ينشر موقعنا هذا الكتاب حصريًا لأول مر على الشبكة العنكبوتية، ويُعد هذا الكتاب أحد أهم مؤلفات الفقيه الدستوري الكبير أ. د. عبد الحميد متولي، ومما يزيد من أهميته أنه دراسة مقارنة بين القانون والشريعة الإسلامية، وصدر هذا الكتاب عن دار نشر "منشأة المعارف" بالإسكندرية عام 1975-1976م (طبعة سادسة منقحة).
ومما جاء في مقدمة الطبعة الأولى ما يلي:
أقدم للقراء هذا الكتاب الجديد لعلهم يجدون فيه شيئًا جديدًا، والواقع أن أهم ما يتضمنه من جديد بالنسبة إلى ما سبق لي أن كتبت من بحوث ومؤلفات لا يكاد يعدو موضوعين: (أولها) هو "النظام الرياسي والنظام السياسي للولايات المتحدة"، (ثانيها) هو موضوع "الأنظمة الدكتاتورية في الدول الغربية"[1].
وليس من عسير الأمور أن نجد موضوعًا جديدًا في ميدان علم يعد حديثًا بالنسبة لفروع العلوم القانونية الأخرى لاسيما في بلد كبلدنا، ولكنه مما لا ريب فيه أن من الأمور العسيرة التي تبلغ من العسر حدًا بعيدًا أن تجعل من الموضوع القديم موضوعًا جديدًا، ذلك هو ما سوف يجده القراء بصدد الموضوع الأول "النظام الرياسي والنظام السياسي للولايات المتحدة"، وإنه من العجيب حقًا أن نعرف اليوم - بعد أمد طويل انقضى على معرفتنا إياه - أننا لم نكن نعلم عن هذا الموضوع كل ما كان ينبغي أن يُعلم، أو بعبارة أصرح وأصح إن ما عرفناه عنه كان لا يزال يحيط به ستار من ظلام وكأنما كان جسمًا مبتورًا، فكان علينا أن نعيده جسمًا سويًا، وأن نلقي عليه من خلال ظلال البحث ضوءً ونورًا.
لقد فاتنا -نحن رجال الفقه الدستوري في مصر- أن نولي هذا الموضوع كل ما يستحقه من عناية، وإنما أولينا العناية كلها صورة أخرى من صور الأنظمة الديمقراطية الغربية، صورة كانت أكثر ذيوعًا وانتشارًا في القارة الأوروبية، وهي النظام البرلماني، ولعل لنا المعذرة فيما فاتنا وفي المسلك الذي سلكنا أن ذلك كان كذلك - حتى إلى عهد قريب - شأن رجال الفقه الدستوري الفرنسي، الذين درجنا في مصر على أن نأخذ عنهم بيان خصائص ذلك النظام الرياسي كما نأخذ عنهم بيان خصائص غيره من مختلف صور الأنظمة الديمقراطية الغربية[2].
أما الموضوع الثاني "الأنظمة الدكتاتورية في الدول الغربية" فقد كان من الموضوعات التي لم يشر إليها أساتذة الفقه الدستوري المصري اللهم إلا مجرد إشارة في وجيز من العبارة، على أن هذا الموضوع قد بدأ يتبوأ جانبًا من عناية أساتذة الفقه الدستوري الفرنسي، وذلك منذ أن أُدخل في السنوات الأخيرة تعديل على دراسة مادة "القانون الدستوري" أدى إلى تعديل اسمها فأصبح "القانون الدستوري والأنظمة السياسية".
وسوف يتبين بجلاء للقراء - بعد اطلاعهم على هذا المؤلف - مثل الذي يتبين لهم بعد اطلاعهم على مؤلفات غيري من الزملاء أن أساتذة الجامعة (وبخاصة أساتذة القانون الدستوري والأنظمة السياسية) لا يعيشون - كما يظن البعض إثمًا، وكما يُتهمون ظلمًا - في "بروج عاجية" لا يحفلون بأمر سياسة البلاد وشئونها وشجونها!!. إن السياسة هي كرامتنا واستقلالنا، هي حاضرنا ومستقبلنا، مي دماؤنا وأموالنا، ومن أحق بالبحث والدرس لشئونها من رجال البحث والدرس، رجال العلم، رجال الجامعة؟ ولكن حقًا على رجال الجامعة ألا يعالجوا تلك الشئون إلا بأسلوبهم الخاص، أسلوبهم الجامعي، أسلوب البحث والدرس، ومجال ذلك إنما يكون في قاعات البحث والدرس والمحاضرة وفي المؤلفات والمجلات العلمية، أو في اللجان ذات الصبغة العلمية أو الفنية، أي في مجال أو جو علمي هادئ، يتوفر فيه قسط من ضمانات حرية الرأي واستقلاله، جو لا تسوده - ويجب ألا تسوده - نزعة من النزعات، اللهم إلا نزعة حب البحث عن الحقيقة العلمية، لوجه الله ولوجه العلم، فليس مجال ذلك في مقالات تكتب على عجل طوع المناسبات وتنشر في الصحف وهي قبل كل شيء أداة سياسية، ولا في اجتماعات أو هيئات يهيمن عليها رجال سياسيون يلقى بها الكلام أو الرأي ارتجالاً، ولا يتوفر فيها لرجال العلم ذلك الجو الهادئ، الذي يتطلبه إعمال الرؤية والتفكير في منأى عن مختلف أسباب التأثير[3].
لقد كفل للجامعات - في الدول المتمدينة الديمقراطية - استقلالها، شأنها في ذلك شأن القضاء، ولن توجد كارثة تحل بالجامعة ورجالها كالانتقاص من استقلالها، وليس هنالك شيء يؤثر على استغلالها، بل وعلى كرامتها وكرامة رجالها كما يؤثر إقحامهم لأهوائهم أو لنزعاتهم السياسية في الميدان العلمي الجامعي، أو اقتحامهم الميدان السياسي[4]، فالميدان السياسي - في كل بلد من البلدان وفي كل زمن من الأزمان - ميدان تزدحم فيه إلى جانب الآراء والمبادئ والمثل العليا والتضحيات الأهواء والمصالح وضروب الرياء والشهوات والشبهات، ورجل الجامعة - شأنه شأن رجل القضاء - عليه أن يظل بعيدًا عن ذلك الميدان، بعيدًا عن مواطن الشبهات ومواطئ الشهوات، وإلا خانه التوفيق في مهمته وخان أمانة رسالته، وصبغ الناس آراءه بألوان بعض الأهواء والنزعات، تلك الآراء التي يجب أن تبدو صورتها غير مصطبغة إلا بصبغة العلم، والعلم لا يعرف رجاله له لونا، كما لا نعرف في رجاله المخلصين تلونًا.
أعود فأقرر وأكرر أني لا أعنى ألا يُعنى رجال الجامعة بالسياسة وشئونها، ولكن مكان رجال الجامعة - فيما أعتقد - لا يجوز أن يكون في السفينة التي تجري في بحر السياسة، إن مكانهم فيما - أعتقد - يجب أن يكون في المنارة التي تبعث - في الظلماء - لتلك السفينة بالأنوار والأضواء.
إن إقحام رجال الجامعة في الميدان السياسي إنما يلحق الضرر بالميدانين: الجامعي والسياسي معًا: إذ يخشى ألا يجذب الميدان السياسي منهم سوى بعض ممن يخطف أبصارهم بريق الأضواء التي تحيط بأصحاب السلطان، وهؤلاء قل أن تجد لديهم الرأي السليم الذى لا تشوبه شائبة الضعف أو شائنة الأهواء، أو تجد لديهم النقد البريء البناء، إن مثل هذا الرأي وهذا النقد تحتاج إليه أداة الحكم السليم القويم أكثر مما تحتاج إلى أساليب الدعاية وألسنة التعظيم والتبجيل، نعم إنه ليخشى من أمثال هؤلاء أن يزينوا لرجال السياسة أخطاءهم.
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: "ألا أخبركم بشر الناس؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال "العلماء إذا فسدوا"، وليس أفسد لرجال العلم – فيم أعتقد - من إقحامهم ميدان السياسة، ولا أفسد لرجال السياسة من رجال العلم إذا فسدوا، ومن جماعات المرائين المنتفعين من وراء الحاكمين.
مما يروى عن فردريك الأكبر أنه أراد أن يستولى على بعض الأراضي الأجنبية ليضمها إلى مملكته (بروسيا)، فاعترض عليه بأن هذا التصرف يخالف مبادئ القانون الدولي العام، فقال: "سأستولي على تلك الأراضي ثم آتي بأحد أساتذة القانون الدولي ليضع نظرية أبرر بها مشروعية هذا التصرف"!!.
لعل خير ما أختم به هذه الكلمة أن أشير إلى ما يروى عن الخليفة العباسي هارون الرشيد إذ بعث إلى الإمام الشافعي يطلب إليه أن يأتي للتدريس لأبنائه في بيته، فرد عليه الإمام الشافعي يقول: "يا أمير المؤمنين، إن العلم لا يأتي، وإنما يؤتى إليه"، - اللهم رحمتك على الإمام الشافعي، وعونك لكل أستاذ جامعي يرى العلم رسالة وكرامة وقناعة، لا وسيلة وصناعة أو بضاعة، إنك أنت الموفق، إنك أنت المعين[5].
تقسيمات الكتاب:
- مقدمة عامة
- باب تمهيدي: الدولة والحكومة والدساتير
- الفصل الأول: الدولة
- الفصل الثاني: الحكومة
- الفصل الثالث: الدساتير
- القسم الأول: الأنظمة السياسية في الدول الغربية
- الباب الأول: الأنظمة السياسية في اليونان القديمة
- الباب الثاني: الأنظمة السياسية في العصور الحديثة
- الفصل الأول: الأنظمة السياسية للديمقراطيات الغربية ومبادئها الدستورية (مع المقارنة بالمبادئ الدستورية في الشريعة الإسلامية)
- الفصل الثاني: الأنظمة الماركسية (نظام الاتحاد السوفيتي والديمقراطيات الشعبية) ومبادئها الدستورية
- ملاحظات ختامية
رابط مباشر لتحميل الكتاب
--------------------------------------------------------------------------------------------
[1] ويضاف إليهما موضوع "النظام السياسي الانجليزي" - على أن هذا الكتاب يختلف عن كتابنا السابق (الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية) اختلافًا غير قليل، الأمر الذي يتطلب اختلاف عنوان كل منهما.
[2] لقد كان للدكتور سعد عصفور (الأستاذ المساعد السابق بالكلية) فضل السبق في العناية بموضوع النظام الأمريكي، وذلك في بحث قيم نشره بعنوان "رئيس الجمهورية الأمريكية"، ولكنه قصر بحثه - كما ينبئ عن ذلك عنوانه - على رئيس الجمهورية، دون أن يعني ببيان كنه ما يطلق عليه "النظام الرياسي"، وخصائصه، ولا بيان متى يصح أن يوصف النظام الأمريكي بأنه نظام رياسي.
وإلى الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي (مدرس القانون الدستوري والإداري بالكلية) يرجع الفضل في توجيه نظري إلى العناية بدراسة هذا الموضوع الذي لم ينل - كما قدمت - من أساتذة الفقه الدستوري المصري ما يستحقه من عناية.
(ملحوظة: الدكتور عصفور أعيد إلى الكلية هذا العام (في يونيه 1975) أستاذًا ورئيسًا لقسم القانون العام، والدكتور أبو زيد رقى أستاذًا مساعدًا في سبتمبر ١٩٦١)، تم استاذًا عام ١٩٦٦ وهو الآن المدعي العام الاشتراكي.
[3] مما تجدر الإشارة إليه أن هذا الرأي الذى أبديه هنا ليس رأيًا جديدًا، فقد سبق لي أن ناديت به وكتبت عنه في مقدمة كتابي "الوسيط في القانون الدستوري"، الذي ظهر عام ١٩٥٦م، ولكنني أريد أن أزيد هنا هذا الرأي تفسيرًا وتفصيلاً.
[4] إنني أعني هنا الجمع بين العمل الجامعي والعمل في الميدان السياسي معًا، ولا أعني من ينتقلون من الميدان الأول إلى الثاني.
[5] نقلت عن إحدى المجلات الدينية الكبرى رواية هذا الحادث منسوبًا إلى الإمام الشافعي، وبعد أن اطلع على هذه النبذة الزميل الأستاذ الشيخ محمد مصطفى شلبي (أستاذ ورئيس قسم الشريعة السابق بالكلية) ذكر لي أن صحة هذه الرواية أن الإمام مالك - لا الإمام الشافعي - هو الذى كان قد طلب إليه الرشيد أن يقوم بالتدريس لأبنائه. وقد تحققت - مما قرأت فيما بعد عن الإمام مالك - من صحة هذا الرأي.