صدر الجزء الأول من هذا الكتاب عن المطبعة الأميرية ببولاق عام 1937م، ثم صدر الجزء الثاني عام 1938م، وجاء في تقدمة الجزء الأول منه، والتي كتبها المستشار عبد العزيز فهمي باشا (رئيس محكمة النقض آنذاك):
هذا كتاب أخرجه رجال مصريون، ألمُّوا فيه إلمامةً عجـلى بماضي مصر وحاضرهـا، من جهة القضاء وخدمة مبادئ القانون، وضعوه اغتباطًا بمحاكمهم المصرية الوطنية، وتذكارًا لمرور خمسين عامًا من ميلادها؛ بلغت فيها رشدها، وجازته إلى مرتبة النضوج.
ولئن وجدت فيه شيئًا من ظاهر البِشر والابتهاج، ومن تقريرات تاريخية واجتماعية، فلتجدن خلال هذا نماذج من جهود فكرية فقهية تشهد بتبريز العقليــة المصرية، وبلوغها في الشأن الموضوع له الكتاب، درجة لا تلين معها قناة مصر لغاز.
وإني لكأني بأرواح آبائنا السابقين رياض، وشريف، وعلي مبارك، وقدري، وفخري، تقدمها روح إسماعيل العظيم، مطیفة بمعاهد قضائنا مباركة عليها وعلى رجــالها من قضاة ومحامين، متمثلة بقول الفرزدق معدلا كمقتضى الحال:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا للفخار المجامع
فعلی ذکری إسماعيل العظيم، وعلى ذکرى ذلك السلف الصالح، وفي سبيل الواجب لكل عامل في تشييد صرح المحاكم المصرية الوطنية.
نقدم هذا الكتاب إلى أكبر بنَّاء للمعاهد والرجال
حضرة صاحب الجلالة الملك القائم فؤاد الأول
تحية بر وإحسان وعرفان للجميل.
كما جاء في تقديم القاضي جبرائيل كحيل بك للجزء الثاني من الكتاب، ما يأتي:
كـان القضاء في العهد القديم محصورًا في المحاكم الشرعية التي كانت تنظر وتحكم في جميع أنواع الخصومات من مدنية وتجارية وجنائية وأحوال شخصية، غير أنه في عهـد محمد علي باشا اعتاد الناس تقديم شكاواهم إلى المأمورين الإداريين في الأقاليم وفي المدن، فكان المأمور يحضر الخصوم وينظر في قضيتهم ويحقق ويحبس ويفرج حسب ما يتراءى له، بذا كانت القضايا تنتهي فورًا أو لا تنتهي أبدًا، وكانت طرق الإكراه تستعمل مع المدين، ومن ضمنها الحبس، فإن ثبت أن له عقارًا فقد كان يجبره على بيعه، لأنه في ذلك الحين لم تكن هناك إجراءات مقررة لبيع العقار بيعًا قضائيًا جبريًا، وفى الوقت ذاته كانت المحاكم الشرعية إذا قدمت أو رفعت إليها دعوى تنظرها وتحكم فيها.
وكان النظامان يسيران معًا الواحد بجانب الآخر.
وأما الدعوى الجنائية فكان يتولى تحقيقها المأمورون الإداريون، يحبسون المتهم أو يتركونه حرًا حسب ما يتراءى لهم، ثم يقدمون التحقيق إلى محكمة سُميت "مجلس الأحكام"، كان أعضاؤها يعينون من بين الضباط العسكريين أو الموظفين الإداريين، وكانت أحكامها تصـدر على مقتضى قانون معمول به في المالك العثمانية قبل أن تتخذ هـذه الممالك النظم والقوانين الأوروبية. على أن هذا القانون لم يكن ينص إلا على بعض جرائم دون غيرها، تاركًا للمحكمة أن تحكم بالقياس في الأحوال غير المنصوص عليهـا.
وكانت الجلسات سرية وبدون مرافعـة اكتفاء بالتحقيق الإداري، عمل بموجب ذلك إلى عهد الخديوي إسماعيل، وفيه أنشئت محاكم أهلية للنظر والحكم في قضايا الأهالي بعضهم مع بعض، وفيما يقع منهم من الجنايات، وإنمـا تحقيق هذه الجنايات بقى في يد المأمورين الإداريين، وكانت تتقدم دعاوى الأجانب منهم رأسًا إلى المأمورين الإداريين أو على يد قناصـلهم. كما أنه في بعض الأحيان كان يلوح لهم مطالبـة الحكومة بمـا يزعمونه من حقوق مشروعة أو غير مشروعة فتدعوهم الحكومة لرفع شكاواهم لدى المحاكم القضائية الموجودة فيمتنعون عن الالتجاء إلى المحاكم المصرية، ويسعون في نهو مشاكلهم بالطرق العرفية بطريق المخابرة بين الحكومة وقناصلهم، أما دعاوى الأهالي عليهم فكانت تقدم إلى قناصلهم فيحكمون فيها ابتدائيًا، وإذا استؤنفت ففي أغلب الأحيان يرفع الاستئناف إلى محاكم الاستئناف الكائنة في البلاد الأجنبية، كما أن الجنايات التي تحدث منهم يحققها قناصلهم ويحكمون فيها حسب قوانين بلادهم.
فمشى هذا الحال وتجسم إلى عهد الخديوي إسماعيل، وصار من الضروري إيجاد علاج لهذه الحالة، والعلاج لم يكن في يد الحكومة وحدها، فأنشئ في بادئ الأمر محكمتان تجاريتان وقتيتان، إحداها في مصر والثانية في الإسكندرية، يرأس كلا منهما موظف مصري كبير، ويعين نصف أعضائها من التجار الأهليين والنصف الآخر من التجار الأجانب، وكانت أحكام كل منهما تستأنف لدى المحكمة الأخرى، وفي أثناء قيام هاتين المحكمتين دارت المخابرات بين الحكومة والدول، وبعـد أن استغرقت زمنًا طويلاً انتهت بالاتفاق على نظام المحاكم المختلطة، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن تشكلت المحاكم الأهلية المستجدة في سنة 1884م.
كانت المحاكم الأهلية مختصة بنظر قضايا الأهالي من مدنية وتجارية وجنائية، وكانت في أحكامها المدنية والتجارية تطبق أحكام قانون يشبه قانون المحاكم المختلطة، ولم تلبث أن حازت رضاء الجمهور الذي أخذ يتهافت عليها لدرجة أن الأجنبي كان يتنازل، ولا يزال يتنازل خصوصًا في الأقاليم، عن حقوقه إلى الوطني کي تصبح المحاكم الأهلية مختصة بنظر قضاياه لمـا فيها من السرعة والضمان الذي قلما يجده في المحاكم المختلطة.
أما القضايا الجنائية فكان النظر فيهـا وافيًا من حيث إيجاد الضمان نظرًا لما أوجد في قانون تحقيق الجنايات من الضمانات الشاملة والسرعة الكافية، لما اشتمل عليه من نصوص وقيود في مادة حبس المتهم وضرورة إطلاق سبيله في مواعيد مخصوصـة، ذلك الضمان الذي يستوفى شروطه من كيفية تشكيل محاكم الجنايات التي لم تأخذ بطريق المحلفين المعرضين للتأثير عليهم، بل هي مركبة من قضاة فنيين يتروون ويفكرون في كل ما يعرض عليهم بدون تهيج أو انفعال نفساني على عكس المحلفين الذين ينقادون سريعًا للعواطف ويحتكمون إليها.
وكذلك نالت المحاكم الشرعية نصيبًا من الإصلاحات كانت مفتقرة إليه، فشكلت فيها دوائر ابتدائية ودائرة استئنافية تحكم بعد المداولة في القضايا الهامة، وترتب لديها محامون أكفاء، فساد النظام فيها، خصوصًا وقد انحصر اختصاصها في قضايا الأحوال الشخصية.
ويمكن القول بأن نظام القضاء قد استوفي في مصر، إذا استثنينا نقصًا كبيرًا يتعلق بقضايا الجنايات التي تحدث من الأجانب، ولكن المأمول أن تصل الحكومة إلى إيجاد طريقة لتوحيـد المحكمة التي يناط بها النظر والحكم في هذه القضايا.
كل هذه العوامل والعناصر كانت سببًا لتقدم البلاد ماديًا وأدبيًا. ولقد وصل التعليم والقضاء إلى درجة نبهت الناس إلى حقوقهم فدعوا إلى الاشتراك في الأعمال العمومية، فأنشئت البلديات ومجلس الشورى، ووضع للبلاد دستور، وأصبح الأهالي مشاركين للحكومة في المسائل الهامة.
هذه لا شك نهضة عقلية مشكورة وصلنا إليها في زمن لم يناهز القرن الواحد، وهو وقت وجيز في تاريخ الشعوب، ولقد عمل إلى هـذه الغاية رجال صادقون متشرعون وإداريون وقضاة ومحامون وصحافيون، وغير أولئك من رجال الأعمال المختلفة فاستحقوا علينا أن نذكرهم بالشكر والثناء، ونطلب للراحلين منهم الرحمة والغفران.
المحتويات
الجزء الأول
- الفصل الأول: التشريع والقضاء في مصر.
- الفصل الثاني: إنشاء المحاكم الأهلية وافتتاحها.
- الفصل الثالث: المحاكم الأهلية وبعض المصالح المرتبطة بها.
الجزء الثاني
- الفصل الأول: موضوعات مختلفة.
- القضاء قديمًا وحديثًا، لقاض حضر العهدين لحضرة صاحب العزة جبرائيل كحيل بك.
- تطور قانون العقوبات في مصر في عهد إنشاء المحاكم الأهلية لحضرة صاحب العزة محمد لبيب عطية بك.
- ما أراه من رسائل التعديل في قانون العقوبات لحضرة صاحب العزة عبد الفتاح السيد بك.
- على أي أساس، يكون تنقيح القانون المدني المصري للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق.
- إحصائيات عن المحاكم الأهلية لحضرة صاحب العزة عبد اللطيف غربال بك.
- كيف احتفل القضاء الأهلي بعيدة الخمسيني لحضرة صاحب العزة مصطفى حنفي بك.
رابط مباشر لتحميل الجزء الأول
رابط مباشر لتحميل الجزء الثاني