذا في غنًى من التماس العلل لكتابة القرآن دون السنة؟ فنحن نقيلك من أصل العلة التي أوردتها لذلك وتكلفت مؤنة ردها، ولكنا نناقشك في هذا الرد.
قلت: (فإن قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله. قلت: وكيف ذلك والقرآن مُعْجِزٌ بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله؟!) ونقول: إن إعجاز نظمه لا يتحقق بقدر الآية الصغيرة مثلًا فلا مانع إذن بأن يلتبس هذا القدر من الكتاب بالسنة، أو مثله من السنة بالكتاب، وأنت أوعى وأرشد من أن تنبه إلى المصاب بخروج آية بل آيات متفرقات من القرآن عنه، ودخول أمثالها فيه وليست منه، على أن عدم التباس القرآن بغيره إنما يتحقق في حق العربي الخبير بأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، ولكنه غير متحقق أصلًا في جانب غيره أعجميًّا كان أو من هؤلاء المستعربين.
على أننا نرجع إلى أصل الموضوع فنقول: إن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إنما هي التبليغ من أي طريق كان، وقد قال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) وذلك غير مخصوص بالكتاب بل بكل ما سمع منه قرآنًا كان أو سنة وقد قال تخصيصًا لهذه: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضُّوا عليها بالنواجذ).
أما جواز رواية الحديث بحسب ما يؤديه الفهم فما لم نسمعه إلا منك، فإن المقرر المعروف أن فهم الحديث في ذاته تابع لروايته، لا أن روايته تابعة لفهمه. وإذا كانت روايات الحديث مسوقة حسبما تبلغ الأفهام فأحرى بها أن لا تساق أصلًا. وكيف يجول الفكر ويضطرب الفهم في شيء قبل وروده وتقرره أولًا؟! وإذا أردت بذلك وقوع اختلاف الأفهام في بعض الأحاديث فذلك ضروري كاختلافها في بعض آيات الكتاب سواء بسواء. أما رواية الحديث بمعناه إذا غاب عن الراوي لفظه فجائز؛ لأن المراد منه هو حكمه لا التحدي بنظمه أو التعبد بلفظه. فلا بأس إذن بروايته بأي لفظ يؤدي معناه المراد.
***
فساد دعوى الاستنباط من الكتاب وحده
إن المستنبط من الكتاب مهما صح فهمه وغزر علمه لا بد وأن تعترضه مواضع لا يرى الكتاب مستغنيًا في تقرير الحكم فيها بنفسه، ولا مفصحًا بما يكون بُلغة المهتدي وكفاية الطالب، كأن يرى ثمة لفظًا يتبادل أفرادًا مختلفة الحدود على سبيل البدل لغةً كالقرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: ٢٢٨) فإنه مشترك لغة بين معنيين متناقضين (الحيض والطهر) وهنا لا يسعه إلا ترجيح أحدهما بمرجِّح خارجي وإلا لزم إما التوقف أو التعسف بالترجيح بلا مُرَجِّح، وقد رجَّح الحيض أبو حنيفة بما صح عنده من قوله عليه السلام: (طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان)، فإنه يدل على أن عدة الحرة ثلاث حيض لا ثلاثة أطهار. وكأن يرى المجتهد أيضًا من لفظ الكتاب ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد به اشتباهًا لا يُدْرَك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى شيء آخر كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: ٤٣) فإن الصلاة في اللغة: الدعاء. والزكاة: النماء. فأي دعاء وأي نماء أريد في الكتاب؟!
لابد من تعيين المراد بشيء آخر ولقد عيَّنه النبي وبيّنه بيانًا شافيًا تصديقًا لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) فالمستنبط من الكتاب لما ذكر فيه نفسه من الأحكام (إلا ما كان نصًّا) لم يسعه تبيين المراد منه إلا بالسنة، وهذا فوق الكثير فكيف بما لم تؤمر به في الكتاب مما انعقد الإجماع على وجوبه كواجبات الإحرام ونحوها؟ بهذا تعلم أن الاستنباط من الكتاب وحده والتغني به في كل أحكام الدين مستحيل.
***
مراتب السنة الصحيحة
أثبتنا أن السنة بالجملة أصل من أصول الدين كالكتاب وأنها بهذا الوصف نقلت إلينا نقلًا متواترًا لا شبهة فيه، أما هي بحسب الشخص فمنها المتواتر وهو (ما رواه جماعة لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ويدوم هذا الحد فيكون آخره كأوله وأوسطه كطرفيه) وهو موجب لليقين كالعيان علمًا ضروريًّا فهو كالكتاب في صحة متنه، وصدق عزوه بحيث يكفر منكره قطعًا؛ لأنه جحود للمستيْقَن بأنه من الله – وفيها المشهور (وهو ما كان آحاديًّا في الأصل ثم اشتهر شهرة مستفيضة) – ومنها الصحيح وهو (ما رواه العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ من غير شذوذ ولا علة). وغير ذلك من أقسام السنة الصحيحة كثير.
وإذا كان القاتل يقاد منه بسفك دمه في عرف الشرائع -وما أدراك بحرمة الدم- بمجرد شهادة عدلين، ألا يجب العمل في حكم شرعي بشهادة اثنين أو أكثر من العدول الثقاة الأوفياء من صحابة رسول الله وتابعيهم. بل لو شئت لأوردنا لك ما قال الشافعي حجة لنفسه في العمل بخبر الواحد، بل لأوردنا ما قال الله تعالى حجة علينا في ذلك.
حكم الله بين السنة والكتاب حيث قد ثبت أن السنة الصحيحة شرع من الله تعالى، مُتَعَبَّدٌ بها فيما كان عبادة ومتعبد بحكمها فيما كان معاملة فهي لا تناقض الكتاب مطلقًا ولا دليل هناك على دعوى (وقوع التضارب والاختلاف) بين ما ورد من الأحاديث الصحيحة المعمول بها في شرع الله القويم؛ لأن منشأ هذا التضارب المدَّعى لا يخلو إما أن يكون من الأصل أو النقل أما من الأصل فمستحيل لأنك ولا شك تعترف معنا بوجوب الصدق والفطنة والعصمة لجميع الأنبياء وليس بشيء من هذه الواجبات أن يُحدث النبي في شرع الله بالمتضارب المتناقض، بل هذا -والعياذ بالله تعالى- كذب لا يجوز لمسلم أن يرمي به نبيًّا معصومًا، وأما من حيث النقل فقد بينا لك منه وجه الحجة وقلنا: إن نقلة السنة هم العدول الثقاة. وليس (ولوع المتقدمين بجمع روايات الحديث مدعاة إلى وقوع التضارب والاختلاف فيها) بل هو أدعى إلى حفظها وصيانتها. ولعلك لم يفُتك قراءة شيء من تاريخ أولئك الأخيار العاملين الذين تصرمت أعمارهم في هذا السبيل؛ إذ كان يمضي الواحد منهم الشهر والشهرين والأكثر متنقلًا بين الأقطار والأصقاع تنقُّل البدر بين منازله التماسًا لتحقيق حديث واحد من أفواه الثقاة الأمناء، ولو أنه ظفر به من طريقه بعد طول الجهد ثم اختلج في نفسه أقل شبهة من أحد رواته نفض يديه منه وانقلب إلى أهله خاويًا من ذاك الحديث وفاضه.
وإليك كثيرًا من هؤلاء كالبخاري ومسلم ومالك والشافعي وأضرابهم الذين هم الحجة في نقل الحديث الصحيح المعتد به والمعوَّل عليه وقولك بعد: (إن المجتهدين تحققوا أن أكثر الأحاديث موضوعات!) هو حجة لنا أيضًا؛ لأن تمييزهم للموضوع والضعيف تمييز -ولو بطريق اللزوم- لغيره وهو الصحيح.
قلت: (المجتهدون) وهم إما الصحابة الذين تلقوا الأحاديث بآذانهم عن فمه الشريف بلا واسطة، والحديث في حق هؤلاء لا يختلف إلى صحيح وموضوع وضعيف؛ لأن هذه الفروق إنما هي راجعة إلى قوة السند وضعفه ولا يكون هذا في حال تسمعه من الرسول الكريم، فإن الحديث كله في حق سامعه منه -عليه السلام- صحيح مقطوع المتن كالقرآن، وأما غير هؤلاء ممن لم يتلقَّ الحديث الكريم إلا بالواسطة، وهذه الواسطة إما أن تكون موجبة لليقين كما إذا كانت التواتر أو الظن بالخبر أو كما إذا كانت غيره من الطرق المعتبرة التي أقلها موجب أيضًا للعمل وإن لم يكن موجبًا لليقين؛ إذ التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق أو موجب للحرج على الأقل وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: ٧٨) بل المجتهد ليس مكلفًا فيما إذا كانت الأحكام غير مقطوعة المتون كما في الأخبار الأحادية إلا بالبحث والتنقيب للعمل بالأقرب إلى يقينه وهو الأرجح في ظنه. والأخبار الأحادية الصحيحة تبلغ ولا شك هذا المقدار، فالعمل بها على هذا واجب، وأيضًا كون بعض أحكام الأحاديث ظنية - لأن سندها ليس إلا موجبًا للظن - لا يقدح في وجوب العمل بها كما لا يقدح في وجوب العمل ببعض أحكام الكتاب نفسه التي دلائلها ظنية، وإن كانت مقطوعة المتن، كل مجتهد يحملها على الوجه الذي يؤديه إليه مبلغ علمه وفهمه، فالقول بأن المجتهدين كلهم على حق ليس (قول باجتماع النقيضين) بل المراد أن الحق على فرض كونه واحدًا دائر بينهم وتعيينه في جانب واحد دون الباقين تعسف، بل المراد أن كل مجتهد بحث عن الحق بما في وسعه حتى اهتدى إلى النقطة التي يلزمه اتباعها دون غيرها، وهي التي يقال: إنها الحق بالنسبة له، والذي لا يجوز له التحول عنه، بل الذي خرج ببلوغه من عهدة التكليف، فلا بأس إذن بالقول بأنهم جميعًا على الحق من هذا الوجه.
وليس ثمة تعارض في السنة الصحيحة -كما قلنا- لا للكتاب ولا لبعضها البعض. فإن الوارد فيها إما مُفَصِّل لما أجمل في الكتاب أو مُظْهِر لما خفي أو غير ذلك مما يحويه معني التفصيل والبيان. وأما ما يخالف ظاهره منها الكتاب فكما يرد في كثير من الآيات يخالف بعضه ظاهر بعض فمُؤَوَّل فيه حتى يطابق النص الكريم سواء أخذنا بقول القائلين بنسخ السنة الصحيحة للكتاب إذا صح التعارض وامتنع التطابق أو ذهبنا مع الذاهبين إلى أنه لا شيء من السنة بناسخ للكتاب؛ لأنه لا يقع بينهما التعارض أصلًا، فلا تعارض هناك مطلقًا بين السنة والكتاب أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول ففرق ما بين النسخ وهو إلغاء حكم بآخر- كما في آيتي العدة - والتعارض ببقاء الحكمين المتناقضين جميعًا، ولا قائل به من هؤلاء أو أولئك.
وكذلك يقال فيما يرد من الأحاديث مخالفًا بعضه لظاهر بعض أي أنه يتأول في أحدهما حتى يطابق الآخر أو يكون بعضه ناسخًا للبعض إذا تعارضا ولم يمكن التطابق. فاختلاف المجتهدين راجع إما إلى الاختلاف في الفهم فيما كانت دلالته على الحكم ظنية، وهذا يستوي فيه الاستنباط من الكتاب والسنة، وإما إلى الاختلاف في العلم بأن يتلقى الواحد منهم حديثًا لم يصح عند الآخر - مع طول البحث وفرط الجهد - أو لم يصل إليه علمه أصلًا. وقد يكون أحدهما ناسخًا أو مطلقًا والثاني منسوخًا أو مقيدًا مثلًا، ولا يقال: إن أحدهما على الباطل بعد إذ علمت ما قلنا في هذا السبيل من أن المجتهد مكلف بما يؤديه إليه اجتهاده وإلا للزم الحرج وهو مدفوع على أن هذا ليس خاصًّا بالاجتهاد من السنة بل ومن الكتاب أيضًا كما بينا.
أما خبر: (إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردوه) فغير صحيح على أننا لو سلمنا صحته فلا يمكن أن يكون معناه أن يحدث بما يخالف حكم الله في كتابه وكيف وهو فوق عصمته أبلغ الناس للكتاب حفظًا وأعظمهم لآياته تدبرًا، وأكثرهم لها ذكرًا، فتعين المعنى إذا صح الخبر: إذا روي لكم عني حديث فاشتبه عليكم وجه الحق فيه فاعرضوه على كتاب الله فإذا خالف فردوه فإنه ليس من قولي، والله أعلم.
أما الوارد من الطريق الصحيح فقد عرفت مبلغ القول فيه وسواء صح هذا الخبر أو لم يصح فقد سقط الاستدلال به في هذا المقام، وأيضًا لو كان الأمر كما رأيت من أن هذا الخبر دليل على كفاية القرآن والأمر بعدم قبول شيء من السنة إلا ما وافقه منها نصًّا (طبعًا) لكان كل ما جاءنا من السنة -وهو بمجموعه متواتر لا شبهة فيه- عبثًا تصان عنه أفعال العقلاء فضلًا عن الأنبياء ما دام هو بينة الذي نص عليه صريح الكتاب، ولكان الأليق بمقام الرسول الكريم أن لا يحدث بحديث مطلقًا حتى ولا بهذا الحديث الذي أوردته على فرض صحته، وكذلك خبر: (لو كان -أي الوضوء من القيء- واجبًا لوجدته في كتاب الله) فغير صحيح أيضًا ولو بما أثبت ظاهره بالمعنى الذي فهمته ما أسرعنا إلى رده في الخبر المتقدم ولو صح ما عيينا بتفسيره على ما يوافق إجماع المسلمين على أنه قد وردت السنة الصحيحة الصريحة في ذاك نكتفي منها بخبر واحد معناه أنه سألت سائلة ابن مسعود –ومكانه من العلم والدين والثقة مكانه- إني امرأة أصل الشعر فهل يحل ذلك لي؟ فقال: لا يحل، فقالت: كيف وهذا ليس في كتاب الله؟! فقال: لو قرأت كتاب الله لوجدتيه فيه، فقالت: إني قرأت ما بين الدفتين فلم أجده، قال ألم تقرأي: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: ٧) فهذا في كتاب الله، فقالت: بلى.
* * *
الإجماع
وحجته من الكتاب العزيز أيضًا لقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: ١١٥) وليس هناك من سبيل للمؤمنين غير ما اتفقوا عليه من قضايا الدين ككون فرض الظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا، وكون نصاب الضأن أربعين والبقر ثلاثين ونحو ذلك، وأين وليت وجهك إلى أي فريق شئت في تعريف هذا الإجماع وأهله فهو حجة عليك في كل المسائل التي خالفت إجماع المؤمنين قاطبة عليها.
* * *
القياس
أثبتَّ القياس فكفيتنا مؤنة إثباته غير أنك أنكرت السنة، ومنكرها منكر للقياس بطريق الأولى، على أننا نثبتهما جميعًا.
(تعليق المنار)
لهذه المقالة تتمة عنوانها (العقل والدين) ويليها بقية الرد وقد نشرنا عبارته برمتها على طولها لنزاهتها واستيفائها للمقصد.
رابط تحميل ملف المقال
----------------------------------------------------------------
الإسلام هو القرآن وحده(8)
(ردٌّ لردٍّ)
محمد توفيق أفندي صدقي
نحمدك اللهم يا هادي المسترشدين إلى الحق والصواب، ونسألك أن تؤتينا الحكمة وفصل الخطاب وأن تؤيدنا بروح منك، فإننا لا نعتمد إلا عليك ونصلي ونسلم على نبيك المبعوث رحمة للعالمين، بكتاب مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عليم حكيم (وبعد):
فقد اطلعت على ما كتبه الأستاذ الفاضل الشيخ طه البشري ردًّا عليَّ فيما ذهبت إليه، فسررت جدًّا لغيرته، وشكرته على أدبه ونزاهته، ولكن لما كنت أخالفه في أكثر آرائه اضطررت إلى مناقشته ليظهر لي الحق إن كنت مخطئًا، راجيًا من أهل الإنصاف والعقل أن يكونوا حكمًا بيننا، والله ولي الهداية، المنقذ من الغواية.
قال -حفظه الله-: (وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد وعليه تعتمد) ثم استشهد على ذلك بعدة آيات من القرآن الشريف لم تكن لتخفى علينا من قبل، فلهذا نبدي له رأينا فيها واحدة بعد أخرى: الآية الأولى: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤): (ليس هناك معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله وتفسير مشكله ... ) إلخ، ونقول: لو كان جميع ما ورد في كتب السنة من الأحاديث المعتبرة تبيينًا للقرآن لكان في غاية الإجمال ولَما وصفه الله تعالى بكونه بينًا ومفصلًا في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥)، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (الحج: ١٦)، وقوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: ٣)، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (الأنعام: ١١٤) وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: ١) إلى غير ذلك من الآيات. فكيف وصفه الله تعالى بهذه الأوصاف وهو محتاج إلى كل المجلدات الضخمة (كتب السنة) لتوضحه وتفسره وتفصله؟ وكيف يكون القرآن آية في البلاغة وفيه ما لا يُفهم إلا إذا فسره الرسول بنفسه؟ ألا يستنكف أحدنا أن يكتب للناس كتابًا لا يفهمونه إلا إذا فسره هو لهم؟! فما لك بالقرآن المبين، نعم، قد أطلق القرآن الكلام في مسائل قليلة لتكون عبارته منطبقة على أحوال جميع البشر في كل زمان ومكان، ولكن هذا شيء والإجمال شيء آخر.
ولتوضيح المقام نضرب مثلًا لكلٍّ: فمثال الإجمال قولك: حرم الله الخبائث، وإذا أردت تفصيله تقول: حرم الله الخنزير والخمر والميتة والدم وغيرها. ومثال الإطلاق أن تقول: جاء محمد، وتقييده يكون بنحو قولك: (جاء محمد راكبًا فرسًا في يوم الجمعة)، فالمجمل ما دخل تحته جميع أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المقيد ولكنه يتحملها، أي أن الأول كالجراب الحاوي للمفصل والثاني كجراب غير حاوٍ له ولكنه يسعه، فالقرآن ليس فيه مجمل نحتاج إلى تفصيله إلا وفصله بقدر ما تقتضيه حاجة البشر، ولكنه فيه مطلق لم يتقيد ليقيده أولياء الأمر حسب الحال والزمان والمكان، فإن قيل: لِمَ لا نعتبر السنة تقييدًا لمطلقه بالنسبة للعالمين؟ قلت: لأن النبي لا يعلم حالة البشر في جميع الأزمنة والأمكنة، وإن كان الله تعالى أعلمه بها فلِمَ لَمْ يقيد جميع مطلق القرآن بالقرآن كما قيد بعض مطلقه فيه؟
والخلاصة: إن القرآن بيّن ومفصل تفصيلًا يفي بحاجة جميع البشر بدون احتياج إلى شيء سواه، ولذلك لم يصفه الله تعالى بالإجمال في موضع واحد ووصفه بضده في مواضع كثيرة كما بينا ذلك فيما سبق. إذ لا يمكن أن يكون معنى التبيين المذكور في الآية ما ذكر الأستاذ وإنما معناه الإظهار والتبليغ وعدم كتمان شيء من الكتاب أو إخفائه عن العالمين كما ورد مثل ذلك المعنى في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران: ١٨٧)، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: ١٥)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: ١٥٩-١٦٠) إلى غير ذلك من الآيات، ثم على فرض أن التبيين هنا معناه التفصيل والتفسير للمجمل والمشكل كما يقول، فهل نسمي ما زاد في السنة عن الكتاب مما ليس له أثر فيه تفصيلًا وتفسيرًا أم ماذا؟ وذلك مثل كثير من نواقض الوضوء وقتل المرتد لمجرد الارتداد وتحريم الحرير والذهب وغير ذلك مما لم يشر إليه الكتاب.
الآية الثانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤)؛ أي يُظهر لهم جميع ما أوحاه الله إليه من الدين ويبلغهم إياه مفصلًا وموضحًا بلُغتهم التي يفهمونها وإتيان النبي بهذا القرآن هو كذلك، وليس في الآية ما يدل على أنه يأتي أولًا بالكتاب غير مفهوم ثم يأخذ في تفسيره وشرحه لهم بعبارات أخرى. وهب أن ما يدعونه صحيح فالآية صريحة في أن هذا التفسير والتفصيل هو لقومه الذين نشأ وبعث فيهم -وهو ما ندعيه- وليست نصًّا في أنه كان عامًّا لجميع البشر كما هو ظاهر.
الآية الثالثة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: ١٥١) فتعليم الكتاب هو تحفيظه للناس وتفهيمه لمن لم يفهمه منهم، وتدريبهم على التدبر والتفكر فيه والاستفادة منه وتوجيه أنظارهم إلى ما فيه من الآيات والدلائل والعبر والحكم وحثهم على إدراكها وتصورها وغير ذلك مما قد يفوت بعضهم. وقوله: (والحكمة) عطف تفسير، كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: ٥٣)، والمعنى أن القرآن ذو حكمة كما وصفه بقوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (يس: ٢)، وعلى تسليم أن العطف هنا للمغايرة فليس المراد بالحكمة الشرائع والعبادات ونحوها وإنما المراد الحكم والمواعظ والآداب والفضائل وأنواع التهذيب والتأديب والتثقيف التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم نحو الأمة العربية حتى أخرجها من ظلمات الهمجية إلى نور العلم والمدنية. ونحن لا نرفض شيئًا من ذلك بل نقبله على العين والرأس كما قلنا في المقالة السابقة، والذي ندعيه أن القرآن مشتمل على أمهاتها، ولا أظن أن حضرة الأستاذ يخالفنا في ذلك.
الآية الربعة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: ٥٩) ونحن لم نعارض في ذلك، بل نقول: إن إطاعة الرسول فرض محتم على كل من أمره بشيء، وإنما موضوع البحث هو: هل أوامر الرسول القولية (السنة) خاصة بزمنه أم عامة؟ وبعبارة أخرى هل فرض علينا نحن فرضًا غير ما في كتاب الله تعالى؟ وهل للرسول أن يفرض على من ليس في عصره وبعد تمام القرآن شيئًا زيادة عما فيه؟ أما من كانوا في عصره فله أن يأمرهم بأي شيء يرى فيه مصلحة لهم في دينهم أو دنياهم؛ لأنه رئيسهم وأعظم أولياء أمورهم وأعلمهم بما فيه الفائدة وأرجحهم عقلًا وهو أولى الناس بتطبيق القرآن على حالهم وتقييد مطلقه بما يوافقهم، وطاعتهم له واجبة.
ولو وجه إلينا خطابه لوجبت علينا نحن أيضًا ولعلمنا أن الله أمره بذلك، ولكن دعوانا أنه لم يفعل، فهذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها تشبه من وجه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (الحجرات: ٢) فلو وجد عليه السلام في زماننا لحق علينا امتثال هذا الأمر.
الآية الخامسة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: ١٥٧) فليس في هذه الآية ما يدل على أن الرسول يأمر أو ينهى أو يحل أو يحرم بغير ما في القرآن فمن اتبع القرآن فقد اتبعه في كل ذلك. ولعل ما سقط من هذه الآية في مقالة الشيخ من الطابع لا منه!
الآية السادسة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: ٧) هذه الآية وردت في الفيء ونصها هكذا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: ٧) ومعناها: ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن أخذه منه فانتهوا. يقولون إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي سبب النزول، ولكنا نقول: إن الكلام هنا في السياق لا في السبب، ولو لم يعتبر للسياق لوجب على كل مسلم مثلًا أن يكون دائمًا متجهًا نحو الكعبة في أي عمل يعمله لقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: ١٥٠) ولكن السياق يدل على أن ذلك في قبلة الصلاة فكيف يعتبر السياق هنا ولا يعتبر هناك؟!
سلَّمنا أن آية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: ٧) عامةً في كل شيء وأمر، ولكن هذا لا يفيد مناظرنا الفاضل شيئًا؛ لأننا نقول إن السنة أعطاها الرسول للعرب لا لنا كما سبق، ولو أعطاها لنا لوجب علينا أخذها، وبعبارة أخرى: إن السنة هي خطاب الرسول الخاص والقرآن خطاب الله العام، أما ما أورده بعد ذلك من الآيات فليس فيه شيء جديد ويعرف الجواب عنه مما بيناه هنا. ثم إني أسأل حضرته سؤالًا وهو: ما الحكمة في جعْل بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر سنة؟ مثلًا إذا كان الله تعالى يريد أن كل من كان عنده من المسلمين عشرون دينارًا من الذهب أو مئتا درهم من الفضة وجب عليه أن يخرج زكاتها ربع عشرها في جميع الأوقات وفي جميع البلدان، فلماذا لم يذكر ذلك تفصيلًا في الكتاب كما ذكر المواريث وغيرها؟ وما حكمة الإجمال في بعض المواضع والتفصيل في الأخرى؟
قال حفظه الله: (إن كل ما يجري على لسان الرسول أو يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي أو الإلهام الإلهي الصادق) وهذه العبارة على إطلاقها غلط لا نوافقه عليها؛ لأن بعض أعمال الرسول وأقواله كانت باجتهاد منه عليه السلام ولم تكن وحيًا مطلقًا، وقد عوتب في بعضها؛ لأن الله تعالى لم يقره على غير الصواب والكمال وما كنا نظن أن حضرة الأستاذ نسي ذلك أو تناساه مع أن القرآن الشريف شهد به وكذلك الأحاديث الصحيحة المعتبرة عنده؛ فلذا نلفت نظره إلى ما ذكره المفسرون في مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال: ٦٧) وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: ٤٣)، وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: ١-٢) وإلى غير ذلك من الآيات. حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بكاءً شديدًا من بعض هذه العِتابات. وقد ورد في الحديث أيضًا أن النبي نهى عن تأبير النخل، ولما علم بضرر ذلك رجع عنه وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فالعصمة لله ولكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم: ٣-٥) - فذلك في شأن القرآن خاصة وهو الذي لا يجوز أن يخطئ فيه مطلقًا.
ثم قال الأستاذ ما معناه: إن السنة إجمالًا متواترة وإنها مقطوع بها كالكتاب، ونقول إن أفراد السنة لم يتواتر منها شيء إلا ما كان يعد على أصابع اليد. وإذا لم تكن أفرادها متواترة إلا القليل فلا فائدة في القول بأنها متواترة إجمالًا، بل ولا معنى له ولا يغنينا ذلك من الحق شيئًا. ولم نسمع أحدًا غيره يقول إنها بالجملة مقطوع بها كالكتاب.
وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) هو في شأن القرآن كما يدل عليه ما قبله، ولم تُسَمَّ السنة بالذكر مطلقًا. وكيف نقول: إن هذه الآية تتناولها مع أن الاعتبار الوجودي يكذبنا لا يؤيدنا. فإنه مع عناية المسلمين بها قد تطرق إليها جميع أنواع التحريف بالزيادة والنقص والتبديل، ولا يمكننا مهما بحثنا في تاريخ الرواة وغيره أن نجزم بشيء منها إلا ما تواتر وقليل هو؛ لأن الكذاب أو الضعيف أو المطعون فيه بوجه ما قد يروي أحيانًا ما هو حق وصدق فلا نقبله منه فيحصل النقص في السنة!
وكذلك الثقة قد يخطئ أو يكون ممن تظاهر بالصلاح والاستقامة حتى غرنا فنأخذ الحديث عنه والرسول بريء منه، فيحصل بسبب ذلك التبديل والزيادة في السنة. فهي أشبه شيء بكتب أهل الكتاب، وما نشأ ذلك إلا من عدم كتابتها في عهد النبي عليه السلام وعدم حصر الصحابة لها في كتاب وعدم تبليغها للناس بالتواتر وعدم حفظهم لها جيدًا في صدورهم حتى أباحوا نقلها بالمعنى واختلفت الرواية عنهم لفظًا ومعنًى!
فلو كانت السنة واجبة في الدين لأُمروا أن يعاملوها معاملة القرآن، حتى نأمن عليها من التبديل والزيادة والنقصان، والذي نراه أن ما أجاب به الأستاذ عن هذه المسائل ليس إلا من قبيل المراوغة في البحث تخلصًا من شدة وقْعها على النفس كما يتضح ذلك لمن طالع ما كتبه وكتبناه من العقلاء المنصفين، وهنا نريد أن نسأل حضرته سؤالًا وهو: لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة أقواله في صحف على حدتها، ولأجل التمييز بينها وبين القرآن يكتب عليها ما يفيد أنها أقوال الرسول ويأمر أصحابه بحفظها وتبليغها للناس بالتواتر كما بلغوا القرآن حتى يصل إلينا كتابان لا نزاع فيهما ولا اختلاف؟!
وهَبْ أنه مع العناية التامة بتمييزهما عن بعضهما وبلغت بعض عبارات الرسول درجة الإعجاز فدخلت في القرآن أو دخل شيء من القرآن فيها وحفظ الاثنان بدون أن يختلط بهما شيء أجنبي عنهما حتى وصلا إلينا بالتواتر وبدون أن ينقص منهما شيء -ولو أنهما اختلطا ببعضهما شيئًا قليلًا- أليس ذلك أخف ضررًا من ضياع بعض السنة وعدم الجزم بأكثر ما بقي منها مع العلم بأنها شطر الدين الثاني كما يزعمون؟ وبذلك كان المسلمون يستريحون في القرون الأولى من العناء والتعب في لمها وتمحيصها وهم لم يصلوا إلى النتيجة المرغوبة ولن يصلوا، وكانوا يصرفون همتهم هذه إلى شيء آخر.
واعلم أن زبدة ما أجاب به الأستاذ عما ذكرناه من الفروق بين الكتاب والسنة بعد طول المناقشة هي قوله: (إن المدار في القطع بالقرآن هو التواتر اللفظي لا غيره مما ذكرت) ونقول: إن القرآن لا شك أنه متواتر لفظًا ومعنًى وكتابةً، وهب أن المدار على التواتر اللفظي فقط فأي شيء من السنة وصلنا بمثل ذلك إلا ما شذ وندر؟ وهل يفيدنا ذلك اليسير من السنة المتواترة في شيء من ديننا أو دنيانا؟!
الكلام هنا لا يشمل التواتر العملي ككيفية الصلاة وعدد ركعاتها؛ لأن الأستاذ ينكر علينا قيمة ما عدا التواتر اللفظي كما يفهم من كلامه. وإذا سلم قيمة التواتر العملي فالقرآن أيضًا متواتر عملًا في كيفية كتابته، ولذلك حافظ المسلمون على رسم الصحابة له إلى اليوم، وإذا كان ينكر فائدة التواتر العملي، فبِمَ يعرف عدد ركعات الصلاة مثلًا؟ وهل وصله حديث واحد في ذلك متواتر لفظه؟
الحق أقول: لو كانت السنة واجبة وكانت الشطر الثاني للدين لحافظ النبي عليها هو وأصحابه حتى تصل إلينا كما وصل إلينا القرآن بدون نزاع ولا خلاف، وإلا لكان الله تعالى يريد أن يتعبدنا بالظن والظن لا قيمة له عند الله، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١١٦)، وما أجمل قوله هنا: {أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ} (الأنعام: ١١٦) فسبحان ربك رب العزة عما يقولون.
ولنجمع هنا أعظم الدلائل التي نعتمد عليها في إثبات دعوانا أن السنة كانت خاصة بمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي:
(١) لم تُكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكون أقرب إلى التحريف منها إلى الضبط لو كانت كتبت في عهده.
(٢) نهى صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه سوى القرآن الشريف ولا يمكن تفسير ذلك تفسيرًا مقنعًا بغير ما ذهبنا إليه.
(٣) لم تجمعها الصحابة بعد عصره في كتاب لينشر في الآفاق، ولم يحصرها أحد منهم حفظًا في صدورهم، ولو كانت الشطر الثاني للدين لاعتني بها بذلك أو نحوه.
(٤) لم تنقلها الصحابة إلى الناس بالتواتر اللفظي. وما تواتر لفظه يكاد يكون لا وجود له وهو غير هام في الدين، وتواتره حصل اتفاقًا لا قصدًا منهم.
(٥) ما كانوا يجيدون حفظها في صدورهم كحفظ القرآن، ولذلك اختلفت ألفاظ ما تعددت رواته منهم.
(٦) كان بعضهم ينهى عن التحديث، ولو كانت السنة عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع في ضبطها ولتسابقوا في نشرها بين العالمين، ولما وجد بينهم متوانٍ أو متكاسل أو مثبّط لهم.
(٧) أباحوا للناس أن يرووها عنهم بالمعنى على حسب ما فهموا.
(٨) لم يتكفل الله تعالى بحفظها فوقع فيها جميع أنواع التحريف، ولا يمكننا القطع بشيء منها مما رواه الآحاد وهو جُلها لمجرد عدم معرفتنا شيئًا يجرح الرواة.
(٩) يوجد فيها كثير مما لا ينطبق إلا على العرب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يوافق إلا عاداتهم وأحوالهم كمسألة زكاة الأموال وزكاة الفطر وغير ذلك.
(١٠) يشم من بعض ما وصل إلينا منها رائحة ما ذهبنا إليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يجب الوضوء من القيء: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى).
وإن حصل الطعن في سند مثل هذا الحديث فلا يمكن التعليل عن سبب وجوده بين المسلمين مع أنه يخالف روح مذهبهم، وكيف رووه عن واضعه؟ وهل الواضع له كان يقصد أن يقول بمثل رأينا الحالي؟
إذا سلم ذلك دل على أنه لا إجماع بين المسلمين على وجوب الأخذ بالسنة وإن كان الواضع من غير المسلمين فماذا يهمه إذا أخذ المسلمون بالقرآن وحده أو به مع السنة وخصوصًا في مثل هذه المسألة (مسألة نواقض الوضوء) وهل ذلك يشكك المسلمين في دينهم أو يضعفهم مع أنه يعززهم ويقويهم؟ وكيف أخذ بعض الفقهاء بهذا الحديث، وقال: إن الوضوء لا ينتقض بالقيء مستشهدًا به على مذهبه، فالقول بأن هذا الحديث صحيح أو موضوع لا يكفي لشفاء العلة وإرواء الغلة، بل لابد من البحث والتنقيب.
فهذه أدلتي أوردتها سردًا بالإيجاز ليتدبرها المتدبرون وليتفكر فيها المتفكرون، وأرجو ممن يرد عليَّ أن يترك المراوغة ويجيبني بما يقنعني ويقنعه، وإلا أضعنا الوقت سدى، ولم نصل إلى هدى.
***
الاستنباط من الكتاب وحده
قد أنزل الله تعالى القرآن الشريف بلسان العرب وخاطبهم فيه بما يعرفون وبما يفهمون. فهو وحي الله إليهم مباشرة وإلى العالمين بواسطتهم. وجميع ما فيه مفهوم لهم بدون احتياج إلى تفسير مفسر أو تأويل مؤول. أما الأمم الأخرى التي تأخذ القرآن عن العرب فلابد لهم من معرفة اللغة العربية معرفة تامة وكذا معرفة أحوال العرب وعاداتهم وتاريخهم واصطلاحاتهم حتى يتيسر لهم فهم القرآن على حقيقته. وهم غير محتاجين لمعرفة شيء آخر من أحاديث أو ناسخ أو منسوخ أو قصص أو غير ذلك مما لم أذكره هنا.
وبالاختصار: إن العرب لا تحتاج إلى شيء مطلقًا لفهم القرآن. وغيرهم لابد له أن يقدر على فهمه. أعني أن يصير مثل العرب بتعلم ما ذكرت. ولذا وصفه الله تعالى بكونه لسانًا عربيًّا مبينًا، فلا يرد فيه لفظ لا تعرفه العرب أو اصطلاح لم يعهدوه إلا إذا ذكر ما يفسره، إذا عرفت هذا فاعلم أن اصطلاحات القرآن قسمان: اصطلاحات كانت مستعملة بين العرب قبل نزوله مثل لفظ الحج والإحرام، والبحيرة والسائبة وغيرها، واصطلاحات جديدة لم تكن تعرفها من قبل كلفظ الصلاة والزكاة وغيرهما.
أما القسم الأول، فإذا ذكر الله تعالى منه شيئًا فلا يفسره؛ لأنه معروف ولذلك لم يبين القرآن معنى الإحرام مثلًا ولا كيفيته، وإنما ذكر ما يدل على وجوبه.
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: ١٩٦) فإذا سمع العربي هذا الكلام فهم أن المراد بقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ...} (البقرة: ١٩٦) في هذا المقام النهي عن التحلل قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي يحل فيه ذبحه، وهذا يدلنا على أن الإحرام واجب، ولذلك نهى عن قتل الصيد فيه وشدّد العقوبة على من فعل ذلك وتوعده. ولو لم يكن واجبًا لما كانت كل هذه العناية به. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: ٩٥)، وكذلك ذكر تعالى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ورد على أهل الجاهلية فيها فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (المائدة: ١٠٣) ولم يبين لنا تعالى معاني هذه الألفاظ اعتمادًا على أن العرب تعرفها، ولا يجوز لنا أن نفسر مثل هذه الألفاظ الاصطلاحية بمعانيها اللغوية، بل يجب فهمها كما كانت تفهمها العرب.
وأما القسم الثاني من الاصطلاحات، فإذا ورد في القرآن شيء منه ذكر ما يتبين المراد به، فمثلًا الصلاة وإن كان معناها لغة: الدعاء، إلا أنها في الاصطلاح صورة مخصوصة تستفاد من مجموع آيات القرآن المتعلقة بها ومقارنتها ببعضها مثل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (النساء: ١٠٢)، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: ٢٩)، وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج: ٢٦)، وقوله: {يَا أَيُّهَا ِالَّذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: ٧٧)، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (الإسراء: ١١٠-١١١)، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: ٧٨)، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: ١١٤) مع قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (طه: ١٣٠)، فأمثال هذه الآيات يكمل ويفسر بعضها بعضًا، والذي يفهم من مجموعها أن الصلاة المطالبين بها في القرآن هي ما اشتملت على قيام وركوع وسجود ودعاء وتسبيح وتحميد وتكبير وقراءة قرآن، وأما الزكاة وإن كانت في اللغة النمو أو الطهارة فهي في اصطلاح القرآن: ما يعطى من مال الأغنياء للفقراء وغيرهم على سبيل الوجوب، وقد أشار إلى ذلك بقوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الروم: ٣٨)، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم: ٣٩)، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣)، وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: ١٧-١٨). واعلم أنه كما تستفاد العقائد والشرائع والأخلاق من مجموع القرآن فكذلك العبادات لا بد من أخذها من مجموعه لا من بعضه.
بقي عليَّ مسألة واحدة مما ذكره الشيخ البشري في هذا الباب وهي قوله ما معناه: إنه قد يرد في الكتاب لفظ مشترك بين معنيين متناقضين ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر إلا بالسنة، وأقول: إنه من المستحيل أن يرد في الكتاب لفظ لا يتعين المراد منه إلا إذا كان معنياه يؤديان إلى الفائدة المطلوبة بعينها كلفظ القروء الذي استشهد به حضرته في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} (البقرة: ٢٢٨)، فسواء أريد به الحيض أو الطهر فالنتيجة واحدة، على أنهم قالوا: إن الأصل فيه الانتقال من الطهر إلى الحيض، والترجيح بالسنة لم يؤدِّ إلى النتيجة المرغوبة؛ لأن أبا حنيفة وإن كان أخذ بحديث (طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان) إلا أن غيره لم يبالِ بذلك وأخذ بأدلة أخرى، فقالت الشافعية والمالكية: إن المراد بالقرء الطهر. وهذا هو الذي اشتكينا ونشتكي منه. فيا أيها الفاضل المناظر أتدعونا إلى شيء لم يفدكم أنتم المتمسكين به ولا زلتم مختلفين فيه؟! هذا، ولتعلم أن ما قلته في هذا الباب يعد طعنًا منك في بيان القرآن المبين وبلاغته، فلتستغفر الله تعالى منه ولتتب إليه.
مراتب السنة الصحيحة:
أقر الأستاذ في هذا الباب بأن ما عدا المتواتر لا يفيد اليقين. وأن العمل به عمل بالظن، وقال: إن التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق أو موجب للحرج على الأقل وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: ٧٨)، ونقول: إن الله تعالى لا يتعبدنا بالظن وإلا لما ذمه في كتابه كثيرًا. قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١١٦)، وقال أيضًا: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨) والسياق يدل على أن الآية الأولى خصوصًا واردة في الأحكام لا في العقائد. فكيف يذمه الله تعالى ثم يوجب علينا العمل به؟
وقول الشيخ: (إن التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق إلخ) غلط؛ لأن التكليف بالقرآن في غاية السهولة وليس فيه من حرج. اللهم إلا أن يكون مراده التكليف بالعمل بالسنة على وجه اليقين، فيكون كلامًا حجة عليه لا له. وقد أقر أيضًا في هذا الباب بأن أصحاب كتب الحديث إذا اختلج في نفس أحدهم أقل شبهة من أحد رواته نفض يديه منه وانقلب إلى أهله خاويًا من ذاك الحديث وفاضه، وهذا القول يؤيد ما قلناه من أن السنة حصل فيها نقص كل التأييد، فإن الحديث إذا كان يرفض لأقل شبهة في أحد الرواة فلابد أنهم رفضوا أحاديث كثيرة، ولابد أن بعضها كان صحيحًا في الواقع ونفس الأمر؛ إذ الاشتباه في الراوي لا يمنع من ذلك.
أما دفاعه عن المجتهدين ومحاولته أن يقول: إنهم جميعًا على الحق وإن اختلفوا فمما لا يقبله العقل، فإن الحق واحد وإذا كان مع أحدهم فلا يمكن أن يكون مع مخالفه، وإذا كان مراده أنهم كلهم مثابون على اجتهادهم فأنا لم أعارض في ذلك، ولم يكن هذا موضوع بحثي في مقالتي السابقة.
الإجماع:
استدل عليه بآية وأخطأ في إيرادها ونصها كما قال المنار: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: ١١٥)، وهي كما ترى في غير هذا المقام ولا تناسب ما نحن فيه، وعلى فرض المناسبة نقول: إنه لم يرد في القرآن أن المؤمنين لا يخطئون. أو أن طريقهم واحد ولا يسيرون في طريق الباطل. ولو أورد لنا آية بهذا المعنى لكانت حجة لحضرته. والذي نعلمه أن المؤمنين يجوز عليهم جميعًا الخطأ ويجوز أن يسيروا في طريق الباطل، فمن خالفهم فيه أثابه الله، ومن لم يتبع سبيلهم الحق عذبه الله. فمعنى الآية هكذا: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} (النساء: ١١٥)، أي يعصيه ويخالفه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء: ١١٥)؛ أي: طريقهم الحق، عذبه الله بما ذكر، وإذا سار المؤمنون في طريق الباطل فلا يسمى هذا طريقهم؛ لأنه أمر عارض يخالف طبيعتهم. ولا يزال طريق الحق يسمى طريقهم؛ لأنه هو الذي يحنون إليه بمقتضى فطرتهم ويتطلبونه إذا ضلوا. وهم لم يحيدوا عنه إلا خطأ أو جهلًا، ورجوعهم إليه سهل إذا أرشدوا.
هذا وإني قد تركت بعض مسائل لم أبدِ ملاحظتي عليها في مقالة الأستاذ الأولى خوفًا من التطويل والسآمة؛ ولأن البحث فيها لا يؤدي إلى نتيجة هامة في الموضوع ولا يغير جوهر الكلام.
مبحث الصلاة:
نبدأ الكلام في هذا البحث بذكر بعض مسائل يحتاج إليها القارئ كل الاحتياج
ليفهم حقيقة ما نرمي إليه فنقول:
(١) إن عدد ركعات الصلاة كما وصلنا متواتر عملًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(٢) لو سلمنا أن أصحاب الرسول عليه السلام كانت تعتقد أن الفرض منها ما هو معروف لما ضرنا ذلك شيئًا؛ لأننا نقول: لعل ذلك كان لأن النبي جمعهم على هذه الأعداد المخصوصة وحتمها رغبة منه في كمال النظام وتمام الاتحاد ورفع أي اختلاف بينهم إذ كانوا حديثي العهد بالوفاق والوئام! وليس من خَلَف بعدهم مضطرًا لالتزام ما أمروا هم بالتزامه! فليس حديث ذي اليدين ولا حديث عائشة اللذان أوردهما الأستاذ بمفيدين لنا في هذا البحث شيئًا، على أنهما ليسا بمتواترين ونحن وإن احتججنا بمثلهما على غيرنا لقبوله ذلك لا نقبل الاحتجاج بهما على أنفسنا؛ لأنهما لا يفيدان إلا الظن كما تقدم.
ثم إن الأستاذ لم يجبنا عن السبب في صلاة النبي ركعتين ركعتين مدة إقامته بمكة وجزء من إقامته بالمدينة أي أكثر من نصف زمن الدعوة وأراد التخلص من ذلك بمناقشتنا في بعض ألفاظ حديث عائشة وهو لم يرو كما نقله، ففي البخاري أن عائشة -رضي الله عنها - قالت: (الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر)، هذا الحديث أقرب إلى رأينا في عدم تسمية صلاة السفر قصرًا منه إلى رأيهم وأظهر منه حديث عمر -رضي الله عنه- حيث قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم)، ولذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويلهما والأستاذ يظن أننا أول من أنكر تسمية صلاة السفر قصرًا وتغاضى عن أقوال الصحابة أنفسهم.
(٣) لم يرد حديث واحد متواتر لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا نحن فيه بهذه الأعداد المخصوصة، أما حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهو ليس متواترًا وليس صحيحًا في أمر الركعات. وهب أنه يشمل ذلك فهو خاص بمن في عصر النبي بدليل قوله: (كما رأيتموني). عجبًا منك -أيها الأستاذ البشري- كيف تحتج عليَّ بهذا الحديث وهو غير صريح في المسألة. ولا تحتج به على أبي حنيفة الذي نقلت قوله ويظهر أنك أقررته في أنه يكفي قراءة أي آية من القرآن في الصلاة ولو كانت غير الفاتحة، مع أن النبي وأصحابه أجمعوا على المحافظة على قراءة الفاتحة في كل ركعة وتواتر عنهم ذلك ولم ينقل عن النبي عليه السلام أنه تركها مرة واحدة في أول الدعوة أو في آخرها في سفر أو حضر، فهل المصلي بدون الفاتحة يكون عندك مصليًا كما صلى النبي ولا يكون كذلك من صلى ركعتين بدل الأربع؟ ولماذا ترى أننا خالفنا طريق المؤمنين، ولا ترى أن أبا حنيفة فعل ذلك أيضًا؟! وما السبب في ذهابه هذا المذهب؟ أليس ذلك لأنه يرى أن التواتر العملي وحده لا يكفي إذا لم يصحب بأمر لفظي يفهم منه وجوب الشيء من عدمه ويكون غير قابل للتأويل ولا الطعن فيه.
(٤) لو كان وصلنا أصل الأمر بركعات الصلاة متواترًا لفظه فلربما كنا نجد أنه يدل على أنه خاص بمن في عصر النبي عليه السلام، أو أنه على الأقل لا يدل على العموم.
والإجماع على فهم مخصوص غير حجة علينا، فكم من أشياء فهمناها على غير ما فهمها الصحابة والتابعون. انظر مثلًا إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: ٨٨)، فلو سألت عنه جميع الصحابة والتابعين لقالوا لك هذا يحصل يوم القيامة. مع أن كثيرًا من علمائنا الآن صاروا يقولون إنه حاصل في الدنيا. ولو قال واحد في الزمان الأول: إن النبي أخبر الصحابة بدوران الأرض، لاتفقوا جميعًا على إنكار ذلك وتكذيبه. ولو كانوا رووا القرآن بالمعنى لرووا هذه الآية على حسب فهمهم. ولو لم يصلنا أصل النص لما علمنا أنه يحتمل ما قاله ذلك المخالف للإجماع.
(٥) غير المتواتر يفيد الظن ولا يفيد اليقين كما أقر بذلك الأستاذ البشري فيما سبق، والله لا يتعبدنا بالظن فلو كان الله يريد منا المحافظة على هذه الأعداد المخصوصة لوصل إلينا أصل الأمر بالتواتر، وحيث إنه ما وصلنا دل ذلك على أن الله لا يريد منا إلا المحافظة على ما في كتابه صريحًا أو ما استفيد منه؛ لأن المتواتر غيره قليل وليس في مسائل هامة في الدين كحديث: (أُنزل القرآن على سبعة أحرف) فإنه متواتر في رأي الأكثرين.
إذا علمت كل هذه المسائل فاسمع ملخص البرهان: الأمر بركعات الصلاة إما أن يكون تحريريًّا أو قوليًّا، هو ليس بتحريري، ولم يصلنا أمر قولي متواتر بذلك إذ لم يصل إلينا أمر مقطوع به مطلقًا من الطريق الأول أو الطريق الثاني، فإن قيل: إن التواتر العملي دال عليه وعلى ما هو مفروض قلت: يحتمل أننا إذا نظرنا في أمر الرسول الأصلي وجدناه إما خاصًّا بمن في عصره أو أنه على الأقل لا يدل على أنه عام لجميع الناس في جميع الأزمنة والأمكنة، وإذًا فليس عندنا دليل قطعي على وجوب هذه الأعداد. والله لا يتعبدنا بالظن كما قلنا مرارًا فلو كان يريد منا المحافظة على هذه الأعداد المخصوصة لوصل إلينا أصل الأمر بالتواتر حتى لا يبقى عندنا أدنى ريب وحيث إن هذا الأمر لم يصل إلينا بالتواتر دل ذلك على أن الله لا يريد منا المحافظة على هذه الأعداد والاستماتة عليها وهو المطلوب.
ولنعد الآن إلى إتمام البحث في هذه المسألة فنقول: نازعنا الأستاذ الفاضل فيما استنتجناه من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (النساء: ١٠١، ١٠٢) إلى آخر الآية. فاعلم أن الخطاب بالجمع في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (النساء: ١٠١) إلخ - لا يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه داخل فيه إذ كثيرًا ما ورد الخطاب بالجمع ولم يرد به إلا الأكثرين كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: ٣٥) فالخطاب هنا وإن كان لجماعة المؤمنين إلا أنه لا يشمل الزوجين ولا الحكمين إلا إذا حاولنا التأويل، وهَبْ أن الخطاب يشمل كل فرد فنفي الجُناح لا يستلزم أن القصر واجب على كل فرد في كل صلاة، إذا علمت ذلك تبين لك أن صلاة النبي ركعتين عند الخوف في السفر وهو إمام إن قلنا عنها لم تكن قصرًا لما خالفنا مضمون قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا} (النساء: ١٠١) حتى يتم علينا إلزام حضرة الأستاذ المناظر.
أما قوله إن القيد: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: ١٠١) لا مفهوم له وأنه لبيان الواقع - فمما لا نوافقه عليه؛ لأن الأصل عدم ذلك ومتى أمكن حمل الكلام على وجه يجعل لكل قيد مفهومًا وجب المصير إليه، أما إذا لم يكن ذلك لدليل قام عندنا اضطررنا إلى القول به، وهنا لا دليل يمنعنا من القول بأن هذا القيد معتبر في هذه الآية، وأحاديث الآحاد التي تنافي ذلك هي معارضة بمثلها كقول عائشة وقول عمر اللذين ذكرناهما فيما سبق فإنهما يدلان على أن صلاة السفر ليست قصرًا، فكان القصر هو في صلاة الخوف فقط، وعلى ذلك فإقرارنا بأن القيد في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} (النساء: ١٠٢) إلخ، لا مفهوم له لا يستلزم أن نقول بذلك في كل قيد نراه، والخطاب هنا وإن كان للنبي إلا أنه قد جرت عادة القرآن في كثير من المواقع أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويريده هو وأمته كقول المثل: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ولو قلنا: إن كل خطاب للنبي هو خاص به لأخرجنا الأمة من جزء عظيم من تكاليف القرآن كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: ١٠٣)، وقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩)، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (الإسراء: ٧٨)، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: ١١٠)، الآية، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} (طه: ١٣٢) إلى غير ذلك من الآيات، ولهذا قال علماء الأصول إن كل خطاب للنبي هو أيضًا خطاب لأمته إلا إذا دل دليل على التخصيص، ومما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} (الطلاق: ١)؛ لذلك نقول: إن القيد: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} (النساء: ١٠٢) لا مفهوم له؛ لأن الدلائل قامت على ذلك بخلاف القيد: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: ١٠١)، فإنه معتبر مفهومه لعدم الدلائل القاطعة، ولو كان الحكم في هذه المسألة بحسب اختيار الإنسان وإرادته لحصل التلاعب في فهم أوامر الدين.
أما استشهاده بآية: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ} (النساء: ٢٣) فلا حق له فيه؛ لأن هذه الآية ليست مما يتعين أن يكون القيد فيها لا مفهوم له، بل قال بعض الصحابة وغيرهم بعكس ذلك، قال علي -كرم الله وجهه-: (الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر، ثم فارق الأم بعد الدخول فإنه يجوز له أن يتزوج الربيبة)، وكذلك قال داود من الفقهاء.
وصفوة الكلام في هذا الموضوع أن كل قيد ورد في القرآن يجب أن نعتبر مفهومه إلا إذا منع ذلك مانع قوي كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النور: ٣٣) وكل خطاب للنبي خطاب لأمته إلا إذا قام دليل على التخصيص وكل قيد لم يعتبر مفهومه لعلة فلابد أن يكون هنا من فائدة أخرى لوروده في الكلام، وبذلك ننزه كتاب الله تعالى عن اللغو والعبث والإبهام وعدم البيان.
أما دعواه أن صلاة الخوف لم يقل أحد بأنها ركعة واحدة فيكفينا في الرد عليه أن نحيله إلى تفسير مثل تفسير فخر الدين الرازي وهناك يجد أن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهدًا وغيرهم قالوا إنها ركعة واحدة فقط كما قلنا وهو المتبادر من قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} (النساء: ١٠٢) أي أول سجود؛ لأنه لم يذكر غيره وبه تنتهي الركعة الأولى. ثم تأتي طائفة أخرى لم تصلِّ فتصلي الركعة الثانية خلف الإمام. وتكون كل طائفة صلت ركعة واحدة فقط.
قال الأستاذ المناظر أني استدللت على أن ما بعد الركعتين في الثلاثية والرباعية زيادة عن القدر الواجب بعدم الجهر في القراءة به وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة وبنى على ذلك ما بني ولكن عبارتي لم تكن كذلك ونصها هكذا: (كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة في الركعتين الأخيرتين وإن جهر في الأوليين ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، أفلا يدل ذلك على أن منزلتيهما أقل من الركعتين الأوليين؟!) وشتان ما بين هذا المعنى وذاك. ثم إنه لم يُجب بشيء عن السبب في عدم الجهر وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة مع فعل أحد هذين الأمرين أو فعلهما معًا في الركعتين الأوليين كما جرت به عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا شأن حضرته في أكثر رده علينا فإنه يترك الإجابة عن السؤال نفسه ويشغلنا بغيرها.
انتقد علينا تسمية صلاة السفر (اكتفاءً بالواجب) ونرى أن انتقاده هذا له حق فيه إذا أثبت لنا أن النبي كان يلازم في غضون أسفاره النوافل وعندئذ يمكننا أن نستبدل هذه التسمية بغيرها كقولنا (تقليلًا للنوافل) ولما كانت ركعات الصبح والمغرب قليلة بالنسبة لغيرها كان يصليها عليه السلام في السفر كما اعتاد في الحضر بدون تقليل منها.
هذا ولم يبق بعد ذلك في مقال الأستاذ شيء يحفل به، وفيما ذكرناه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه وألهمنا الفهم لكتابه المجيد، إنه ملهم الأنام هادي العبيد، رب العرش الفعال لما يريد.
تذييل:
نلفت نظر القارئ إلى المسائل التالية، فإن فيها زبدة هذه المقالة والمحور الذي تدور عليه:
(المسألة الأولى) الفروق بين القرآن والسنة القولية هي:
(١) القرآن هو قول الله، والسنة هي قول الرسول.
(٢) القرآن معجز والسنة غير معجزة.
(٣) القرآن متواتر كل جزء منه، والسنة ليست كذلك.
(٤) القرآن أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته في زمنه ولذلك نسميه (التعاليم التحريرية أو الكتاب) والسنة نهى عن كتابتها ونسميها (التعاليم اللفظية).
(٥) القرآن خطاب الله العام، والسنة خطاب الرسول الخاص.
(المسألة الثانية) التواتر العملي لا يدل على الوجوب ما لم يكن مصحوبًا بدليل قولي قاطع، ولذلك قال أبو حنيفة: إن قراءة الفاتحة غير واجبة في الصلاة مع أن ذلك متواتر عملًا عن النبي عليه السلام.
(المسألة الثالثة) القرآن بيّنٌ للعرب لا يحتاج لتبيينه إلى كلام آخر؛ لأنه في منتهى البلاغة ولا يكون ذلك إلا إذا كان إيضاحه فوق إيضاح كل كلام سواه، فلا معنى عندنا للقول بأن الرسول مبين له بسنته القولية.
(المسألة الرابعة) الإيضاح العملي أبلغ من الإيضاح القولي مهما كانت درجته، فالقرآن وإن كان لا يمكن إيضاحه بقول أوضح منه إلا أنه يمكن توضيحه بالعمل، فإن العمل أبلغ من كل قول، وهذا الأمر يدركه من درس بعض العلوم التي تحتاج إلى العلم والعمل كالطب مثلًا، ويدخل تحت ذلك تصوير الإفرنج للمعاني بصور وأشكال يضعونها في كتبهم لتعين القارئ على الفهم.
(المسألة الخامسة) لا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مبين للقرآن بعمله، ولا ننكر أن قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} (النحل: ٤٤) قد يشمل هذا التبيين العملي أيضًا، والذي أنكرناه هو التبيين القولي فقط لما أوضحناه آنفًا، فلا يمكن أن يكون هو المراد بهذه الآية.
(المسألة السادسة) التبيين العملي عندنا قاصر على إيضاح ما في الكتاب وتصويره بالفعل، ولا يشمل ذلك الأعمال التي تزيد عن معنى ما في الكتاب، فكل عمل مبين لما في الكتاب يكون واجبًا إذا دل الكتاب على وجوبه، والذي لم يدل الكتاب على وجوبه أو لم يذكره يكون غير واجب علينا. وبعبارة أخرى: (الواجب على البشر لا يخرج عما في كتاب الله تعالى).
(المسألة السابعة) جُل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد عن أصحابه مفسرًا لآي القرآن لم يصح سنده، ولذلك قال الإمام أحمد: (ثلاثة لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازي)، ولم يرد عنه عليه السلام حديث واحد يعتمد عليه في بيان الناسخ والمنسوخ مع شدة الحاجة إلى ذلك إذا صح ما يقولون (راجع مقالتنا في الناسخ والمنسوخ).
فنرجو ممن يطالع هذه المقالة أن يمعن النظر في هذه المسائل ولا يعميه التقليد عن إدراكها، وبعد ذلك إن شاء أن يرد علينا فليفعل... والسلام على مَن اتبع الهدى!
٢٠ يناير سنة ١٩٠٧ ... ... ... ... ... ... ... ... صدقي
----------------------------------------------------
تعقيب مجلة المنار على مقال صدقي
نشرنا هذه الرسالة بطولها في هذا الجزء رغبة في تقصير مدة هذه المناظرة ونقول الآن في المسألة كلمة مختصرة وربما عدنا إليها في بعض أجزاء السنة الآتية.
كثر الكلام وتشعَّبت المباحث ودخل في طور الجدل أو كاد، وتحرير محل النزاع: هل الإسلام الدين العام لجميع البشر هو القرآن وحده أم هو جميع ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أنه دين؟، قال الدكتور محمد توفيق أفندي في المقالة الأولى (كما في ص ٥١٧ من الجزء السابق) بعد مسألة عدد ركعات الصلاة ومسألة مقادير الزكاة ما نصه: (لا شك عندي أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليس ذلك محلًا للنزاع ولكن محل النزاع هو: هل كل ما تواتر عن النبي أنه فعله وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة وإن لم يرد ذكره في القرآن؟ رأيي: أنه لا يجب).
وذكر في المقالة الثانية ما رأيت آنفًا من الدلائل العشرة على أن السنة النبوية كانت خاصة بمَن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وتارات يقول إنها خاصة بالعرب، وهذه الدلائل كلها تتعلق برواية الحديث إلا الثامن فإنه أمر سلبي، والتاسع فإنه دعوى ممنوعة، والعاشر فإنه رائحة دليل لا دليل.
من البديهي الذي لا يماري فيه عاقل منصف أن الاعتقاد بأن فلانًا رسول الله يستلزم أن يقبل منه كل ما دعا إليه من أمر الدين جميع من أرسل إليهم، فإن كان مرسلًا إلى قوم محصورين وجب ذلك عليهم، وإن كان مرسلًا إلى غير محصورين وجب عليهم متى بلغهم، ومن المعلوم عندنا بالضرورة بحيث لا يتنازع فيه أحد من المتناظرين أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس كافة من كان منهم في زمنه من العرب وغيرهم ومن يأتي بعدهم إلى قيام الساعة، فوجب أن يكون كل ما جاء به من أمر الدين موجهًا إلى جميع من أرسل إليهم في كل زمان ومكان إلا إذا دل الدليل على التخصيص، فهذا أصل بديهي لا نطيل في بيانه ولا في تحرير برهانه.
نضم إلى هذا الأصل أصلًا آخر أظن أن الدكتور لا يمتري فيه وهو أنه لا يعقل أن يفهم جميع من تلقوا الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة أن عمل كذا من الدين وأنه عام لجميع المكلفين ويكون ذلك العمل في نفسه خاصًّا بهم وحدهم أو مع من يشاركهم في وصف خاص كاللغة والوطن؛ لأن هذا لا يتصور وقوعه إلا إذا جاز أن يقصر الرسول في التبليغ والبيان الذي بعث لأجله وهذا مما لا يجيزه مسلم.
فإذا جعلنا هذين الأصلين مقدمتين أنتجتا لنا أن كل ما علم من الدين بالضرورة وأجمع عليه أهل الصدر الأول فهو من الإسلام، لا يعتد بإسلام من تركه ومنه القرآن برمته وهذه الصلوات الخمس وأن ما عدا ذلك محل اجتهاد، فمن بلغه عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء غير مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة وثبت عنده وجب عليه أن يعتده من الدين، ومن وثق بمجتهد وعلم منه أنه ثبت عنده شيء عن الرسول وجب عليه أن يعتده من الدين، فإن كان ثبوته على أنه حتم عمل به حتمًا وإن كان مخيرًا فيه تخير، فإذا سلم الدكتور صدقي بهذه النتيجة سلم من الشذوذ في أصل الإسلام وانحصرت إشكالاته فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن وما تلقاه عنه المسلمون من العمل الذي لم يصل إلى درجة المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وكل ما يصل إليه الاجتهاد بعد ذلك فهو مما يتسع له صدر الإسلام، ولنا فيه تفصيل نرجئه إلى وقت آخر، هذا مجمل ما يقال في أصل المسألة.
أما فروعها فأظهرها مسألة الصلاة، وهذه الكيفية المعروفة عند جميع المسلمين -ويدخل فيها عدد الركعات كعدد الصلوات وهي خمس- مجمع عليها معروفة من الدين بالضرورة. لا ريب في أن جميع الصحابة فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مفروضة بهذه الكيفية والعدد على جميع من يدخل في الإسلام إلى يوم القيامة، هذا ما تلقاه عنهم التابعون وجرى عليه الناس، فإذا أمكن الريب فيه بعد ثلاثة عشر قرنًا كانت جميع معارف البشر عن الماضي أولى بأن يرتاب فيها، بل أجدر بالناس حينئذ أن يكونوا سوفسطائية يشكُّون حتى في المحسوسات!
ليس قصر الصلاة في الخوف ولا في غير الخوف مما يصلح شبهة على كون الصلاة المفروضة هي ما يعرف جميع المسلمين، فإن حال الخوف لها حكم خاص بها لمكان الضرورة، فمنه ما ذكر في سورة النساء وهو ما يحتج به الدكتور صدقي على ما تقدم عنه ومنها ما ذكر في سورة البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (البقرة: ٢٣٩) وهذه كيفية لا ركوع فيها ولا سجود فإذا كان ما في سورة النساء يدل على أن أقل صلاة الخوف ركعة للمأمومين وركعتان للإمام وأقل صلاة الأمن ركعتان لكل مسلم كما قال الدكتور صدقي، فلماذا لا يستدل بما في سورة البقرة على أن الواجب في كيفيتها يحصل بغير ركوع ولا سجود؛ لأنه أقل ما اكتفى به القرآن ويجعل الأمر بالركوع والسجود في آيات أخرى مخيرًا فيه أو مندوبًا إليه أو أمرًا كماليًّا؟ ! ولا يعدم لذلك نظائر في أوامر القرآن.
القواعد العامة في الأديان والشرائع والقوانين توضع للحال التي يكون عليها الناس في الأكثر والأغلب لا للأحوال النادرة والضرورات التي قد يوضع لها أحكام خاصة تسمى رخصًا في عرف أهل الشرع واستثناءً في عرف أصحاب القوانين، وهي لا تُجعل معيارًا على القواعد والأحكام العامة التي هي الأصل. ومن هذا القبيل صلاة الخوف لا يمكن أن يؤخذ منها حكم الواجب في حال الأمن وهي العامة الغالبة.
على أن قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُم} (النساء: ١٠٢) لا يدل على أنهم يصلون ركعة واحدة لا سيما على القول بأن معنى (سجدوا) هنا (صلوا) وهو المتبادر والتعبير عن الصلاة ببعض أعمالها معهود في القرآن والحديث والآثار، ومنه قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: ٧٨) معناه صلاته، بل ورد التعبير عن الصلاة بالتسبيح وهو من أذكارها الخفية لا من أركانها الجلية، وإن قلنا: إن المراد بالسجود العمل المعروف يكون المعنى: فإذا سجد المصلون فليكن الآخرون من ورائهم لئلا يبغتهم العدو وهم ساجدون لا ينظرون إليه، وفعل الشرط لا يقتضي الوحدة بل يصدق بالتكرار وهو المتبادر فيه، فالقرآن لا يدل على عدد الركعات المفروضة في حال الأمن ولا في حال الخوف أيضًا، والأحاديث لا يصح الاستدلال بها عند الدكتور لعدم الثقة بها، فإذا احتج بالسنة العملية وجب عليه أن يتبع سائر المسلمين في الكيفية والعدد وهم قد اتبعوا في ذلك رسول الله كما أمرهم تعالى باتباعه في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: ١٥٨) فهذا الأمر العام الذي خاطب الله به الناس جميعًا لا العرب خاصة يحتم على الناس اتباع محمد رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أمر مطلق حكمه أن يجري على إطلاقه.
يقول الدكتور صدقي: نعم إن اتباعه واجب ولكن على كل قوم أن يتبعوه فيما دعاهم إليه، وقد دعا العربَ إلى الكتاب والسنة ودعا سائرَ الناس إلى الكتاب فقط.
ونقول: لا دليل على هذه التفرقة في الدعوة وإنما السنة سيرته صلى الله عليه وسلم في الهدي والاهتداء بالقرآن وهو أعلم الناس به وأحسنهم هديًا، وإطلاقها على ما يشمل الأحاديث اصطلاح حادث.
فعلم بما تقرر على اختصاره أن أصل دين الإسلام كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما مضت السنة على أنه حتم في الدين فهو حتم، وما مضت فيه على أنه مستحسن مخير فيه فهو كذلك في الدين.
أما سؤال الدكتور لِمَ كان بعض الدين قرآنًا وبعضه سنة؟، فجوابه: إن الدين تعليم وتربية كما قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: ١٥١) والتعليم كان للآيات والكتاب والحكمة التي هي أسرار التنزيل وفلسفته، والتزكية -أي التربية- كانت بالسنة وهي طريقته في الاهتداء والعمل بالقرآن على الوجه الذي تتحقق به الحكمة منه، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب: ٢١)، والأسوة به القدوة به في سيرته وأعماله.
وقول الدكتور: (الحق أقول لو كانت السنة واجبة وكانت الشطر الثاني للدين لحافظ عليها النبي وأصحابه حتى تصل إلينا كما وصل القرآن بدون نزاع ولا خلاف، وإلا لكان الله تعالى يريد أن يتعبدنا بالظن، والظن لا قيمة له عند الله) فيه أن السنة لا معنى لها في عُرف السلف وعُرفنا إلا ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ككيفية الصلاة وكيفية الحج وقد وصل هذا إلينا بدون نزاع ولا خلاف يجعل السنة في جملتها مظنونة، ذلك أن اختلاف الفقهاء في أذكار الركوع والسجود هل هي واجبة أو مندوبة ليس مبنيًّا على اختلافهم في أصلها هل جرى عليه عمل النبي وأصحابه أم لا؟، بل هذا متفق عليه ومثله اختلاف الحنفية مع غيرهم في الفاتحة وما يقرأ بعدها هل يسمى بعضه فرضًا وبعضه واجبًا أو مندوبًا؟ فإن هذا اختلاف في الاصطلاحات وهم متفقون على السنة المتبعة وهي أن النبي وأصحابه كانوا يقرؤون الفاتحة ويقرؤون سورة أو بعض آيات في الصبح والركعتين الأوليين من سائر الفرائض ومن النوافل، وما فعله بعضهم وتركه الآخرون سببه أن النبي فعله تارة وتركه أخرى فهو مخير فيه إلا إذا ثبت أنه تركه في آخر حياته رغبة عنه.
وما اختلفت فيه السنة وهو ثابت يشبه الاختلاف في القراءات ما تواتر من كل منها فهو قرآن وسنة قطعًا وما لم يتواتر فلا حجة فيه على أنه أصل في الدين، وليس في السنة شيء لا أصل له في القرآن، بل كان خُلق صاحب السنة القرآن، ولكن لا نستغني بالقرآن عن السنة إلا إذا استغنينا عن كون الرسول قدوة وأسوة لنا، وذلك فسوق عن هدي القرآن وإهمال لنصه.
بقي في الموضوع بحث آخر هو محل النظر وهو: هل الأحاديث -ويسمونها بسنن الأقوال- دين وشريعة عامة، وإن لم تكن سننًا متبعة بالعمل بلا نزاع ولا خلاف لا سيما في الصدر الأول؟ إن قلنا: نعم، فأكبر شبهة ترد علينا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن وعدم كتابة الصحابة للحديث وعدم عناية علمائهم وأئمتهم كالخلفاء بالتحديث، بل نقل عنهم الرغبة عنه كما قلنا للدكتور صدقي في مذاكراته لنا قبل أن يكتب شيئًا في الموضوع، وقد سألْنا غير واحد من أهل العلم عن رأيه في حديث النهي فما أجاب أحد إلا ببعض ما أجاب به النووي في شرحه لصحيح مسلم وهو غير مقنع لأهل هذا العصر الذين نبذوا التقليد ظِهْريًّا.
فالمنار يقترح على علماء الدين أن يوافوه بما يعلمون وما يفتح عليهم في هذه المسألة وإلا كانوا من كاتمي العلم، وقد علموا ما ورد في الكاتمين. هذا وقد سبق لنا سَبْح طويل في بحث ما تتحقق به الوحدة الإسلامية من الأخذ بالكتاب والسنة، فليراجع ذلك من شاء في مقالات (محاورات المصلح والمقلد) في المجلدين الثالث والرابع من المنار. وقد طبعت هذه المحاورات في كتاب مستقل ثمنه خمسة قروش صحيحة وهو يطلب من مكتبة المنار.
رابط تحميل ملف المقال
(1) في الغالب الذي كان يكتب باسم مجلة المنار صاحبها ومؤسسها الشيخ محمد رشيد رضا (1282 هـ/ 1865م- 1354 هـ/ 1935م)، وهو أحد رواد الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث.
(2) محمد توفيق صدقي، الإسلام هو القرآن وحده، المنار، العدد 7، 23 أغسطس 1906.
(3) محمد توفيق صدقي (1881-1920) طبيب وباحث ومفكر مصري. يعتبر من أوائل القرآنيين في القرن العشرين. عمل بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار فأصبح من أشهر الكُتاب المصريين في عصره. وقد عرفته المجال أسفل عنوان المقال بأنه "الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طرة"!
(4) قوله السنة المتواترة فيه نظر.
(5) أحمد منصور الباز، الدين كله ما جاء به الرسول، المنار، العدد 8، 19 سبتمبر 1906.
(6) نقيب أشراف مركز كفر صقر من طوخ.
(7) طه البشري، أصول الإسلام، المنار، العدد 9، 19 أكتوبر 1906.
(8) محمد توفيق صدقي، الإسلام هو القرآن وحده: رد لرد، المنار، العدد 12، 13 فبراير 1907.