تزدهر حاليًا في حقل العلاقات الدولية في الجامعات الأمريكية نظرية تقول: إن النظم الديمقراطية لا يحارب بعضها البعض وإن اختلفت مصالحها وتباينت سياساتها. بل ويذهب بعض دعاة هذه النظرية إلى حد الزعم بأن هذه النظم أقل نزعة للحرب عمومًا من النظم غير الديمقراطية. ويستدل هؤلاء وأولئك بنماذج من العلاقات بين المدن الإغريقية، والمجتمعات غير الصناعية، والنظم الديمقراطية في العصر الحديث، وذلك لإثبات صلاحية النظرية في كل زمان ومكان. وهم يرون أن سبب عدم وضوح ظاهرة السلام الديمقراطي حتى وقت قريب هو قلة عدد النظم الديمقراطية قبل منتصف القرن العشرين. ووفقًا لهذه النظرية فإن قيام نظامين ديمقراطيين أو أكثر يؤدي تلقائيًا إلى إنشاء منطقة سلام دولي في عالم تسوده الحروب ولا تخضع دوله لسلطة سياسية عليا واحدة[1]. وتشبه هذه النظرية إلى حد كبير ذلك التمييز بين داري الإسلام والحرب الذي كان سائدًا في الفكر السياسي الإسلامي في زمن قوة الدول والممالك الإسلامية.
السلام والديمقراطية: مفاهيم غير منضبطة
إن فكرة السلام الديمقراطي كما يطرحها القائلون بها تفتقد التحليل التاريخي وضبط مفهومي السلام والديمقراطية وهما المفهومان المحوريان في هذه النظرية. إذ تغيب عن أدبيات هذه النظرية أية مناقشة جادة لمعنى السلام وماهية الديمقراطية ومعاييرها. فالسلام عند هؤلاء المنظرين هو مجرد غياب حالة الحرب بين دولتين، أو بالأحرى امتناع دولتين عن استخدام القوة العسكرية بشكل صريح في علاقاتهما تجاه بعضهما البعض. وبالنظر إلى ثنائية تصنيف العلاقات بين الدول إلى حالتي السلم والحرب، فإن جميع الأعمال العدائية بين الدول التي لا تأخذ صورة الحرب المسلحة تندرج ضمنيًا تحت مفهوم السلام عند دعاة السلام الديمقراطي. وهكذا يمكن أن تفرض دولة عقوبات اقتصادية صارمة على دولة أخرى دون أن تعتبر في حالة حرب معها.
أما مفهوم الديمقراطية في هذه الأدبيات فهو أقل وضوحًا وانضباطًا من مفهوم السلام، وذلك لعدة أسباب:
فأولًا يصنف معظم منظري السلام الديمقراطي نظم الحكم تصنيفًا ثنائيًا باعتبارها إما ديمقراطية أو غير ديمقراطية، في الوقت الذي يصفون فيه الديمقراطية بأنها مجموعة من القيم والمؤسسات والسلوكيات والإجراءات، وهو ما يتطلب تصنيف نظم الحكم تصنيفًا غير ثنائي باعتبارها تقترب من أو تبتعد عن النموذج الديمقراطي[2].
وثانيًا، ليست الديمقراطية التي يتحدث عنها منظرو السلام الديمقراطي سوى ديمقراطية إجرائية تتجاهل جوهر ما في الديمقراطية من قيم وسلوكيات، فهم يعتبرون ضمنيًا أن قواعد الديمقراطية وإجراءاتها أهم من مضمونها ومخرجاتها. فعلى سبيل المثال، بدلًا من التأكيد على محورية قيمة محاسبة الحكام باعتبارها شرطًا ضروريًا في أي نظام ديمقراطي، يختزل هؤلاء المنظرون تلك القيمة -بحجة ضرورة تعريفها إجرائيًا- إلى عملية إجراء انتخابات دورية ونزيهة. وهكذا فإنهم لا يعترفون بتجارب أمم أخرى نجحت في تطبيق قيمة المحاسبة دون اللجوء إلى إجراء انتخابات دورية ونزيهة، ويغضون الطرف عن أوجه قصور هذا الأسلوب في إخضاع الحكام للمحاسبة. ولعل أخطر ما في هذا الاختزال هو الرفض الضمني لتعدد تطبيقات الديمقراطية وتنميطها وفقًا للنموذج الذي تطور في الغرب في العصر الحديث.
وبسبب الإفراط في الاهتمام بقواعد اللعبة الديمقراطية دون مضمونها يصنف منظرو السلام الديمقراطي بعض نظم الحكم التي تنتهك قيمًا ديمقراطية أساسية -لكن دون انتهاك قواعدها الإجرائية- على أنها نظم ديمقراطية. ولعل المثال الصارخ على ذلك هو الادعاء بأن نظام الحكم العنصري الاستعماري في إسرائيل نظام ديمقراطي. ويتجاهل هؤلاء المنظرون وضع الأقلية العربية التي تمثل ما بين 15 و20 في المائة من عدد السكان والتي خضعت للأحكام العرفية لفترة طويلة من الزمن، ولا يزال أفرادها يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية ويحرمون من كثير من الحقوق السياسية والخدمات الاجتماعية كنتيجة مباشرة لإصرار المؤسسة الحاكمة على تعريف إسرائيل بأنها دولة الشعب اليهودي[3]. ويبلغ التحيز لإسرائيل في هذه الأدبيات مداه في تبرير بعض الباحثين قولهم إن الحرب السورية - الإسرائيلية عام 1948 التي كانت جزءًا من حرب فلسطين لا تمثل خروجًا عن نظرية السلام الديمقراطي لأن الديمقراطية في سوريا لم تكن قد استقرت بعد، ويتجاهلون أن إسرائيل في ذلك الوقت لم يكن لديها أية مؤسسة ديمقراطية على الإطلاق، على الأقل بسبب حداثة نشأتها[4].
وثالثًا، يصنف منظرو السلام الديمقراطي نظم الحكم بأثر رجعي، فيطلقون صفة الديمقراطية على نظم لم تكن في بادئ عهدها كذلك ولكنها أصبحت ديمقراطية فيما بعد. فمثلًا يعتبر معظمهم نظام الحكم في دولة جنوب إفريقيا ديمقراطيًا منذ نشأته، علمًا بأن أول انتخابات متعددة الأعراق أجريت عام 1994. ولعل ذلك مرتبط بما ذكرناه من الإفراط في الاهتمام بقواعد اللعبة الديمقراطية دون مضمونها، إذ شهدت جنوب إفريقيا قبل ذلك العام انتخابات دورية ونزيهة ولكنها كانت قاصرة على الأقلية البيضاء. ولكن ذلك يعني أيضًا أن الديمقراطية في نموذجها الغربي تقبل ازدواج المعايير وتجمع بين قيم متناقضة، ولعل تعامل هذه الأدبيات مع النموذج الأمريكي في الحكم هو أوضح مثال على ذلك. فلا يختلف اثنان من منظري السلام الديمقراطي على أن نظام الحكم في الولايات المتحدة كان ولا يزال نظامًا ديمقراطيًا، دون اعتبار لحرب الإبادة الجماعية التي شنها المستوطنون البيض ضد سكان البلاد الأصليين حتى نهايات القرن التاسع عشر، وتجارة الرقيق وخضوع السود للعبودية في فترة ما بين حرب الاستقلال والحرب الأهلية، وحرمان النساء من حقوقهن السياسية وكثير من حقوقهن الاجتماعية حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتمييز العنصري ضد السود وغيرهم من الأقليات في كافة مناحي الحياة حتى صدور قانون الحقوق المدنية في منتصف ستينيات القرن العشرين. ولم يكن حال كثير من "الديمقراطيات" في أوروبا والعالم الجديد بأفضل من حال نظام الحكم الأمريكي، بل إن كثيرًا من الدول الأوروبية تكالبت على استعمار شعوب أخرى واستغلال ثروات بلادها في وقت كانت توصف نظم حكمها بالديمقراطية. أي إن منظري السلام الديمقراطي يرون أن انغماس نظام الحكم الديمقراطي في ممارسات تنتهك أبسط مبادئ الديمقراطية لا ينفي عنها تلك الصفة ما التزمت بقواعد الديمقراطية وإجراءاتها. ولكن يبدو أن هذا التناقض مقبول فقط من "الديمقراطيات" الغربية وحلفائها مثل إسرائيل وتركيا، بينما يرفض منظرو السلام الديمقراطي إدراج نظم أخرى تراعي إلى حد كبير القواعد الإجرائية للديمقراطية على قائمة النظم الديمقراطية. ومثال ذلك نظام الحكم الحالي في إيران الذي يحرص على إجراء انتخابات دورية نزيهة، ويوازن بين السلطات، ويمنع رئيس الجمهورية من الاستمرار في الحكم لأكثر من فترتين مدة كل منهما أربع سنوات، ولكنه لا يصنف في تلك الأدبيات كنظام ديمقراطي.
وبإيجاز، فإن أقصى ما يعنيه السلام الديمقراطي هو أن نظم الحكم التي أصبحت في فترة متأخرة من تطورها السياسي تلتزم بالقواعد الإجرائية للديمقراطية كما تتحدد في النموذج الغربي تمتنع عن استخدام القوة العسكرية بشكل صريح في علاقاتها تجاه بعضها البعض.
تفسيرات بديلة لظاهرة السلام الديمقراطي
يرى دعاة نظرية السلام الديمقراطي أن سبب هذه الظاهرة هو القيم الأصيلة في الديمقراطية أو قيودها المؤسسية أو كلاهما معًا. ولا ينظرون بعين الاعتبار إلى العوامل الأخرى التي قد تكون وراء هذه الظاهرة من قبيل التقارب الثقافي والجغرافي بين كثير من الدول الديمقراطية، واشتراكها في عضوية كثير من المنظمات الدولية، وميل هذه الدول للتحالف مع بعضها البعض، وتمتعها بوفرة اقتصادية واستقرار سياسي نسبيين. وسنركز هنا على عاملين نرى أن لهما دورًا بارزًا في إفراز تحقيق السلام بين الدول، وهما التشابه الأيديولوجي بين النظم، ونزعة نظم بعينها للحفاظ على الوضع القائم في النظام الدولي.
السلام بين النظم ذات الأيديولوجيات المتشابهة:
إن ظاهرة السلام الديمقراطي هي جزء من ظاهرة أكبر هي ظاهرة السلام الأيديولوجي. فالديمقراطيات لا يحارب بعضها البعض لأن النظم ذات الأيديولوجيات المتشابهة لا تستخدم القوة المسلحة بشكل صريح في التعامل مع بعضها البعض. ولا يقبل كثير من منظري السلام الديمقراطي هذا القول لزعمهم أن عزوف النظم المتشابهة عن استخدام القوة المسلحة في تعاملها مع بعضها البعض هو من خصائص الديمقراطية دون غيرها من الأيديولوجيات. ويدللون على هذا الرأي بالاشتباكات المسلحة عام 1969 بين أكبر دولتين شيوعيتين -الاتحاد السوفيتي والصين- والغزو الفيتنامي لكمبوديا، وكلاهما دولتان شيوعيتان أيضًا[5]. إلا أن دارسي النظامين السوفيتي والصيني يدركون مدى الاختلاف بينهما في تطبيق الأيديولوجية الشيوعية الماركسية إلى الحد الذي يمكن الحديث معه عن شيوعية سوفيتية وأخرى صينية. وقد تبنى النظام الفيتنامي الشيوعية السوفيتية بينما تبنى النظام الكمبودي الشيوعية الصينية حتى قبل تحالف الأول مع الاتحاد السوفيتي والثاني مع الصين. أي أن الاشتباكات المسلحة بين الاتحاد السوفيتي والصين لم تقع بين نظامين متشابهين أيديولوجيًا -رغم اتفاقهما في التسمية والمصادر الأولى للعقيدة السياسي - وكذلك الحال بالنسبة للغزو الفيتنامي لكمبوديا. بل إن الأدعى للملاحظة هو أن الاشتباكات المسلحة بين الاتحاد السوفيتي والصين تمثل الاستثناء وليس القاعدة في العلاقات بينهما برغم ما كان بينهما من عداء شديد.
ولعل ظاهرة السلام بين النظم ذات الأيديولوجيات المتشابهة تتضح أكثر بالنظر إلى عالمنا العربي والإسلامي الذي لا يرى المتشائمون فيه إلا بؤرة للصراع والتوتر. فحسب بيانات مراكز دراسات الحروب، لم تستخدم القوة المسلحة بشكل صريح في العلاقة بين نظامين قوميين عربيين أو نظامين إسلاميين بعد استقلال الدول العربية والإسلامية[6]. فحتى حين بلغ التنافس والعداء بين النظم القومية العربية في مصر وسوريا والعراق ذروته في الستينات لم يحدث أن اندلع قتال بينها. بل إن العدوين البعثيين اللدودين -العراق وسوريا- لم يشتبكا في قتال مسلح برغم تحالف سوريا مع إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية ودعم العراق للمليشيات اللبنانية التي كانت تحارب سوريا خاصة في المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية. ولا شك أن هذه الأعمال العدائية بين النظامين كانت تجسيدًا للصراع المرير بينهما، إلا أنها من وجهة نظر دعاة السلام الديمقراطي لا تمثل خروجًا عن حالة السلم بين الدولتين، وذلك بخلاف اشتراك سوريا في حرب تحرير الكويت عام 1991 الذي يمثل تحديًا حقيقيًا لنظرية السلام بين النظم ذات الأيديولوجيات المتشابهة. لقد حاربت القوات السورية بالفعل القوات العراقية في الكويت، ولكن مساهمة سوريا المتواضعة في هذه الحرب التي اشتركت فيها عشرات الدول تشبه إلى حد كبير مشاركة النظام الديمقراطي الفنلندي في الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا النازية ضد دول الحلفاء التي كانت في معظمها دولًا ديمقراطية، وهو ما يشكل تحديًا مماثلًا لنظرية السلام الديمقراطي. وعادة ما يواجه منظرو السلام الديمقراطي هذا التحدي بالتقليل من شأن مساهمة فنلندا في هذه الحرب ومدى استقلالها عن ألمانيا، وهي حجج قد تنطبق إلى حد كبير على مشاركة سوريا في حرب الخليج الثانية.
وبالمثل، فإن النظم التي يمثل الإسلام أساس توجهها الأيديولوجي لم تستخدم القوة المسلحة بشكل صريح ضد بعضها البعض رغم اختلاف مصالحها وتباين سياساتها. وفي الواقع لا يتجاوز عدد هذه النظم في فترة ما بعد الاستقلال أصابع اليد الواحدة، إذ تشمل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران ونظامي حكم المجاهدين وطالبان في أفغانستان في الفترة ما بين سقوط الحكومة الشيوعية عام 1992 والتدخل الغربي في أفغانستان عام 2001. ولعل مما يدعم نظرية السلام الأيديولوجي هو رفض إيران القاطع للمشاركة في الحملة الدولية لإسقاط نظام طالبان رغم ما كان بينهما من عداء وتنافر. فالعلاقة بين النظامين لم تكن جيدة أبدًا، فإيران كانت السند الرئيس لحزب الوحدة الذي كان عضوًا في التحالف الشمالي الذي كان يسعى دائمًا لإسقاط حكم طالبان. كما أنها كانت على وشك غزو أفغانستان عام 1998 حين اغتيل سفيرها هناك على يد بعض الموالين الحكومة طالبان، إلا أنها عادت وتراجعت عن ذلك، وهو مؤشر آخر على صحة نظرية السلام الأيديولوجي.
السلام بين النظم التي تسعى للحفاظ على الوضع القائم في النظام الدولي:
إن امتناع النظم الديمقراطية عن استخدام القوة المسلحة بشكل صريح ضد بعضها البعض يرجع إلى ميل غالبيتها الساحقة إلى الحفاظ على الأوضاع الدولية القائمة أو قبولها بالقواعد القانونية والسياسية في النظام الدولي أو كليهما معا. فجميع حالات الحروب التي تعجز نظرية السلام الديمقراطي عن تفسيرها -بما في ذلك حالات استخدام القوة المسلحة بشكل غير صريح أو مباشر بين نظامين ديمقراطيين، مثل دعم الولايات المتحدة للجماعات التي كانت تقاتل حكومة نيكاراجوا اليسارية المنتخبة ديمقراطيًا خلال عقد الثمانينات- ترجع إلى رغبة أحد طرفي النزاع في إحداث تغيير سياسي ما في النظام الدولي أو في دولة أخرى دون مراعاة للقواعد السياسية في النظام الدولي.
ولكن لماذا تميل معظم النظم الديمقراطية -خاصة تلك التي تحولت إلى الديمقراطية خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أو ما يطلق عليه هنتنجتون الموجة الأولى للديمقراطية[7]- إلى الحفاظ على الأوضاع الدولية القائمة وقبول القواعد القانونية والسياسية في النظام الدولي؟ هناك إجابتان متكاملتان على هذا التساؤل. فمن جانب، فإن الدول التي تصنف حاليًا على أنها كبرى الديمقراطيات في العالم هي التي أرست القواعد السائدة في النظام الدولي. فالقانون الدولي والأعراف المرعية في المنظمات الدولية ومبادئها الأساسية وقواعد اتخاذ القرارات فيها هي جميعًا من وضع الدول المنتصرة في الحروب الكبرى -خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية- والتي كان معظمها يراعي القواعد الإجرائية للديمقراطية في نظمها السياسية الداخلية. وبالطبع فإن البحث في العلاقة بين تطبيق القواعد الإجرائية للديمقراطية في النظم السياسية والانتصار في الحروب الكبرى أمر يخرج عن نطاق هذه الدراسة ولم يتطرق إليه منظرو السلام الديمقراطي. وهكذا فإن النزاعات بين هذه الدول الديمقراطية تجد طريقها إلى الحل بسهولة نسبيًا وفقًا للقواعد السائدة في النظام الدولي وفي إطار المنظمات الدولية المختصة مثل الأمم المتحدة. أما الدول التي تأخرت عضويتها في المجتمع الدولي -إما لتأخر استقلالها أو امتناع دول كبرى عن الاعتراف بنظامها السياسي أو غير ذلك- فقد حرمت من التأثير الفعال في صياغة قواعد النظام الدولي وبالتالي فهي ترى أن بعض تلك القواعد مجحفًا لها ولا تجد غضاضة في تحديها وذلك في سعيها لتغيير الأوضاع الدولية القائمة التي ترى أنها غير عادلة. فحين تعجز قواعد النظام الدولي عن أن تكون أداة في يد المظلوم لرفع الظلم عنه، يميل المظلوم إلى استخدام القوة لإقامة العدل.
ومن جانب آخر، فإن الدول التي تصنف حاليًا على أنها كبرى الديمقراطيات في العالم هي المستفيد الأول من الوضع القائم في النظام الدولي. فمعروف أن تلك الدول كانت أيضًا كبرى الدول الاستعمارية في العالم التي سعت للاستئثار بخيراته واستغلال الشعوب الأخرى لتحقيق ذلك الهدف، وحين نفضت تلك الشعوب عن كاهلها إفك الاستعمار وجدت نظامًا دوليًا جاهزًا عليها قبوله أو انتظار العواقب، فلم يكن هناك مجال لإعادة تقسيم الغنائم حتى مع الشعوب التي اختارت طريق الديمقراطية. وهكذا تحول كثير منها يأسًا وإحباطًا إلى الحكم العسكري أو الشمولي أو التسلطي، ثم ما لبث بعضها أن انهار إما لأسباب داخلية وإما نتيجة تدخل دول أجنبية من بينها ديمقراطيات كبرى ادعت محاربة تلك النظم باسم القيم الديمقراطية.
* مقال نُشر في مجلة الديمقراطية، العدد 54، أبريل 2014، ص 151-154، ونشرت نسخة أولى منه في مجلة رؤى، العدد 15، 2002، ص 85-88.
** أستاذ زائر وباحث أول، قسم الدراسات السياسية والدولية، جامعة رودس، جنوب أفريقيا.
[1] المزيد من التفاصيل عن نظرية السلام الديمقراطي انظر:
Rudolph Rummel, "Libertarian Propositions on Violence Between and Within Nations," Journal of Conflict Resolution, 29, 3 (1985): 419-455; Bruce Russett, Grasping the Democratic Peace (Princeton: Princeton University Press, 1993); James Lee Ray, Democracy and International Conflict (Columbia: University of South Carolina Press, 1995); Michael Brown, Sean Lynn-Jones, and Steven Miller (eds.), Debating the Democratic Peace (Cambridge: MIT Press, 1996); James Lee Ray, "Democracy: on the Level(s), Does Democracy Correlate with Peace?" in John Vasquez (ed.), What Do We Know About War? (Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2000); Bruce Russett and Harvey Starr, "From Democratic Peace to Kantian Peace: Democracy and Conflict in the International System" in Manus Midlarsky (ed.), Handbook of War Studies II (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2000).
[2] لعل أسلوب تناول راست لمفهوم الديمقراطية في كتابه Grasping the Democratic Peace نموذج لاضطراب هذا المفهوم عند منظري السلام الديمقراطي، فهو يتبنى التصنيف الثنائي لنظم الحكم في الفصل الأول، ثم يصنفها في الفصل الثاني تصنيفًا غير ثنائي باعتبارها تقترب من أو تبتعد عن النموذج الديمقراطي، ثم يصنفها في الفصل الرابع تصنيفًا ثلاثيًا. والخلل المنهجي في هذا التناول واضح، فالكاتب يرصد ظاهرة ويفسر أخرى ويختبر نظريته في ظاهرة ثالثة. ولا ريب أن غياب الاتساق المنهجي في تناول مفهوم الديمقراطية يضع ظلالًا من الشك على مدى صحة وصلاحية نظريته عن السلام الديمقراطي.
[3] المزيد من التفاصيل عن تطبيق إسرائيل لما يسميه مؤيدوها بالديمقراطية العرقية انظر:
Yoav Peled, "Ethnic Democracy and Legal Construction of Citizenship: Arab Citizens of the Jewish State," American Political Science Review, 86, 2 (June 1992).
[4] انظر مناقشة هذه الحالة في:
Nils Peter Gleditsch and Havard Hegre, "Peace and Democracy: Three Levels of Analysis," Journal of Conflict Resolution, 41, 2 (April 1997): 283-310.
[5] انظر تعليق راست على هاتين الحالتين في:
Bruce Russett, Grasping the Democratic Peace, op.cit.
[6] انظر أحدث بيانات مشروع (Correlates of War (COW في:
Meredith Reid Sarkees, "The Correlates of War Data on War: An Update to 1997," Conflict Management and Peace Science, 18, 1 (2000): 123-144.
[7] المزيد من التفاصيل حول نظرية موجات التحول الديمقراطي انظر:
Samuel Huntington, "Democracy's Third Wave," in The Global Resurgence of Democracy, edited by Larry Diamond and Mare F. Plattner (Baltimore and London: The John Hopkins University Press, 1993); The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century (Norman, OK: University of Oklahoma Press, 1991).