أعلنت الأمم المتحدة رسميًا وقوع مجاعة في قطاع غزة، ووصفت الوضع القائم بأنّه «كارثة من صنع الإنسان»، محذِّرة من أنّ ما يقارب نصف مليون شخص يواجهون خطر الجوع الكارثي. ويكتسب هذا الإعلان أبعادًا قانونية وإنسانية وسياسية بالغة الأهمية؛ إذ يُذكّر صراحةً بالقاعدة المستقرة في القانون الدولي الإنساني التي تحظر استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، وتُلزم قوة الاحتلال بضمان توفير الإمدادات الأساسية والضرورية لسكان الأراضي المحتلة. وبذلك، فإن الإعلان لا يقتصر على كونه توصيفًا لحالة إنسانية حرجة، بل يُمثل كذلك مؤشرًا قانونيًا ومعياريًا يمكن أن يشكّل منطلقًا لتفعيل آليات المساءلة الدولية وإعادة توجيه الاهتمام السياسي والحقوقي نحو حماية المدنيين وإنقاذ حياتهم.
الوقائع والسياق:
يشير الإعلان الأممي عن المجاعة في قطاع غزة إلى وجود نقص حاد في الغذاء والمواد الأساسية، بما يهدّد بصورة مباشرة حياة المدنيين، مع تقديرات تفيد بأن ما يقارب نصف مليون شخص معرّضون لمرحلة جوع كارثي. وفي هذا الإطار، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة واصفًا الوضع القائم بأنّه «كارثة من صنع الإنسان»، في إشارة واضحة إلى الطابع غير الطبيعي للأزمة وإلى مسؤولية بشرية في تفاقمها.
ومن منظور القانون الدولي، يرى عدد من الخبراء أنّ هذا الإعلان لا يقتصر على كونه توصيفًا لحالة إنسانية بالغة الخطورة، بل يرقى إلى مرتبة تُحوّل الأزمة من مجرد مأساة إنسانية إلى توصيف ذي آثار قانونية، يمكن أن يُفضي إلى مساءلة جنائية دولية. كما يُعدّ الإعلان مدخلًا لإطلاق إجراءات سياسية ودبلوماسية ضد الجهة أو الجهات المتورطة في عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، بما يضع أساسًا لإعمال قواعد القانون الدولي الإنساني وآلياته ذات الصلة بالمساءلة.
الإطار القانوني ذي الصلة
أ. مبادئ القانون الدولي الإنساني (IHL)
حظر التجويع كسلاح حرب: ينص القانون الدولي الإنساني على تحريم استخدام التجويع ضد السكان المدنيين أو عرقلة وصول الإمدادات الأساسية (البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 1977، المادة 54). كما أكدت اتفاقية جنيف الرابعة على أن تدمير المواد الضرورية لبقاء المدنيين أو منعها عنهم يشكل انتهاكًا جسيمًا (اتفاقية جنيف الرابعة 1949، المادة 33 وما بعدها).
التزامات القوة القائمة بالاحتلال: تفرض اتفاقية جنيف الرابعة على القوة المحتلة التزامًا بضمان توفير الغذاء والدواء للسكان، وتأمين مرور المساعدات الإنسانية دون عوائق (اتفاقية جنيف الرابعة 1949، المواد 55–59). والإخلال بهذه الالتزامات يُعد انتهاكًا جسيمًا يمكن أن يرقى إلى جريمة حرب.
ب. القانون الجنائي الدولي (نظام روما الأساسي)
جرائم الحرب: نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن "استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك عرقلة الإمدادات" يُعد جريمة حرب (نظام روما الأساسي 1998، المادة 8(2)(ب)(xxv)). ويُرتب ذلك مسؤولية جنائية مباشرة على القادة السياسيين والعسكريين متى ثبت توافر القصد أو الإهمال الجسيم.
ج. مبادئ مسؤولية الدول وحماية المجتمع الدولي
مسؤولية الحماية (R2P): اعتمد مؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة عام 2005 مبدأ "مسؤولية الحماية" الذي يوجب على المجتمع الدولي التدخل (بالوسائل السلمية أولًا، ثم بوسائل أخرى إذا فشلت) عندما تفشل الدولة أو السلطة القائمة بالاحتلال في حماية السكان من الجرائم الفظيعة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (وثيقة نتائج القمة العالمية 2005، الفقرة 138–139).
البُعد التقني لتعريف «المجاعة» ودلالته القانونية:
تَصدُر اعتبارات إعلان المجاعة عن مؤشرات فنية موحَّدة (مثل تصنيفات IPC والبيانات التغذوية ومعدلات الوفيات المرتبطة بسوء التغذية) التي تعتمدها وكالات الأمم المتحدة المتخصّصة. وعندما تُعلِن جهات أممية أن مؤشرات معيَّنة قد بلغت حدود المجاعة، تصبح تلك الوثائق دليلًا فنيًا مُعتَمدًا يُستخدم في تقييم مستوى الخطر الإنساني، كما تُعدّ مؤشرًا مرجعيًا أمام آليات المساءلة. ومن ثَمّ، فإن الأثر القانوني للإعلان لا يقتصر على مجرد وصف إعلامي، بل يمتد ليشكّل وثيقة تقنية مُؤسِّسة لمعايير تقدير الضرر ولبيان الامتناع عن توفير الإغاثة.
وتكمن قيمة الإعلان كأداة لتيسير المساءلة في أن توثيق الأمم المتحدة لحالة مجاعة يكتسب حجية إثباتية ويوفّر قاعدة مرجعية راسخة للتحقيقات، إذ تعتمد الجهات القضائية والتحقيقية على البيانات الميدانية والمقاييس التغذوية والتقارير المؤسسية لتحديد نطاق النتائج وربطها بالسياسات والإجراءات. وفي هذا السياق، تُنشئ المعلومة الأممية قرينة قانونية تقلّل من مساحة الجدل حول ثبوت النتيجة الكارثية، وتتيح للمحققين تركيز جهدهم على تحديد العلاقة السببية بين النتيجة وبين السياسات أو الإجراءات المسؤولة عنها.
أمّا عن مسارات المساءلة المتوفِّرة ضمن النظام الدولي، فتُشير مصادر أممية إلى أنّها قد تسلك مسارات متوازية:
(أ) تحقيقات جنائية أمام آليات مختصّة عند توفّر الاختصاص والأدلّة (وقد تفضي في بعض الحالات إلى ملاحقات جنائية دولية)،
(ب) دعاوى ومسارات للمسؤوليّة الدولية أمام محاكم أو محافل دولية لمعالجة خروقات الالتزامات المعاهدية،
(ج) آليات أممية مستقلّة للتحقيق والتوثيق تُهيّئ ملفات قابلة للاستخدام لاحقًا من قِبل جهات إنفاذ القانون أو آليات العدالة الانتقالية.
ويُعزِّز الإعلان الأممي عن المجاعة عمليًا إمكانيّة فتح تلك المسارات عبر توفير معطيات فنية وشرعية صالحة لانطلاق عملٍ تحقيقِي موثوق.
أمّا عن صعوبات الإثبات والقيود العملية التي تعترض التحرك القضائي، فعلى الرغم من قوة البعد التقني لإعلان المجاعة، تبقى مسائل الإثبات المتصلة بـ «العنصر المعنوي» (النية أو القصد) وتحديد المسؤولين عن السياسات أو الأوامر التي أفضت إلى النتيجة، عوامل حاسمة لنجاح أي ملاحقات جنائية. كما تُشير جهات أممية إلى تحدّيات ميدانية ملموسة، من أبرزها: صعوبة الوصول الآمن لجمع الأدلة، ضرورة حماية الشهود، وضمان الحفاظ على سلاسل حفظ الأدلة الطبية والإحصائية في مناطق النزاع. لذلك، فإنّ الإعلان الأممي يُعدّ خطوة تأسيسية مهمّة، غير أنّه لا يُغني عن عمل توثيقي منهجي ومعمّق يُشكّل أساسًا متينًا لإسناد دعاوى قانونية ناجعة.
الآثار القانونية المترتبة على إعلان المجاعة:
- تشكيل قاعدة أدلة رسمية: إعلان الأمم المتحدة له قيمة وثائقية قوية، يستخدمها المدّعون أو لجان التحقيق كعنصر إثباتي في إبراز خطورة الوضع وتوافر دلائل على نتائجه الكارثية.
- تحريك آليات المساءلة الدولية: الإعلان يمكن أن يدفع نحو:
- إحالات أو ضغوط على محكمة الجنايات الدولية لفتح تحقيق أو توسيع نطاق تحقيق قائم.
- تشكيل لجان تقصّي حقائق أممية أو تحقيقات دولية مستقلة لتوثيق الانتهاكات.
- مسؤولية القادة: إذا ثبت التعمّد أو الإهمال الجسيم في عرقلة وصول المساعدات أو استخدام التجويع كأداة ضغط، تقع المسؤولية الجنائية على صانعي القرار العسكريين والسياسيين وفق مبادئ القانون الجنائي الدولي.
يُعدّ إعلان الأمم المتحدة عن المجاعة في غزة نقطة تحوّل ذات دلالة قانونية ومعيارية عميقة، إذ لا يقتصر أثره على توصيف حالة الطوارئ الإنسانية، بل يتجاوز ذلك ليقدّم مرجعًا فنيًا معتمدًا يمكن الاستناد إليه في عمليات التوثيق، وفي تعزيز الضغوط الدولية باتجاه تحرّك إنساني وقانوني منسّق. غير أنّ القيمة القانونية للإعلان، وإن كانت راسخة في بعدها التوثيقي، تظل مشروطة بقدرة الفاعلين المعنيين على استكمالها بأدلة ميدانية رصينة تُثبت العلاقة السببية بين السياسات والممارسات من جهة، والنتائج الكارثية المترتبة من جهة أخرى، فضلًا عن ضرورة إظهار القصد الجنائي أو الإهمال الجسيم لدى صانعي القرار السياسي والعسكري. ومن ثمّ، فإن الإعلان يُوفّر أرضية صلبة للشروع في مسارات المساءلة، لكنه لا يغني عن بناء ملف إثباتي متكامل قائم على منهجية دقيقة في جمع البيانات، وحماية الشهادات، وصون سلاسل حفظ الأدلة. وفي ضوء ما تقدّم، فإن الأولوية العملية في المرحلة الراهنة تتمثّل في ضمان إنقاذ الأرواح عبر إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة وصون المرافق والخدمات الأساسية، على أن يُنظر إلى جهود التوثيق الممنهج باعتبارها استثمارًا استراتيجيًا يمهّد لإمكان مساءلة قانونية عادلة وفعّالة في المستقبل.
_______
المصادر:
- Famine in Gaza: ‘A failure of humanity itself’, says UN chief, UN, 22 August 2025, https://bit.ly/4oOoYlL
- UN experts declare famine has spread throughout Gaza strip, UN, 09 July 2024, https://bit.ly/479v0a7
- UNRIC Library Backgrounder: Food Insecurity, UN, https://bit.ly/45RQki3
- ما هو مفهوم ومعايير المجاعة في القانون الدولي؟، مونت كالو الدولية، 4 مارس 2024، https://bit.ly/4fWJrRl
- "المجاعة في غزة" تُعلن رسمياً.. ماذا يعني ذلك بالقانون الدولي؟، 24 الإماراتية، 22 أغسطس 2025، https://bit.ly/3Jr0EpT
- خبراء يعددون لـ«العين الإخبارية» الآثار القانونية لإعلان المجاعة في غزة، العين الإخبارية، 22 أغسطس 2025، https://bit.ly/3HIjdW0