يُعد كتاب "خنجر إسرائيل" للصحفي الهندي "رستم خورشيدجي كارانجيا" من أكثر الوثائق السياسية إثارة للجدل في القرن العشرين، وهو عمل استشرافي نادر كشف بدقة مخططات تقسيم الوطن العربي قبل تحققها بعقود. نُشر هذا العمل لأول مرة عام 1957 بالإنجليزية تحت عنوان "The Dagger of Israel"، ثم تُرجم إلى العربية وحمل مقدمة بتوقيع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مما أضفى عليه أهمية سياسية استثنائية.
خلفية تأليف الكتاب وسياقه التاريخي:
جاء كتاب "خنجر إسرائيل" نتيجة زيارة "كارانجيا" للشرق الأوسط عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. كان كارانجيا، بصفته صحفيًا هنديًا تقدميًا قريبًا من حركة عدم الانحياز، يسعى لفهم طبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي من منظور مستقل. خلال هذه الزيارة، أجرى مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين وغربيين، واكتشف وثائق ومخططات صهيونية متداولة في الأوساط الإسرائيلية تتعلق بتفكيك العالم العربي. الكتاب شبّه فيه المؤلف إسرائيل بخنجر أجنبي مسدد إلى رقبة العالم العربي. وقد تميز هذا العمل بكونه ليس مجرد تحليل صحفي، بل وثيقة تحليلية اعتمدت على مقابلات مباشرة مع قادة إسرائيل، وفي مقدمتهم موشيه ديان وزير الحرب آنذاك.
المحاور الرئيسية للكتاب:
الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية:
يكشف الكتاب عن تصور إسرائيل لنفسها ليس كدولة عادية، بل كأداة استعمارية زُرعت في قلب العالم العربي لخدمة المصالح الغربية. ويوضح كارانجيا أن إسرائيل تحلم "بولع وغباء بأن تحرير إسرائيل من الخطر العربي يعني العمل على إقامة دعائم سيادتها على العالم العربي... وتأمل تحقيق ذلك باغتصاب بعض المناطق العربية ذات الأهمية الاستراتيجية وإنشاء دول جديدة في الشرق الأوسط تتألف من الدروز والموارنة والأكراد وغيرهم من الأقليات".
الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي (1956-1959):
يعرض الكتاب ترجمة للخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي للفترة 1956-1959، والتي تنص على أن "موقف الغرب سيكون بوجه الإجمال حياديًا، ما إن راعينا مصالح فرنسا في سوريا، وأجرينا تفاهم مع بريطانيا بخصوص مصالحها في مصر والأردن، أما الولايات المتحدة الأمريكية فإن موقفها سيكون أكثر تعقيدًا".
تتضمن الخطة أهدافًا محددة منها:
- تقوية الصراع الداخلي بين الدول العربية.
- إثارة حرب إسرائيلية عربية بهدف إنشاء الحلم الدفاعي الإقليمي المطلوب.
- منع الدول الغربية من التدخل في شؤون الشرق الأوسط.
مشروع تقسيم الوطن العربي:
يضع الكتاب أمام القارئ خارطة مفصلة لتجزئة العالم العربي، والتي ظهرت لاحقًا فيما عُرف بـ"الخطة الصهيونية لتفتيت المنطقة". تشمل هذه الخطة:
- بالنسبة للعراق: تقسيمه إلى ثلاث دويلات:
- دولة كردية في الشمال، ينضم إليها الأكراد من الدول المحيطة.
- دولة عربية ذات أغلبية سنية في الوسط.
- دولة شيعية في الجنوب تلحق بإيران دينيًا وسياسيًا.
- بالنسبة لسوريا: تقسيمها إلى ثلاث دول:
- دولة درزية
- دولة علوية
- دولة سنية في دمشق وحمص وحلب.
- بالنسبة للبنان: تحويله إلى دويلتين:
- دولة مارونية في الشمال
- دولة شيعية في الجنوب
- بالنسبة لمصر: إخراجها من دورها القيادي عبر:
- دعم نزعات انفصالية في الصعيد.
- السيطرة على قناة السويس.
- بالنسبة للخليج العربي:
- تشجيع النزعات القبلية والمناطقية، وإبقاء دوله الصغيرة تحت الهيمنة البريطانية والأمريكية لتأمين النفط.
الأهداف الاستراتيجية الإقليمية:
وفقًا للوثيقة المكشوفة في الكتاب، فإن "الهدف الإقليمي الأدنى لإسرائيل هو احتلال المناطق المجاورة لقناة السويس ونهر الليطاني والخليج الفارسي لأنها تنطوي على أهمية حيوية". ويحدد الكتاب الأهداف الإسرائيلية بوضوح:
- الهدف الأدنى: الاستيلاء على الأراضي ذات الأهمية الجوهرية في زمن الحرب.
- الهدف الأقصى: الاستيلاء على الأراضي الكفيلة بأن تسد كل الاحتياجات الإسرائيلية.
تشمل هذه الأهداف السيطرة على:
- قناة السويس (شريان مصر والعالم العربي).
- نهر الليطاني (مياه لبنان).
- الخليج العربي (النفط).
شهادة موشيه ديان: "العرب لا يقرأون":
من أخطر ما ورد في الكتاب هو الحوار المباشر بين كارانجيا ووزير الحرب الإسرائيلي موشيه ديان. خلال هذا الحوار، أظهر ديان وثائق خطيرة تتعلق بمشروع تقسيم العرب، وحين استغرب الصحفي الهندي من جرأته في كشف هذه المخططات، رد ديان بابتسامة ساخرة: "لا تقلق... العرب لا يقرأون".
هذه العبارة الاستفزازية لم تكن مجرد تعليق عابر، بل كانت تعكس استخفافًا عميقًا بالعقل العربي وقدرته على فهم المخاطر واتخاذ إجراءات مضادة. كما كانت إدانة مريرة لحالة الضعف والتشرذم والتقاعس عن مواجهة التحديات الاستراتيجية في العالم العربي.
تم توسيع هذه المقولة في روايات لاحقة لتصبح: "إن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون". وقد برهنت الأحداث اللاحقة على دقة هذا التنبؤ المأساوي إلى حد كبير.
الوثيقة السرية لهيئة الأركان الإسرائيلية:
يكشف الكتاب عن وثيقة سرية أعدتها هيئة الأركان العامة الإسرائيلية جاء فيها: "لتقويض الوحدة العربية وبث الخلافات الدينية بين العرب، يجب اتخاذ الإجراءات منذ اللحظة الأولى من الحرب لإنشاء دول جديدة في أراضي الأقطار العربية".
تتضمن هذه الوثيقة دعوة صريحة لإقامة دويلات جديدة تشمل:
- دولة درزية تشمل المنطقة الصحراوية وتدمر.
- دولة شيعية في لبنان في منطقة جبل عامل ونواحيها.
- دولة مارونية تشمل جبل لبنان.
- دولة علوية تشمل اللاذقية حتى المنطقة الممتدة إلى الحدود التركية.
- دولة قبطية في مصر.
- دولة كردية في شمال العراق.
الخطة العسكرية والأساليب التكتيكية:
يوضح الكتاب أن الاستراتيجية الإسرائيلية تقوم على مبدأ الاستفزاز المحسوب، حيث تنص الوثائق على أنه "إذا قررنا البدء بحرب وقائية فإننا سنضطر لأسباب سياسية إلى الاستفزاز وإثارة اشتباك مسلح وبذلك نبرهن على أنه لم يكن هناك عمل عدواني من جانبنا".
كما يكشف الكتاب عن استراتيجية عسكرية محددة شرحها ديان لكارانجيا، تقوم على "تدمير الطائرات العربية في مرابضها بضربة سريعة ثم تصبح السماء ملكًا لإسرائيل وتحسم الحرب لصالحها". هذه الاستراتيجية تحققت بالفعل في حرب يونيو 1967.
الربط بالمصالح الاستعمارية الغربية:
يؤكد الكتاب أن المشروع الإسرائيلي ليس مستقلًا، بل جزء من استراتيجية استعمارية أوسع تهدف إلى ضمان السيطرة الغربية على ثروات المنطقة. ويوضح أن وجود إسرائيل "سيكون بمثابة ذراع للدول الغربية في إدارة شؤون الشرق الأوسط، أي باعتبارها دولة صاحبة زعامة".
الدلالات التاريخية والتنبؤات المحققة:
الكتاب الذي صدر عام 1957 سبق نكسة 1967 بعقد كامل، وكأنه كان جرس إنذار مبكر لم يلتفت إليه كثيرون. لاحقًا، ظهرت كثير من المخططات التي حذّر منها بشكل واضح في أحداث تاريخية مهمة:
- الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990): التي مثلت بداية تفكيك الوحدة اللبنانية على أسس طائفية.
- الغزو الأمريكي للعراق (2003) وما تلاه من تفكيك مذهبي وعرقي تمامًا كما تنبأ الكتاب.
- الأزمة السورية بعد 2011: التي أدت إلى تقسيم فعلي للبلاد على خطوط طائفية وعرقية.
ترجمة الكتاب وانتشاره:
لم ينل الكتاب الاهتمام المطلوب عند صدوره الأول عام 1957، ولكن بعد نكسة 1967، تمت ترجمته إلى العربية وحمل مقدمة مهمة بتوقيع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. هذه المقدمة أعطت الكتاب زخمًا سياسيًا وفكريًا في المنطقة العربية. أُعيد نشر الكتاب في سوريا عن طريق "دار دمشق" عام 2005، كما صدرت طبعات متعددة في بيروت عن "دار المسيرة" مع شرح وتعليق بسام العسلي. وقد تم إعادة نشره في القاهرة عن "مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحافية والمعلومات".
مما جاء في تقديم الرئيس جمال عبد الناصر للكتاب:
في تقديمه للكتاب، شدّد الرئيس جمال عبد الناصر على أن ما يكشفه الصحفي الهندي ر.ك. كارانجيا ليس مجرد تحليل صحفي عابر، بل وثيقة سياسية خطيرة تفضح حقيقة الدور الوظيفي لإسرائيل كأداة استعمارية مزروعة في قلب الوطن العربي. رأى عبد الناصر أن الكتاب يقدم أدلة قاطعة على أن إسرائيل لم تُنشأ لتحقيق حلم قومي لليهود فحسب، وإنما لتكون قاعدة متقدمة تخدم مصالح الاستعمار الغربي في المنطقة، وتضمن استمرار السيطرة على مواردها وممراتها الحيوية.
كما أكد عبد الناصر أن مضمون الكتاب يمثل جرس إنذار للأمة العربية، لأنه يكشف المخططات المبكرة لتفكيك دولها على أسس طائفية وعرقية، ويبين طبيعة الخطر الذي يهدد وحدتها ومستقبلها. لذلك دعا القارئ العربي إلى أن يتعامل مع هذه الوثيقة بوعي وجدية، وأن يدرك أن المواجهة مع المشروع الصهيوني ليست معركة عسكرية فحسب، بل معركة وجود وصراع طويل الأمد لحماية الهوية والسيادة والاستقلال.
علاقة الكتاب بالخطط الصهيونية اللاحقة
يُعتبر كتاب "خنجر إسرائيل" بمثابة الوثيقة التأسيسية لسلسلة من المخططات الصهيونية اللاحقة. فقد أشار دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، في تقرير قدمه أمام المجلس العالمي لعمال صهيون عام 1937 إلى الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى.
قال بن غوريون: "إن الدولة اليهودية المعروضة علينا بالحدود الحالية لا يمكن أبدًا أن تكون الحل المنشود لمسألة اليهود، ولا هدف الصهيونية الذي سعت إليه طويلًا... إلا أنه يمكن قبولها بوصفها المرحلة الأولى والأساسية التي تنطلق منها تتمة مراحل تحقيق الوطن الصهيوني الأكبر". كما تربط مضامين الكتاب بخطة أوديد ينون عام 1982، التي فصّلت بدقة أكبر مخططات تقسيم الدول العربية المركزية. وقد صرح الجنرال الإسرائيلي أرييل شارون أن "الهدف من الغزو -للبنان- هو تفكيك لبنان ومن ثم تطبيق الفكرة على بقية الدول العربية لتشمل سوريا ودول الخليج العربي وفي مرحلة لاحقة مصر والعراق".
المخططات التي وثقها الكتاب من منظور القانون الدولي:
إن ما يكشفه كتاب "خنجر إسرائيل" من مخططات تقسيم وتفكيك العالم العربي يتعارض بوضوح مع القواعد القطعية في القانون الدولي العام، ولا سيما مبدأ سلامة الأراضي ووحدة الدول المكرس في المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة. كما أن الدعوات إلى إثارة النزاعات الطائفية والعرقية، أو دعم الحركات الانفصالية، تمثل خرقًا لحق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية، وهو الحق المعترف به في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (1514 لعام 1960 و2625 لعام 1970) والتي جعلته من المبادئ الأساسية للنظام الدولي.
وإضافة إلى ذلك، فإن ما عرضه كارانجيا من استراتيجيات إسرائيلية لإحداث نزاعات داخلية واستغلالها كذريعة للحروب الوقائية يضع هذه الممارسات في إطار العدوان الدولي كما حدده قرار الجمعية العامة رقم 3314 (1974)، والذي يعدّ "التخطيط أو الإعداد أو الشروع في عمل عدواني" جريمة دولية تستوجب المسؤولية. ومن ثمّ، يمكن قراءة الكتاب بوصفه وثيقة مبكرة تفضح مشروعًا يتنافى مع الشرعية الدولية، وتؤكد أن السياسات الموصوفة فيه لم تكن مجرد رؤى سياسية، بل خططًا تمثل انتهاكًا ممنهجًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني ولقواعد السلم والأمن الدوليين.
لتحميل ملف الكتاب
_______________
المصادر:
- "خنجر إسرائيل".. قراءة في كتاب ر.ك. كارانجيا (1957)، الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، https://bit.ly/3KoKBZQ
- محمود هلوان، ”خنجر إسرائيل”.. كتاب مُهمل يوثق خطط الكيان في سوريا ولبنان، النهار المصرية، 19 يوليو 2025، https://bit.ly/4gp1Bv2
- مصري: تقسيم العراق فكرة سجلها هندي عام 1957 في كتاب (خنجر اسرائيل)، رويترز، https://reut.rs/3VXwBZy
- عبد العزيز التركي، الظل اليهودي وراء مشروعات التقسيم، مجلة البيان، https://bit.ly/46bQYZi
- Veteran Journalist R.K. Karanjia Dies, Arab News, 3 February 2008, https://bit.ly/4gBFFgw
- Veteran journalist RK Karanjia dead, hindustantimes, Feb 02, 2008, https://bit.ly/46bAyjq
* كارانجيا، خنجر إسرائيل: قصة اللصوصية الدولية، مطبوعات على كنعان، 1960.
** رستم خورشيدجي كارانجيا" هو صحفي هندي بارز (1912–2008) ومؤسس مجلة "بليتز" الهندية الأسبوعية، المعروفة بالتحقيقات الصحفية والنبرة القومية واليسارية. وُلد في كويتا (بلوشستان الحالية) لعائلة بارسية، وتخرج من الجامعة حيث" بدأ الكتابة أثناء الدراسة. عمل كارانجيا مساعد محرر في صحيفة "التايمز أوف إنديا" في الثلاثينيات، قبل أن يتركها عام 1941 لتأسيس مجلته الأسبوعية الشهيرة "بليتز" التي ركزت على الصحافة الاستقصائية. برز كارانجيا كمراسل حرب خلال الحرب العالمية الثانية، حيث غطى العمليات في بورما وآسام. وقد اكتسب شهرة واسعة عام 1945 بنشر صور حصرية للزعيم الثوري الهندي نيتاجي سوبهاش تشاندرا بوز وجيش الاستقلال الهندي. كما أجرى مقابلات مع شخصيات عالمية بارزة منهم ونستون تشرشل وشارل ديغول وجواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر ونيكيتا خروتشوف وفيدل كاسترو وياسر عرفات. كان كارانجيا مؤيدًا للنزعة القومية الهندية وناصعًا في دعم حركات القومية العربية، حيث كان ينظر إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر كبطل لمشروع الوحدة العربية. وفي أعقاب العدوان الثلاثي على مصر (1956)، توجه كارانجيا إلى الشرق الأوسط لإجراء تحقيقات ومقابلات مع مسؤولين سياسيين وعسكريين. خلال هذه الزيارة التقى موشي ديان وزير حرب إسرائيل، وأجرى معه حوارًا تضمن وثائق خططٍ سرية للجيش الإسرائيلي لتقسيم الدول العربية.