أصدرت الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (IAGS) في مطلع سبتمبر 2025 قرارًا رسميًا يقضي بأن سياسات وإجراءات إسرائيل في قطاع غزة «تتوافق مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية» الوارد في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948. وقد جاء القرار عقب تصويت أعضاء الجمعية، ووصفت رئيستها هذه الخطوة بأنها «بيان حاسم من خبراء المجال» يربط بشكل صريح بين عدد من السياسات والعمليات العسكرية الجارية على الأرض وبين المقوّمات القانونية للجريمة المعروفة بـ "الإبادة الجماعية".
يدعو القرار، المؤلف من ثلاث صفحات، إسرائيل إلى «الوقف الفوري لجميع الأعمال التي تشكّل إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة». وتشمل هذه الأعمال: «الهجمات المتعمّدة على المدنيين وقتلهم، بما في ذلك الأطفال، والتجويع، ومنع دخول المساعدات الإنسانية والمياه والوقود وغيرها من المواد الأساسية لبقاء السكان، فضلًا عن العنف الجنسي والإنجابي، والتهجير القسري».
كما يوضّح القرار السلوكيات والأفعال التي اعتبرتها الجمعية متوافقة مع عناصر المادة الثانية، ومنها: قتل أفراد من الجماعة، إلحاق أذى جسيم أو اضطراب نفسي بهم، فرض ظروف معيشية تؤدي إلى الإبادة الجزئية أو الكاملة (بما في ذلك التجويع وحرمان المساعدات الأساسية)، اتخاذ إجراءات لمنع الولادات أو تعريض النساء للعنف الجنسي المرتبط بالتناسل، وأخيرًا التهجير القسري ونقل السكان. وقد أشار القرار بوضوح إلى ممارسات بعينها مثل: «قتل المدنيين بمن فيهم الأطفال»، و«التجويع والحرمان من المساعدات الإنسانية والمياه والوقود»، و«العنف الجنسي والاعتداءات على الخصوبة»، و«الترحيل القسري» باعتبارها عناصر تؤكد هذا التوصيف.
وتندرج هذه الأفعال ضمن الأركان الخمسة المكوِّنة لجريمة الإبادة الجماعية وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، التي تعرّفها بأنها: «أي فعل من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية».
وتشمل الأفعال الخمسة المحددة في الاتفاقية:
أولًا: قتل أعضاء من الجماعة، ويتضمن هذا التعريف القتل المباشر لأفراد المجموعة المستهدفة بناءً على انتمائهم القومي أو العرقي أو الديني.
ثانيًا: إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأعضاء الجماعة، ويشمل هذا التعريف الإصابات الجسدية الخطيرة والصدمات النفسية والعقلية التي تُلحق بأفراد المجموعة المستهدفة.
ثالثًا: إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، ويركز هذا التعريف على خلق ظروف حياتية قاسية ومدمرة بهدف القضاء على المجموعة.
رابعًا: فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ويتعلق هذا التعريف بمنع التناسل والإنجاب داخل المجموعة المستهدفة.
خامسًا: نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى، ويشير هذا التعريف إلى النقل القسري للأطفال من مجموعتهم الأصلية إلى مجموعات أخرى.
الأدلة والوقائع الميدانية:
الحجج العملية والإحصائية التي استندت إليها الجمعية تضمنت الإشارة إلى حجم الخسائر البشرية، والدمار واسع النطاق في البنية التحتية، ونتائج مراقبة الجوع وغياب الإغاثة في أجزاء من القطاع. وهي عناصر وثقتها تقارير إعلامية ووكالات إنسانية عند تفسيرها لظروف المعيشة والقدرة على البقاء في غزة. وربطت الجمعية بين هذا السياق وتوافر القصد (intent) الجزئي أو الكلي لاستهداف مجموعة قومية/وطنية، وهو عنصر محوري في تعريف الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية 1948.
وفي معرض تطبيق التعريفات على الحالة الفلسطينية، أوضحت إميلي سامبل، عضوة المجلس التنفيذي للجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، أن ما تقوم به إسرائيل في غزة «يتماشى مع جميع المعايير المندرجة تحت تعريف الإبادة الجماعية»، مضيفة أن «الجمعية لا تركز على أحدها فقط». ويعني هذا التقييم أن الأفعال الإسرائيلية تندرج ضمن جميع الفئات الخمس المنصوص عليها في الاتفاقية.
كما شددت سامبل على أن «الفارق الجوهري في مفهوم الإبادة الجماعية هو النية الكامنة وراء استهداف مجموعة معينة»، مؤكدة أن «هذا ما يتحقق فيما نشهده، وهو يتجاوز بكثير ما يمكن أن يُعزى إلى الحرب أو الدفاع عن النفس». وهو ما يؤكد أن الأفعال المرتكبة تتخطى نطاق الأعمال العسكرية المشروعة، وتنطوي على نية مبيتة لاستهداف الشعب الفلسطيني.
أما الأدلة والوقائع الميدانية، فإن التقييم العلمي للجمعية يستند إلى ما وثقته مؤسسات مستقلة. ووفقًا للدكتور تيموثي ويليامز، نائب رئيس الجمعية، فإن الوضع في غزة «يستوفي بوضوح المعايير القانونية الدولية لتعريف الإبادة الجماعية». وتشمل الأدلة: مقتل أكثر من 59,000 شخص، وإصابة ما يزيد على 143 ألفًا جسديًا أو نفسيًا، والتدمير شبه الكامل للبنية التحتية بما في ذلك النظام الصحي والأراضي الزراعية والمستودعات، وتضرر نحو 90% من المباني السكنية. وهذه المعطيات تشير، بحسب ويليامز، إلى «نية واضحة لجعل الحياة مستحيلة في قطاع غزة".
ويبرز في هذا السياق استخدام التجويع كأداة للإبادة؛ إذ يركّز التقرير بشكل خاص على هذه الوسيلة. فقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة ارتفاع حصيلة ضحايا «التجويع والحصار الإسرائيلي» إلى 348 شخصًا، بينهم 127 طفلًا، مع «وفاة 9 أشخاص بسبب سوء التغذية خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية». ويُعدّ هذا الواقع تطبيقًا مباشرًا للتعريف الثالث للإبادة الجماعية المتعلق بإخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية مدمرة.
آلية اتخاذ القرار وردود الفعل:
من الناحية الشرعية ومنهجية العمل الجمعي داخل IAGS، أشار تقرير الجمعية إلى أن القرار حاز موافقة 86% من المصوّتين، من بين عضوية تقارب 500 عضو، وذلك مع مستوى محدّد من المشاركة في التصويت. وقد استُخدمت هذه النسبة المرتفعة بين المشاركين كدليل على اتفاق خبراء الحقل على هذا التقييم، رغم أن نسبة الإقبال على التصويت نفسها كانت محدودة نسبيًا قياسًا بإجمالي العضوية، وهو ما لفتت إليه بعض التقارير الصحفية عند تغطية تفاصيل عملية التصويت.
أما على المستوى السياسي، فقد ردّت إسرائيل برفض قاطع لوصف الأحداث بـ«الإبادة»، معتبرة البيان مسيّسًا ومبنيًّا على معلومات مغلوطة، في حين لا تزال هناك إجراءات قضائية دولية جارية (منها قضايا أمام محاكم دولية) تتعلق بتقديم تقييمات قانونية مستقلة لمزاعم الإبادة وجرائم الحرب.
أهمية القرار:
يحمل قرار الجمعية أثرين رئيسيين:
الأول، بُعد علمي وأكاديمي يُضاف إلى سلسلة مواقف صادرة عن منظمات حقوقية وضغوط دولية بشأن ما يجري في غزة؛
والثاني، أثر قانوني وسياسي محتمل، إذ يمكن أن تُستَخدم تصريحات خبراء الإبادة الجماعية لدعم مطالب دبلوماسية وقضائية، أو لمناشدات ترمي إلى منع تصدير الأسلحة ووقف أعمال يُعتقد أنها ما تزال تضرّ بالمدنيين.
وفي نص قراراتها، طالبت الجمعية إسرائيل بوقف جميع الأفعال التي تُشكّل إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية، كما شدّدت على مسؤولية الدول الموقّعة على اتفاقية الإبادة الجماعية في التدخّل لمنع ارتكاب هذه الجرائم أو المساعدة في وقفها.
السياق القانوني الدولي:
يأتي هذا التقييم في إطار قانوني دولي أوسع، إذ تواجه إسرائيل حاليًا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. وكانت جنوب أفريقيا قد رفعت في ديسمبر 2023 دعوى ضد إسرائيل متهمةً إياها بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وفي يناير 2024، أصدرت المحكمة أمرًا احترازيًا حثّت فيه إسرائيل على اتخاذ جميع التدابير الممكنة «لتفادي وقوع إبادة في عملياتها العسكرية بغزة، بما في ذلك توفير مساعدات إنسانية كافية لتجنب المجاعة».
ومن المهم عند قراءة هذا القرار التمييز بين التقييم الأكاديمي/المنهجي الذي يصدر عن خبراء الإبادة الجماعية، وبين مرحلة الإثبات القضائي أمام محكمة دولية مختصة. فالتقييم الأكاديمي يقدّم قراءة مبنية على مؤشرات تاريخية وقانونية وسلوكية، لكنه لا يُعدّ حكمًا قضائيًا نهائيًا. أما الفصل القانوني بشأن ثبوت جريمة الإبادة أو تحديد مسؤولية أشخاص بعينهم، فهو من اختصاص المحاكم المخوّلة التي تطبّق قواعد الإثبات والإجراءات القضائية.
مع ذلك، أضاف قرار الجمعية وزنًا معنويًا ودلاليًا كبيرًا إلى النقاش الدولي حول الوضع الإنساني في غزة وسبل الاستجابة العاجلة.
التأثير الأكاديمي والسياسي:
أشار سيرغي فاسيلييف، أستاذ القانون الدولي في الجامعة المفتوحة بهولندا، إلى أن القرار يعكس أنّ «هذا التقييم القانوني بات سائدًا في الأوساط الأكاديمية، ولا سيما في مجال دراسات الإبادة الجماعية». ويُعد هذا الإجماع الأكاديمي ذا أهمية بالغة في تشكيل الرأي العام الدولي وممارسة الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر حزمًا.
كما أكد الدكتور تيموثي ويليامز أن قرارات الجمعية يمكن أن تُستخدم كغطاء علمي وأساس أخلاقي من قبل البرلمانيين والأكاديميين والسياسيين الساعين إلى تحدي مواقف حكوماتهم، ولا سيما تلك التي تواصل دعم إسرائيل رغم تزايد التقارير الحقوقية.
المصادر:
- Stephanie van den Berg, Israel is committing genocide in Gaza, scholars' association says, Reuters, September 2, 2025, https://reut.rs/4mPENqS
- قرار بالإجماع من “الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية” بشأن غزة.. وحماس تعلق، الجزيرة مباشر، 1 أغسطس 2025، https://bit.ly/45PZigY
- جمعية علماء الإبادة: "إسرائيل" تنفذ جميع أشكال الإبادة الجماعية بغزة.. والاحتلال يرد، عربي 21، 2 سبتمبر 2025، https://bit.ly/4gcYsyy
- الدبابات الإسرائيلية تتوغل في غزة... وعلماء دوليون يؤكدون حصول «إبادة جماعية»، الشرق الأوسط، 1 سبتمبر 2025، https://bit.ly/4m3fnou
- أكبر جمعية دولية معنية بأبحاث الإبادة: إسرائيل استوفت المعايير القانونية لارتكاب إبادة جماعية في غزة، بي بي سي، 1 سبتمبر 2025، https://bbc.in/4ncx9Xb
- هذا ما قالته عضوة جمعية علماء "الإبادة الجماعية" لـCNN حول أفعال إسرائيل بغزة، سي إن إن العربية، 2 سبتمبر 2025، https://cnn.it/4gaVVVt